السلام عليكم ورحمة الله بركاته
صراع الحق والباطل:
من سنن الله الاجتماعية أن يتواصل صراع الحق والباطل، ويستمر عداء أهل الكفر والنفاق لذوي الإيمان حتى قيام الساعة.
ومظاهر الصراع والعداء لفسطاط الإيمان تتباين صوراً وأوضاعاً ومظاهر وشدة وقوة وحجماً؛ لكنها تتفق جميعها على الهدف النهائي والغاية المقصودة ألا وهي النيل من الدين؛ فالمؤامرات السياسية والمخابراتية، والكيد العسكري والأمني، والمكر الاقتصادي والمعيشي، والمخططات الثقافية والتعليمية والإعلامية والاجتماعية كلها جميعاً تبتغي القضاء على الإسلام وتدمير مقوماته وإبادة أهله، وذاك ما حدثنا عنه القرآن.
قال تعالى: {ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا ...} [سورة البقرة: 217] .
وقوله تعالى: {ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ...} [سورة البقرة: 120].
وقوله تعالى: {ودَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّاراً ...} [سورة البقرة: 109].
وواضح من الآيات الواردة في السورة ذاتها في أول القرآن أن الله تعالى يبين لنا سبيل المجرمين ويوضح لنا مبتغاهم حتى نأخذ حذرنا ونعد عُدتنا ونحذِّر قومنا.
الدين بُغيتهم: الأعداء على مر الزمان وفي كل مكان يريدون القضاء على إيماننا وعقيدتنا وديننا، وأن نترك دين الله الذي ارتضاه لنا إلى ملتهم المعوجة المحرَّفة، ويستخدمون لذلك كل ما يمكنهم من أدوات يرونها قوية وسريعة التأثير وتحدث دماراً أوسع وخراباً أعم.
يتولى كبر ذلك العداء: اليهود والنصارى كما أشار القرآن، بل إنهم لينسون عداواتهم الدينية القديمة ويؤلِّفون حلفاً شيطانياً ضد ديننا وأمتنا: {... بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ...} [سورة المائدة: 51]، {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء...} [سورة الأنفال: 73].
الإفقار وسيلتهم: إنهم يستخدمون كل ورقة يرونها رابحة وكل سلعة يظنونها رائجة من أجل استئصال هذا الدين منهجاً ودعاة وأمة؛ ومن بين الوسائل ذات الأثر الفاعل ضد أمتنا وذات العائد الثري عليهم: وسيلة حرب البطون وما يتبعها من سياسات الإفقار المدمِّرة ومحاربة الاقتصاد ومصادر المعيشة في حياة الأمم والشعوب عملاً بالمثل القائل : (جوِّعْ كلبَك يتبعْك).
لقد فكّر دهاة اليهود لعنهم الله طويلاً وقدَّروا ثم نظروا ثم عبسوا وبسروا قُتلوا كيف فعلوا ثم تمخض ذلك عن العمل على احتكار رؤوس الأموال وتجنيد أصحابها ليكون ذلك مقدمة للاستيلاء على العالم بعد إخضاعه لحكمهم وقراراتهم وتوصياتهم ومخططاتهم؛ فهم الذين يقبضون على عنقه ويتحكمون في مصيره ويملكون قوته.
ما يُسمى بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي يُعَدُّ كلٌّ منهما حكومة صهيونية تختبئ وراء ورقة الدولار الخضراء، وتضع فخاخها المخيفة خلف القروض والإصلاحات الاقتصادية والسعرية، وتزرع الموت الزؤام تحت أرضية الاتفاقات المالية، ولكن أكثر الحكام لا يعلمون أو لعلهم وهو الأقرب يعلمون. إن كنت لا تدري فتلك مصيبة أو كنت تدري فالمصيبة أعظم والأعداء يدركون أن حربهم الاقتصادية وسياستهم التجويعية توصلهم سريعاً إلى خط النهاية في صراعهم مع أمتنا الذي يعني لديهم تدمير الإسلام، وهم بلا شك يحققون نجاحات في هذا المِشوار الجهنمي الخبيث لأمرٍ قدَّره الله، وبسبب ما كسبت أيدينا نحن المسلمين.
إلا أننا على يقين أنهم لن يصلوا إلى النهاية المرجوة في هدم الإسلام وإطفاء نوره؛ لأن الله قد وعد بغير ذلك، فقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} [سورة الصف: 8]، غير أنهم سينجحون في تحقيق الأهداف المرحلية التي ستكون وطأتها علينا شديدة وأثرها في حياتنا مؤلماً؛ إن لم نتيقظ وندفع عن أنفسنا ما استطعنا بعون الله وذلك بالاستمساك بحبله المتين والسير في صراطه المستقيم، ومن خلال استبانة سبيل المجرمين، وإعطاء الخطر ما يستحقه من الإعداد، وأخذ الأهبة، وإطلاق صيحات النذير وإشارات التحذير، ورص الصفوف، والتنادي لدفع الدمار القادم.
ولعل هذه الكلمات والسطور تكون لبنة في صرح الدفاع والتحذير؛ فتجعل جاهلاً يدري وغافلاً ينتبه وسادراً يرعوي ونائماً يستيقظ ومدافعاً يتحفَّز وحجَّة تقال وتُقام.
وهدف هذا المقال مجرد الإيماء والإشارة إلى الخطر الداهم والدمار القادم؛ وليس الإحاطة والتوسع؛ فذاك مجاله البحوث العلمية الموسعة.
