معرفيًّا إيراد أحد المصطلحين يستلزم الآخر، عند كل المؤمنين بالوجودَين؛ لأن ضمنيًّا الإيمان بنزول الوحي والحساب والعقاب يقتضي افتراض الوجود الثاني الذي هو مقابِل للأول، فالإيمان بعالم الغيب يكسب المعتقِد له قوة التماسك، واستمرار الأمل في الحياة وبعد الممات، واتِّساعًا لمصادر المعرفة وغاياتها.
وآيات عالم الشهادة في القرآن الكريم تزوِّد المؤمن بنوعٍ من التماسك، المتجلِّي في ميدانين؛ هما: الآفاق والأنفس؛ حيث جعل الله - تعالى - هذين الميدانين من مستويات تجلية آياته وإثبات نصره لأوليائه بتصديقهم، ومواقع لتفكُّر الإنسان وتدبُّرِه؛ كيما يطمئنَّ بعالم الشهادة على صحة ما ورد عن عالم غائب عنه.
فمرحلة الإيمان بعالم الشهادة تمثِّل مرحلة وعي لفهم ما أمر الله - سبحانه - به، وذاك مقتضى العقل والفطرة وعين الصواب، وحين يحدث ذلك الوعي فإن التوازن يتحقَّق للإنسان على مختلف المستويات، ويتحقق - من ثَم - منهج القرآن في أمره الناسَ بالنظر في سِيَر الأمم والأحداث في الأرض؛ كيما يَرَوْا عالم الشهادة من خلال إيمانهم بحقيقة ما جاء في عالم الغيب[2] [3].
فالمنهج المعرفي القرآني يرمي إلى إيجاد المتعلِّم المستوعِب لقوانين الشهادة المستمدَّة من عالم الغيب؛ ليتحقق الارتباط الإيجابي بين الغيب والشهادة، ولن يتمَّ ذلك إلا بتخصيص قدرٍ مناسب من مفردات المحتوى لتناول تلك القوانين، مع الربط بينهما وبين عالم الغيب (ميدانها الأصلي)[4].
بتدبُّر آي القرآن الكريم نجد عالَمَي الغيب والشهادة متكاملَين، كما في آي القرآن عن الظواهر الكونية في ميدان الآفاق من عالم الشهادة، مع ذكر بعض المخلوقات من عالم الغيب؛ كتسبيح الرعد بحمده والملائكة: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 12- 13][5].
ويورد العرش - وهو من الغيب - مع الظواهر الكونية: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2][6].
ويستدل على البعث بمقدِّمات الإحياء للنبات في ميدان الآفاق من عالم الشهادة؛ {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 6- 7].
وجميع مكوِّنات الوجود - غيبًا كان أم شهادة - هي مستسلمة لله - تعالى -: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ} [الرعد: 15]، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]، وأقسم - تعالى - على صدق الوحي بعالمي الغيب والشهادة مطلقًا؛ {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 38- 40][7]، "فمهمَّة الوحي في عالم الشهادة تتمثَّل في إمداد الإنسان بالعلم المتَّصل بعالم الغيب؛ ليربطه به فينشأ تكامل للوحي مع العقل والكون، ويتمكَّن الإنسان من تحقيق غاية وجوده في عالم الشهادة، ولن يستردَّ العقل المسلم عافيته إلا أن يستعيد رؤيته الإسلامية الكاملة، المبنية على التوحيد والوحدانية؛ ليتوحَّد عالم الغيب مع عالم الشهادة، والوحي مع العقل والكون"[8].
ممَّا سبق يمكن إبراز التكامُل بين العالمين عالم الغيب وعالم الشهادة في مظهرين:
الأول: وجود أدلة عالم الغيب في عالم الشهادة.
الثاني: بروز المخلوقات من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، ثم تنتقل من عالم الشهادة إلى عالم الغيب بانتظام واطِّراد، ومن الأمثلة على ذلك ظواهر الولادة والموت في عالم الإنسان"[9].
"فمفهوم الغيب والشهادة في القرآن هو المفهوم الذي يحدِّد معنى الحياة والوجود، وغاية الحياة والوجود، وعلاقة ذلك بما وراء الحياة وما وراء الوجود؛ إذ مفهوم الغيب والشهادة هو الإطار الأشمل الذي يحدِّد معنى العقل الإنساني، ودوره في الحياة الإنسانية، وحدود هذا الدور ومجالاته"[10].
"والتضمين التربوي الخاصُّ بميدان الغيب والشهادة يتجسَّد في ارتكاز التربية الإسلامية على اعتبار العلاقة بين ميداني المعرفة - الغيب والشهادة - علاقة عضوية تكاملية"[11] [12].
بل يتوسَّع في المفهوم في اتجاه تربوي، يكامل بين العلوم الدينية والعلوم التجريبية من خلال ما يلي[13]:
1- ارتباط العلم بالعمل، بحيث يصبح العلم وسيلة، والعمل غاية، ويصبح - من ثم - العلم بالدين أو بعلوم الإنسان يحقق هدفًا غائيًّا ساميًا، وهو عبودية الإنسان لله - تعالى.
2- التفريق المعرفي - وليس الوجودي - بين أمور العبادة وأمور السيادة والخلافة التجريبية، وبتعبير أكثر دقة: التمييز الموضوعي بين عالمي الغيب والشهادة.
3- إن هذه الخلافة عند الإنسان كحقيقة وجود، وارتباطها بعلم الأسماء - قد أدَّى إلى رفع النزاع بين الإيمان بالغيبيات والعلوم الدينية (الإنسانية)، من زاوية أن تحقيق هدف الخلافة لا يتحقَّق إلا بعلوم الغيب وعلوم الدين.
4- هناك تلازُم بين حقيقة الخلافة لتحقيق العبودية، والعلم لتحقيق السيادة؛ بما يعني أن الدين والعلم مقوِّمان ضروريان لتحقيق هدف الإنسان الوجودي؛ مما يمنع أيَّ تعارض بينهما[14] [15].
والدين هنا نريد به العمل؛ أي: العبادة بتحويل كل حركة من عادة إلى عبادة بإخلاص النية.
الفرع الثاني: عالم الغيب:
عالم الغيب هو: ما لا يصل إليه الحس إجمالاً.
أ- التعريف اللغوي: غيب: الغين والياء والباء أصلٌ صحيح يدل على تستُّر الشيء عن العيون، ثم يقاس من ذلك الغَيْب: ما غَابَ مما لا يعلمه إلا الله، ويقال: غابت الشمس تَغِيب غَيْبَةً غُيُوبًا، ووقعنا في غَيْبَةٍ وغَيَابة؛ أي: هَبْطةٍ من الأرض يُغلب فيها؛ {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} [يوسف: 10]، والغيبة: الوقيعة في الناس من هذا؛ لأنها لا تقال إلا في غَيبة[16] [17].
نلاحظ أن اللفظ يدور معناه حول ما خفي وتستَّر عن المُعَين[18]، وكل ما اشتق منه يرجع إلى هذا الأصل؛ لذا سنجد التعاريف الاصطلاحية تساير هذا.
ب- التعريف الاصطلاحي: قال الجرجاني: الغيب: الأمر الخفي الذي لا يدركه الحس[19]، ولا تقتضيه بديهة العقل، وغيب الهوية، والغيب المطلق[20]: هو ذات الحق باعتبار اللاتعيُّن والغيب المكنون، والغيب المصون هو السر الذاتي، وكنهه الذي لا يعرفه إلا هو؛ ولذا كان مصونًا عن الأغيار، ومكنونًا عن العقول والأبصار[21].
وعند الأصفهاني: هو ما لم يَقُم عليه دليل، ولم ينصب له أمارة، ولم يتعلَّق به علم مخلوق.
وقيل: الغيب هو: الخفي الذي لا يكون محسوسًا، ولا في قوة المحسوس، كالمعلومات ببديهة العقل أو ضرورة الكشف[22].
