بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.......وبعد:
أخرج البخاري في كتاب الشروط من حديث: عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قَالَا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ..(وهي بئر سمي المكان بها، وقيل شجرة حدباء صُغرت وسمي المكان بها. وقال المحب الطبري: "الحديبية قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم".. حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيق..( فى رواية: حتى إذا كانوا بغدير الأشطاط قريبا من عسفان.. وهو جانب الوادي)....ِ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ».... (وهو موضع بين مكة والمدينة).. «فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةٌ فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْش».. (القترة: الغبار الأسود)..ِ
فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ وَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ..(كلمة تقال للناقة للزجر إذا تركت السير).. فَأَلَحَّت..(أي تمادت على عدم القيام)ْ... فَقَالُوا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ...(والخلاء: للإبل كالحٍران للخيل).....
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ».. (أي: حبسها الله عز وجل عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها).. ومناسبة ذكرها أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة وصدهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال كما لو قدر دخول الفيل وأصحابه مكة، لكن سبق في علم الله تعالى في الموضعين أنه سيدخل في الإسلام خَلْق منهم، ويُستخرج من أصلابهم ناس يُسلمون ويُجاهدون، وكان بمكة في الحديبية جمع كثير مؤمنون من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، فلو طرق الصحابة مكة لما أمن أن يصاب ناس منهم بغير عمد كما أشار إليه تعالى في قوله: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح:25].....
---- وفي هذه القصة جواز التشبيه من الجهة العامة وإن اختلفت الجهة الخاصة؛ لأن أصحاب الفيل كانوا على باطل محض وأصحاب هذه الناقة كانوا على حق محض، لكن جاء التشبيه من جهة إرادة الله منع الحرم مطلقا، أما من أهل الباطل فواضح، وأما من أهل الحق فللمعني الذي تقدم ذكره......
ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا».. قال الخطابي: "معني تعظيم حرمات الله في هذه القصة ترك القتال في الحرم، والجنوح إلى المسالمة والكف عن إراقة الدماء....."
قال ابن بطال: "يريد بذلك موافقة الله في تعظيم الحرمات؛ لأنه فهم عن الله إبلاغ الأعذار إلى أهل مكة فأبقى عليهم لما كان سبق لهم فى علمه أنهم سيدخلون فى دين الله أفواجًا...."
ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ قَالَ: «فَعَدَلَ عَنْهُمْ».. (في رواية: فولى راجعا).. حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاء..(أي: حفيرة فيها ماء مثمود أي قليل) يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا..(هو الأخذ قليلا قليلا).. فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ..(أي: لم يتركوه يلبث).. حَتَّى نَزَحُوهُ وَشُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَطَشُ فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ.... وفى رواية (أنه صلى الله عليه وسلم جلس على البئر ثم دعا بإناء فمضمض ودعا الله ثم صبه فيها ثم قال : دعوها ساعة. ثم أنهم ارتووا بعد ذلك).. فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ....(أي: رجعوا رُواء بعد وردهم).... زاد ابن سعد: حتى اغترفوا بآنيتهم جلوسا على شفير البئر ...
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ....(والعيبة: ما توضع فيه الثياب لحفظها أي أنهم موضع النصح له والأمانة على سره، كأنه شبه الصدر الذي هو مستودع السر بالعيبة التي هي مستودع الثياب)...
وفى رواية: وكانت خُزاعة عَيبَة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلُمها ومشركُها لا يُخفون عليه شيئاً كان بمكة... مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ..(وتِهامة بالكسر: هي مكة وما حولها).. فَقَالَ إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَي...(ذَكر هَذين لكون قريش الذين كانوا بمكة أجمَع ترجعُ أنسابُهم إليهما)...نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ...(الأعداد بالفتح: جمع عِِِد بالكسر والتشديد وهو الماء الذي لا انقطاع له)... وَمَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيل..(العُوذ بالضم جمع عائذ وهي الناقة ذات اللبن، والمطافيل الأمهات اللاتي معها أطفالها، يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها ولا يرجعوا حتى يمنعوه، أو كنى بذلك عن النساء معهن الأطفال، والمراد أنهم خرجوا منهم بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام وليكون أدعى إلى عدم الفرار).. وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ...
