السؤال:
السلام عليكم،
سأسرد لكم قصَّة حياتي باختصار؛ لأنِّي أريد تحليل شخصيتي، وأعرف ما السبب الذي جعلني هكذا، أوَّلاً: والدي رجل مُثقف يحبُّ القراءة أكثر شيء، وهو انطوائي، يحب الجلوس بمفرده، ويحب الهدوء، علاقته بنا فيها شيءٌ من الجدِّيَّة، لا أستطيع أن أعَبِّر له عن شعوري، أو أن أتناقش معه بكُلِّ سلاسة، الكلام معه رسمي، لدرجة أني من الممكن أن أكلم قريبي بطلاقة لا أستطيعها مع والدي، وأحس أنَّه يَخجل مني، على الرغم أنَّه طيب، لكن لا يوجد مساحة حوار بيننا، وأنا أخاف منه أكثر من أخواتي، وهذا منذ الصِّغر، ووالدتي طيبة تقوم بأداء عملها على أكمل وجه، واجتماعيَّة، وتحب التحاور والمناقشة؛ لكن أنا أخذت من طبع أبي في قلة الكلام والطباع، على الرغم من أنَّ أمي يوجد معها مساحة حوار، لكنَّ المشكلة تكمُن في أني بعيدة عنها، لا أحس أنَّها أمي، أحس شعورًا غيرَ طبيعي؛ بسبب بُعدي عنها رغم أنَّها تحملت كثيرًا من أجلنا؛ حيث تقوم بكُلِّ صغيرة وكبيرة في المنزل، رغم أننا شباب، ولسنا أطفالاً، لم تُحمِّلْنا مسؤوليَّة أي شيء؛ ولذلك كبرنا، ونحن نعتمد عليها، وللأسف أحزن من نفسي، وأنا أشاهدها - وهي الآن كبيرة - تقوم بأعمال المنزل، وهي عملت عمليَّة كبيرة في القلب، ولا أقول لها: عنك يا أمِّي؛ حتَّى لا أضطر أن أقوم أنا بهذا العمل؛ لأنِّي كسلانة، وأنا أحملها مسؤوليَّة عدم تدريبنا من الصِّغر على تَحمُّل المسؤولية، وتركنا حتَّى الآن، وهي تقوم بكل شيء، حيث أنا كنت في الطفولة إنسانة خجولة وانطوائيَّة، لا أحب التحدث كثيرًا، كثيرة الخوف، تنتابني أوهام وهواجس، ليس لديَّ أي طموح، وليس لدي أصدقاء مقربون جدًّا، علاقتي بأهلي تكاد تكون رسميَّة أو غير وثيقة كما يجب، أحس بوجود حاجز بين أخواتي، وعلاقتي بهن فيها بعض الجدية، سؤالي: لماذا تأثرت بأبي، ولم أتأثر بأمي، وليس لدي أي طموح لتكوين أسرة، وأن يكون لدي أبناء، مثل أي بنت، وليس لدي أي هدف أريد أن أصل إليه؟ وما السبب الذي جعل شخصيتي بهذه الطريقة؟
الجواب:
نحن - يا أخيَّتي - نتعامل مع بعضنا البعض، من خلال بضعة أسطر وأحبار إلكترونية، فأنا في الواقع لا أعرفكم ولا أنتم تعرفونني؛ ولكي أصل معكم إلى نتيجة مُرْضية، ترضيكم وترضيني في الوقت ذاته، يتوجب عليكم أن تكونوا أكثر انفتاحًا وتفتحًا عند حديثكم عن أنفسكم، خصوصًا حين يتعلق الأمر بموضوعٍ حساسٍ كالشخصية.
معظم الناس مشغوفون حبًّا بكل ما يتعلق بموضوع الشخصية؛ لكنَّه في الحقيقة ليس من السهولة بمكان، ويحتاج كل من يرغب في الوصول إلى معرفة صحيحة لشخصيته أن يتحدث مطولاً عن نفسه، وبأكثر من منظور وزاوية نفسية، وأنا - والله - لا أحب أن أخذل أحدًا، لكنَّ المعلوماتِ الناقصةَ توقعني في خطأ أكبر؛ بل خطأ لا يغتفر، وهو إصدارُ الأحكام المتسرعة بناءً على المعلومات الأوليَّة، ومن منَّا يقبل أن يُعطَى له وصف، ربَّما كان خاطئًا أو ظالمًا، قد يلتصق به لمجرد أن سمة أو اثنتين قد وردتا عَرَضًا خلال كلامه عن نفسه؟
أنا والله لا أقبلها لأي أحد؛ ولهذا أتجنب الحديث عن الشَّخصية إلاَّ في حالة واحدة، أن يكون سبب المشكلة هو الشخصية نفسها.
ومع هذا سأتوكل على الله وأغامر كالعادة في إصدار الأحكام؛ كيلا تَجِدي نفسك قد خرجت من استشارات (الألوكة) بخُفَّي حنين، إنَّما هي رسالة من خلالك لكل مَن يرغب في تفسير أو فهم، أو حلٍّ أو تحليل، لأيِّ مسألة أو مُشكلة نفسية، متمنيةً أن تجد هذه الكلمة صداها لدى القلوب الوفيَّة لموقع (الألوكة).
