الأم والنمو المعرفي عند الطفل
|
إن تأثير الأم في التطور المعرفي للطفل غير معروف بشكل جيد حتى أيامنا هذه. فنحن لانزال نجهل تأثير الحرمان من الأمومة المناسبة على النمو المعرفي عند الطفل. فلابد من تطوير الأبحاث الممتدة كي نتمكن من فهم أفضل للعلاقة بين سلوك الأمومة وبين التطور المعرفي للطفل,خصوصا في المرحلة قبل المدرسية. تبدأ الأم منذ الأسابيع الأولى من حياة الطفل بالحديث عن انتظام دوراته المتعلقة بالنوم والجوع والتغذية: متى سينام؟ وكم من الوقت سيتغرق نومه؟ وكم من الحليب سيأخذ في هذه الوجبة؟ ومتى سيأخذها؟ وكيف يمكن تفسير بكائه في هذه الفترة من اليوم؟ تطرح الأم هذه الأسئلة في محاولة لفهم الطفل, فهي بحاجة لترى الانتظام في سلوكه, ولتشعربالقدرة على تفهمه, ولاتكتفي الأم بأن تكون قادرة على توقع حالات الطفل المختلفة التي يمر بها خلال اليوم, وإنما تريد أن تكون مشاركة في تنظيم هذه الحالات.. وأن تسهم في تكييف حالاته المختلفة بما يتناسب وبرنامجها دون أن يؤدي ذلك الى اضطراب الطفل. وتشعر الأم بالقدرة على الفعل عندما تؤثر في تعديل مسار حالات الطفل, وتشعر بالألم والإحباط عندما تخفق في ذلك. وتبدأ الأم أثناء الرضاعة – مثلا بتفسير توقف الطفل عن المص, من برهة الى أخرى, كإشارة لضعف قدرته على الرضاعة, وترى في ذلك فرصة لإصدار المؤثرات. فالأم والطفل يملكان برامج متنوعة إذ يستجيب الطفل الحديث الولادة بجملة من المنعكسات في حالات الجوع أو الألم أو البرد. ويصبح بالتدريج قادرا على توقع سلسلة الحوادث التي تؤدي الى إظهار هذه المنعكسات, فهو يتأثر بالتجربة الانتقالية من حالة الجوع الى حالة الشبع ومن حالة البرد الى حالة الدفء. تؤثر وظائف التكيف المختلفة عند الطفل في تطور سلوكه. ويعتبر الحصول على الغذاء من أهم هذه الوظائف تأثيرا في الوسط الاجتماعي, وهذا يحمل نتائج تطورية. فانتظام سلوك الطفل يمكن أن يفرض تنظيما ما في محيطه. فلم يكن عدم النضج – الذي يتميز به الطفل الحديث الولادة – صدفة بل ربماكان من أهم مصادر قوته, إذ يضمن درجة من الانتظام والتوقع فيما يتعلق بسلوكه وبحالاته المختلفة, حيث تستخدم الأم قدرتها على التنبؤ بالبنية الزمنية لسلوك طفلها, وذلك لبناء القاعدة الأساسية للتفاعل على المتبادل, القائم على الفعل ورد الفعل عبر التمايز المتبادل للاستجابات المختلفة. ويقوم الترابط القوي بين أفراد النوع البشري على الاتصال والتعاون, حيث تنتقل كمية هائلة من المعارف عبر التفاعل والتخاطب. وهذا يحتم أن يمتلك الطفل الحديث الولادة القدرة على تعليم أهله كيف يمكن أن يتفاعلوا معه. وعندما يأخذ كل دوره في عملية التفاعل يكون في ذلك تمهيد للحوار اللغوي المستقبلي, فالطفل والأم يتعلمان أن يأخذ كل دوره, وأن يقرأ إشارات الطرف الآخر فيما يتعلق ببداية دوره ونهايته. فهما يتعلمان قراءة نية الآخر وتفسير عواطفه وإشاراته المختلفة. إن تكرار الأم لمؤثرما من شأنه أن يشد انتباه الصغير وينشط تعابيره الوجهية. أما تكرار الطفل لحركة ما فيدفع الأم للتحقق من تأثيرها ومن قدرتها على توقع ماذا سيفعله الطفل. ويعتقد هذا المؤلف أن هدف الطرفين ليس الاستجابة أو إثارة سلوك ما بقدر ماهو المحافظة على مستوى معين من اليقظة, أو فرضاء حاجة ما. ويثير تكرار الأم لحركة ما اهتمام الصغير, مما يدفعه للنظر اليها, ويمكن للأم – مع كل عرض جديد لنفس المؤثرمع بعض التغيرات – أن ترفع من احتمال الحصول على استجابة من قبل الطفل. وتجدر الإشارة الى أهمية أن يمتلك الطفل حرية التوجيه ببصره نحو الأم أو أمتناعه عن ذلك. فالطفل الذي لاتسمح له أمه بتوجيه بصره نحوها, أم بعيداً عنها, يميل الى قضاء وقت أقل بالنظر اليها بالمقارنة مع الطفل الذي يتمتع بحرية التوجيه ببصره حيثما شاء. لقد اشارت البحوث السابقة الى العلاقة بين درجة انتباه الطفل وبين مستوى التفاعل - طفل – أم) فتنوع التفاعل واستمراره يرتبط الى حد بعيد بدرجة انتباه الطفل ويقظته. وتتميز البنية السلوكية للأم وصغيرها بتبادل المؤثرات بانتظام, والذي يتمثل بمختلف الحركات والأفعال التعبيرية والتواصلية كالثغثغات المختلفة, والعرض الوجهي التعبيري, والتبادل البصري. وتكون هذه المؤثرات على درجة عالية من التنظيم, فالأم تستخدم مثلا المؤثر اللمسي حسب إيقاع محدد يتشابه بإيقاع الجمل الصوتية التي تطلقها باتجاه الصغير. فالأم من خلال لعبها مع الطفل تقوم بتنظيم سلوكها وتعديل استراتيجيتها بما يتناسب وحالة طفلها من حيث التكرار والشدة, والصيغة, والتغير, والزمن, وذلك لتضمن إيقاظ اهتمام الصغير وتركيز انتباهه. فالطفل منذ الولادة يعيش في إطار اجتماعي, ويصعب عليه البقاء والاستمرار خارج هذا الاطار, فيثبت سلوكه ويتبدل من خلال فعل الآخر أو من خلال حضوره. فالتفاعل الاجتماعي على درجة بالغة من الأهمية بالنسبة للطفل, فهو ضرورة بيولوجية تحتمها متطلبات النمو الجسدي والتطور العقلي – المعرفي. وتوفر الأم للطفل أولى فرصة للتعرض للوجود البشري, وللاتصال بالآخرين, فمن خلال سلوك الامومة يتمكن الصغير بواسطة حوسه – كالسمع والبصر – في التعبير الوجهي, ويتعلم الطفل مع الأم كيف يمكن أن يصبح الابتسام أو الثغثغة حدثا اجتماعيا. ويبدأ الطفل مع الأم بتشكيل روابط التعلق, ويكتسب من خلال تجربته معها مدى تأثير سلوكه الاجتماعي, وكيف ينظم بنفسه حالات اليقظة وحالات العاطفة. فسلوك الأمومة يهيىء للطفل – من خلال الأقنية الحسية المختلفة – تجربته الأولية في سياق الاتصال البشري.
|