هكذا رأى عمر بن الخطاب:
يَنفِرُ كلاب بن أمية الكناني إلى الجهاد، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وتطول غيبته، مرابطًا في الثغور، ومجاهدًا في سبيل الله، ويفتقده أبوه الشيخ، ويصل نهاره بليله باكيًا؛ شوقًا لابنه، ورغبة في لقائه، ويصل خبر هذا الشوق العارم إلى مسامع أمير المؤمنين.
ويأمر الخليفة من فوره، بكتاب إلى أمير الجيش: أنْ أنفذ إليَّ كلابَ بن أمية، على جناح السرعة.
ويركب كلاب راحلتَه إلى المدينة، ملبيًا نداء أمير المؤمنين، والهواجس تعتمل في صدره، فالفاروق هو من يطلبه، الرجل الذي عُرِف بقوته في الحق، وصرامته في المحاسبة، وإنفاذه للعقوبة، حتى على أقرب الناس إليه.
وينيخ كلابٌ راحلتَه على باب أمير المؤمنين، ويسلِّم عليه، فيبتسم له ابن الخطاب، ويخفف عنه وعثاء السفر، ويأمره أن يستريح عنده في بيته، حتى يسفر صباح الغد.
وفي يومه التالي، يستدعيه الخليفة إلى مجلسه، ويتخذ الضيف مكانه، ويبادره الفاروق:
يا كلاب، ما بلغ برُّك بأبيك؟
وتنفرج أسارير الرجل، ويأخذ نفَسًا عميقًا، وراح يتدفق: "كنتُ - يا أمير المؤمنين - أتخير له أسمن الإبل وأريحها، ثم أغسل ضرعها، حتى إذا جفَّ، ملأتُ له الإناء، فيأخذه ويشرب حتى يرتوي، ثم يحمد الله على نعمائه".
هذه صورة حفظها التاريخ من صور برِّ الأبناء بالآباء، ما أروعَها وأغناها من صورة بالمعاني والعبر والعظات!
ويرسل الخليفة العادل في طلب الأب (أمية الكناني)، ويراه شيخًا ضعيفًا كليل البصر، فيرحب به ويترفق في محادثته، ويسأله:
- كيف أنت يا أبا كلاب؟
- كما ترى يا أمير المؤمنين.
ويأخذ ابن الخطاب الإناء، ويناوله للأب الوالِه، ويقول له: اشرب، وعندما وضع الأب الإناء على فيه، قال: "والله إني لأشم رائحة كلاب فيه!".
قال له عمر: نعم، إنه كلاب.
وقفز كلاب، يعانق أباه.
"وأمر الخليفة كلابًا أن يلتزم أباه، ويرعاه ويقضي حقَّه، ويعتني به ما دام حيًّا، وجعل له راتبًا يتقاضاه من بيت المال، كما يأخذ المجاهد المرابط على الثغور".
هذه الواقعة تستحق التدبر والدراسة، واستخلاص الدروس والعبر منها.
للفلسفة الأخلاقية مرجعيتان:
- دينية إسلامية.
- وإنسانية، مستمدة من النظر العقلي السليم، الذي تواضعت عليه حكمة الإنسان، في مسيرته الحضارية، وأصبحت قيمًا تتفق فيها الشعوب على اختلافها؛ كالصدق، والعون، والنجدة، والإيثار، وغيرها كثير.
لكن الفلسفة الأخلاقية في الإسلام تمتاز بأنها تديُّن وعبادة، تجيء إذعانًا لأمر الله، وطلبًا لمرضاته، إلى جانب اتفاقها وتفوُّقها على النظر الإنساني.
إنها طاعة لأمر الله - سبحانه وتعالى - إلى جانب استقامتها مع القيم الإنسانية، هذه الطاعة التي يثاب الإنسان عليها.
ويحتل الوالدان في الإسلام مكانًا مرموقًا، يشيع فيه التوقير، والإجلال، والاحترام، وخاصة عندما يكبران في السن، وتتداعى عليهما العلل والأمراض.