فكلمة الغيب تطلق على كل شيء غاب عن إدراك حواسِّ الخلائق كلهم أو بعضهم، أما الله - سبحانه - فلا شيء في الوجود كله هو غيب بالنسبة إليه، بل كل ما في الوجود هو من عالم الشهادة بالنسبة إليه.
وورد لفظ الغيب في القرآن (53) مرة: (4) مرَّات بصيغة الجمع (الغيوب)، ومرة واحدة بصيغة (غيبه)؛ قال - تعالى -: {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20]، فاستُعمِل في كل غائب عن الحاسَّة، وعمَّا يغيب عن علم الإنسان: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 75]، والغيب في قوله - تعالى -: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، ما لا يقع تحت الحواس، ولا تقتضيه بداهة العقول، وإنما يُعلم بخبر الأنبياء، وبدفعِه يقع على الإنسان اسم الإلحاد؛ قال - تعالى -: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34]؛ أي: لا يفعلن في غيبة الزوج ما يكرهه.
قُسِّم الغيب إلى[23]:
الأوَّل: قسم نُصِبَ عليه دليل فيمكن معرفته، كذات الله - تعالى - وأسمائه الحسنى وصفاته العلية، وأحوال الآخرة، إلى غير ذلك مما يجب على العبد معرفته، وكُلف به، وهو غائب عنه لا يشاهده ولا يعاينُه، ولكن يمكن معرفته بالخبر الصحيح.
الثاني: قسم لا دليل عليه، فلا يمكن للبشر معرفته؛ كما قال - تعالى -: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59]، وغيب الغيب هو الذات الإلهية المطلقة، وهو هويته الغيبية السارية للكل علمًا، لا يمكن أن يتعلَّق به بهذا الاعتبار علم؛ لكونه محتجبًا في حجاب عزته، ولا يجوز إطلاقًا اسم الغائب عليه - تعالى - ويجوز القول: إنه غيب عن الخلق، وقد فُسر {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، بأنه هو الله - تعالى[24].
الثالث: الغيب الإضافي: وهو درجتان: غيب مكاني، وغيب زماني؛ فالمكاني: ما غاب عنك؛ لبعده عن نظرك، والزماني: ماضٍ لم تدركه؛ إما وجودًا، أو معرفة، ومستقبل آتٍ؛ كنزول مطر في مكة من قبل أن يقع، وحال وقوعه هو غيب في حق مَن كان غائبًا عنها[25].
حاول بعض الباحثين المعاصرين ضبط تعاريف الغيب، نذكر بعضها:
1- عالم الغيب: "عالم ذو طبيعة عقلية معنوية متعالية عن المادة؛ ولذلك فإنه ليس بعالم قابل للشهود الإنساني، بل يدرك الإنسان ثبوته وآثاره فحسب؛ كالموجود الإلهي، ووجود الملائكة، والجن، والجنة والنار، وغيرها من الموجودات الغيبية، والله - تعالى - وحده الذي يحيط علمه بعالَمَي الغيب والشهادة جميعًا"[26].
2- عالم الغيب: "عالم يخص به علم الله وحده، يوحي ما يشاء من أمره على مَن يشاء من عباده، ويرسلهم بالرسالات إلى الأمم، هداية وتبصيرًا بمعنى وجودهم، وغاية هذا الوجود وعلاقته ومآله"[27].
3- عالم الغيب: "كل أمر غائب عن مجال إدراكنا الحسي حسب العادة"[28].
فلما خلق الله - جل جلاله، وعظم سلطانه - المخلوقات ذوات الإدراكات الحسية جعل حَواسَّهَا قاصرة عن إدراك كل ما في الوجود، ولو كان حولها مباشرة، أو داخلاً في ذواتها، وجعلها متفاضِلَة في إدراكاتها الحسية، فبعض الخلائق تدرك بحواسها موجودات لا تدركها خلائق أخرى بحواسها من نوعها أو جنسها، أو من غير نوعها وجنسها، وهذه حقيقة ثابتة علميًّا، ومشاهَدَة في عوالم الأحياء، فما يدركه المخلوق من الموجودات الحسية بحاسَّة من حواسِّه الظاهرة بطريقة مباشرة يعتبر بالنسبة إليه من عالم الشهادة، وما لا يدركه منها بحاسة من حواسه الظاهرة بطريقة مباشرة يُعتبر بالنسبة إليه من عالم الغيب.
من أجل ذلك تقرَّر أن ما هو من عالم الغيب بالنسبة إلى بعض المخلوقات هو من عالم الشهادة بالنسبة إلى مخلوقات أخرى، هذه الحقيقة تنطبق على أصناف المخلوقات، وأنواعها وأجناسها، وتنطبق أيضًا على أفراد الصنف الواحد، أو النوع الواحد، أو الجنس الواحد، فبعض الأفراد قد يهبه الله مزيدًا من قوى الإدراك الحسي، وبه يدرك إدراكًا مباشرًا أشياء من موجودات الكون، في حين أن أفرادًا آخرين لا يدركونها، فهي بالنسبة إلى مدركيها بالحواس؛ إدراكًا مباشرًا من عالم الشهادة، وهي بالنسبة إلى غير مدركيها من عالم الغيب.
وبناءً على هذا؛ فالغيوب كثيرة جدًّا، وهي قضايا نسبية، تخضع لحالات ذوي الإدراك الحسي، من أفراد ما خلق الله، فالجن والملائكة يرون ما لا نرى، وهو بالنسبة إليهم من عالم الشهادة، وبالنسبة إلينا من عالم الغيب، وبعض البهائم تدرك بحواسها ما لا يدركه الناس بحواسهم مباشرة، فهو بالنسبة إليهم من عالم الشهادة، وبالنسبة للناس من عالم الغيب وأحداث الماضي التي لم نشْهَدْها شهودًا مباشرًا بحواسنا - هي بالنسبة إلينا من عالم الغيب ولِمَن حضرها مشهودة، وكذلك الأحداث الآتية والعلم بشيء منها علم من أنباء الغيب إذا أعلَمَ الله به؛ إذ هي من علم الله الذي أحاط بكل شيء علمًا[29].
جـ- خصائص الغيب:
مما نثبته في خصائص الغيب ما يأتي:
1- عالم الغيب يمثِّل عالم اللامحسوس، وإن أدرك بالعقل[30].
2- عالم الشهادة قد يكون ما فيه غيبًا إضافيًّا؛ أي: يتجزأ حسب المضاف إليه[31].
3- قسم عظيم من عالم الغيب خصَّ الله - عز وجل - به نفسه، ومنه طائفة من ترتيبات قضائه وقدره، فانفرد به حيث أضافه لنفسه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26][32]، ومفاتيح الغيب: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59.
4- من الغيب ما اطَّلع عليه مَن ارتضى - سبحانه -: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26- 27]؛ أي: مَن جعله رسولاً لأداء ما بلغ من الغيب[33].
5- من صفات عالِم الغيب استغراق علمه للجزئيَّات والكليات معًا: {عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3][34]؛ فشمول علم الله للغيب كله صفةٌ خاصَّةٌ به - جل جلاله[35].
6- وجاء في القرآن الكريم بيان أن الله عنده وحده علم الساعة، فلم يُطْلِع عليه أحدًا، وأثبت - سبحانه - لنفسه أنه يعلم كلَّ ما في الأرحام دون أن يَرِد في النص القرآني قصر علم ما في الأرحام عليه - جل جلاله - فقال - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].
7- من الغيب قسمٌ قابل لأن يكون من عالم الشهادة إذا تهيَّأت للمخلوقات شروط مشاهدته، وقسم غير قابل لأن يكون من عالم الشهادة؛ لأنه مما استأثر الله - تعالى - بعلمه لنفسه[36].