عزيزتي، الصورة المبسطة التي رسمتِها عن نفسك تقرِّبك عندي من أصحاب الشخصية التجنبية المتفادية للغير Avoidant Personality والتي تتَّسم بما يلي:
2- الغياب عن التجمعات العائلية أو العملية وهي السمة الغالبة؛ "علاقتي بأهلي تكاد تكون رسميَّة أو غير وثيقة كما يجب، أحس بوجود حاجز بين أخواتي، وعلاقتي بهن فيها بعض الجدية".
3- تجنب الأنشطة العملية؛ خشية النقد أو الرفض من قبل الآخرين؛ "أحزن من نفسي، وأنا أشاهدها وهي الآن كبيرة تقوم بأعمال المنزل، وهي عملت عمليَّة كبيرة في القلب، ولا أقول لها: عنك يا أمِّي؛ حتَّى لا أضطر أن أقوم أنا بهذا العمل؛ لأنِّي كسلانة".
4- عدد الأصدقاء قليل جدًّا: "وليس لدي أصدقاء مقربون جدًّا".
5- الشخص التجنبي خجول، انطوائي، دائم السكوت، دائم الخوف: "إنسانة خجولة وانطوائيَّة، لا أحب التحدث كثيرًا، كثيرة الخوف، تنتابني أوهام وهواجس".
6- المبالغة في احتقار الذات وتصغير القدرات وتقليل الطموحات: "ليس لدي أي طموح لتكوين أسرة، وأن يكون لدي أبناء، مثل أي بنت، وليس لدي أي هدف أريد أن أصل إليه".
والسؤال الذي تطرحينه الآن على نفسك: ما السبب الذي جعل شخصيتي بهذه الطريقة؟
على ضوء هذا التعريف يُمكن القول بأن 50% من سمات شخصيتك هي نتاج لأسباب وراثية؛ ولهذا تجدين نفسك أقرب في السمات لشخصية أبيك؛ نتيجة لعامل الوراثة، وبالتأكيد مسألة الجينات الوراثية هذه بأمر الله، ولا دخل لأحد فيها، أمَّا باقي النسبة، فعلى الأرجح أن خبراتِ الطفولة قد لعبت دورًا رئيسًا في تثبيت ملامح هذه الشخصية لديك.
قال "د. تاد جيمس"، و"د. ويات ووسمول" في كتابهما "خط الحياة": "عندما نبلغ السابعة من عمرنا يكون أكثر من 90% من قِيَمنا قد تخزنت في عقولنا، وعندما نبلغ سنَّ الحادية والعشرين تكون جميع قيمنا قد اكتملت واستقرت في عقولنا".
يبقى سؤالك الذي عنونت به استشارتك: كيف أتغير؟
أولاً: استبصارك بذاتك، وفهمك لطريقة تفكيرك ومشاعرك ورغباتك هو الخُطوة الأولى والأهم؛ لإنهاء هذه المشكلة في داخلك، وكونك الآن تعرفين شكلَ القالب الذي تنصبُّ فيه ملامح شخصيتك وهويتك، فسيسهل عليك - إن شاء الله - مُهمة الخروج من هذه العزلة الاختياريَّة، التي فرضتها على ذاتك، والمهم هنا هو أن تُحبي نفسك، وتتقبليها بحسناتها وعيوبها، مع الأخذ في الاعتبار بالطَّبع أن تعملي على تطوير وتنمية مَحاسنك، وسدِّ ثغراتك قدر استطاعتك؛ يقول بول ويلسون في كتابه الصغير "للأمل": "أيًّا كانت نظرتك إلى العالم وإلى نفسك، فمن المؤكد أنَّ الكون لن يكون هو نفسه دون وجودك فيه، فأنت تقوم بدور لا غنى عنه في هذا العالم".
كل أنثى هي أم، وحلم الأمومة لدى كل أنثى يسبقُ أحلام الزوجيَّة لديها بمراحل عديدة، لكن أنت تدفنين في أعماقك هذه المشاعر، وتلك الطموحات متوجسة خيفةً من الفشل والنقد، ومتى ما تأكدت - عزيزتي - بأنَّ الفشل هو الخُطوة الأولى للنجاح، وأن أكثر النَّاجحين في الحياة قد سلكوا طريق العثرات هذا، فستنجحين - بإذن الله - في حجز أول تذكرة لدخول عالم الطُّموحات والأهداف النبيلة.
ما من شخص في هذا الكون لم يمر بتجربة فشل، ما من إنسان لم تُخدَش أحاسيسه بكلمة ناقدة مُسيئة أصابته في مقتل، ومع هذا ينجح العظماء - والعظماء فقط - في تجاوز جراحاتهم من سهام الناس الطائشة، بالاستفادة من الأخطاء، وعدم تكرارها، وعدم الالتفات إلى الانتقادات التي تهدف إلى كسر الغصن، بدلاً من إرواء أوراقه.
لذا عليك من الآن فصاعدًا محو كلمات الفشل والخوف من قاموسك النفسي، انظري إلى الزاوية المضيئة في الحياة، حتَّى في جدار الخطأ إذا أخطأتِ، اسكبي مشاعر النقص التي تغمرك بتدفقها خارج دائرة تفكيرك، وعليك أن تدركي أن أخطاءنا التي نظنها أخطاء لا تغتفر، قد تكون ذات نفع لغيرنا بشكل أو بآخر، تمامًا كذلك الإناء المشروخ، هل سمعت بقصة الإناء المشروخ؟
يحكى أنَّ امرأة من الصين كان لديها إناءان كبيران تنقل بهما الماء، وتحملهما مربوطين بعمودٍ خشبي على كَتِفَيها، وكان أحد الإناءين به شرخ، والإناء الآخر بحالة تامَّة لا ينقص منه شيء من الماء، وفي كلِّ مرَّة كان الإناء المعطوب يصل في نهاية المطاف من النَّهر إلى المنزل وبه نصف كمية الماء فقط، واستمر ذلك لمدة سنتين كاملتين.