والفقر المقصود في حديثنا ذاك الفقر المفتعل في ظل وجود الخيرات الوفيرة والذي يترافق مع الثراء الفاحش والتخمة المفرطة والتبذير الواضح والفساد الجلي.
آثار الفقر المدمرة: تتحقق الآثار المدمرة لسياسات الإفقار حين يغيب الإيمان في قلوب الناس أو يضعف أثره، ولذا يحرص أعداء المسلمين أن تترافق سياساتهم التجويعية مع تنفيذ مخططات الإلهاء واللهو الحرام وإبعاد الناس عن دينهم وإضعاف اتصالهم بالله من خلال البرامج الإعلامية والثقافية التي تنشر ثقافة المجون والغناء والرقص وإثارة الشهوات وبعث الغرائز والدعوة لكل محرّم.
1 - في مجال العقيدة والدين: وهو المجال الذي توجه إليه الأسهم المسمومة والضربات القاتلة ويراد به الشر أولاً وأخيراً.
والفقر مدعاة للشك؛ إذ إنه يكون مدعاة للشك في حكمة التنظيم الإلهي للكون، والارتياب في عدالة التوزيع الرباني للرزق، فيصبح لسان حال صاحب هذا التصور: كم عالم عالم أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً هذا الذي ترك الألباب حائرة وصيّر العالِم النِّحرير زنديقاً الفقر والعقيدة الجبرية: وقد يرضى بعضٌ باعتناق النظرة الجبرية إلى الأمور وهي نظرة تتعارض مع عقيدة القرآن والسنة؛ فهو يُقنع نفسه بأن الفقر وإن كان شراً وبلاءاً فهو أمرٌ قد قضاه الله في السماء ولا يجدي معه الطب والدواء؛ فقد أراد الله أن يفضل بعض الناس على بعض في الرزق ليبلوهم، وأنه تعالى يبسط الرزق لمن يشاء، ولا رادَّ لقضائه ولا معقب لحكمه، وغير ذلك من كلام حق يُراد به باطل، ويروَّج مترافقاً مع سياسات الإفقار ومخططات التجويع ليقنع الناس بالرضا والصبر ولا ينبسوا ببنت شفة ولا تنفرج أفواههم عن لفظة اعتراض، ولسان حالهم يقول: الرزق كالغيث بين الناس منقسم هذا غريق وهذا يشتهي المطرا أو كما قال آخر: يسعى القوي فلا ينال بسعيه حظاً ويحظى عاجز ومهين ونظرة الجبرية هذه ينكرها الإسلام؛ لأنها تمثل عائقاً منيعاً أمام أي محاولة لإصلاح الأوضاع الفاسدة وتعديل الموازين الجائرة وإقامة العدالة المرجوة والتكافل الاجتماعي باعتبارها مبادئ إسلامية رئيسة.
الإسلام فرض على الأغنياء في أموالهم حقاً معلوماً للسائل والمحروم، ولما احتج الجاحدون منهم بمشيئة الله وقدرته ردّ عليهم زعمهم ورماهم بصفة الضلال المبين، قال تعالى: {وإذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إنْ أَنتُمْ إلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [سورة [يس: 47]، إنهم في ضلال مبين؛ لأنهم لو عقلوا لعلموا أن الله قد أراد أن يرزق الناس بعضهم من بعض، وأن يتعاونوا على رد قدر الله من الفقر بقدر الله من التكافل وحسن توزيع الثروات وإيجاد فرص العمل وأسباب الرزق.
سؤال وجواب:
قد يسأل سائل: إذاً ما المقصود بحثِّ النصوص القرآنية والحديثية على الرضا والقناعة بما قسم الله؟
والجواب: إن المقصود ليس هو ما يُراد ترويجه وإشاعته بين الناس من فهم خاطئ حول الرضا والقناعة من خلال ترضية الفقراء بالعيش الدون والحياة الهون ولا القعود عن السعي إلى الكسب الحلال والغنى والحياة الطيبة والعيش الرغيد، ولا المقصود كذلك ترك الأغنياء في غيهم سادرين يلهون، ويعبثون ويترفون ويسرفون، ولا ذم المال إطلاقاً؛ إذ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله الغنى تماماً كما كان يسأله التقى: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى» [1].
وقد روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قد دعا لخادمه أنس قائلاً: «اللهم أكثر ماله» [2].
وأثنى على مال أبي بكر فقال في الحديث الذي حسنه السيوطي: «ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مالُ أبي بكر » [3].
وقال: «ونعم صاحب المسلم هو » [4]، «.... فنعم المعونة هو ...» [5]، وقال كذلك في الصحيح نفسه من حديث يسار بن عبيد: «لا بأس بالغنى لمن اتقى» [6]، بل وكان يستعيذ بالله من الجوع: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع» [7].
فالقناعة التي حث عليها الإسلام تعني أن لا يُفرِط الإنسان المسلم في سعيه للغنى وأن يُجمِل في طلب الرزق ليتمكن من إقامة التوازن في حياته ويتجنب الإفراط والغلو، ويتوجه طموحه إلى القيم الأرفع والرزق الأبقى: {ورِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأَبْقَى} [سورة طه: 131]، {والآخِرَةُ خَيْرٌ وأَبْقَى} [سورة الأعلى: 17].
كما أن القناعة المطلوبة في الإسلام تعني الرضى بتفاضل الناس في أعطيات الأرزاق تماماً مثل بقية المواهب والملكات، فلا ينبغي أن يكون أكبر همِّ المسلم النظر إلى ما أوتيه الآخرون نظرة حسد وبغضاء وطمع، وعليه في حدود ما قدّر له أن يكون نشاطه وطموحه: {ولا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [سورة النساء: 32].
كما تعني الرضا بما رزق الله في حالات العسر وضيق الرزق والأزمات الطارئة التي تحل بالأمم وتعم الناس بسبب الكوارث وقلة الموارد الطبيعية وعدم القدرة على الهجرة أو تغيير الواقع.
الفقر واتهام الله: إذ من طبيعة الإنسان بدون تزكية الأديان أنه: {إذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [سورة الفجر: 16].
الفقر والكفر متلازمان: قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه بين الفقر والكفر فقال: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر» [8].
وقال في الحديث الذي أخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب والطبراني في الأوسط وضعَّف العراقي سنده: «كاد الفقر أن يكون كفراً».
وأوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحاجة والطمع في المال تدفع المرء إلى بيع دينه، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: «يبيع أحدهم دينه بعرضٍ من الدنيا قليل» [9].
وواضح اقتران بيع الدين بالكفر والعياذ بالله وابتغاء العرض القليل من الدنيا بالحاجة إليها والطمع فيها.
ومن أقوال السلف: "إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك"، "أكفر الناس ذو فاقة لا صبر له، وقلَّ في الناس الصابر".
الاختلالات الحادثة في كل مجالات الحياة هي في الأصل اختلال في الإيمان والدين:
ففي مجال الأخلاق والسلوك مثلاً: فعل ما يخالف أخلاق الإسلام يضعف الإيمان بل ويرفعه؛ ففي الحديث المتفق عليه: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» [10].
وفي رواية للبخاري: «ولا يَقتُل وهو مؤمن» [11].
وفي رواية لمسلم: «ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن؛ فإياكم وإياكم» [12].
ومن نافلة القول أن الأخلاق السيئة الوارد ذكرها في الأحاديث السابقة من زنى، وسرقة، وقتل، وغلول، وشرب خمر يكون الفقر والحاجة من أشد دوافعهما وأكثرها، وهي ذات تأثير في رفع الإيمان وانعدامه.
خلاصة: الفقر سبب للشك في الله، واتهامه، واعتناق العقيدة الجبرية المنحرفة، ويتلازم معه الكفر، وكل آثاره الأخرى توهن الدين وتضعف الإيمان.
2 - في مجال الأخلاق والسلوك:
الفقر والفاحشة: تعد الحاجة والفقر من الأسباب الرئيسة التي تقف وراء الرذائل والفواحش؛ إذ يكون الفقر في حال غياب الإيمان أو ضعفه أقوى من مراقبة الله والخوف منه والاستجابة لنداء الضمير، لذا قيل: "صوت المعدة أقوى من صوت الضمير".
ودلالة الاقتران بين الفقر والفاحشة واضحة في النصوص الحديثية الصحيحة الآتية: الحديث المتفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال رجل: لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصدِّق الليلة على سارق!! فقال: اللهم لك الحمد على سارق!! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية!! فقال: اللهم لك الحمد على زانية!! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني!! فقال: اللهم لك الحمد على سارق وزانية وغني؛ فأُتي فقيل له: أمَّا صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما صدقتك على زانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما صدقتك على غني فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله» [13].
نستطيع أن نفهم من الحديث السالف أن حصول السارق على المال وكذا الزانية قد يكون سبباً قوياً (فلعله، فلعلها) في رجوعهما عن غيهما والعودة إلى الأصل وهو العفاف (يستعف، تستعف)، وأن السبب في فاحشتهما بعد ضعف الإيمان وغيابه هو الحاجة إلى المال.
وفي الحديث المتفق عليه من رواية ابن عمر رضي الله عنهما عن الثلاثة الذين آواهم المبيت أو ألجأهم المطر إلى الغار، فسقطت الصخرة وسدت عليهم باب الغار، فأشار بعضهم على بعض بالتوسل إلى الله بصالح الأعمال لينجوا من الموت والهلكة، فقال أحدهم: «اللهم كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إليَّ فأردتها عن نفسها (راودتها) فامتنعتْ مني حتى ألمت بها سنةٌ من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلِّي بيني وبين نفسها، ففعلت؛ حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أُحِلُّ لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرَّجتُ من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليَّ ...» [14].
ما الذي جعل المرأة العفيفة توافق على أن تخلي بينها وبين نفسها لابن عمها؟! إنها الحاجة والفقر: (ألمت بها سنة من السنين)، وهذا هو الشاهد!! ثم ما الذي حفظها وابن عمها من الفاحشة؟! إنه الإيمان وتقوى الله الذي نادت به ابن عمها: (اتق الله).
الواقع يتحدث: في اعترافات الواقعين في مستنقعات الرذيلة والفاحشة وفي مذكراتهم ما يدل على أن الفقر والحاجة إلى المال كان سبباً في سقوطهم، ومآسي الأسر في ضياع شرفها وفي امتهان أولادها للسرقة والدعارة بسبب الفقر قصصٌ تُدمي القلوب وُتحزِن النفوس وتُعظم العقاب على كل راع ومسؤول لم يؤدِ حق رعايته، وكم من امرأة شريفة قد ألجأتها الفاقة إلى العمل خارج بيتها فكان الذئاب في انتظارها!