د- أدوات معرفة الغيب:
إذا كان معنى الغيب هو عالم اللامحسوس على نحو قاطع، فهل من أدوات لوُلوج عالم الغيب وفهم ميدانه أو بعض ما فيه؟
حجم العلاقة بين عالم الغيب وعالم الشهادة يشير إلى إمكان أن نستخدم كلاًّ من أداتي الحس والعقل فيهما معًا؛ فمنهج المعرفة في عالم الغيب ينطلق من مدركات حسية متجاوزًا الإطار المادِّيَّ المحدود ليتفاعل مع المبادئ الأولية للعقل، فيتمكَّن من إدراك قضايا الغيب الكبرى من ألوهية وربوبية وأسماء وصفات ونبوة، على نحو من المعرفة العلمية[37].
"وبإمكان العقل معرفة بعض الكليات العقدية؛ كوجود الله - تعالى - ومعرفة النبوة؛ بوصفها طريقًا للمعرفة الغيبية"[38]، ولكن أيًّا من الحسِّ، أو العقل لا يقوى على أن يَصِل إلى معرفة تفصيلية عن عالم الغيب؛ لأن طريق ذلك هو الوحي فحسب، ولا طريق إلى المعرفة التفصيلية بالحس أو العقل[39]، فالخبر اليقين المتمثِّل في الوحي هو مصدر معرفة الغيب، وهذا ينعكس على المنهج المعرفي في الإسلام؛ إذ يتركز في المصدرية على الوحي في ميدان الغيب؛ {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52][40].
فحينما دعا القرآن الناس إلى الإيمان بأصول الغيب وجَّههم إلى بلوغ الإيمان من طريق البحث العلمي؛ فحثَّهم على استخدام أدواتهم المعرفية للتفكُّر والتدبُّر في دلائل القدرة وسعة العلم الدالَّة على قدرة الخالق، وأرشدهم إلى أن هذه الدلائل منبثَّة في السماء والأرض وفي أنفسهم وفيما حولهم؛ {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 6- 8]، ففي هذا إثارة للعقل الإنساني بما يوصله إلى الاطمئنان للخبر الصادق، ويقوده هذا إلى الركون لتفصيلات الغيب، وأن لا طاقة له بها؛ حيث لم يستوعب ما هو في مجاله في الشهادة، وعجز عن كثير مما هو فيها، فكيف به مع ما هو خارج عن نطاقه؟ ! وهذا يصدق في الغيب الذي لا يصبح من عالم الشهادة، أمَّا ما يمكن أن يدرك فيصبح من عالم الشهادة فالبحث فيه يطوله الحس والعقل.
هـ- مبادئ الغيب:ميدان الغيب يمثل مصدرًا لمعرفة يتلقَّاها الإنسان، بكونه مستقبلاً للمعرفة، ومبادئ عالم الغيب يمكن تحديدها فيما يأتي[41]:
1- الوجود ذو غاية خيِّرة؛ لقوله - تعالى -: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، فالخلق كان من ورائه هدف لا بُدَّ من تحقيقه؛ لأن الخالق لا يعبث، بل يقدر لحكمة يريدها هو، فيكون منه توجيه الإنسان لمعرفة الغاية والوسيلة والطريق الموصل للحكمة.
2- علاقات الوجود الكليَّة غير خاضعة لإرادة الإنسان فيما وراء طاقته الإنسانية، فالإنسان استُخْلَف في الأرض وذُلِّلَت له؛ لكي يقوم بالخلافة لغاية التوحيد، لكن من الأمور ما لم يكلف بها، فلا يمتحن عليها؛ لذا لم تكن في وسع طاقته بلوغها، ولم تخضع لإرادته.
3- وجود الله - تعالى - يمثِّل أهم معطًى في عالم الغيب بالنسبة إلى الإنسان، وعلى هذا الأساس فإن التربية الإسلامية تهدف إلى إخراج (إنسان موحِّد).
4- الدار الآخرة تمثل محصِّلة حسابية وجزائية نهائية لما قدمه الإنسان في الدنيا، وفي هذا تربية على الرقابة الذاتية للفرد.
5- الدنيا دار عمل وإصلاح، ومن هذا المنطلق فإن علاقة الإنسان بالدنيا علاقة ابتلاء واختبار للوصول إلى دار الحساب.
6- الإرادة الإنسانية وفق علم الله أمر وقد أُوكِل إليها القيام بمهامِّ الخلافة، وأداء الخلافة يتطلَّب شروط المهارة، فيجب أن يسعى المنهج بجميع عناصره لبلورتها.
7- الهداية والضلال في حياة الإنسان مصير فردي يسبق في علم الله حين وهب الإنسان الحرية في الاختيار؛ لذا لا معنى للتواكل والقول بالجبر، ومظاهر العجز.
8- بعد بذل الأسباب واستنفاد الطاقة يسقط التكليف، فيتوكل على الله، وهذا يقضي على الالتباس في فهم التوكُّل، والقدر واتِّخاذ الأسباب.
9- الوحي هو المصدر الذي يمدُّ الإنسان بحاجاته المعرفية الغيبية، والغاية من الخلق والمصير منه؛ ولذلك فإن التربية الإسلامية تعتمد الوحي مصدرًا وطريقة وحيدة للبحث في الغيب.
10- العقل والوحي يتكاملان لتحقيق موقع الإنسان في عالم الشهادة وتمكين وجوده، وسعيه إلى تحقيق الغاية منهما بعالم الشهادة، وعلى هذا الأساس يتمُّ تصميم المنهج بعيدًا عن الثنائيات العقيمة للدين والدولة، والعقل والنقل، والأصالة والمعاصرة.
11- في الإطار الإسلامي الأشمل، المبني على حقيقة التوحيد والوحدانية يتكامل عالم الغيب وعالم الشهادة، والوحي والعقل والكون، والإيمان والعمل، والتوكُّل والسعي، وتتكامل عقيدة القضاء القدر، والثقة بالكليات الربانية، والأوامر الإلهية، مع جدية السعي لفهم السنن، والعلم بالفطرة والأسباب، وطلبها والحرص عليها[42]، إذا كانت هذه المبادئ قد جسَّدت نمطَ العلاقة بين الإنسان - وهو من عالم الشهادة - والغيب، ومعطياته الإنسانية، على نحوٍ يجعل من هدف هذه العلاقة تحقيق معاني التسخير والاستخلاف، فذلك يرجع إلى أصل الإنسان الذي ينتمي بجسده إلى عالم الشهادة، غير أنه ينتمي بروحه ونفسه إلى عالم الغيب؛ {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 7- 9][43].
الفرع الثالث: عالم الشهادة:
الغيب في الاصطلاح خلاف الشهادة، كما قال أهل العلم: الغيب ما غاب عن العيون وإن كان محصَّلاً في القلوب[44]، فميدان الشهادة يُعْقَل بالتعاون مع الحواس، فيكون الكون ميدانًا لعالم الشهادة في كل ما كان محسوسًا مع كون النظر إلى هذا الميدان مبنيٌّ على التكامل والتوازن؛ ذاك لأن الخلافة قائمة على مواجهة عالم الشهادة والتعامل معه بحسبانه ميدانًا للإنجازات العظيمة عن طريق تسخير القوانين المودعة فيه، من خلال عقلانية حاسمة قائمة على أساس السببية، والتوافقية، والتعامل المباشر مع أجزائه؛ ولهذا فلا مجال فيه للغيبة ولا للتأمل الاستغراقي الغنوصي[45] [46].
أ- التعريف اللغوي:
شهد: الشين والهاء والدال، أصلٌ يدلُّ على حضور وعلم وإعلام، لا يخرج شيء من فروعه عن الذي ذكرناه من ذلك الشهادة، يجمع الأصول التي ذكرناها من الحضور والعلم والإعلام[47]، ومن أسماء الله الشهيد؛ أي: الذي لا يغيب عن علمه شيء، والشهيد هو الحاضر، فالعلم إذا اعتبر مطلقًا كان الله هو العليم، وإذا أضيف في الأمور الباطنة فهو الخبير، وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد[48]، والشهادة خبر قاطع تقول منه: شهد الرجل على كذا، فالشاهد هو العالم الذي يبين ما علمه[49]، والمشاهدة: المعاينة[50].