إن تعاليم الإسلام التي تأمر بمعاملة الوالدين معاملةً تليق بهما، لا تُعلِّق ذلك على شرط، وإنما تطلقها وترسلها، حتى لا يجد منهما المرء مهربًا يلوذ به؛ ذلك أن علاقة الأبوة تعمل في اتجاه واحد فقط، من الأب إلى الابن.
ومن هنا كان لا حاجة بنا أن نوصي الأب أو الأم بإحسان معاملة الابن، فقد تكفلت بذلك غريزة الأبوة التي أودعها الله - تبارك وتعالى- في الطبع البشري، ونادرًا ما يتطرق الخلل إلى هذه العلاقة، وإنما الخلل يأخذ طريقه في العلاقة العكسية لتلك، من الابن إلى الأب.
وهكذا جاءت تعاليم الدين الإسلامي قاطعةَ الدلالة، صارمة، توصي بالوالدين؛ يقول الله - تعالى -: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23، 24].
وإمعان النظر في هاتين الآيتين الكريمتين يقودنا إلى ما يلي:
قُرنتْ عبادة الله، وإفراده بها، بالإحسان للوالدين، والإحسان كلمة جامعة لكل أفعال الخير، ثم يوصي بهما إذا كبِرا في السن، وكِبرُ السن يقود إلى اضمحلال القوة البدنية، وضعف الحواس، أو فقدان بعضها، وعدم القدرة على أداء ما كانا يفعلانه قبل ذلك، وإصابة النفس بالأمراض كما يصاب الجسد، وكل ذلك - أو بعضه - يوجب رعاية هذا المسن، والعناية الفائقة به، واحتمال التعب والنصب في ذلك، وعدم التبرم به، فلا يقول: (أف)، ولا يغلظ لهما في القول، أو الأمر والنهي؛ بل عليك - أيها الابن البار - أن تقول قولاً كريمًا، وتذلل لهما من نفسك، وتدعو لهما بالرحمة وأن يخفف الله عنهما، كما صبرا على تربيتك صغيرًا.
ويطَّرد الأمر في السنة النبوية:
ففي الحديث الشريف نجد ما يوصي بالوالدين، ويحضُّ على طاعتهما وبرِّهما أحياء وأمواتًا.
عن أبي بكرة نفيع بن الحارث - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) - ثلاثًا - قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)).
وعن أبي عيسى المغيرة بن شعبة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله - تعالى - حرَّم عليكم عقوق الأمهات)).
وعن أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أراد أن يُبْسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليَصِلْ رحمَه))، فإذا كانت صلة الرحم - عامةً - مجلبةً للرزق وطول العمر، فكيف ببر الوالدين، والعناية بهما؛ طاعةً لأمر الله؟!
وقد أخبر رسول الله أصحابَه عن رجل يأتي في أمداد أهل اليمن: ((لو أقسم على الله لأبرَّه)) يُدْعى: أويس القرني، مستجاب الدعاء، أتدرون ما سر هذه الكرامة الإلهية؟ ((لقد كان بارًّا بأمه))؛ أي: مطيعًا لها، ويبالغ في الإحسان إليها.
تلك بعض تعاليم الإسلام التي تتعلق بالوالدين، توجب لهما الطاعة، وتحرِّم عقوقهما، وتجعل منه صِنْوَ الإشراك بالله، ذلك الذنب العظيم الذي لا يغفره الله، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
كيف تنشأ مشكلة المسن في المجتمع؟
هل تنشأ مشكلة المسن من ضيق المكان في بيت الأسرة، أو من عدم القدرة على التفرغ لرعايته، أو من الضيق بحالته، أو من رفض زوجة الابن القيامَ بدور في رعاية هذا المسن، أو ارتفاع تكلفة علاجه ورعايته، أو من ذلك كله؟
في تقديري المتواضع أن المشكلة - في أكثرها -: ضيق في الصدر.
فزوجة الابن في أكثر الحالات المشاهَدة هي التي تضيق بالأم أو الأب المسن، وتغري زوجها بإبعاد المسن عن المنزل إلى دور رعاية المسنين، وهذا الضعف والانقياد إلى رغبة الزوجة هو انحراف ونكوص عن أداء الواجب نحو الوالدين، من الابن صاحب المسؤولية في ذلك، ولا شك أن هذا السلوك هو ضعف في الشخصية، وضعف في التَّدَيُّن.