بهذا أصبح الإناء السليم مزهُوًّا بعمله، والإناءُ المعطوب محتقرًا لنفسه، ولم يصبر على ذلك فتكلَّم شاكيًا مع السيدة الصينية، وقال: "أنا خجِل جدًّا من نفسي؛ لأنَّني عاجز، ولدي عطب يسرِّب الماء على الطريق من النهر إلى المنزل".
ابتسمت المرأة وقالت: "ألم تلاحظ الزُّهور التي على جانب الطريق من جهتك، بينما الجهة الأخرى خالية من تلك الزهور؟ أنا أعلم تمامًا بالماء الذي يفقد منك؛ ولهذا الغرض نثرت البذور على طول الطَّريق من جهتك؛ حتى ترويها في طريق عودتك إلى المنزل، ولمدة سنتين متواصلتين قطفت من هذه الزُّهور الجميلة، وزيَّنت بها منزلي، ولو لم تكن أنت على ما أنت عليه، لَما تمكَّنت أنا من الاستمتاع بتلك الزهور".
ثالثًا: تَخَطِّي حاجز الخوف والكسل والتردد بقرع باب المحاولة الأولى؛ بل والولوج بتجربتها، حاولي مرَّة واثنتين وثلاثًا، وستنهار كلُّ الحواجز النفسية من تلقاء نفسها بعد ذلك، لا تنتظري الآن أن تعوِّدك والدتك على القيام بعمل شيء؛ بل قومي أنت من تلقاء نفسك وجَرِّبي القيام بالعمل، قولي لنفسك: أنا أستطيع فعل أي شيء، وستستطيعين بالفعل القيام بواجباتك بكلِّ يسر وسهولة، اكنسي هذه المثبطات من داخلك خارجًا، وأخبري نفسك أن ما تقومين به الآن غايته الأولى: رضا الله - تعالى - ثم رضا الوالدين، ثم رضا النفس، وإذا تحقَّق ذلك، فسيرضى عنك الناس من بعد، والنوع الأخير من الرضا على أهميته، إلاَّ أنني شخصيًّا لا أُلقي له بالاً؛ لأنَّ رضا الناس غاية لا تُدْرَك.
لقد جربتُ ذلك بنفسي، فوجدت أنَّ الساخطين عليَّ أكثر من الذين رضُوا وترضَّوا عني، فما جدوى أن أثقل تفكيري بكيف يراني الآخرون؛ إن كنتُ مهما تفانيتُ، فلن ينظروا إلاَّ إلى الجانب المظلم في كل عمل أقوم به؟!
لذا قرِّري من الآن فصاعدًا أنْ تقومي بعمل شيء في المنزل؛ لتخفيف العبء عن والدتك، قرري أن تطبخي اليوم طعام الغداء مثلاً، ولا تختلقي الأعذار، جرِّبي هذه المرة، ولا تعقدي في داخلك المقارنات بين طَهْو والدتك وطهوك؛ لأن المقارنة ستكون ظالمة حتمًا؛ إذ كيف يقارَن عمل أصحاب الخبرات الطويلة بأصحاب التجارب الأولى؟ لا وجهَ للمقارنة إطلاقًا، فكوني منصفة مع نفسك، فوالدتك لم تنجح في الطهو منذ أول مرة، كل نساء العالم فشلن فشلاً ذريعًا عند أول طبق قُمْن بطهيه للمرة الأولى، ومع هذا تسمعين بالكثيرات قد أصبَحْن ماهراتٍ جدًّا في المطبخ؛ لسبب بسيط جدًّا: أنَّهن لم يستسلمن للفشل أولاً، ثم حاولن المرة بعد المرة ثانيًا، حتى نجحن أخيرًا، وقيسي على ذلك كل شؤون حياتك.
والنصيحة الأغلى في موضوع العمل: هو الإخلاص إلى حدِّ اعتبار أن قيامك بهذا العمل هو آخر شيء تقومين به في حياتك؛ فعن أبي أيوب الأنصاري، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: عظني وأوجز، فقال: ((إذا قمت في صلاتك فصلِّ صلاة مُودِّع، ولا تكلم بكلامٍ تعتذر منه غدًا، واجمع الإياس مما في يدي الناس))؛ رواه أحمد.
وعن زائدة عن عبدالملك بن عمير، قال: أوصى رجل ابنه، فقال: "يا بُنَيَّ، أظهر اليأس مما في أيدي الناس؛ فإنه غِنًى، وإياك وطلبَ الحاجات؛ فإنه فقد حاضر، وإياك وما يُعْتذر منه بالقول، وإذا صلَّيت فصلِّ صلاة مودِّع لا ترى أنك تعود، وإن استطعت أن تكون اليوم خيرًا منك أمْسِ، وغدًا خيرًا منك اليوم، فافعل".