ب- التعريف الاصطلاحي:
ورد لفظ شهد بمشتقاته (124) مرة، حصرها علماء الأشباه والنظائر في (7) أوجه، فالمشاهدة وردت في قوله - تعالى -: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج: 7]؛ أي: حضور[51].
تكون الشهادة إمَّا بالبصر أو بالبصيرة، فهي خبر قاطع يؤدي معنى الإقرار والحجة، مع وجود العلم بذلك، ولكن الشهود بالحضور المجرَّد أَوْلَى، والشهادة مع المشاهدة أَوْلَى[52].
من ذلك قوله - تعالى -: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف: 19]؛ يعني: مشاهدة بالبصر، وقوله: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]، تنبيهًا بأن الشهادة تكون عن علم وحضور، وقوله: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ} [الكهف: 51]؛ أي: ما جعلتهم ممَّن اطلعوا ببصيرتهم على خلقها، وقوله: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84]؛ أي: تعلمون، وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الرعد: 9]؛ أي: ما يغيب عن حواس الناس وبصائرهم وما يشهدونه بهما، ولما كان الخبر الخاص مبينًا للحق من الباطل سمي شهادة، وسمي المخبر به شاهدًا[53]، من خلال ذلك نَصِل إلى المعنى التركيبي (عالم الشهادة): "كل أمر نستطيع أن نتوصَّل إلى شهوده بالوسائل الحسيَّة فينا حسب العادة"[54].
ويعرفه البعض أنه: "هذا الوجود المادي الواقع تحت الإدراك الحِسِّي للإنسان، أو الذي يمكن أن يقع تحته، ومن خصائصه: أنه معقول الذات، قابل للوجود الإنساني إذا توفرت أسباب الشهود"[55]، "فعالم الشهادة وما يجري فيه من تفصيلات وإجماليات تجريبية يعرف بالملاحظة بوساطة العقل والحواسِّ، ويقوم العقل بالاستنباط مما يلاحظه بالاستقراء والاستنتاج بتقديم معرفة عنه"[56].
نلاحظ أن عالم الشهادة هو الكون المحسوس، وأهم خصائصه إمكان تعقُّله، وأداة البحث فيه الحسُّ ثم يتبع العقل، وكلا الأداتين تتكاملان.
"والمضمون التربوي لميدان الشهادة من هذه الزاوية متوجِّه نحو جعل الفعل المعرفي للمتعلِّم لا يخرج عن إطار الكون المحسوس؛ بحيث يتمكَّن من التعامل معه بأدواتٍ حسيَّة بالدرجة الأساس، ثم إعمال قُوَى العقل فيه بهدف استثماره لتحقيق هدف الاستخلاف، ولكن دون أن يتعارَض ذلك وتوجيهات الوحي، بل هو المسنِدُ للحس والعقل"[57].
ج- أقسام الشهادة:
عالم المحسوس ثمة فيه ميدانان في مجال الإدراك وهما: ميدان الآفاق، وميدان الأنفس؛ إذ هما مشاهدان ومحسوسان، ورد ذكرهما في قوله - تعالى -: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]، نقل الشوكاني في "تفسيره" عن بيان معنى الآفاق جملةً من كلام أئمة السلف: قال قتادة والضحَّاك في الآفاق: وقائع الله في الأمم... وقال عطاء في الآفاق: يعني: أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم، والليل والنهار والرياح، وغير ذلك"[58]، وزاد ابن كثير على معنى الآفاق: "الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان"[59]، وذكر الرازي قولين في تفسير الآفاق قال في أحدهما: "المراد بآيات الآفاق: الآيات الفلكية الكوكبية، وآيات الليل والنهار، وآيات الأضواء والإظلال والظلمات، وآيات عالم العناصر الأربعة، وآيات المواليد الثلاثة"[60].
والآيات التي جاءت في القرآن الكريم تدعو الإنسان لأن يُعْمِل عقله في آيات الآفاق كثيرة جدًّا، منها قوله - تعالى -: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [لقمان: 11]، وقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 6- 8]، والمتأمِّل يرى أن هذه الآيات التي يؤمر فيها الإنسان بأن يتأمَّل آيات الله في الآفاق تختم ببيان الحكمة من ذلك كما في الآية السابقة، فقد بيَّن الله - سبحانه - الحكمة من خلق السماء وما فيها من الزينة، والأرض وما فيها من الرواسي، والنبات، والأزواج، ثم قال بعد ذلك: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8] وهذا هو أسلوب القرآن الكريم؛ فغالبًا ما يقرن الخلق بالحكمة، وليس الأمر مقتصرًا على آيات الله في الآفاق، بل حتى في قضايا التشريع؛ فمن أساليب القرآن الكريم "في التعبير عن الحكم أنه في الغالب يقرنه بعلة الحكم، حتى يكون ذلك أدعى إلى الامتثال والإذعان"[61].
أمَّا المراد بالأنفس، فما نص الله - سبحانه - عليه بقوله: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53]، وقد نقل الشوكاني في بيان معنى الأنفس جملة من كلام المفسرين: "قال ابن زيد: وفي أنفسهم: حوادث الأرض، وقال مجاهد: وفي أنفسهم: فتح مكة، وقال قتادة والضحَّاك: وفي أنفسهم: يوم بدر، وقال عطاء: وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحِكَم"[62] [63].
قال الرازي: "المراد منها الدلائل المأخوذة من كيفية تكوُّن الأَجِنَّة في ظلمات الأرحام، وحدوث الأعضاء العجيبة، والتركيبات الغريبة"[64]، وأمر الله في كتابه الكريم في آيات كثيرة بالنظر في هذا التكوين العجيب الذي خلق عليه الإنسان، مقرونًا ببيان الحكمة من ذلك تارة كما في قوله - تعالى -: {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 13- 14]، وتارة الآية مجرَّدة عن ذكر الحكمة كما سبق ببيان العلة في ذلك؛ كقوله - تعالى -: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7][65].
د- العلاقة بين ميدان الآفاق وميدان الأنفس:
وآيات عالم الشهادة في القرآن الكريم تزوِّد المؤمن بنوعٍ من التماسك، المتجلِّي في ميدانين؛ هما: الآفاق والأنفس؛ حيث جعل الله - تعالى - هذين الميدانين من مستويات تجلية آياته وإثبات نصره لأوليائه بتصديقهم، ومواقع لتفكُّر الإنسان وتدبُّرِه؛ كيما يطمئنَّ بعالم الشهادة على صحة ما ورد عن عالم غائب عنه.
فمرحلة الإيمان بعالم الشهادة تمثِّل مرحلة وعي لفهم ما أمر الله - سبحانه - به، وذاك مقتضى العقل والفطرة وعين الصواب، وحين يحدث ذلك الوعي فإن التوازن يتحقَّق للإنسان على مختلف المستويات، ويتحقق - من ثَم - منهج القرآن في أمره الناسَ بالنظر في سِيَر الأمم والأحداث في الأرض؛ كيما يَرَوْا عالم الشهادة من خلال إيمانهم بحقيقة ما جاء في عالم الغيب[2] [3].
فالمنهج المعرفي القرآني يرمي إلى إيجاد المتعلِّم المستوعِب لقوانين الشهادة المستمدَّة من عالم الغيب؛ ليتحقق الارتباط الإيجابي بين الغيب والشهادة، ولن يتمَّ ذلك إلا بتخصيص قدرٍ مناسب من مفردات المحتوى لتناول تلك القوانين، مع الربط بينهما وبين عالم الغيب (ميدانها الأصلي)[4].
بتدبُّر آي القرآن الكريم نجد عالَمَي الغيب والشهادة متكاملَين، كما في آي القرآن عن الظواهر الكونية في ميدان الآفاق من عالم الشهادة، مع ذكر بعض المخلوقات من عالم الغيب؛ كتسبيح الرعد بحمده والملائكة: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 12- 13][5].