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ»... قال ابن بطال: "فإنما قدم النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة غير مستأ من مما كان بينه وبين أهل مكة من الحرب والمناصبة والعداوة ولا أخذ إذنهم فى ذلك؛ لأنه جرى على العادة من أن مكة غير ممنوعة من الحجاج والمعتمرين، فلما علم الله أنهم صادوه ومقاتلوه حبس الناقة عن مكة كما حبس الفيل تنبيهًا له على الإبقاء عليهم...."
«وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمْ الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً»...(أي: جعلت بيني وبينهم مدة يُترك الحرب بيننا وبينهم فيها).... «وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ فَإِنْ أَظْهَر»... (وإنما ردد الأمر مع أنه جازم بأن الله تعالى سينصره ويظهره لوعد الله تعالى له بذلك، على طريق التنزل مع الخصم وفرض الأمر على ما زعم الخصم)....ْ «فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا» .... (أي: استراحوا).... «وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي»... (السالفة: صفحة العنق وكنى بذلك عن القتل)... «وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ»....
فَقَالَ بُدَيْلٌ: "سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ"، قَالَ: "فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا قَالَ إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا"، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: "لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ"، وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: "هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ"، قَالَ: "سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا" فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.....
قال ابن بطال: وإنما نصحهم النبى - صلى الله عليه وسلم - لما فهم عن الله فى حبس الناقة أنهم سيدخلون فى الإسلام، فأراد أن يجعل بينهم مدة يقلب الله فيها قلوبهم، وفى لين قول بديل وعروة لقريش دليل على أنهم كانوا أهل إصغاء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وميل إليه....".
فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: "أَيْ قَوْمِ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ"، قَالُوا: "بَلَى"، قَالَ: "أَوَلَسْتُ بِالْوَلَد"...(يعنى أنتم أهلى وأبائى وفيكم أبنائى) ... قَالُوا: "بَلَى"، قَالَ: "فَهَلْ تَتَّهِمُونِي"، قَالُوا: "لَا"، قَالَ: "أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ...(أي: دعوتهم إلى نصركم)... فَلَمَّا بَلَّحُوا...{ أي امتنعوا}...عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي"، قَالُوا: "بَلَى"، قَالَ: "فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ...(أي خصلة خير وصلاح وإنصاف)... إقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِيهِ"، قَالُوا: "ائْتِهِ"، فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: "أَيْ مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ إِنْ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ...(أي: أهلك أهله بالكلية)... قَبْلَكَ، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى"...(والمعني: وإن تكن الغلبة لقريش لا آمنهم عليك مثلا).....
والحاصل أن عروة ردد الأمر بين شيئين غير مستحسنين عادة وهو هلاك قومه إن غلب، وذهاب أصحابه إن غلب، لكن كل من الأمرين مستحسن شرعا كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52]....
فَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى وُجُوهًا وَإِنِّي لَأَرَى أَوْشَابًا مِنْ النَّاس..(أي: الأخلاط من أنواع شتى)..ِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ......
فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: "امْصُصْ بِبَظْرِ اللَّات...أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ" (في قول أبي بكر تخسيس للعدو وتكذيبهم... وإن كان هذا القول مما يُستفحش، لكن حمله على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار)ِ.... قال ابن بطال: "وهكذا يجب أن يجاوب من جفا على سروات الناس وأفاضلهم ورماهم بالفرار".