رابعًا: تذكَّري أننا بشر، ولا يوجد اثنان مُتشابهان على وجه الأرض تشابهًا تامًّا، حتى بين التوائم المتماثلة، وهذه الاختلافات تنعكس على الشخصيَّات وطريقة التعامُل معها؛ لذا من الطبيعي أن يختلف تعامُلك مع والدك عنه مع والدتك، فهما شخصيتان على طرفَي نقيض، ومع هذا ألم تسألي نفسك: كيف استطاعت والدتك بطباعها الاجتماعيَّة الانسجام الفكري مع والدك الانطوائي؟ وكيف استطاع رجل قليل الكلام مثل والدك الانسجام العاطفي مع امرأة لديها طلاقة لغوية كوالدتك؟
الأمر ببساطة هو: لاحترامِ كلٍّ منهما شخصيةَ الآخر، وإيجاد قاعدة مشتركة من التواصل والتعامُل تكْفُل تجاوزَ كل الفروقات والاختلافات بينهما، وهذا درس مُهم جدًّا يجب أن تعيه جيدًا من والديك لمستقبل حياتك، فنعم الوالدان هما.
خامسًا: عليك بكتب تنمية وتطوير الذات، والدورات التي تعقد في كل بلد، ومصر من الدول الممَيَّزة بالمدَرِّبين الجيدين، فلا تتردي في الالتحاق بواحدة أو قراءة كتاب من كتب تطوير الذات، جرِّبي ذلك، لا تقفي مكتوفة اليدين، فتِّشي وابحثي وجربي.
سادسًا: يقول المثل: "آخر الطب: الكي"، إن لم تنجح كل الجهود النفسية، سيبقى حتمًا لديك الخيار الدَّوائي من خلال الذهاب إلى طبيبة نفسيَّة حاذقة.
ختامًا: أوصيك بوالديك خيرًا، وخصوصًا والدتَك، فالدنيا - يا عزيزتي - قصيرة، والذين نُحبهم فيها ويُحبوننا اليومَ بكلِّ إخلاص ودون غاية دنيوية - أصبحوا من القلَّة بحيث يتوجب علينا أن نُحافظ على مَن بقيَ منهم حيًّا، ونبادله الوفاء بالوفاء، قبل أن يأتي يوم نجد أنفسنا مشدودين لقول كلمة "أحبك" لمن نُحب، ثم لا نملك أن نتفوه بحروفها، ليس عجزًا منَّا، ولكن لأنَّ من نُحبهم قد فارقونا إلى عوالمَ أخرى غير عالم الدنيا، فنحن لا ندرك الغيب ولا نعلم ما الذي يخبئه لنا القدر، وعندها لن يُجدي كل الحب الذي نحمله لمن نحب، حين يفارق الدنيا قبل أن يعلم كم كانت له في القلب منزلة، وكم خَفَقَ القلب بمحبته، ولستُ أعلم في الدنيا مَن هو أغلى من الوالدين؛ لنعبر لهما عن حبِّنا لهما قولاً وعملاً.
أنتِ تلومين والدتك؛ لأنَّها لم تحملكِ المسؤولية مبكرًا، وهذا خطأ تربوي بمقياس العقل؛ لكنه بمقياس القلب حبٌّ غير مشروط؛ ولهذا تخطئ حسابات القلب كثيرًا، إنَّما أظن أنه قد حان الوقت الآن لتحبي والديك حبًّا غير مشروط، وتبادلينهما الوفاء بالوفاء؛ إذ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!
غدًا ستتزوجين، وتصبحين أمًّا - بإذن الله - وربَّما حمَّلك أبناؤك مسؤولية أخطاءٍ تربوية صدرت منك في حقهم، فهل كنتِ ستقبلين منهم نظرات اللَّوم والعتاب، رغم كل الحب والبذل الذي قدمتِه لهم؟ وهل كنت ستَرْضَيْنَ منهم ذلك الصدود والابتعاد، رغم العمر الغالي الذي أفنيتِه في تربيتهم والاقتراب منهم؟
أمنياتي القلبية لك بالتوفيق والسعادة والرِّضا، دمت بخير، ولا تَنْسَيْني من صالح دعائك.