ويورد العرش - وهو من الغيب - مع الظواهر الكونية: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2][6].
ويستدل على البعث بمقدِّمات الإحياء للنبات في ميدان الآفاق من عالم الشهادة؛ {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 6- 7].
وجميع مكوِّنات الوجود - غيبًا كان أم شهادة - هي مستسلمة لله - تعالى -: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ} [الرعد: 15]، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]، وأقسم - تعالى - على صدق الوحي بعالمي الغيب والشهادة مطلقًا؛ {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 38- 40][7]، "فمهمَّة الوحي في عالم الشهادة تتمثَّل في إمداد الإنسان بالعلم المتَّصل بعالم الغيب؛ ليربطه به فينشأ تكامل للوحي مع العقل والكون، ويتمكَّن الإنسان من تحقيق غاية وجوده في عالم الشهادة، ولن يستردَّ العقل المسلم عافيته إلا أن يستعيد رؤيته الإسلامية الكاملة، المبنية على التوحيد والوحدانية؛ ليتوحَّد عالم الغيب مع عالم الشهادة، والوحي مع العقل والكون"[8].
ممَّا سبق يمكن إبراز التكامُل بين العالمين عالم الغيب وعالم الشهادة في مظهرين:
الأول: وجود أدلة عالم الغيب في عالم الشهادة.
الثاني: بروز المخلوقات من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، ثم تنتقل من عالم الشهادة إلى عالم الغيب بانتظام واطِّراد، ومن الأمثلة على ذلك ظواهر الولادة والموت في عالم الإنسان"[9].
"فمفهوم الغيب والشهادة في القرآن هو المفهوم الذي يحدِّد معنى الحياة والوجود، وغاية الحياة والوجود، وعلاقة ذلك بما وراء الحياة وما وراء الوجود؛ إذ مفهوم الغيب والشهادة هو الإطار الأشمل الذي يحدِّد معنى العقل الإنساني، ودوره في الحياة الإنسانية، وحدود هذا الدور ومجالاته"[10].
"والتضمين التربوي الخاصُّ بميدان الغيب والشهادة يتجسَّد في ارتكاز التربية الإسلامية على اعتبار العلاقة بين ميداني المعرفة - الغيب والشهادة - علاقة عضوية تكاملية"[11] [12].
بل يتوسَّع في المفهوم في اتجاه تربوي، يكامل بين العلوم الدينية والعلوم التجريبية من خلال ما يلي[13]:
1- ارتباط العلم بالعمل، بحيث يصبح العلم وسيلة، والعمل غاية، ويصبح - من ثم - العلم بالدين أو بعلوم الإنسان يحقق هدفًا غائيًّا ساميًا، وهو عبودية الإنسان لله - تعالى.
2- التفريق المعرفي - وليس الوجودي - بين أمور العبادة وأمور السيادة والخلافة التجريبية، وبتعبير أكثر دقة: التمييز الموضوعي بين عالمي الغيب والشهادة.
3- إن هذه الخلافة عند الإنسان كحقيقة وجود، وارتباطها بعلم الأسماء - قد أدَّى إلى رفع النزاع بين الإيمان بالغيبيات والعلوم الدينية (الإنسانية)، من زاوية أن تحقيق هدف الخلافة لا يتحقَّق إلا بعلوم الغيب وعلوم الدين.
4- هناك تلازُم بين حقيقة الخلافة لتحقيق العبودية، والعلم لتحقيق السيادة؛ بما يعني أن الدين والعلم مقوِّمان ضروريان لتحقيق هدف الإنسان الوجودي؛ مما يمنع أيَّ تعارض بينهما[14] [15].
والدين هنا نريد به العمل؛ أي: العبادة بتحويل كل حركة من عادة إلى عبادة بإخلاص النية.
الفرع الثاني: عالم الغيب:
عالم الغيب هو: ما لا يصل إليه الحس إجمالاً.
أ- التعريف اللغوي: غيب: الغين والياء والباء أصلٌ صحيح يدل على تستُّر الشيء عن العيون، ثم يقاس من ذلك الغَيْب: ما غَابَ مما لا يعلمه إلا الله، ويقال: غابت الشمس تَغِيب غَيْبَةً غُيُوبًا، ووقعنا في غَيْبَةٍ وغَيَابة؛ أي: هَبْطةٍ من الأرض يُغلب فيها؛ {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} [يوسف: 10]، والغيبة: الوقيعة في الناس من هذا؛ لأنها لا تقال إلا في غَيبة[16] [17].
نلاحظ أن اللفظ يدور معناه حول ما خفي وتستَّر عن المُعَين[18]، وكل ما اشتق منه يرجع إلى هذا الأصل؛ لذا سنجد التعاريف الاصطلاحية تساير هذا.
ب- التعريف الاصطلاحي: قال الجرجاني: الغيب: الأمر الخفي الذي لا يدركه الحس[19]، ولا تقتضيه بديهة العقل، وغيب الهوية، والغيب المطلق[20]: هو ذات الحق باعتبار اللاتعيُّن والغيب المكنون، والغيب المصون هو السر الذاتي، وكنهه الذي لا يعرفه إلا هو؛ ولذا كان مصونًا عن الأغيار، ومكنونًا عن العقول والأبصار[21].
وعند الأصفهاني: هو ما لم يَقُم عليه دليل، ولم ينصب له أمارة، ولم يتعلَّق به علم مخلوق.
وقيل: الغيب هو: الخفي الذي لا يكون محسوسًا، ولا في قوة المحسوس، كالمعلومات ببديهة العقل أو ضرورة الكشف[22].
فكلمة الغيب تطلق على كل شيء غاب عن إدراك حواسِّ الخلائق كلهم أو بعضهم، أما الله - سبحانه - فلا شيء في الوجود كله هو غيب بالنسبة إليه، بل كل ما في الوجود هو من عالم الشهادة بالنسبة إليه.
وورد لفظ الغيب في القرآن (53) مرة: (4) مرَّات بصيغة الجمع (الغيوب)، ومرة واحدة بصيغة (غيبه)؛ قال - تعالى -: {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20]، فاستُعمِل في كل غائب عن الحاسَّة، وعمَّا يغيب عن علم الإنسان: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 75]، والغيب في قوله - تعالى -: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، ما لا يقع تحت الحواس، ولا تقتضيه بداهة العقول، وإنما يُعلم بخبر الأنبياء، وبدفعِه يقع على الإنسان اسم الإلحاد؛ قال - تعالى -: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34]؛ أي: لا يفعلن في غيبة الزوج ما يكرهه.
قُسِّم الغيب إلى[23]:
الأوَّل: قسم نُصِبَ عليه دليل فيمكن معرفته، كذات الله - تعالى - وأسمائه الحسنى وصفاته العلية، وأحوال الآخرة، إلى غير ذلك مما يجب على العبد معرفته، وكُلف به، وهو غائب عنه لا يشاهده ولا يعاينُه، ولكن يمكن معرفته بالخبر الصحيح.
الثاني: قسم لا دليل عليه، فلا يمكن للبشر معرفته؛ كما قال - تعالى -: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59]، وغيب الغيب هو الذات الإلهية المطلقة، وهو هويته الغيبية السارية للكل علمًا، لا يمكن أن يتعلَّق به بهذا الاعتبار علم؛ لكونه محتجبًا في حجاب عزته، ولا يجوز إطلاقًا اسم الغائب عليه - تعالى - ويجوز القول: إنه غيب عن الخلق، وقد فُسر {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، بأنه هو الله - تعالى[24].
الثالث: الغيب الإضافي: وهو درجتان: غيب مكاني، وغيب زماني؛ فالمكاني: ما غاب عنك؛ لبعده عن نظرك، والزماني: ماضٍ لم تدركه؛ إما وجودًا، أو معرفة، ومستقبل آتٍ؛ كنزول مطر في مكة من قبل أن يقع، وحال وقوعه هو غيب في حق مَن كان غائبًا عنها[25].