(قلت: انظر معي – – كيف أشتد غضب أبي بكر بالرغم مما علم به من الحلم والأناة، وهذا وذاك لا يتعارضان، لأن حلمه في موضعه إيمان وغضبته الشديدة على من إتهم المسلمين الذين هم حول النبي صلي الله عليه وسلم بالفرار عند الشدة، وهو من خيرهم – أبو بكر رضي الله عنه– بل خيرهم، وكيف حملته غيرته على النبي صلي الله عليه وسلم والمسلمين علي القول بما فيه فحش للمشرك تقليلا وإهانة له ولمعبوداته، وان ذلك لا يتصور الا من أمثالكم لأنكم لم تؤمنوا إيماننا ولم تعرفوا قدر نبينا كما عرفناه ولا ذقتم ما ذقناه ....!!!)
فَقَالَ: "مَنْ ذَا"، قَالُوا: "أَبُو بَكْرٍ"، قَالَ: "أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يَد كَانَتْ لَكَ عِنْدِي...(أي: نعمة.. وهى انه كان قد تحمل بدية فأعانه أبو بكر فيها بعونٍ حسن)....ٌ لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ".. (أي: لم أكافئك بها.. أي جازاه بعدم إجابته عن شتمه بيده التي كان أحسن إليه بها)..
قَالَ وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ..[وفى رواية: فكلما كلمه أخذ بلحيته].. وكانت عادة العرب أن يتناول الرجل لحية من يكلمه ولا سيما عند الملاطفة وفي الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير، لكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضي لعروة عن ذلك استمالة له وتأليفا.....
وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ....(وهو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيرها).... وَقَالَ لَهُ: "أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ فَقَالَ: "مَنْ هَذَا قَالُوا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَة"....[وفى رواية: قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة]،َ فَقَالَ: "أَيْ غُدَرُ...(مبالغة في وصفه بالغدر)... أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ".
وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ...(أشار عروة بهذا إلى ما وقع للمغيرة قبل إسلامه، وذلك أنه خرج مع ثلاثة عشر نفرا من ثقيف من بني مالك فغدر بهم وقتلهم وأخذ أموالهم، فتهايج الفريقان بنو مالك والأحلاف رهط المغيرة، فسعى عروة بن مسعود عم المغيرة حتى أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفسا واصطلحوا)...
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا الْإِسْلَامَ فَأَقْبَلُ وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ»... (أي: لا أتعرض له لكونه أخده غدرا--- ويستفاد منه أنه لا يحل أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدرا لأن الرفقة يصطحبون على الأمانة والأمانة تُؤَدى إلى أهلها مسلما كان أو كافرا، وأن أموال الكفار إنما تحِلُ بالمحاربة والمغالبة، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك المال في يده لإمكان أن يُسلم قومُه فيرُد إليهم أموالهم---)...
(قلت: وانظر أيضا أخى إلى موقف واحد آخر من خيار الناس من أصحاب رسول الله، وهو المغيرة بن شعبة، كيف يغلظ على من تمس يده النبي صلي الله عليه وسلم - ولو كان بلطف – ولو كان هذا صاحب يد وفضل من قبل بل حتي لو كان الوالد أو الولد.... لأن المفدى هو رسول الله الذي ملأت محبته القلوب... فتدبر معي...!!!)
ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ...(أي: يلحظ)... أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنَيْهِ قَالَ: "فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ".... وفى رواية [ ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه ].... "وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ....(أي: يديمون).... إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ"...
ولعل الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عروة وبالغوا في ذلك إشارة منهم إلى الرد على ما خشيه من فرارهم، وكأنهم قالوا بلسان الحال: من يحب إمامه هذه المحبة ويعظمه هذا التعظيم كيف يظن به أنه يفرعنه ويسلمه لعدوه ؟ بل هم أشد اغتباطا به وبدينه وبنصره من القبائل التي يُراعي بعضُها بعضا بمجرد الرحِم...
فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: "أَيْ قَوْمِ وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ... (وذكر الثلاثة لكونهم كانوا أعظم ملوك ذلك الزمان)... وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ....