السلام عليكم،
سأسرد لكم قصَّة حياتي باختصار؛ لأنِّي أريد تحليل شخصيتي، وأعرف ما السبب الذي جعلني هكذا، أوَّلاً: والدي رجل مُثقف يحبُّ القراءة أكثر شيء، وهو انطوائي، يحب الجلوس بمفرده، ويحب الهدوء، علاقته بنا فيها شيءٌ من الجدِّيَّة، لا أستطيع أن أعَبِّر له عن شعوري، أو أن أتناقش معه بكُلِّ سلاسة، الكلام معه رسمي، لدرجة أني من الممكن أن أكلم قريبي بطلاقة لا أستطيعها مع والدي، وأحس أنَّه يَخجل مني، على الرغم أنَّه طيب، لكن لا يوجد مساحة حوار بيننا، وأنا أخاف منه أكثر من أخواتي، وهذا منذ الصِّغر، ووالدتي طيبة تقوم بأداء عملها على أكمل وجه، واجتماعيَّة، وتحب التحاور والمناقشة؛ لكن أنا أخذت من طبع أبي في قلة الكلام والطباع، على الرغم من أنَّ أمي يوجد معها مساحة حوار، لكنَّ المشكلة تكمُن في أني بعيدة عنها، لا أحس أنَّها أمي، أحس شعورًا غيرَ طبيعي؛ بسبب بُعدي عنها رغم أنَّها تحملت كثيرًا من أجلنا؛ حيث تقوم بكُلِّ صغيرة وكبيرة في المنزل، رغم أننا شباب، ولسنا أطفالاً، لم تُحمِّلْنا مسؤوليَّة أي شيء؛ ولذلك كبرنا، ونحن نعتمد عليها، وللأسف أحزن من نفسي، وأنا أشاهدها - وهي الآن كبيرة - تقوم بأعمال المنزل، وهي عملت عمليَّة كبيرة في القلب، ولا أقول لها: عنك يا أمِّي؛ حتَّى لا أضطر أن أقوم أنا بهذا العمل؛ لأنِّي كسلانة، وأنا أحملها مسؤوليَّة عدم تدريبنا من الصِّغر على تَحمُّل المسؤولية، وتركنا حتَّى الآن، وهي تقوم بكل شيء، حيث أنا كنت في الطفولة إنسانة خجولة وانطوائيَّة، لا أحب التحدث كثيرًا، كثيرة الخوف، تنتابني أوهام وهواجس، ليس لديَّ أي طموح، وليس لدي أصدقاء مقربون جدًّا، علاقتي بأهلي تكاد تكون رسميَّة أو غير وثيقة كما يجب، أحس بوجود حاجز بين أخواتي، وعلاقتي بهن فيها بعض الجدية، سؤالي: لماذا تأثرت بأبي، ولم أتأثر بأمي، وليس لدي أي طموح لتكوين أسرة، وأن يكون لدي أبناء، مثل أي بنت، وليس لدي أي هدف أريد أن أصل إليه؟ وما السبب الذي جعل شخصيتي بهذه الطريقة؟
الجواب:
أختي العزيزة، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
كنت أتمنى ألاَّ تختزلي قصة حياتك في هذه السطور القليلة؛ لأنَّكِ ترغبين في تحليلٍ دقيق لشخصيتك، في حين أنَّ ما كتبتِه عن والديكِ – حفظهما الله تعالى - أكثر بكثير مما كتبتِه عن نفسك.
نحن - يا أخيَّتي - نتعامل مع بعضنا البعض، من خلال بضعة أسطر وأحبار إلكترونية، فأنا في الواقع لا أعرفكم ولا أنتم تعرفونني؛ ولكي أصل معكم إلى نتيجة مُرْضية، ترضيكم وترضيني في الوقت ذاته، يتوجب عليكم أن تكونوا أكثر انفتاحًا وتفتحًا عند حديثكم عن أنفسكم، خصوصًا حين يتعلق الأمر بموضوعٍ حساسٍ كالشخصية.
معظم الناس مشغوفون حبًّا بكل ما يتعلق بموضوع الشخصية؛ لكنَّه في الحقيقة ليس من السهولة بمكان، ويحتاج كل من يرغب في الوصول إلى معرفة صحيحة لشخصيته أن يتحدث مطولاً عن نفسه، وبأكثر من منظور وزاوية نفسية، وأنا - والله - لا أحب أن أخذل أحدًا، لكنَّ المعلوماتِ الناقصةَ توقعني في خطأ أكبر؛ بل خطأ لا يغتفر، وهو إصدارُ الأحكام المتسرعة بناءً على المعلومات الأوليَّة، ومن منَّا يقبل أن يُعطَى له وصف، ربَّما كان خاطئًا أو ظالمًا، قد يلتصق به لمجرد أن سمة أو اثنتين قد وردتا عَرَضًا خلال كلامه عن نفسه؟
أنا والله لا أقبلها لأي أحد؛ ولهذا أتجنب الحديث عن الشَّخصية إلاَّ في حالة واحدة، أن يكون سبب المشكلة هو الشخصية نفسها.
ومع هذا سأتوكل على الله وأغامر كالعادة في إصدار الأحكام؛ كيلا تَجِدي نفسك قد خرجت من استشارات (الألوكة) بخُفَّي حنين، إنَّما هي رسالة من خلالك لكل مَن يرغب في تفسير أو فهم، أو حلٍّ أو تحليل، لأيِّ مسألة أو مُشكلة نفسية، متمنيةً أن تجد هذه الكلمة صداها لدى القلوب الوفيَّة لموقع (الألوكة).
عزيزتي، الصورة المبسطة التي رسمتِها عن نفسك تقرِّبك عندي من أصحاب الشخصية التجنبية المتفادية للغير Avoidant Personality والتي تتَّسم بما يلي:
1- عدم إجادة الحديث عن النفس: وهذه أول سمة لاحظتها عليكِ من خلال طريقة وصفك لنفسك.
2- الغياب عن التجمعات العائلية أو العملية وهي السمة الغالبة؛ "علاقتي بأهلي تكاد تكون رسميَّة أو غير وثيقة كما يجب، أحس بوجود حاجز بين أخواتي، وعلاقتي بهن فيها بعض الجدية".
3- تجنب الأنشطة العملية؛ خشية النقد أو الرفض من قبل الآخرين؛ "أحزن من نفسي، وأنا أشاهدها وهي الآن كبيرة تقوم بأعمال المنزل، وهي عملت عمليَّة كبيرة في القلب، ولا أقول لها: عنك يا أمِّي؛ حتَّى لا أضطر أن أقوم أنا بهذا العمل؛ لأنِّي كسلانة".
