ملخص االموضوع
1- انتشار الأمراض النفسية في هذا الزمان. 2- أهمية الإيمان في تحقيق الصحة النفسية. 3- بناء الإسلام للشخصية المسلمة المتزنة. 4- أدعية نبوية لطرد الهموم والغموم. 5- ضرورة مراجعة الطبيب المختص لتشخيص الداء. 6- التحذير من السحرة والمشعوذين.
أما بعد: يقول الله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 152-157].
أيها الإخوة المؤمنون، إذا تأملنا واقعنا المعاصر نلاحظ أن كثيرا من الناس يشتكون من أعراض وأزمات نفسية نتيجة ضغوطات الحياة المختلفة والتي أنتجتها طبيعة الحياة المعاصرة، هاته الحياة التي عرفت تغييبَ شرع الله وتنكّرت لحكم الله إلا من رحم الله وقليل ما هم، فانتشرت الأمراض، وحلت الأزمات، وكثر القتل، وساد الظلم أرجاء المعمورة، فانعكس ذلك بصورة أو أخرى على نفوس الناس، فانتشرت الأمراض النفسية والروحية، فتجلى عدم الرضا عن الذات والشعور بالإحباط والعجز عن التكيّف مع المحيط الخارجي. فما الحل؟ وما العلاج؟
لنستمع إلى نداء ربنا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57]. فهذا بيان من الله عز وجل أن القرآن الكريم والالتزام بأحكامه وتشريعاته ضمان لعلاج الناس وشفائهم مما يعانون منه من أمراض نفسية كالضّيق والشكّ والهم والغمّ والقلق والاضطراب.
أيها الإخوة المؤمنون، لقد أقرّ كثير من الأطباء وعلماء النفس في العصر الحديث بأهمية الإيمان في تحقيق الصحة النفسية لدى الإنسان ودور التدين في توازن شخصيته ووقايتها وعلاجها من الأمراض والأزمات النفسية، فالإيمان يجعل لوجود الإنسان المتدين في هذه الحياة معنى وهدفا، بخلاف غير المتدين الذي يعيش دون هدف سام، مقتصرا على أهداف دنيوية فانية، ويعاني من فراغ روحي يؤدّي به في الغالب إلى صراع نفسي واضطراب وقلق حادّ واكتئاب يدفع أحيانا بعض المغفّلين إلى معاقرة الخمر أو تعاطي المخدّرات بغية إيجاد إحساس بسعادة مفقودة أو تخفيف عن ضيق وغمّ طوّق النفس وأحاط بها من كل جانب.
وقد تطرق القرآن الكريم إلى وصف عام لبعض الاضطرابات النفسية وأعقبها بالعلاج المناسب، من ذلك قوله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج: 19-23]، فالهلع والجزع مواصفات للنفس البشرية قد تؤول إلى حالة مرضية، فجعل المحافظة على الصلاة صيانة لهم من هذه الأعراض.
أيها الإخوة المؤمنون، إن الإسلام بمنهجه الشامل يسعى إلى بناء الشخصية المسلمة المتّزنة، وذلك من خلال ما يلي:
1- الإيمان بالله تعالى وقوّة الصلة به.
2- الشعائر التعبدية خاصة الصلاة, لها فوائد نفسية ملموسة؛ لما تُكسِبه من أمن وطمأنينة وتهدئة للأعصاب وتبديد للتوتر، لذا تفطن لها الأطباء والمعالجون النفسانيون، وجعلوها من توصياتهم في أساليب العلاج. فالمسلم عليه أن يفزع إلى الصلاة؛ لهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا ضاق به أمر لجأ إلى الصلاة مخاطبا مؤذِّنَه بلالا بقوله: ((أرحنا بها يا بلال)) أخرجه أبو داود.
3- كذلك الدعاء، فأثره كبير في نفسية الداعي، فهو تفريغ لما يختلج في النفس من مشاعر وأحاسيس، فالدعاء لا يرتبط فقط في حياة العبد بالحاجة الماسة التي تشدّه إلى ربه، بل هو جزء لتحقيق العبودية لله، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]، فيأنس العبد أن له ربا يستجيب الدعاء؛ مما يسكب في نفسيته الراحة والارتياح.
4- كذلك إضافة إلى الدعاء على المسلم أن يكثر من ذكر الله؛ لما يضفيه على النفس من شعور يغمرها أنسا وطمأنينة وإحساسا بمعية الله سبحانه، قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28].
5- ملازمة التوبة والاستغفار: إن عقدة الذنب تجلب الهمّ والخوف والحزن وضيق الصدر؛ لذا نجد رسول الله يرشد المؤمنين إلى ملازمة الاستغفار لتخليص النفس من ذلك، فعن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله : ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب)) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة باب: في الاستغفار.