الفقر وأخذ المال الحرام:
من الأخلاق الذميمة التي حاربها الإسلام وجعلها من الكبائر: السرقة، الرشوة، الغلول، وغيرها مما تؤكل بها أموال الناس بالباطل وتجعل الكسب حراماً حراماً؛ هذه الأخلاق لا ترتكب غالباً إلا في حالة الحاجة والفقر وعدم كفاية الدخل في سد الحاجات الأساسية؛ فأنت تجد ذا النزاهة والأمانة إن لم يستطع المقاومة ولم يكن له زاد من الإيمان يثبته، تجده يضطر بفعل الضغوط الأسرية والحياتية وقلة ذات اليد إلى أن يغمس يده في رجس المال الحرام والعياذ بالله ، وفي الحديث: «خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه ولستم بتاركيه، تمنعكم الحاجة والفقر» [15] لذا كان من هدي الخليفة عمر بن عبد العزيز أن سدَّ على عماله وموظفيه كل نافذة أو ثغرة لأخذ المال الحرام، وبدأ برفع أجورهم ليحقق لهم الكفاية ويغنيهم عن الخيانة ويسد بذلك الذريعة إلى الحرام.
الفقر والذلة:
والذلة لغير الله خلق سيئ يجعل المرء عبداً للناس يخافهم ويذعن لما يملونه عليه حتى لو كان في ذلك معصية لله، لذلك تعوَّذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفقر والذلة وقرن بينهما: «اللهم إني أعوذ بك من القلة والذلة» [16].
الفقر وصفات النفاق:
الفقر يدفع إلى طلب الدَّيْن، وعدم القدرة على السداد والأداء يجعل الإنسان يكذب ويخلف وهي من صفات النفاق.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري: «إن الرجل إذا غرم استدان حدث فكذب، ووعد فأخلف» [17].
الفقر وضياع أخلاق حميدة:
يُجبِر الفقر الناس على التخلي عن كثير من الأخلاق الحميدة، مثل: الكرم للضيوف والأصحاب.
- الصدقة والتكافل الاجتماعي.
- صلة الأرحام.
- الحب والتواد بين الناس.
- التعفف والحياء.
كما يدعو إلى الاضطرار إلى التسوُّل وما يجره ذلك من أضرار.
الفقر وسفك الدماء:
الفقر يؤدي إلى الجزع على الدنيا، والخوف على فوات نصيبه منها، مما يدفع إلى الصراع من أجلها والامتثال لسفاسفها وسفك الدماء وعدم السماح والصفح؛ لأن الجميع يرون أنهم في حاجة إليها، ويرونها مسألة حياة أو موت، كما أن آثار الفقر السابقة تؤدي إلى سفك الدماء وإزهاق الأرواح وارتفاع معدلات الجريمة.
3 - أثر الفقر على العلم والفكر:
طلب العلم ونشره وتوفير مؤسساته ومتطلباته يحتاج إلى الدعم المادي، وفقدان المال يؤدي إلى عدم توفر الإمكانات المعينة على طلب العلم ونشره، فيجهل الناس، ويضيع العلم.
ويؤدي اضطرار الناس إلى العمل كباراً وصغاراً إلى العزوف عن طلب العلم وتتفشى الأمية؛ فيظهر ذلك في تأخر الأمة علمياً وثقافياً؛ لأنهم قد شُغِلوا بطلب الرزق عن كسب العلم والثقافة والفكر، وحتى إنْ طلب أبناء الأمة العلم في ظل مؤسسات لا توفر أبسط الإمكانات والظروف المناسبة فإن طلبهم للعلم وتلقيهم له يكون ضعيفاً لا يغني من جهل ولا يُبصر من عمى ويؤدي إلى تسربهم.
كما أن التفكير والقدرة على الابتكار ونفع الأمة يعوقه كثيراً ما يلاقيه أصحابه من عنت في مجال الحياة المعيشية وتوفير القدر الأدنى من الحاجات الأولية لأنفسهم.
روي عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة: أن الجارية أخبرته يوماً في مجلسه أن الدقيق قد نفد، فقال لها: "لقد أضعتِ من رأسي أربعين مسألة من مسائل الفقه".
ويروى عن الإمام أبي حنيفة قوله: "لا تستشر من ليس في بيته دقيق؛ لأنه مشتت الفكر مشغول البال فلا يكون حكمه سديداً".
وفي الحديث الصحيح: «لا يقضي القاضي وهو غضبان» [18].
وقد قاس عليها الفقهاء: "لا يقضي القاضي وهو جوعان، أو عطشان؛ لأنها انفعالات تؤثر على حكمه".
يقول القائل: إذا قلَّ مال المرء قلَّ بهاؤه وضاقت عليه أرضه وسماؤه وأصبح لا يدري وإن كان دارياً قدامه خير له أم وراؤه وقد قيل : أعطني خبزاً أعطك شعباً مثقفاً.
وقديماً رأى الشاعر أن المُلْك يقوم على العلم والمال وأن كلاً منهما يحتاج الآخر:
بالعلم والمال يبني الناس مُلكهم لم يُبنَ مُلك على جهل وإقلال
وبالاســ ماجده ـلام نرتقى
صراع الحق والباطل:
من سنن الله الاجتماعية أن يتواصل صراع الحق والباطل، ويستمر عداء أهل الكفر والنفاق لذوي الإيمان حتى قيام الساعة.