4- عدد الأصدقاء قليل جدًّا: "وليس لدي أصدقاء مقربون جدًّا".
5- الشخص التجنبي خجول، انطوائي، دائم السكوت، دائم الخوف: "إنسانة خجولة وانطوائيَّة، لا أحب التحدث كثيرًا، كثيرة الخوف، تنتابني أوهام وهواجس".
6- المبالغة في احتقار الذات وتصغير القدرات وتقليل الطموحات: "ليس لدي أي طموح لتكوين أسرة، وأن يكون لدي أبناء، مثل أي بنت، وليس لدي أي هدف أريد أن أصل إليه".
والسؤال الذي تطرحينه الآن على نفسك: ما السبب الذي جعل شخصيتي بهذه الطريقة؟
لكي أجيبك على سؤالك هذا، لا بُدَّ من التوقف هنيهة عند تعريف الشخصية، والذي يُمكن اختصاره على النحو الآتي:
"الشخصية هي: سلوك متأصل في نفس الفرد، مستمدٌّ من موروثه الجيني والتربوي، يتميز به كل فرد عمَّن سواه".
على ضوء هذا التعريف يُمكن القول بأن 50% من سمات شخصيتك هي نتاج لأسباب وراثية؛ ولهذا تجدين نفسك أقرب في السمات لشخصية أبيك؛ نتيجة لعامل الوراثة، وبالتأكيد مسألة الجينات الوراثية هذه بأمر الله، ولا دخل لأحد فيها، أمَّا باقي النسبة، فعلى الأرجح أن خبراتِ الطفولة قد لعبت دورًا رئيسًا في تثبيت ملامح هذه الشخصية لديك.
قال "د. تاد جيمس"، و"د. ويات ووسمول" في كتابهما "خط الحياة": "عندما نبلغ السابعة من عمرنا يكون أكثر من 90% من قِيَمنا قد تخزنت في عقولنا، وعندما نبلغ سنَّ الحادية والعشرين تكون جميع قيمنا قد اكتملت واستقرت في عقولنا".
يبقى سؤالك الذي عنونت به استشارتك: كيف أتغير؟
لا يُمكن - يا أخيَّتي - تغيير شخصية الفرد من شخصية إلى أخرى، إنَّما من الممكن جدًّا تعديل بعض السمات لديه، وهو الأمر الذي سأسعى إليه جاهدةً - بإذنه تعالى - من خلال النَّصائح التالية، والتي لن تجدي نفعًا إن لم تعيها بقلبك ورُوحك وعقلك.
أولاً: استبصارك بذاتك، وفهمك لطريقة تفكيرك ومشاعرك ورغباتك هو الخُطوة الأولى والأهم؛ لإنهاء هذه المشكلة في داخلك، وكونك الآن تعرفين شكلَ القالب الذي تنصبُّ فيه ملامح شخصيتك وهويتك، فسيسهل عليك - إن شاء الله - مُهمة الخروج من هذه العزلة الاختياريَّة، التي فرضتها على ذاتك، والمهم هنا هو أن تُحبي نفسك، وتتقبليها بحسناتها وعيوبها، مع الأخذ في الاعتبار بالطَّبع أن تعملي على تطوير وتنمية مَحاسنك، وسدِّ ثغراتك قدر استطاعتك؛ يقول بول ويلسون في كتابه الصغير "للأمل": "أيًّا كانت نظرتك إلى العالم وإلى نفسك، فمن المؤكد أنَّ الكون لن يكون هو نفسه دون وجودك فيه، فأنت تقوم بدور لا غنى عنه في هذا العالم".
ثانيًا: ثقي بنفسك قبل أن يثقَ بها أيُّ شخص آخر، استعيدي شريط ذكريات النجاح المهمل في إحدى أرفف الذاكرة المغبر، وانفضي عنه الغبار، واستمعي إلى نجاحاتك الماضية، في كل عامٍ مضى من عمرك قد سجَّل هذا الشريط صفقات النَّجاح وهتافاتها؛ في المدرسة، في البيت، في الحياة، مع الناس، مع النَّفس، لا شكَّ أنك قد نجحت ذات مرة؛ لهذا ذكِّري نفسك بأنَّك قد نجحت يومًا ما، فمشاعر النجاح تولد مزيدًا من النجاح، وكذلك مشاعر الفشل بارعة جدًّا في خلق مزيد من الفشل في الحياة؛ لذا تجنبي ذكرياتك السيئة، وركزي فقط على الشعور بالسعادة والفرح والنجاح، ثم أنت - يا عزيزتي - كأي فتاة لها طموحها وأهدافها ومشاعرها وأفكارها وأحلامها، لكن مشكلتك الرئيسة تكمُن في حساسيتك العالية، وخوفك الشديد من نقد الآخرين وسخريتهم منك، هذا الخوف هو الذي يحجب الصور الحقيقيَّة في داخلك لطموحاتك الجميلة.
كل أنثى هي أم، وحلم الأمومة لدى كل أنثى يسبقُ أحلام الزوجيَّة لديها بمراحل عديدة، لكن أنت تدفنين في أعماقك هذه المشاعر، وتلك الطموحات متوجسة خيفةً من الفشل والنقد، ومتى ما تأكدت - عزيزتي - بأنَّ الفشل هو الخُطوة الأولى للنجاح، وأن أكثر النَّاجحين في الحياة قد سلكوا طريق العثرات هذا، فستنجحين - بإذن الله - في حجز أول تذكرة لدخول عالم الطُّموحات والأهداف النبيلة.