(وكانوا يأتون بالأطفال إليه ليحنكهم تلمساً لبركة يده صلى الله عليه وسلم، وأبو قتادة لما خرجت عينه في أحد ردها ومسح عليها بكفه فكانت أحسن عينيه، وأشياء كثيرة في هذا الموضع عملها أصحابها التماساً لبركة رسول الله صلى الله عليه وسلم)
ونحن نقول: علم الله أننا لو أدركنا التراب الذي وطئه لاكتحلنا به في أعيننا، ولكن هل يتعدى هذا إلى غيره؟؟؟ الجواب: نقول: لا، بل هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا لم نجد أصحابه فعلوا ذلك مع غيره، إذاً: هذه الأشياء قاصرة عليه ؛ لأنه هو الذي اختص بمثل هذه الأمور...فليتنبه!!!...
"وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا"... [وفى رواية: وما أراكم إلا ستصيبكم قارعة، فانصرف هو ومن اتبعه إلى الطائف]...
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: "دَعُونِي آتِيهِ"، فَقَالُوا: "ائْتِهِ"،
فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا فُلَانٌ وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ»... (أي: أثيروها دفعة واحدة)..ُ.
فَبُعِثَتْ لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ"...[وفى رواية: رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم]..
قَالَ: "رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ...(أَيْ: عُلِمَت.... تقول: قد أَشْعَرْتُ هذه البّدَنَةَ لله نُسْكا، أي: جعلتها شعيرة تُهْدَى)... فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ"... [وفى رواية: وغضب وقال: "يا معشر قريش ما على هذا عاقدناكم، أيُصد عن بيت الله من جاء معظما له؟"، فقالوا: "كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى")..
فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ فَقَالَ: "دَعُونِي آتِيهِ"، فَقَالُوا: "ائْتِهِ"، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا مِكْرَزٌ وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ»، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو.... (قَالَ مَعْمَرٌ فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ)... أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ»... (قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ)...
يتبع
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.......وبعد:
أخرج البخاري في كتاب الشروط من حديث: عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قَالَا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ..(وهي بئر سمي المكان بها، وقيل شجرة حدباء صُغرت وسمي المكان بها. وقال المحب الطبري: "الحديبية قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم".. حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيق..( فى رواية: حتى إذا كانوا بغدير الأشطاط قريبا من عسفان.. وهو جانب الوادي)....ِ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ».... (وهو موضع بين مكة والمدينة).. «فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةٌ فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْش».. (القترة: الغبار الأسود)..ِ
فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ وَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ..(كلمة تقال للناقة للزجر إذا تركت السير).. فَأَلَحَّت..(أي تمادت على عدم القيام)ْ... فَقَالُوا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ...(والخلاء: للإبل كالحٍران للخيل).....
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ».. (أي: حبسها الله عز وجل عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها).. ومناسبة ذكرها أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة وصدهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال كما لو قدر دخول الفيل وأصحابه مكة، لكن سبق في علم الله تعالى في الموضعين أنه سيدخل في الإسلام خَلْق منهم، ويُستخرج من أصلابهم ناس يُسلمون ويُجاهدون، وكان بمكة في الحديبية جمع كثير مؤمنون من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، فلو طرق الصحابة مكة لما أمن أن يصاب ناس منهم بغير عمد كما أشار إليه تعالى في قوله: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح:25].....
---- وفي هذه القصة جواز التشبيه من الجهة العامة وإن اختلفت الجهة الخاصة؛ لأن أصحاب الفيل كانوا على باطل محض وأصحاب هذه الناقة كانوا على حق محض، لكن جاء التشبيه من جهة إرادة الله منع الحرم مطلقا، أما من أهل الباطل فواضح، وأما من أهل الحق فللمعني الذي تقدم ذكره......
ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا».. قال الخطابي: "معني تعظيم حرمات الله في هذه القصة ترك القتال في الحرم، والجنوح إلى المسالمة والكف عن إراقة الدماء....."