ومظاهر الصراع والعداء لفسطاط الإيمان تتباين صوراً وأوضاعاً ومظاهر وشدة وقوة وحجماً؛ لكنها تتفق جميعها على الهدف النهائي والغاية المقصودة ألا وهي النيل من الدين؛ فالمؤامرات السياسية والمخابراتية، والكيد العسكري والأمني، والمكر الاقتصادي والمعيشي، والمخططات الثقافية والتعليمية والإعلامية والاجتماعية كلها جميعاً تبتغي القضاء على الإسلام وتدمير مقوماته وإبادة أهله، وذاك ما حدثنا عنه القرآن.
قال تعالى: {ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا ...} [سورة البقرة: 217] .
وقوله تعالى: {ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ...} [سورة البقرة: 120].
وقوله تعالى: {ودَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّاراً ...} [سورة البقرة: 109].
وواضح من الآيات الواردة في السورة ذاتها في أول القرآن أن الله تعالى يبين لنا سبيل المجرمين ويوضح لنا مبتغاهم حتى نأخذ حذرنا ونعد عُدتنا ونحذِّر قومنا.
الدين بُغيتهم: الأعداء على مر الزمان وفي كل مكان يريدون القضاء على إيماننا وعقيدتنا وديننا، وأن نترك دين الله الذي ارتضاه لنا إلى ملتهم المعوجة المحرَّفة، ويستخدمون لذلك كل ما يمكنهم من أدوات يرونها قوية وسريعة التأثير وتحدث دماراً أوسع وخراباً أعم.
يتولى كبر ذلك العداء: اليهود والنصارى كما أشار القرآن، بل إنهم لينسون عداواتهم الدينية القديمة ويؤلِّفون حلفاً شيطانياً ضد ديننا وأمتنا: {... بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ...} [سورة المائدة: 51]، {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء...} [سورة الأنفال: 73].
الإفقار وسيلتهم: إنهم يستخدمون كل ورقة يرونها رابحة وكل سلعة يظنونها رائجة من أجل استئصال هذا الدين منهجاً ودعاة وأمة؛ ومن بين الوسائل ذات الأثر الفاعل ضد أمتنا وذات العائد الثري عليهم: وسيلة حرب البطون وما يتبعها من سياسات الإفقار المدمِّرة ومحاربة الاقتصاد ومصادر المعيشة في حياة الأمم والشعوب عملاً بالمثل القائل : (جوِّعْ كلبَك يتبعْك).
لقد فكّر دهاة اليهود لعنهم الله طويلاً وقدَّروا ثم نظروا ثم عبسوا وبسروا قُتلوا كيف فعلوا ثم تمخض ذلك عن العمل على احتكار رؤوس الأموال وتجنيد أصحابها ليكون ذلك مقدمة للاستيلاء على العالم بعد إخضاعه لحكمهم وقراراتهم وتوصياتهم ومخططاتهم؛ فهم الذين يقبضون على عنقه ويتحكمون في مصيره ويملكون قوته.
ما يُسمى بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي يُعَدُّ كلٌّ منهما حكومة صهيونية تختبئ وراء ورقة الدولار الخضراء، وتضع فخاخها المخيفة خلف القروض والإصلاحات الاقتصادية والسعرية، وتزرع الموت الزؤام تحت أرضية الاتفاقات المالية، ولكن أكثر الحكام لا يعلمون أو لعلهم وهو الأقرب يعلمون. إن كنت لا تدري فتلك مصيبة أو كنت تدري فالمصيبة أعظم والأعداء يدركون أن حربهم الاقتصادية وسياستهم التجويعية توصلهم سريعاً إلى خط النهاية في صراعهم مع أمتنا الذي يعني لديهم تدمير الإسلام، وهم بلا شك يحققون نجاحات في هذا المِشوار الجهنمي الخبيث لأمرٍ قدَّره الله، وبسبب ما كسبت أيدينا نحن المسلمين.
إلا أننا على يقين أنهم لن يصلوا إلى النهاية المرجوة في هدم الإسلام وإطفاء نوره؛ لأن الله قد وعد بغير ذلك، فقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} [سورة الصف: 8]، غير أنهم سينجحون في تحقيق الأهداف المرحلية التي ستكون وطأتها علينا شديدة وأثرها في حياتنا مؤلماً؛ إن لم نتيقظ وندفع عن أنفسنا ما استطعنا بعون الله وذلك بالاستمساك بحبله المتين والسير في صراطه المستقيم، ومن خلال استبانة سبيل المجرمين، وإعطاء الخطر ما يستحقه من الإعداد، وأخذ الأهبة، وإطلاق صيحات النذير وإشارات التحذير، ورص الصفوف، والتنادي لدفع الدمار القادم.
ولعل هذه الكلمات والسطور تكون لبنة في صرح الدفاع والتحذير؛ فتجعل جاهلاً يدري وغافلاً ينتبه وسادراً يرعوي ونائماً يستيقظ ومدافعاً يتحفَّز وحجَّة تقال وتُقام.
وهدف هذا المقال مجرد الإيماء والإشارة إلى الخطر الداهم والدمار القادم؛ وليس الإحاطة والتوسع؛ فذاك مجاله البحوث العلمية الموسعة.