ما من شخص في هذا الكون لم يمر بتجربة فشل، ما من إنسان لم تُخدَش أحاسيسه بكلمة ناقدة مُسيئة أصابته في مقتل، ومع هذا ينجح العظماء - والعظماء فقط - في تجاوز جراحاتهم من سهام الناس الطائشة، بالاستفادة من الأخطاء، وعدم تكرارها، وعدم الالتفات إلى الانتقادات التي تهدف إلى كسر الغصن، بدلاً من إرواء أوراقه.
لذا عليك من الآن فصاعدًا محو كلمات الفشل والخوف من قاموسك النفسي، انظري إلى الزاوية المضيئة في الحياة، حتَّى في جدار الخطأ إذا أخطأتِ، اسكبي مشاعر النقص التي تغمرك بتدفقها خارج دائرة تفكيرك، وعليك أن تدركي أن أخطاءنا التي نظنها أخطاء لا تغتفر، قد تكون ذات نفع لغيرنا بشكل أو بآخر، تمامًا كذلك الإناء المشروخ، هل سمعت بقصة الإناء المشروخ؟
يحكى أنَّ امرأة من الصين كان لديها إناءان كبيران تنقل بهما الماء، وتحملهما مربوطين بعمودٍ خشبي على كَتِفَيها، وكان أحد الإناءين به شرخ، والإناء الآخر بحالة تامَّة لا ينقص منه شيء من الماء، وفي كلِّ مرَّة كان الإناء المعطوب يصل في نهاية المطاف من النَّهر إلى المنزل وبه نصف كمية الماء فقط، واستمر ذلك لمدة سنتين كاملتين.
بهذا أصبح الإناء السليم مزهُوًّا بعمله، والإناءُ المعطوب محتقرًا لنفسه، ولم يصبر على ذلك فتكلَّم شاكيًا مع السيدة الصينية، وقال: "أنا خجِل جدًّا من نفسي؛ لأنَّني عاجز، ولدي عطب يسرِّب الماء على الطريق من النهر إلى المنزل".
ابتسمت المرأة وقالت: "ألم تلاحظ الزُّهور التي على جانب الطريق من جهتك، بينما الجهة الأخرى خالية من تلك الزهور؟ أنا أعلم تمامًا بالماء الذي يفقد منك؛ ولهذا الغرض نثرت البذور على طول الطَّريق من جهتك؛ حتى ترويها في طريق عودتك إلى المنزل، ولمدة سنتين متواصلتين قطفت من هذه الزُّهور الجميلة، وزيَّنت بها منزلي، ولو لم تكن أنت على ما أنت عليه، لَما تمكَّنت أنا من الاستمتاع بتلك الزهور".
ثالثًا: تَخَطِّي حاجز الخوف والكسل والتردد بقرع باب المحاولة الأولى؛ بل والولوج بتجربتها، حاولي مرَّة واثنتين وثلاثًا، وستنهار كلُّ الحواجز النفسية من تلقاء نفسها بعد ذلك، لا تنتظري الآن أن تعوِّدك والدتك على القيام بعمل شيء؛ بل قومي أنت من تلقاء نفسك وجَرِّبي القيام بالعمل، قولي لنفسك: أنا أستطيع فعل أي شيء، وستستطيعين بالفعل القيام بواجباتك بكلِّ يسر وسهولة، اكنسي هذه المثبطات من داخلك خارجًا، وأخبري نفسك أن ما تقومين به الآن غايته الأولى: رضا الله - تعالى - ثم رضا الوالدين، ثم رضا النفس، وإذا تحقَّق ذلك، فسيرضى عنك الناس من بعد، والنوع الأخير من الرضا على أهميته، إلاَّ أنني شخصيًّا لا أُلقي له بالاً؛ لأنَّ رضا الناس غاية لا تُدْرَك.
لقد جربتُ ذلك بنفسي، فوجدت أنَّ الساخطين عليَّ أكثر من الذين رضُوا وترضَّوا عني، فما جدوى أن أثقل تفكيري بكيف يراني الآخرون؛ إن كنتُ مهما تفانيتُ، فلن ينظروا إلاَّ إلى الجانب المظلم في كل عمل أقوم به؟!
لذا قرِّري من الآن فصاعدًا أنْ تقومي بعمل شيء في المنزل؛ لتخفيف العبء عن والدتك، قرري أن تطبخي اليوم طعام الغداء مثلاً، ولا تختلقي الأعذار، جرِّبي هذه المرة، ولا تعقدي في داخلك المقارنات بين طَهْو والدتك وطهوك؛ لأن المقارنة ستكون ظالمة حتمًا؛ إذ كيف يقارَن عمل أصحاب الخبرات الطويلة بأصحاب التجارب الأولى؟ لا وجهَ للمقارنة إطلاقًا، فكوني منصفة مع نفسك، فوالدتك لم تنجح في الطهو منذ أول مرة، كل نساء العالم فشلن فشلاً ذريعًا عند أول طبق قُمْن بطهيه للمرة الأولى، ومع هذا تسمعين بالكثيرات قد أصبَحْن ماهراتٍ جدًّا في المطبخ؛ لسبب بسيط جدًّا: أنَّهن لم يستسلمن للفشل أولاً، ثم حاولن المرة بعد المرة ثانيًا، حتى نجحن أخيرًا، وقيسي على ذلك كل شؤون حياتك.