والمسن يحتاج إلى عناية جسدية ونفسية أيضًا، وحرمانه من الاهتمام به وإهماله يؤلمه ويفاقم مشاكله النفسية والبدنية، إلى جانب ما به من أمراض وآلام تجلبها الشيخوخة بطبعها.
وعلى الابن أن يقاوم الضغوط، ويحتفظ بوالده أو والدته تحت إشرافه، و((ليجاهد فيهما))؛ كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن جاءه يستأذنه في الجهاد في سبيل الله.
إنه دور الابن المنوط به، وعليه أن يحتمله في شجاعة، فتلك سُنة من سنن الحياة، كلنا قد نصل إليها، ونرى في ذلك الوقت ما قدمناه لوالدينا على أيدي أبنائنا.
ذاك في الحالة التي لا يحتاج فيها المسن إلى مستشفى يعالجه، أما مجرد الإقامة، فإن انتقاله إلى دار المسنين يؤلمه ويؤذيه، ويشعره بخسارة فادحة في جهده الذي بذله في تربية أولاده، وتتحلب المرارة تحلبًا في فمه.
دور الدولة والمجتمع في رعاية المسن:
وأقرأ في (الأهرام) المصرية، عن نوادٍ للمسنين هناك، وأظنها فكرة جيدة؛ حيث يمكن اصطحاب المسن - إن أمكنه ذلك - إلى تلك النوادي، يمارس المشي إن قدر، ويستمتع بمحادثة مَن هم في سِنِّه، أو يمارس بعض الهوايات، ويخفف عن نفسه الضيق الذي يعتريه، من طول الجلسة، وعدم الحركة لساعات - بل أيام - تمر ثقيلة على النفس، بطيئة، مملة.
ومما يمكن فعله:
- تضمين كل التعاليم الدينية المرتبطة بالوالدين وصلة الرحم، وكل ما يدعِّم التكافل الاجتماعي - الأسري والإنساني - الكتب المدرسية والجامعية؛ حتى تذكر دائمًا بهذا الواجب.
- إدراج رعاية المسن في الحالات التي تستحق المساعدة المالية؛ لإعانة الأسرة المحتاجة على القيام بواجبها نحو المسن؛ حفظًا لكرامته في شيخوخته.
- أن تخصص صفحة شهرية في الصحف اليومية لتتحدث عن المسن:
أ- كيف نرعاه؟
ب- ما أمراض الشيخوخة؟ وما أساليب العناية اللازمة؟
ج- ما الأغذية المناسبة؟
د- ما الحاجات النفسية للمسن؟ وكيف يمكن إشباعها؟
هـ- كيف نخفف من آثار عدم القدرة على أداء الوظائف الحياتية، وغير ذلك مما يراه الأطباء والمختصون في هذا الشأن؟
إن علينا أن نعيد تذكير الناس دائمًا في كل مناسبة، وبكل الوسائل المتاحة، بتعاليم الإسلام في علاقة الفرد التي يجب أن تكون مع الأسرة، والمجتمع، والجيران، والآباء ورعايتهما، خاصة عند الكبر وما يجلبه من مشاكلَ بدنيةٍ ونفسية، والتزام تلك التعاليم؛ إرضاءً لله، وكسبًا لثوابه، وقيامًا بالواجب، واستشعارًا بالمسؤولية، والتي هي مناط الرجولة، والخلق القويم، وإنسانية الإنسان.
وختامًا أذكر:
وعلى كل واحد منا أن يعلم أنه قادم إلى محطة الشيخوخة، وهو يسير في قطار الحياة، وعليه من الآن أن يُحْسن لوالدَيه اللذين سَبقاه؛ حتى يجد مِن أبنائه مَن يحسن إليه ويرعاه، عندما يصل هو يومًا إلى نفس المحطة، محطة الشيخوخة؛ ليكمل رحلة الحياة وهو يبتسم.
مراجع البحث:
1- القرآن الكريم.
2- عبقرية عمر، عباس العقاد.
3- رياض الصالحين، شرح صبحي الصالح.
مصطفى محمد ياسين
ماجى