والفقر المقصود في حديثنا ذاك الفقر المفتعل في ظل وجود الخيرات الوفيرة والذي يترافق مع الثراء الفاحش والتخمة المفرطة والتبذير الواضح والفساد الجلي.
آثار الفقر المدمرة: تتحقق الآثار المدمرة لسياسات الإفقار حين يغيب الإيمان في قلوب الناس أو يضعف أثره، ولذا يحرص أعداء المسلمين أن تترافق سياساتهم التجويعية مع تنفيذ مخططات الإلهاء واللهو الحرام وإبعاد الناس عن دينهم وإضعاف اتصالهم بالله من خلال البرامج الإعلامية والثقافية التي تنشر ثقافة المجون والغناء والرقص وإثارة الشهوات وبعث الغرائز والدعوة لكل محرّم.
1 - في مجال العقيدة والدين: وهو المجال الذي توجه إليه الأسهم المسمومة والضربات القاتلة ويراد به الشر أولاً وأخيراً.
والفقر مدعاة للشك؛ إذ إنه يكون مدعاة للشك في حكمة التنظيم الإلهي للكون، والارتياب في عدالة التوزيع الرباني للرزق، فيصبح لسان حال صاحب هذا التصور: كم عالم عالم أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً هذا الذي ترك الألباب حائرة وصيّر العالِم النِّحرير زنديقاً الفقر والعقيدة الجبرية: وقد يرضى بعضٌ باعتناق النظرة الجبرية إلى الأمور وهي نظرة تتعارض مع عقيدة القرآن والسنة؛ فهو يُقنع نفسه بأن الفقر وإن كان شراً وبلاءاً فهو أمرٌ قد قضاه الله في السماء ولا يجدي معه الطب والدواء؛ فقد أراد الله أن يفضل بعض الناس على بعض في الرزق ليبلوهم، وأنه تعالى يبسط الرزق لمن يشاء، ولا رادَّ لقضائه ولا معقب لحكمه، وغير ذلك من كلام حق يُراد به باطل، ويروَّج مترافقاً مع سياسات الإفقار ومخططات التجويع ليقنع الناس بالرضا والصبر ولا ينبسوا ببنت شفة ولا تنفرج أفواههم عن لفظة اعتراض، ولسان حالهم يقول: الرزق كالغيث بين الناس منقسم هذا غريق وهذا يشتهي المطرا أو كما قال آخر: يسعى القوي فلا ينال بسعيه حظاً ويحظى عاجز ومهين ونظرة الجبرية هذه ينكرها الإسلام؛ لأنها تمثل عائقاً منيعاً أمام أي محاولة لإصلاح الأوضاع الفاسدة وتعديل الموازين الجائرة وإقامة العدالة المرجوة والتكافل الاجتماعي باعتبارها مبادئ إسلامية رئيسة.
الإسلام فرض على الأغنياء في أموالهم حقاً معلوماً للسائل والمحروم، ولما احتج الجاحدون منهم بمشيئة الله وقدرته ردّ عليهم زعمهم ورماهم بصفة الضلال المبين، قال تعالى: {وإذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إنْ أَنتُمْ إلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [سورة [يس: 47]، إنهم في ضلال مبين؛ لأنهم لو عقلوا لعلموا أن الله قد أراد أن يرزق الناس بعضهم من بعض، وأن يتعاونوا على رد قدر الله من الفقر بقدر الله من التكافل وحسن توزيع الثروات وإيجاد فرص العمل وأسباب الرزق.
سؤال وجواب:
قد يسأل سائل: إذاً ما المقصود بحثِّ النصوص القرآنية والحديثية على الرضا والقناعة بما قسم الله؟
والجواب: إن المقصود ليس هو ما يُراد ترويجه وإشاعته بين الناس من فهم خاطئ حول الرضا والقناعة من خلال ترضية الفقراء بالعيش الدون والحياة الهون ولا القعود عن السعي إلى الكسب الحلال والغنى والحياة الطيبة والعيش الرغيد، ولا المقصود كذلك ترك الأغنياء في غيهم سادرين يلهون، ويعبثون ويترفون ويسرفون، ولا ذم المال إطلاقاً؛ إذ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله الغنى تماماً كما كان يسأله التقى: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى» [1].
وقد روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قد دعا لخادمه أنس قائلاً: «اللهم أكثر ماله» [2].
وأثنى على مال أبي بكر فقال في الحديث الذي حسنه السيوطي: «ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مالُ أبي بكر » [3].
وقال: «ونعم صاحب المسلم هو » [4]، «.... فنعم المعونة هو ...» [5]، وقال كذلك في الصحيح نفسه من حديث يسار بن عبيد: «لا بأس بالغنى لمن اتقى» [6]، بل وكان يستعيذ بالله من الجوع: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع» [7].
فالقناعة التي حث عليها الإسلام تعني أن لا يُفرِط الإنسان المسلم في سعيه للغنى وأن يُجمِل في طلب الرزق ليتمكن من إقامة التوازن في حياته ويتجنب الإفراط والغلو، ويتوجه طموحه إلى القيم الأرفع والرزق الأبقى: {ورِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأَبْقَى} [سورة طه: 131]، {والآخِرَةُ خَيْرٌ وأَبْقَى} [سورة الأعلى: 17].