حاول بعض الباحثين المعاصرين ضبط تعاريف الغيب، نذكر بعضها:
1- عالم الغيب: "عالم ذو طبيعة عقلية معنوية متعالية عن المادة؛ ولذلك فإنه ليس بعالم قابل للشهود الإنساني، بل يدرك الإنسان ثبوته وآثاره فحسب؛ كالموجود الإلهي، ووجود الملائكة، والجن، والجنة والنار، وغيرها من الموجودات الغيبية، والله - تعالى - وحده الذي يحيط علمه بعالَمَي الغيب والشهادة جميعًا"[26].
2- عالم الغيب: "عالم يخص به علم الله وحده، يوحي ما يشاء من أمره على مَن يشاء من عباده، ويرسلهم بالرسالات إلى الأمم، هداية وتبصيرًا بمعنى وجودهم، وغاية هذا الوجود وعلاقته ومآله"[27].
3- عالم الغيب: "كل أمر غائب عن مجال إدراكنا الحسي حسب العادة"[28].
فلما خلق الله - جل جلاله، وعظم سلطانه - المخلوقات ذوات الإدراكات الحسية جعل حَواسَّهَا قاصرة عن إدراك كل ما في الوجود، ولو كان حولها مباشرة، أو داخلاً في ذواتها، وجعلها متفاضِلَة في إدراكاتها الحسية، فبعض الخلائق تدرك بحواسها موجودات لا تدركها خلائق أخرى بحواسها من نوعها أو جنسها، أو من غير نوعها وجنسها، وهذه حقيقة ثابتة علميًّا، ومشاهَدَة في عوالم الأحياء، فما يدركه المخلوق من الموجودات الحسية بحاسَّة من حواسِّه الظاهرة بطريقة مباشرة يعتبر بالنسبة إليه من عالم الشهادة، وما لا يدركه منها بحاسة من حواسه الظاهرة بطريقة مباشرة يُعتبر بالنسبة إليه من عالم الغيب.
من أجل ذلك تقرَّر أن ما هو من عالم الغيب بالنسبة إلى بعض المخلوقات هو من عالم الشهادة بالنسبة إلى مخلوقات أخرى، هذه الحقيقة تنطبق على أصناف المخلوقات، وأنواعها وأجناسها، وتنطبق أيضًا على أفراد الصنف الواحد، أو النوع الواحد، أو الجنس الواحد، فبعض الأفراد قد يهبه الله مزيدًا من قوى الإدراك الحسي، وبه يدرك إدراكًا مباشرًا أشياء من موجودات الكون، في حين أن أفرادًا آخرين لا يدركونها، فهي بالنسبة إلى مدركيها بالحواس؛ إدراكًا مباشرًا من عالم الشهادة، وهي بالنسبة إلى غير مدركيها من عالم الغيب.
وبناءً على هذا؛ فالغيوب كثيرة جدًّا، وهي قضايا نسبية، تخضع لحالات ذوي الإدراك الحسي، من أفراد ما خلق الله، فالجن والملائكة يرون ما لا نرى، وهو بالنسبة إليهم من عالم الشهادة، وبالنسبة إلينا من عالم الغيب، وبعض البهائم تدرك بحواسها ما لا يدركه الناس بحواسهم مباشرة، فهو بالنسبة إليهم من عالم الشهادة، وبالنسبة للناس من عالم الغيب وأحداث الماضي التي لم نشْهَدْها شهودًا مباشرًا بحواسنا - هي بالنسبة إلينا من عالم الغيب ولِمَن حضرها مشهودة، وكذلك الأحداث الآتية والعلم بشيء منها علم من أنباء الغيب إذا أعلَمَ الله به؛ إذ هي من علم الله الذي أحاط بكل شيء علمًا[29].
جـ- خصائص الغيب:
مما نثبته في خصائص الغيب ما يأتي:
1- عالم الغيب يمثِّل عالم اللامحسوس، وإن أدرك بالعقل[30].
2- عالم الشهادة قد يكون ما فيه غيبًا إضافيًّا؛ أي: يتجزأ حسب المضاف إليه[31].
3- قسم عظيم من عالم الغيب خصَّ الله - عز وجل - به نفسه، ومنه طائفة من ترتيبات قضائه وقدره، فانفرد به حيث أضافه لنفسه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26][32]، ومفاتيح الغيب: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59.
4- من الغيب ما اطَّلع عليه مَن ارتضى - سبحانه -: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26- 27]؛ أي: مَن جعله رسولاً لأداء ما بلغ من الغيب[33].
5- من صفات عالِم الغيب استغراق علمه للجزئيَّات والكليات معًا: {عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3][34]؛ فشمول علم الله للغيب كله صفةٌ خاصَّةٌ به - جل جلاله[35].
6- وجاء في القرآن الكريم بيان أن الله عنده وحده علم الساعة، فلم يُطْلِع عليه أحدًا، وأثبت - سبحانه - لنفسه أنه يعلم كلَّ ما في الأرحام دون أن يَرِد في النص القرآني قصر علم ما في الأرحام عليه - جل جلاله - فقال - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].
7- من الغيب قسمٌ قابل لأن يكون من عالم الشهادة إذا تهيَّأت للمخلوقات شروط مشاهدته، وقسم غير قابل لأن يكون من عالم الشهادة؛ لأنه مما استأثر الله - تعالى - بعلمه لنفسه[36].
د- أدوات معرفة الغيب:
إذا كان معنى الغيب هو عالم اللامحسوس على نحو قاطع، فهل من أدوات لوُلوج عالم الغيب وفهم ميدانه أو بعض ما فيه؟
حجم العلاقة بين عالم الغيب وعالم الشهادة يشير إلى إمكان أن نستخدم كلاًّ من أداتي الحس والعقل فيهما معًا؛ فمنهج المعرفة في عالم الغيب ينطلق من مدركات حسية متجاوزًا الإطار المادِّيَّ المحدود ليتفاعل مع المبادئ الأولية للعقل، فيتمكَّن من إدراك قضايا الغيب الكبرى من ألوهية وربوبية وأسماء وصفات ونبوة، على نحو من المعرفة العلمية[37].
"وبإمكان العقل معرفة بعض الكليات العقدية؛ كوجود الله - تعالى - ومعرفة النبوة؛ بوصفها طريقًا للمعرفة الغيبية"[38]، ولكن أيًّا من الحسِّ، أو العقل لا يقوى على أن يَصِل إلى معرفة تفصيلية عن عالم الغيب؛ لأن طريق ذلك هو الوحي فحسب، ولا طريق إلى المعرفة التفصيلية بالحس أو العقل[39]، فالخبر اليقين المتمثِّل في الوحي هو مصدر معرفة الغيب، وهذا ينعكس على المنهج المعرفي في الإسلام؛ إذ يتركز في المصدرية على الوحي في ميدان الغيب؛ {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52][40].
فحينما دعا القرآن الناس إلى الإيمان بأصول الغيب وجَّههم إلى بلوغ الإيمان من طريق البحث العلمي؛ فحثَّهم على استخدام أدواتهم المعرفية للتفكُّر والتدبُّر في دلائل القدرة وسعة العلم الدالَّة على قدرة الخالق، وأرشدهم إلى أن هذه الدلائل منبثَّة في السماء والأرض وفي أنفسهم وفيما حولهم؛ {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 6- 8]، ففي هذا إثارة للعقل الإنساني بما يوصله إلى الاطمئنان للخبر الصادق، ويقوده هذا إلى الركون لتفصيلات الغيب، وأن لا طاقة له بها؛ حيث لم يستوعب ما هو في مجاله في الشهادة، وعجز عن كثير مما هو فيها، فكيف به مع ما هو خارج عن نطاقه؟ ! وهذا يصدق في الغيب الذي لا يصبح من عالم الشهادة، أمَّا ما يمكن أن يدرك فيصبح من عالم الشهادة فالبحث فيه يطوله الحس والعقل.