والنصيحة الأغلى في موضوع العمل: هو الإخلاص إلى حدِّ اعتبار أن قيامك بهذا العمل هو آخر شيء تقومين به في حياتك؛ فعن أبي أيوب الأنصاري، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: عظني وأوجز، فقال: ((إذا قمت في صلاتك فصلِّ صلاة مُودِّع، ولا تكلم بكلامٍ تعتذر منه غدًا، واجمع الإياس مما في يدي الناس))؛ رواه أحمد.
وعن زائدة عن عبدالملك بن عمير، قال: أوصى رجل ابنه، فقال: "يا بُنَيَّ، أظهر اليأس مما في أيدي الناس؛ فإنه غِنًى، وإياك وطلبَ الحاجات؛ فإنه فقد حاضر، وإياك وما يُعْتذر منه بالقول، وإذا صلَّيت فصلِّ صلاة مودِّع لا ترى أنك تعود، وإن استطعت أن تكون اليوم خيرًا منك أمْسِ، وغدًا خيرًا منك اليوم، فافعل".
رابعًا: تذكَّري أننا بشر، ولا يوجد اثنان مُتشابهان على وجه الأرض تشابهًا تامًّا، حتى بين التوائم المتماثلة، وهذه الاختلافات تنعكس على الشخصيَّات وطريقة التعامُل معها؛ لذا من الطبيعي أن يختلف تعامُلك مع والدك عنه مع والدتك، فهما شخصيتان على طرفَي نقيض، ومع هذا ألم تسألي نفسك: كيف استطاعت والدتك بطباعها الاجتماعيَّة الانسجام الفكري مع والدك الانطوائي؟ وكيف استطاع رجل قليل الكلام مثل والدك الانسجام العاطفي مع امرأة لديها طلاقة لغوية كوالدتك؟
الأمر ببساطة هو: لاحترامِ كلٍّ منهما شخصيةَ الآخر، وإيجاد قاعدة مشتركة من التواصل والتعامُل تكْفُل تجاوزَ كل الفروقات والاختلافات بينهما، وهذا درس مُهم جدًّا يجب أن تعيه جيدًا من والديك لمستقبل حياتك، فنعم الوالدان هما.
خامسًا: عليك بكتب تنمية وتطوير الذات، والدورات التي تعقد في كل بلد، ومصر من الدول الممَيَّزة بالمدَرِّبين الجيدين، فلا تتردي في الالتحاق بواحدة أو قراءة كتاب من كتب تطوير الذات، جرِّبي ذلك، لا تقفي مكتوفة اليدين، فتِّشي وابحثي وجربي.
سادسًا: يقول المثل: "آخر الطب: الكي"، إن لم تنجح كل الجهود النفسية، سيبقى حتمًا لديك الخيار الدَّوائي من خلال الذهاب إلى طبيبة نفسيَّة حاذقة.
ختامًا: أوصيك بوالديك خيرًا، وخصوصًا والدتَك، فالدنيا - يا عزيزتي - قصيرة، والذين نُحبهم فيها ويُحبوننا اليومَ بكلِّ إخلاص ودون غاية دنيوية - أصبحوا من القلَّة بحيث يتوجب علينا أن نُحافظ على مَن بقيَ منهم حيًّا، ونبادله الوفاء بالوفاء، قبل أن يأتي يوم نجد أنفسنا مشدودين لقول كلمة "أحبك" لمن نُحب، ثم لا نملك أن نتفوه بحروفها، ليس عجزًا منَّا، ولكن لأنَّ من نُحبهم قد فارقونا إلى عوالمَ أخرى غير عالم الدنيا، فنحن لا ندرك الغيب ولا نعلم ما الذي يخبئه لنا القدر، وعندها لن يُجدي كل الحب الذي نحمله لمن نحب، حين يفارق الدنيا قبل أن يعلم كم كانت له في القلب منزلة، وكم خَفَقَ القلب بمحبته، ولستُ أعلم في الدنيا مَن هو أغلى من الوالدين؛ لنعبر لهما عن حبِّنا لهما قولاً وعملاً.
أنتِ تلومين والدتك؛ لأنَّها لم تحملكِ المسؤولية مبكرًا، وهذا خطأ تربوي بمقياس العقل؛ لكنه بمقياس القلب حبٌّ غير مشروط؛ ولهذا تخطئ حسابات القلب كثيرًا، إنَّما أظن أنه قد حان الوقت الآن لتحبي والديك حبًّا غير مشروط، وتبادلينهما الوفاء بالوفاء؛ إذ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!
غدًا ستتزوجين، وتصبحين أمًّا - بإذن الله - وربَّما حمَّلك أبناؤك مسؤولية أخطاءٍ تربوية صدرت منك في حقهم، فهل كنتِ ستقبلين منهم نظرات اللَّوم والعتاب، رغم كل الحب والبذل الذي قدمتِه لهم؟ وهل كنت ستَرْضَيْنَ منهم ذلك الصدود والابتعاد، رغم العمر الغالي الذي أفنيتِه في تربيتهم والاقتراب منهم؟
أمنياتي القلبية لك بالتوفيق والسعادة والرِّضا، دمت بخير، ولا تَنْسَيْني من صالح دعائك.
أ.عائشة الحكمى