كما أن القناعة المطلوبة في الإسلام تعني الرضى بتفاضل الناس في أعطيات الأرزاق تماماً مثل بقية المواهب والملكات، فلا ينبغي أن يكون أكبر همِّ المسلم النظر إلى ما أوتيه الآخرون نظرة حسد وبغضاء وطمع، وعليه في حدود ما قدّر له أن يكون نشاطه وطموحه: {ولا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [سورة النساء: 32].
كما تعني الرضا بما رزق الله في حالات العسر وضيق الرزق والأزمات الطارئة التي تحل بالأمم وتعم الناس بسبب الكوارث وقلة الموارد الطبيعية وعدم القدرة على الهجرة أو تغيير الواقع.
الفقر واتهام الله: إذ من طبيعة الإنسان بدون تزكية الأديان أنه: {إذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [سورة الفجر: 16].
الفقر والكفر متلازمان: قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه بين الفقر والكفر فقال: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر» [8].
وقال في الحديث الذي أخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب والطبراني في الأوسط وضعَّف العراقي سنده: «كاد الفقر أن يكون كفراً».
وأوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحاجة والطمع في المال تدفع المرء إلى بيع دينه، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: «يبيع أحدهم دينه بعرضٍ من الدنيا قليل» [9].
وواضح اقتران بيع الدين بالكفر والعياذ بالله وابتغاء العرض القليل من الدنيا بالحاجة إليها والطمع فيها.
ومن أقوال السلف: "إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك"، "أكفر الناس ذو فاقة لا صبر له، وقلَّ في الناس الصابر".
الاختلالات الحادثة في كل مجالات الحياة هي في الأصل اختلال في الإيمان والدين:
ففي مجال الأخلاق والسلوك مثلاً: فعل ما يخالف أخلاق الإسلام يضعف الإيمان بل ويرفعه؛ ففي الحديث المتفق عليه: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» [10].
وفي رواية للبخاري: «ولا يَقتُل وهو مؤمن» [11].
وفي رواية لمسلم: «ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن؛ فإياكم وإياكم» [12].
ومن نافلة القول أن الأخلاق السيئة الوارد ذكرها في الأحاديث السابقة من زنى، وسرقة، وقتل، وغلول، وشرب خمر يكون الفقر والحاجة من أشد دوافعهما وأكثرها، وهي ذات تأثير في رفع الإيمان وانعدامه.
خلاصة: الفقر سبب للشك في الله، واتهامه، واعتناق العقيدة الجبرية المنحرفة، ويتلازم معه الكفر، وكل آثاره الأخرى توهن الدين وتضعف الإيمان.
2 - في مجال الأخلاق والسلوك:
الفقر والفاحشة: تعد الحاجة والفقر من الأسباب الرئيسة التي تقف وراء الرذائل والفواحش؛ إذ يكون الفقر في حال غياب الإيمان أو ضعفه أقوى من مراقبة الله والخوف منه والاستجابة لنداء الضمير، لذا قيل: "صوت المعدة أقوى من صوت الضمير".
ودلالة الاقتران بين الفقر والفاحشة واضحة في النصوص الحديثية الصحيحة الآتية: الحديث المتفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال رجل: لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصدِّق الليلة على سارق!! فقال: اللهم لك الحمد على سارق!! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية!! فقال: اللهم لك الحمد على زانية!! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني!! فقال: اللهم لك الحمد على سارق وزانية وغني؛ فأُتي فقيل له: أمَّا صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما صدقتك على زانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما صدقتك على غني فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله» [13].
نستطيع أن نفهم من الحديث السالف أن حصول السارق على المال وكذا الزانية قد يكون سبباً قوياً (فلعله، فلعلها) في رجوعهما عن غيهما والعودة إلى الأصل وهو العفاف (يستعف، تستعف)، وأن السبب في فاحشتهما بعد ضعف الإيمان وغيابه هو الحاجة إلى المال.
وفي الحديث المتفق عليه من رواية ابن عمر رضي الله عنهما عن الثلاثة الذين آواهم المبيت أو ألجأهم المطر إلى الغار، فسقطت الصخرة وسدت عليهم باب الغار، فأشار بعضهم على بعض بالتوسل إلى الله بصالح الأعمال لينجوا من الموت والهلكة، فقال أحدهم: «اللهم كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إليَّ فأردتها عن نفسها (راودتها) فامتنعتْ مني حتى ألمت بها سنةٌ من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلِّي بيني وبين نفسها، ففعلت؛ حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أُحِلُّ لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرَّجتُ من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليَّ ...» [14].
ما الذي جعل المرأة العفيفة توافق على أن تخلي بينها وبين نفسها لابن عمها؟! إنها الحاجة والفقر: (ألمت بها سنة من السنين)، وهذا هو الشاهد!! ثم ما الذي حفظها وابن عمها من الفاحشة؟! إنه الإيمان وتقوى الله الذي نادت به ابن عمها: (اتق الله).
الواقع يتحدث: في اعترافات الواقعين في مستنقعات الرذيلة والفاحشة وفي مذكراتهم ما يدل على أن الفقر والحاجة إلى المال كان سبباً في سقوطهم، ومآسي الأسر في ضياع شرفها وفي امتهان أولادها للسرقة والدعارة بسبب الفقر قصصٌ تُدمي القلوب وُتحزِن النفوس وتُعظم العقاب على كل راع ومسؤول لم يؤدِ حق رعايته، وكم من امرأة شريفة قد ألجأتها الفاقة إلى العمل خارج بيتها فكان الذئاب في انتظارها!