أيها الإخوة المؤمنون، حين يسمع المؤمن قوله: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] يتولد لديه الشعور بالراحة والحافز للقيام بأعمال صالحة، فهل من مستجيب لنداء ربه؟!
6- كذلك الإسهام في أوجه البر والإحسان يسهم في بناء الشخصية المسلمة المتزنة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا شكا إلى النبي قسوة قلبه فقال: ((إن أردت تليين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم)). وهذا يدل على أن أعمال البر والخير والإحسان تسهم في تليين القلب، وتجعل الإنسان يشعر بالسعادة على قدر إدخال السعادة على غيره.
7- أيها الإخوة المؤمنون، إن المؤمن مهما نزلت به النوازل متفائل دائما، لا يتطرق اليأس إلى نفسه، قال تعالى: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف: 87]، فهو يواجه واقعه بعزيمة متسلحا بالأمل، وهذا الشعور الإيجابي يقيه حتما من الوقوع فريسة لليأس أو الاكتئاب.
وهكذا يربي الإسلام الفرد على الثبات عند المصائب والابتلاءات، ويدعوه إلى التحلي بالصبر، قال تعالى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177]، فالإيمان يشيع في القلب الطمأنينة والثبات والاتزان, قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم: 72].
وبهذا يتبين لنا أن الإيمان يلعب دورا أساسيا في تجاوز الأزمات النفسية؛ مما حدا بكثير من المصَحَّات النفسية في البلدان المتقدمة إلى اعتماد التديّن كأسلوب في العلاج النفسي والوقاية من المشكلات النفسية والاجتماعية باعتبارها وسيلة لتحقيق الانسجام مع الذات والتوافق مع المحيط. وديننا والحمد لله كان له السبق في إيجاد الحلول للمشاكل النفسية والأزمات الروحية، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يذهب عنا الهم والحزن وأن يجعل لنا من كل ضيق مخرجا، آمين يا رب العالمين.
الحمد لله وكفى، والصلاة على النبي المصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فجزاه الله عنا خير ما جزى به نبيا عن أمته.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، إن أعظم العلاج للأمراض النفسية وضيق الصدر يكمن في التوجيهات والإرشادات النبوية في هذا المجال، ومن ذلك قوله : ((ما أصاب عبد هم فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرجا)).
وكذلك عند الهم والحزن علمنا رسول الله المعالج النفسي الأول أن نقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال. وعند الكرب يقول: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب العرش الكريم، اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، الله الله ربي لا أشرك به شيئا. وعند القلق والفزع في النوم يقول: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون.
هذه جملة من الأدعية ينبغي للمسلم أن يحفظها ويدعو الله بها كلما أهمه شيء أو أحاط به غم، ويكررها في سجوده، فسيجد الفرج قريبا والطمأنينة تحل في قلبه، وصدق الله العظيم: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28].
ومما ينبغي الإشارة إليه ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ أن الله ما وضع داء إلا وضع له دواء، علمه من علمه وجهله من جهله، فهناك بعض الأمراض النفسية تحتاج إضافة إلى التوجه إلى الله تعالى بالدعاء مراجعة الطبيب المختص لتشخيصها ووصف الدواء المناسب لها، فالأمراض النفسية كباقي الأمراض العضوية ابتلاءات تصيب الإنسان، ويمكن طلب أسباب شفائها عند الأطباء امتثالا لأمر رسول الله الذي قال: ((لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل)) رواه مسلم.
أيها الإخوة المؤمنون، مما ينبغي التنبيه إليه في حالة الإصابة بالأمراض النفسية أنه يلجأ بعض الناس إلى الكهنة أو السحرة معتقدين أن ما أصابهم هو سحر أو عمل، فيقعون في الأمور الشركية ويستعملون بعض المحرمات اعتقادا منهم أنها تبطل السحر وتذهب العين وتدفع الضر، والله تعالى يقول: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر: 38]، وقد حرم الله الجنة على المشرك قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72].
وكذلك ـ أيها الإخوة ـ يجب التنبيه إلى ضرورة المسارعة في عرض الحالة المرضية على الطبيب المتخصّص وعدم التهاون أو التراخي في ذلك؛ لأنه كلما كان التشخيص والعلاج مبكرا كانت فترة العلاج أقلّ ونتائجه أحسن؛ مما يجنب المريض الكثير من المضاعفات التي هو في غنى عنها.
نسأل الله عز وجل أن يشافي كلّ مريض مسلم وأن يشملنا وإياه بالصحة والعافية.
اللهم اجمع كلمتنا على الهدى، وقلوبنا على التقى، اللهم أصلح ذات بيننا، اللهم هيئ لنا من أرنا رشدا، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك...