السلام عليكم رحمة الله وبركاته
ربما يثير البعض اعتراضاً على التشريع الإسلامي للطلاق، لأنه يسيء إلى استقرار الحياة الزوجية عندما يفسح المجال لفسخها في أيّة لحظة، ولو من دون مبررات معقولة، ما يسبب الكثير من المشاكل الاجتماعية للزوجة وللأولاد بشكل خاص... ولا يزال علماء الاجتماع يتابعون الحديث عن المشاكل الصعبة الناتجة عن ذلك، من تعقيد لأولاد الطلاق في نطاق الإحصائيات الكثيرة البالغة الدلالة على النتائج الوخيمة للطلاق.
ولكنَّنا نريد هنا أن نؤكد على أنَّ تشريع الطلاق ينسجم مع طبيعة الأشياء، ومع طبيعة العلاقات الإنسانية التي تمثّل العلاقة الزوجية إحدى مظاهرها، لأنها مثل العلاقات التي تجمع النّاس مع بعضهم البعض تحت تأثير أي عنصر من العناصر المتنوّعة: اجتماعية، وفكرية، وعاطفية، واقتصادية، ودينية، وسياسية... وقد يكون من الطبيعي أن يخضع استمرارها وامتدادها للظروف النفسية والحياتية التي يعيشها الطرفان، فإنَّ من الصعب بقاء أية علاقة بشكل طبيعي ومعقول في حالة فقدان العناصر التي تكفل الاستمرار.
ولنتصوّر ـ في هذا المجال ـ شريكين في علاقة مادية، اختلّت ثقتهما ببعضهما البعض، أو اكتشفا اختلاف أفكارهما أو مزاجيهما بالمستوى الذي تتحوّل فيه الشركة إلى مشاكل وحوادث يومية... فإنَّ الحلّ المعقول لذلك أن تُفسخ الشركة لئلا تتحوّل الحياة بينهما إلى جحيم لا يطاق لكلّ من الطرفين. فإذا انتقلنا إلى العلاقة الزوجية، رأيناها ترتكز على عنصري المودّة والرحمة، وذلك في قوله تعالى: ] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[ [الروم:21].
فإذا استمرت الحياة بينهما على هذا الأساس، أمكن لها أن تكون طبيعية مستمرة، سواء كان الاستمرار ناشئاً من التعاون بينهما في تحقيق ذلك، أو من تضحية أحدهما بمزاجه وسلوكه لمصلحة الفريق الآخر... أمّا إذا تحطم هذا الأساس؛ فحدثت العداوة بدلاً من المحبة، والقسوة بدلاً من الرحمة؛ أو اكتشف أحد الطرفين أو كلاهما أن الانسجام مفقود في أكثر من جهة... فإنَّ أمامنا أحد حلين: إمّا أن نقول لهما: استمرا على هذه العلاقة وليصبر كلّ منكما على صاحبه، وليضحّ كلّ منكما بمزاجه وذوقه وطريقته في الحياة... وهذا حلٌ غير عملي، لأنَّ الزواج من العلاقات المستمرة المتصلة بكلّ جوانب الحياة اليومية للإنسان بشكل متداخل، فليس من الطبيعي أن يفرض على الإنسان الاستمرار في الخضوع للضغط النفسي إلى ما لا نهاية؛ بل قد يؤدي ذلك إلى الانفجار ـ ولو بعد حين ـ كنتيجة للحياة الرتيبة التي تخلق المزيد من المشاكل على أساس حالة التماس الدائم.