قال ابن بطال: "يريد بذلك موافقة الله في تعظيم الحرمات؛ لأنه فهم عن الله إبلاغ الأعذار إلى أهل مكة فأبقى عليهم لما كان سبق لهم فى علمه أنهم سيدخلون فى دين الله أفواجًا...."
ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ قَالَ: «فَعَدَلَ عَنْهُمْ».. (في رواية: فولى راجعا).. حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاء..(أي: حفيرة فيها ماء مثمود أي قليل) يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا..(هو الأخذ قليلا قليلا).. فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ..(أي: لم يتركوه يلبث).. حَتَّى نَزَحُوهُ وَشُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَطَشُ فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ.... وفى رواية (أنه صلى الله عليه وسلم جلس على البئر ثم دعا بإناء فمضمض ودعا الله ثم صبه فيها ثم قال : دعوها ساعة. ثم أنهم ارتووا بعد ذلك).. فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ....(أي: رجعوا رُواء بعد وردهم).... زاد ابن سعد: حتى اغترفوا بآنيتهم جلوسا على شفير البئر ...
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ....(والعيبة: ما توضع فيه الثياب لحفظها أي أنهم موضع النصح له والأمانة على سره، كأنه شبه الصدر الذي هو مستودع السر بالعيبة التي هي مستودع الثياب)...
وفى رواية: وكانت خُزاعة عَيبَة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلُمها ومشركُها لا يُخفون عليه شيئاً كان بمكة... مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ..(وتِهامة بالكسر: هي مكة وما حولها).. فَقَالَ إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَي...(ذَكر هَذين لكون قريش الذين كانوا بمكة أجمَع ترجعُ أنسابُهم إليهما)...نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ...(الأعداد بالفتح: جمع عِِِد بالكسر والتشديد وهو الماء الذي لا انقطاع له)... وَمَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيل..(العُوذ بالضم جمع عائذ وهي الناقة ذات اللبن، والمطافيل الأمهات اللاتي معها أطفالها، يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها ولا يرجعوا حتى يمنعوه، أو كنى بذلك عن النساء معهن الأطفال، والمراد أنهم خرجوا منهم بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام وليكون أدعى إلى عدم الفرار).. وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ...
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ»... قال ابن بطال: "فإنما قدم النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة غير مستأ من مما كان بينه وبين أهل مكة من الحرب والمناصبة والعداوة ولا أخذ إذنهم فى ذلك؛ لأنه جرى على العادة من أن مكة غير ممنوعة من الحجاج والمعتمرين، فلما علم الله أنهم صادوه ومقاتلوه حبس الناقة عن مكة كما حبس الفيل تنبيهًا له على الإبقاء عليهم...."
«وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمْ الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً»...(أي: جعلت بيني وبينهم مدة يُترك الحرب بيننا وبينهم فيها).... «وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ فَإِنْ أَظْهَر»... (وإنما ردد الأمر مع أنه جازم بأن الله تعالى سينصره ويظهره لوعد الله تعالى له بذلك، على طريق التنزل مع الخصم وفرض الأمر على ما زعم الخصم)....ْ «فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا» .... (أي: استراحوا).... «وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي»... (السالفة: صفحة العنق وكنى بذلك عن القتل)... «وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ»....
فَقَالَ بُدَيْلٌ: "سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ"، قَالَ: "فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا قَالَ إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا"، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: "لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ"، وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: "هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ"، قَالَ: "سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا" فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.....
قال ابن بطال: وإنما نصحهم النبى - صلى الله عليه وسلم - لما فهم عن الله فى حبس الناقة أنهم سيدخلون فى الإسلام، فأراد أن يجعل بينهم مدة يقلب الله فيها قلوبهم، وفى لين قول بديل وعروة لقريش دليل على أنهم كانوا أهل إصغاء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وميل إليه....".
فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: "أَيْ قَوْمِ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ"، قَالُوا: "بَلَى"، قَالَ: "أَوَلَسْتُ بِالْوَلَد"...(يعنى أنتم أهلى وأبائى وفيكم أبنائى) ... قَالُوا: "بَلَى"، قَالَ: "فَهَلْ تَتَّهِمُونِي"، قَالُوا: "لَا"، قَالَ: "أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ...(أي: دعوتهم إلى نصركم)... فَلَمَّا بَلَّحُوا...{ أي امتنعوا}...عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي"، قَالُوا: "بَلَى"، قَالَ: "فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ...(أي خصلة خير وصلاح وإنصاف)... إقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِيهِ"، قَالُوا: "ائْتِهِ"، فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: "أَيْ مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ إِنْ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ...(أي: أهلك أهله بالكلية)... قَبْلَكَ، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى"...(والمعني: وإن تكن الغلبة لقريش لا آمنهم عليك مثلا).....
والحاصل أن عروة ردد الأمر بين شيئين غير مستحسنين عادة وهو هلاك قومه إن غلب، وذهاب أصحابه إن غلب، لكن كل من الأمرين مستحسن شرعا كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52]....
فَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى وُجُوهًا وَإِنِّي لَأَرَى أَوْشَابًا مِنْ النَّاس..(أي: الأخلاط من أنواع شتى)..ِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ......
فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: "امْصُصْ بِبَظْرِ اللَّات...أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ" (في قول أبي بكر تخسيس للعدو وتكذيبهم... وإن كان هذا القول مما يُستفحش، لكن حمله على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار)ِ.... قال ابن بطال: "وهكذا يجب أن يجاوب من جفا على سروات الناس وأفاضلهم ورماهم بالفرار".
(قلت: انظر معي – – كيف أشتد غضب أبي بكر بالرغم مما علم به من الحلم والأناة، وهذا وذاك لا يتعارضان، لأن حلمه في موضعه إيمان وغضبته الشديدة على من إتهم المسلمين الذين هم حول النبي صلي الله عليه وسلم بالفرار عند الشدة، وهو من خيرهم – أبو بكر رضي الله عنه– بل خيرهم، وكيف حملته غيرته على النبي صلي الله عليه وسلم والمسلمين علي القول بما فيه فحش للمشرك تقليلا وإهانة له ولمعبوداته، وان ذلك لا يتصور الا من أمثالكم لأنكم لم تؤمنوا إيماننا ولم تعرفوا قدر نبينا كما عرفناه ولا ذقتم ما ذقناه ....!!!)
فَقَالَ: "مَنْ ذَا"، قَالُوا: "أَبُو بَكْرٍ"، قَالَ: "أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يَد كَانَتْ لَكَ عِنْدِي...(أي: نعمة.. وهى انه كان قد تحمل بدية فأعانه أبو بكر فيها بعونٍ حسن)....ٌ لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ".. (أي: لم أكافئك بها.. أي جازاه بعدم إجابته عن شتمه بيده التي كان أحسن إليه بها)..
قَالَ وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ..[وفى رواية: فكلما كلمه أخذ بلحيته].. وكانت عادة العرب أن يتناول الرجل لحية من يكلمه ولا سيما عند الملاطفة وفي الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير، لكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضي لعروة عن ذلك استمالة له وتأليفا.....
وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ....(وهو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيرها).... وَقَالَ لَهُ: "أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ فَقَالَ: "مَنْ هَذَا قَالُوا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَة"....[وفى رواية: قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة]،َ فَقَالَ: "أَيْ غُدَرُ...(مبالغة في وصفه بالغدر)... أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ".
وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ...(أشار عروة بهذا إلى ما وقع للمغيرة قبل إسلامه، وذلك أنه خرج مع ثلاثة عشر نفرا من ثقيف من بني مالك فغدر بهم وقتلهم وأخذ أموالهم، فتهايج الفريقان بنو مالك والأحلاف رهط المغيرة، فسعى عروة بن مسعود عم المغيرة حتى أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفسا واصطلحوا)...