هـ- مبادئ الغيب:ميدان الغيب يمثل مصدرًا لمعرفة يتلقَّاها الإنسان، بكونه مستقبلاً للمعرفة، ومبادئ عالم الغيب يمكن تحديدها فيما يأتي[41]:
1- الوجود ذو غاية خيِّرة؛ لقوله - تعالى -: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، فالخلق كان من ورائه هدف لا بُدَّ من تحقيقه؛ لأن الخالق لا يعبث، بل يقدر لحكمة يريدها هو، فيكون منه توجيه الإنسان لمعرفة الغاية والوسيلة والطريق الموصل للحكمة.
2- علاقات الوجود الكليَّة غير خاضعة لإرادة الإنسان فيما وراء طاقته الإنسانية، فالإنسان استُخْلَف في الأرض وذُلِّلَت له؛ لكي يقوم بالخلافة لغاية التوحيد، لكن من الأمور ما لم يكلف بها، فلا يمتحن عليها؛ لذا لم تكن في وسع طاقته بلوغها، ولم تخضع لإرادته.
3- وجود الله - تعالى - يمثِّل أهم معطًى في عالم الغيب بالنسبة إلى الإنسان، وعلى هذا الأساس فإن التربية الإسلامية تهدف إلى إخراج (إنسان موحِّد).
4- الدار الآخرة تمثل محصِّلة حسابية وجزائية نهائية لما قدمه الإنسان في الدنيا، وفي هذا تربية على الرقابة الذاتية للفرد.
5- الدنيا دار عمل وإصلاح، ومن هذا المنطلق فإن علاقة الإنسان بالدنيا علاقة ابتلاء واختبار للوصول إلى دار الحساب.
6- الإرادة الإنسانية وفق علم الله أمر وقد أُوكِل إليها القيام بمهامِّ الخلافة، وأداء الخلافة يتطلَّب شروط المهارة، فيجب أن يسعى المنهج بجميع عناصره لبلورتها.
7- الهداية والضلال في حياة الإنسان مصير فردي يسبق في علم الله حين وهب الإنسان الحرية في الاختيار؛ لذا لا معنى للتواكل والقول بالجبر، ومظاهر العجز.
8- بعد بذل الأسباب واستنفاد الطاقة يسقط التكليف، فيتوكل على الله، وهذا يقضي على الالتباس في فهم التوكُّل، والقدر واتِّخاذ الأسباب.
9- الوحي هو المصدر الذي يمدُّ الإنسان بحاجاته المعرفية الغيبية، والغاية من الخلق والمصير منه؛ ولذلك فإن التربية الإسلامية تعتمد الوحي مصدرًا وطريقة وحيدة للبحث في الغيب.
10- العقل والوحي يتكاملان لتحقيق موقع الإنسان في عالم الشهادة وتمكين وجوده، وسعيه إلى تحقيق الغاية منهما بعالم الشهادة، وعلى هذا الأساس يتمُّ تصميم المنهج بعيدًا عن الثنائيات العقيمة للدين والدولة، والعقل والنقل، والأصالة والمعاصرة.
11- في الإطار الإسلامي الأشمل، المبني على حقيقة التوحيد والوحدانية يتكامل عالم الغيب وعالم الشهادة، والوحي والعقل والكون، والإيمان والعمل، والتوكُّل والسعي، وتتكامل عقيدة القضاء القدر، والثقة بالكليات الربانية، والأوامر الإلهية، مع جدية السعي لفهم السنن، والعلم بالفطرة والأسباب، وطلبها والحرص عليها[42]، إذا كانت هذه المبادئ قد جسَّدت نمطَ العلاقة بين الإنسان - وهو من عالم الشهادة - والغيب، ومعطياته الإنسانية، على نحوٍ يجعل من هدف هذه العلاقة تحقيق معاني التسخير والاستخلاف، فذلك يرجع إلى أصل الإنسان الذي ينتمي بجسده إلى عالم الشهادة، غير أنه ينتمي بروحه ونفسه إلى عالم الغيب؛ {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 7- 9][43].
الفرع الثالث: عالم الشهادة:
الغيب في الاصطلاح خلاف الشهادة، كما قال أهل العلم: الغيب ما غاب عن العيون وإن كان محصَّلاً في القلوب[44]، فميدان الشهادة يُعْقَل بالتعاون مع الحواس، فيكون الكون ميدانًا لعالم الشهادة في كل ما كان محسوسًا مع كون النظر إلى هذا الميدان مبنيٌّ على التكامل والتوازن؛ ذاك لأن الخلافة قائمة على مواجهة عالم الشهادة والتعامل معه بحسبانه ميدانًا للإنجازات العظيمة عن طريق تسخير القوانين المودعة فيه، من خلال عقلانية حاسمة قائمة على أساس السببية، والتوافقية، والتعامل المباشر مع أجزائه؛ ولهذا فلا مجال فيه للغيبة ولا للتأمل الاستغراقي الغنوصي[45] [46].
أ- التعريف اللغوي:
شهد: الشين والهاء والدال، أصلٌ يدلُّ على حضور وعلم وإعلام، لا يخرج شيء من فروعه عن الذي ذكرناه من ذلك الشهادة، يجمع الأصول التي ذكرناها من الحضور والعلم والإعلام[47]، ومن أسماء الله الشهيد؛ أي: الذي لا يغيب عن علمه شيء، والشهيد هو الحاضر، فالعلم إذا اعتبر مطلقًا كان الله هو العليم، وإذا أضيف في الأمور الباطنة فهو الخبير، وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد[48]، والشهادة خبر قاطع تقول منه: شهد الرجل على كذا، فالشاهد هو العالم الذي يبين ما علمه[49]، والمشاهدة: المعاينة[50].
ب- التعريف الاصطلاحي:
ورد لفظ شهد بمشتقاته (124) مرة، حصرها علماء الأشباه والنظائر في (7) أوجه، فالمشاهدة وردت في قوله - تعالى -: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج: 7]؛ أي: حضور[51].
تكون الشهادة إمَّا بالبصر أو بالبصيرة، فهي خبر قاطع يؤدي معنى الإقرار والحجة، مع وجود العلم بذلك، ولكن الشهود بالحضور المجرَّد أَوْلَى، والشهادة مع المشاهدة أَوْلَى[52].
من ذلك قوله - تعالى -: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف: 19]؛ يعني: مشاهدة بالبصر، وقوله: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]، تنبيهًا بأن الشهادة تكون عن علم وحضور، وقوله: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ} [الكهف: 51]؛ أي: ما جعلتهم ممَّن اطلعوا ببصيرتهم على خلقها، وقوله: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84]؛ أي: تعلمون، وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الرعد: 9]؛ أي: ما يغيب عن حواس الناس وبصائرهم وما يشهدونه بهما، ولما كان الخبر الخاص مبينًا للحق من الباطل سمي شهادة، وسمي المخبر به شاهدًا[53]، من خلال ذلك نَصِل إلى المعنى التركيبي (عالم الشهادة): "كل أمر نستطيع أن نتوصَّل إلى شهوده بالوسائل الحسيَّة فينا حسب العادة"[54].
ويعرفه البعض أنه: "هذا الوجود المادي الواقع تحت الإدراك الحِسِّي للإنسان، أو الذي يمكن أن يقع تحته، ومن خصائصه: أنه معقول الذات، قابل للوجود الإنساني إذا توفرت أسباب الشهود"[55]، "فعالم الشهادة وما يجري فيه من تفصيلات وإجماليات تجريبية يعرف بالملاحظة بوساطة العقل والحواسِّ، ويقوم العقل بالاستنباط مما يلاحظه بالاستقراء والاستنتاج بتقديم معرفة عنه"[56].
نلاحظ أن عالم الشهادة هو الكون المحسوس، وأهم خصائصه إمكان تعقُّله، وأداة البحث فيه الحسُّ ثم يتبع العقل، وكلا الأداتين تتكاملان.