ولعلّ من أوضح الدلائل على صعوبة هذا الحل وعدم واقعيته، أنَّ الفئات التي حرّمت الطلاق لجأت إلى حلّ الانفصال الجسدي والهجران، لإدراكها أنَّ الاستمرار غير عملي. ولكنَّها وقعت في مشكلة أخرى، وهي الإحساس بالارتباط الذي لا يمثّل أي شيء للطرفين، في الوقت الذي لا يستطيعان معه التخلّص منه، ليتفرغا لعلاقة جديدة ناجحة بدلاً من العلاقة القديمة الفاشلة؛ ما يجعل الحياة لديهما جحيماً لا يطاق، أو طريقاً للانحراف... فلم يبقَ إلاَّ الحل الثاني، وهو أن نقول لهما: إنَّ بإمكانهما أن ينفصلا ويبحثا عن تجربة جديدة، باعتبار ذلك ضرورة حياتية، فيكون أبغض الحلال إلى اللّه، تماماً كما هي العملية الجراحية عند استفحال المرض.
وفي ضوء هذه الفكرة، لا ينبغي للمؤمن أن يلجأ إلى الطلاق إلاَّ بعد استنفاد كلّ الوسائل المفضية إلى استمرار الحياة الزوجية، حيث يكون الطلاق حلاًّ لمشكلة المرأة والرّجل معاً. أمّا الأولاد، فقد لا يكون الطلاق هو المشكلة الكبيرة في حياتهم، نتيجة ما يحصل لهم من تعقيد؛ بل هي المشاكل الحاصلة من الخلافات والمنازعات بين آبائهم، فإنَّ تأثيرها عليهم أشدّ من تأثيرات الطلاق؛ بل ربما يكون الطلاق حلاًّ ضرورياً للجزء الكبير من المشكلة، وتخفيفاً للكثير من السلبيات.
وقد قرأت للدكتور بروتللي أحد الأطباء النفسيين الفرنسيين في إحدى المجلات النسائية المصرية أنه «لا يوجد ما يسمى ابن الطلاق... إنَّ ذلك مجرّد عذر سهل وتبرير غير واعٍ لكلّ حماقات سوء التربية ولعدم كفاية النصح والعجز عن التفتح، ولكن ما يوجد حقّاً هو الصراع بين أبوين متنافرين، فالطلاق إذاً لا يخلق حالةً، ولكنَّه يعمل على تسوية مشكلة. والصراع هو الذي لا يتحمله الطفل، فحين يتفتح الطفل يكون محتاجاً إلى الدفء والحنان والاستقرار والأمانة؛ وكلّها مستوحاة من الأب والأم معاً...».
إنَّ مشكلة الطفل في الطلاق هي أنه لا يعيش جوّ الحنان الطبيعي بين أبويه، ولكنَّ هذا الجوّ لم يكن موجوداً في ظلّ المشاحنات الزوجية، بل قد يكون الموجود شيئاً مضاداً له في ما يستتبعه من التأزم والتعقيد... وربما يحصل على العاطفة في خارج الحياة الزوجية بعد الطلاق أكثر مما فقده في داخلها، بالمستوى الذي يعتبر تعويضاً كاملاً عمّا فقده..
ولا بُدَّ لنا من الإشارة إلى حقيقة أساسية في كلّ قضايا التشريع الإسلامي في الحياة، وهي أنَّ أي تشريع في جانب السلب والإيجاب لا يمكن أن يكون حلاًّ مطلقاً للمشكلة؛ بل كلّ ما هناك، أنه يمثّل الحل النسبي الذي يجمع إلى الإيجابيات بعض السلبيات. ففي جانب الإلزام بالفعل، لا بُدَّ من أن تكون إيجابيات الفعل أكثر من سلبياته؛ وفي جانب الإلزام بالترك، يكون الأمر بالعكس، فتكون إيجابيات الترك أكثر من سلبياته... وهكذا تكون النتيجة الحاسمة في موضوعنا هذا، وهي أنَّ الطلاق يعتبر عملاً إيجابياً في حركة العلاقة الزوجية في الحياة، ولكنَّه ـ في الوقت نفسه ـ لا يخلو من بعض السلبيات في نتائجه العملية بالنسبة إلى الزوجين والأولاد وإلى المجتمع بشكل عام...
وعلى الود نلــ ماجده ـتقى