الفقر وأخذ المال الحرام:
من الأخلاق الذميمة التي حاربها الإسلام وجعلها من الكبائر: السرقة، الرشوة، الغلول، وغيرها مما تؤكل بها أموال الناس بالباطل وتجعل الكسب حراماً حراماً؛ هذه الأخلاق لا ترتكب غالباً إلا في حالة الحاجة والفقر وعدم كفاية الدخل في سد الحاجات الأساسية؛ فأنت تجد ذا النزاهة والأمانة إن لم يستطع المقاومة ولم يكن له زاد من الإيمان يثبته، تجده يضطر بفعل الضغوط الأسرية والحياتية وقلة ذات اليد إلى أن يغمس يده في رجس المال الحرام والعياذ بالله ، وفي الحديث: «خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه ولستم بتاركيه، تمنعكم الحاجة والفقر» [15] لذا كان من هدي الخليفة عمر بن عبد العزيز أن سدَّ على عماله وموظفيه كل نافذة أو ثغرة لأخذ المال الحرام، وبدأ برفع أجورهم ليحقق لهم الكفاية ويغنيهم عن الخيانة ويسد بذلك الذريعة إلى الحرام.
الفقر والذلة:
والذلة لغير الله خلق سيئ يجعل المرء عبداً للناس يخافهم ويذعن لما يملونه عليه حتى لو كان في ذلك معصية لله، لذلك تعوَّذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفقر والذلة وقرن بينهما: «اللهم إني أعوذ بك من القلة والذلة» [16].
الفقر وصفات النفاق:
الفقر يدفع إلى طلب الدَّيْن، وعدم القدرة على السداد والأداء يجعل الإنسان يكذب ويخلف وهي من صفات النفاق.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري: «إن الرجل إذا غرم استدان حدث فكذب، ووعد فأخلف» [17].
الفقر وضياع أخلاق حميدة:
يُجبِر الفقر الناس على التخلي عن كثير من الأخلاق الحميدة، مثل: الكرم للضيوف والأصحاب.
- الصدقة والتكافل الاجتماعي.
- صلة الأرحام.
- الحب والتواد بين الناس.
- التعفف والحياء.
كما يدعو إلى الاضطرار إلى التسوُّل وما يجره ذلك من أضرار.
الفقر وسفك الدماء:
الفقر يؤدي إلى الجزع على الدنيا، والخوف على فوات نصيبه منها، مما يدفع إلى الصراع من أجلها والامتثال لسفاسفها وسفك الدماء وعدم السماح والصفح؛ لأن الجميع يرون أنهم في حاجة إليها، ويرونها مسألة حياة أو موت، كما أن آثار الفقر السابقة تؤدي إلى سفك الدماء وإزهاق الأرواح وارتفاع معدلات الجريمة.
3 - أثر الفقر على العلم والفكر:
طلب العلم ونشره وتوفير مؤسساته ومتطلباته يحتاج إلى الدعم المادي، وفقدان المال يؤدي إلى عدم توفر الإمكانات المعينة على طلب العلم ونشره، فيجهل الناس، ويضيع العلم.
ويؤدي اضطرار الناس إلى العمل كباراً وصغاراً إلى العزوف عن طلب العلم وتتفشى الأمية؛ فيظهر ذلك في تأخر الأمة علمياً وثقافياً؛ لأنهم قد شُغِلوا بطلب الرزق عن كسب العلم والثقافة والفكر، وحتى إنْ طلب أبناء الأمة العلم في ظل مؤسسات لا توفر أبسط الإمكانات والظروف المناسبة فإن طلبهم للعلم وتلقيهم له يكون ضعيفاً لا يغني من جهل ولا يُبصر من عمى ويؤدي إلى تسربهم.
كما أن التفكير والقدرة على الابتكار ونفع الأمة يعوقه كثيراً ما يلاقيه أصحابه من عنت في مجال الحياة المعيشية وتوفير القدر الأدنى من الحاجات الأولية لأنفسهم.
روي عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة: أن الجارية أخبرته يوماً في مجلسه أن الدقيق قد نفد، فقال لها: "لقد أضعتِ من رأسي أربعين مسألة من مسائل الفقه".
ويروى عن الإمام أبي حنيفة قوله: "لا تستشر من ليس في بيته دقيق؛ لأنه مشتت الفكر مشغول البال فلا يكون حكمه سديداً".
وفي الحديث الصحيح: «لا يقضي القاضي وهو غضبان» [18].
وقد قاس عليها الفقهاء: "لا يقضي القاضي وهو جوعان، أو عطشان؛ لأنها انفعالات تؤثر على حكمه".
يقول القائل: إذا قلَّ مال المرء قلَّ بهاؤه وضاقت عليه أرضه وسماؤه وأصبح لا يدري وإن كان دارياً قدامه خير له أم وراؤه وقد قيل : أعطني خبزاً أعطك شعباً مثقفاً.
وقديماً رأى الشاعر أن المُلْك يقوم على العلم والمال وأن كلاً منهما يحتاج الآخر:
بالعلم والمال يبني الناس مُلكهم لم يُبنَ مُلك على جهل وإقلال
وبالاســ ماجده ـلام نرتقى