"والمضمون التربوي لميدان الشهادة من هذه الزاوية متوجِّه نحو جعل الفعل المعرفي للمتعلِّم لا يخرج عن إطار الكون المحسوس؛ بحيث يتمكَّن من التعامل معه بأدواتٍ حسيَّة بالدرجة الأساس، ثم إعمال قُوَى العقل فيه بهدف استثماره لتحقيق هدف الاستخلاف، ولكن دون أن يتعارَض ذلك وتوجيهات الوحي، بل هو المسنِدُ للحس والعقل"[57].
ج- أقسام الشهادة:
عالم المحسوس ثمة فيه ميدانان في مجال الإدراك وهما: ميدان الآفاق، وميدان الأنفس؛ إذ هما مشاهدان ومحسوسان، ورد ذكرهما في قوله - تعالى -: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]، نقل الشوكاني في "تفسيره" عن بيان معنى الآفاق جملةً من كلام أئمة السلف: قال قتادة والضحَّاك في الآفاق: وقائع الله في الأمم... وقال عطاء في الآفاق: يعني: أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم، والليل والنهار والرياح، وغير ذلك"[58]، وزاد ابن كثير على معنى الآفاق: "الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان"[59]، وذكر الرازي قولين في تفسير الآفاق قال في أحدهما: "المراد بآيات الآفاق: الآيات الفلكية الكوكبية، وآيات الليل والنهار، وآيات الأضواء والإظلال والظلمات، وآيات عالم العناصر الأربعة، وآيات المواليد الثلاثة"[60].
والآيات التي جاءت في القرآن الكريم تدعو الإنسان لأن يُعْمِل عقله في آيات الآفاق كثيرة جدًّا، منها قوله - تعالى -: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [لقمان: 11]، وقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 6- 8]، والمتأمِّل يرى أن هذه الآيات التي يؤمر فيها الإنسان بأن يتأمَّل آيات الله في الآفاق تختم ببيان الحكمة من ذلك كما في الآية السابقة، فقد بيَّن الله - سبحانه - الحكمة من خلق السماء وما فيها من الزينة، والأرض وما فيها من الرواسي، والنبات، والأزواج، ثم قال بعد ذلك: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8] وهذا هو أسلوب القرآن الكريم؛ فغالبًا ما يقرن الخلق بالحكمة، وليس الأمر مقتصرًا على آيات الله في الآفاق، بل حتى في قضايا التشريع؛ فمن أساليب القرآن الكريم "في التعبير عن الحكم أنه في الغالب يقرنه بعلة الحكم، حتى يكون ذلك أدعى إلى الامتثال والإذعان"[61].
أمَّا المراد بالأنفس، فما نص الله - سبحانه - عليه بقوله: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53]، وقد نقل الشوكاني في بيان معنى الأنفس جملة من كلام المفسرين: "قال ابن زيد: وفي أنفسهم: حوادث الأرض، وقال مجاهد: وفي أنفسهم: فتح مكة، وقال قتادة والضحَّاك: وفي أنفسهم: يوم بدر، وقال عطاء: وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحِكَم"[62] [63].
قال الرازي: "المراد منها الدلائل المأخوذة من كيفية تكوُّن الأَجِنَّة في ظلمات الأرحام، وحدوث الأعضاء العجيبة، والتركيبات الغريبة"[64]، وأمر الله في كتابه الكريم في آيات كثيرة بالنظر في هذا التكوين العجيب الذي خلق عليه الإنسان، مقرونًا ببيان الحكمة من ذلك تارة كما في قوله - تعالى -: {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 13- 14]، وتارة الآية مجرَّدة عن ذكر الحكمة كما سبق ببيان العلة في ذلك؛ كقوله - تعالى -: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7][65].
د- العلاقة بين ميدان الآفاق وميدان الأنفس:
هنالك علاقة بين الميدانين جلية من خلال اجتماعهما في الذكر كلَّما ورد أحدهما، من ذلك قوله - تعالى -: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51]، {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم: 8]، {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]، {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20- 21]، {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ* وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 3- 6].
فميدانا الشهادة يتلازم ذكرهما في آيات كثيرة مفصَّلة في ظواهر الكون، ومخلوقاته، وطاقاته، وقوانينه، والقرآن يرينا تكاملَ الميدانين؛ حيث إن الكون مسخر للإنسان، نافيًا بذلك نظرية الصراع بين الإنسان والكون، وهذا ينشأ المواءَمة بين العلم والدين، والكون والتوحيد، فالإنسان كَوْنٌ مصغَّر، وما فيه من آيات يدلُّ على قدرة العزيز الحميد؛ حيث خلق هذا الكائن ليسير في الأرض ويُسْتَخْلَف فيها، من هنا نلمس الترابط في المنهج المعرفي؛ حيث معرفة الميدانين تُحْدِث تكاملاً للمعرفة، فكون الإنسان يسعى إلى الخلافة واستعمار الأرض بحثًا عن السعادة والرفاهية يقتضي منه إدراك سبل تسخير الآفاق، وإدراك سبل فهم النفس الإنسانية وحاجياتها، وكلَّما توسَّع الإنسان في فهم الكون زاد تسخيرُه له من بلوغ درجة زائدة من المواءمة، وفهمًا أعمق لدور الإنسان في عالم الشهادة، ولغايته من عالم الغيب، فتطوُّر الإنسان مبنيٌّ على قدرته وكفاءته في التعامل مع الكون والأنفس من خلال معرفة مواطن الصلاح، ومواقع الفساد، وكل ذلك سعيًا نحو الخير العام للإنسان كيما يرقى في المعرفة، فيعلو في درجات الاستفادة مما توفر له من طاقات، في الآفاق والأنفس، فالنفس تحتاج إلى الآفاق، واستغلال الآفاق مبنيٌّ على مدى حاجات الإنسان، وتطور سلوكه، وإدراكه لحاجات الأنفس ومصالحها المفيد لها.
بليل عبدالكريم
مجووووووده
فميدانا الشهادة يتلازم ذكرهما في آيات كثيرة مفصَّلة في ظواهر الكون، ومخلوقاته، وطاقاته، وقوانينه، والقرآن يرينا تكاملَ الميدانين؛ حيث إن الكون مسخر للإنسان، نافيًا بذلك نظرية الصراع بين الإنسان والكون، وهذا ينشأ المواءَمة بين العلم والدين، والكون والتوحيد، فالإنسان كَوْنٌ مصغَّر، وما فيه من آيات يدلُّ على قدرة العزيز الحميد؛ حيث خلق هذا الكائن ليسير في الأرض ويُسْتَخْلَف فيها، من هنا نلمس الترابط في المنهج المعرفي؛ حيث معرفة الميدانين تُحْدِث تكاملاً للمعرفة، فكون الإنسان يسعى إلى الخلافة واستعمار الأرض بحثًا عن السعادة والرفاهية يقتضي منه إدراك سبل تسخير الآفاق، وإدراك سبل فهم النفس الإنسانية وحاجياتها، وكلَّما توسَّع الإنسان في فهم الكون زاد تسخيرُه له من بلوغ درجة زائدة من المواءمة، وفهمًا أعمق لدور الإنسان في عالم الشهادة، ولغايته من عالم الغيب، فتطوُّر الإنسان مبنيٌّ على قدرته وكفاءته في التعامل مع الكون والأنفس من خلال معرفة مواطن الصلاح، ومواقع الفساد، وكل ذلك سعيًا نحو الخير العام للإنسان كيما يرقى في المعرفة، فيعلو في درجات الاستفادة مما توفر له من طاقات، في الآفاق والأنفس، فالنفس تحتاج إلى الآفاق، واستغلال الآفاق مبنيٌّ على مدى حاجات الإنسان، وتطور سلوكه، وإدراكه لحاجات الأنفس ومصالحها المفيد لها.
بليل عبدالكريم
مجووووووده