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا الْإِسْلَامَ فَأَقْبَلُ وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ»... (أي: لا أتعرض له لكونه أخده غدرا--- ويستفاد منه أنه لا يحل أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدرا لأن الرفقة يصطحبون على الأمانة والأمانة تُؤَدى إلى أهلها مسلما كان أو كافرا، وأن أموال الكفار إنما تحِلُ بالمحاربة والمغالبة، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك المال في يده لإمكان أن يُسلم قومُه فيرُد إليهم أموالهم---)...
(قلت: وانظر أيضا أخى إلى موقف واحد آخر من خيار الناس من أصحاب رسول الله، وهو المغيرة بن شعبة، كيف يغلظ على من تمس يده النبي صلي الله عليه وسلم - ولو كان بلطف – ولو كان هذا صاحب يد وفضل من قبل بل حتي لو كان الوالد أو الولد.... لأن المفدى هو رسول الله الذي ملأت محبته القلوب... فتدبر معي...!!!)
ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ...(أي: يلحظ)... أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنَيْهِ قَالَ: "فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ".... وفى رواية [ ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه ].... "وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ....(أي: يديمون).... إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ"...
ولعل الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عروة وبالغوا في ذلك إشارة منهم إلى الرد على ما خشيه من فرارهم، وكأنهم قالوا بلسان الحال: من يحب إمامه هذه المحبة ويعظمه هذا التعظيم كيف يظن به أنه يفرعنه ويسلمه لعدوه ؟ بل هم أشد اغتباطا به وبدينه وبنصره من القبائل التي يُراعي بعضُها بعضا بمجرد الرحِم...
فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: "أَيْ قَوْمِ وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ... (وذكر الثلاثة لكونهم كانوا أعظم ملوك ذلك الزمان)... وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ....
(وكانوا يأتون بالأطفال إليه ليحنكهم تلمساً لبركة يده صلى الله عليه وسلم، وأبو قتادة لما خرجت عينه في أحد ردها ومسح عليها بكفه فكانت أحسن عينيه، وأشياء كثيرة في هذا الموضع عملها أصحابها التماساً لبركة رسول الله صلى الله عليه وسلم)
ونحن نقول: علم الله أننا لو أدركنا التراب الذي وطئه لاكتحلنا به في أعيننا، ولكن هل يتعدى هذا إلى غيره؟؟؟ الجواب: نقول: لا، بل هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا لم نجد أصحابه فعلوا ذلك مع غيره، إذاً: هذه الأشياء قاصرة عليه ؛ لأنه هو الذي اختص بمثل هذه الأمور...فليتنبه!!!...
"وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا"... [وفى رواية: وما أراكم إلا ستصيبكم قارعة، فانصرف هو ومن اتبعه إلى الطائف]...
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: "دَعُونِي آتِيهِ"، فَقَالُوا: "ائْتِهِ"،
فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا فُلَانٌ وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ»... (أي: أثيروها دفعة واحدة)..ُ.
فَبُعِثَتْ لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ"...[وفى رواية: رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم]..
قَالَ: "رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ...(أَيْ: عُلِمَت.... تقول: قد أَشْعَرْتُ هذه البّدَنَةَ لله نُسْكا، أي: جعلتها شعيرة تُهْدَى)... فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ"... [وفى رواية: وغضب وقال: "يا معشر قريش ما على هذا عاقدناكم، أيُصد عن بيت الله من جاء معظما له؟"، فقالوا: "كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى")..
فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ فَقَالَ: "دَعُونِي آتِيهِ"، فَقَالُوا: "ائْتِهِ"، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا مِكْرَزٌ وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ»، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو.... (قَالَ مَعْمَرٌ فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ)... أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ»... (قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ)...
يتبع