بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الإسلام هو الدين الذي أنزله الله - تعالى - على رسله جميعاً من لدن آدم - عليه السلام - إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم -، ورضيه للناس ديناً ولم يرضَ ديناً سواه، فليس هو مجموعة أفكار لبعض المفكرين، وليس هو اختيار لبعض أقوال الفقهاء، لذا كان الاعتراض على ما يقرره الدين هو اعتراض على رب العالمين.
وقد جاء الإســلام فــي تشريعــاته المتعلقــة بالمــرأة بما يصونها ويحفظ عليها كرامتها في كل شأنها، وليس التحقير لها والحجر عليها تغليباً لجنس الرجل؛ كما يزعم ذلك من لا خلاق له من الناس، فما أمرُ الله للنساء بالقرار في البيوت ومنع اختلاطهن بالرجال ومنع الخلوة بهن؛ إلا من هذه الصيانة المتعلقة بالعلاقات الاجتماعية بين الجنسين؛ فإن الله - تعالى - خلق النساء على صفة وطبيعة معينة، وقد شرع الله لهن من الأحكام ما يناسب الخلقة التي خلقهن عليها. وفي ظل الحملة المسعورة التي توظف لها كبرى المؤسسات العالمية كالأمم المتحدة لجعل الفساد والشذوذ والتفلُّت من القيود الخلقية عن طريق المؤتمرات والقرارات والاتفاقيات؛ نعالج تلك الصيانة في ثلاثة محاور؛ الأول: الأمر بالقرار في البيت، والثاني: منع الاختلاط بالرجال عند الخروج إذا احتجن إليه، والثالث: منع الدخول عليهن والاختلاء بهن.
أولاً: أمر المرأة بالقرار في بيتها:
أمر الله - سبحانه وتعالى - نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - - ونساءُ المسلمين تبع لهن في ذلك - بالقرار في بيوتهن، فقــال - تعالى -: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْـجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: ٣٣]، وقد قرئ قوله - تعالى -: {وَقَرْنَ} بفتح القاف؛ قرأ بذلك عامة قراء المدينة وبعض الكوفيين، وهي بمعنى: اقررن، والقرار: الاستقرار والإقامة الدائمة من غير تحوُّل أو انتقال، كما قرأ عامة قراء الكوفة والبصرة بكسر القاف (وقِرن) وهي بمعنى: كنَّ أهل سكينة ووقار. والآية الواحدة إذا ورد فيها أكثر من قراءة كانت كل قراءة فيها في إفادة المعاني والأحكام بمنزلة الآية المستقلة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (فهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلُّها حق، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية يجب الإيمان بها كلهــا واتبــاع ما تتضمن من المعنى علماً وعملاً، لا يجوز ترك موجب إحداها لأجل الأخرى)[1]. وعلى ذلك؛ فإن قوله - تعالى -: {وَقَرْنَ} يعبر عن الحالة أو الكيفية التي تكون عليها المرأة في البيت فهي في استقرار دائم وما يتبع ذلك الاستقرار من الطمأنينة وعدم الاضطراب أو القلق، وقراءة (وقِرن) تدل على السكينة والوقار الذي يصاحب الاستقرار والإقامة، ولو جاء التعبير بلفظ (الْزَمْنَ) أو (احتبسْنَ) أو (ابقيْنَ) لأدَّت تلك الألفاظ معنى البقاء في البيت لكنها لن تؤدي معنى الراحة والسكينة والطمأنينة والوقار، وهكذا البيت بالنسبة للمرأة في ميزان الشرع. وقد رشح نظم الآية استقرار المرأة في البيت وذلك بقوله - تعالى -: {فِي بُيُوتِكُنَّ} ولم يقل في البيوت، فأضاف البيوت إلى النساء إضافة تمليك مع أن البيوت في غالب الأحوال ملك الرجل أو مستأجرة عن طريقه - لأن سكن الزوجة ونفقتها تلزم الزوج - وهذه الإضافة تشعر اختصاص المرأة بالقرار في البيوت، فلما اختصت بذلك أنزلتها الآية منزلة المالك للبيت، فإضافته إليها للدلالة على الترابط الوثيق بين المرأة والبيت، وقد نبَّه على هذا المعنى وأشار إليه - فيما يظهر لي - الإمام البخاري - رحمه الله تعالى - حيث بوَّب في صحيحه على تلك الآية فقال: (باب ما جاء في بيوت أزواج النبــي - صلى الله عليه وسلم - وما نسب من البيوت إليهن، وقول الله - تعالى -: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ} و {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: ٣٥]) فبيَّن البخاري - رحمه الله تعالى - أن البيوت على الحقيقة هي بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - بــدليــل قولــه - تعالــى -: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} ومع ذلك فقد أضيفت البيوت إلى أزواجه - صلى الله عليه وسلم - في قوله - تعالى -: {فِي بُيُوتِكُنّ}. وقد جاءت إضافة البيت إلى المــرأة في أربعة مواضع من كتاب الله - تعالى - وهي على ترتيب المصحف كما يلي:
الأول: قوله - تعالى -: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ} [يوسف: ٣٢].
الثاني: قوله - تعالى -: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ}[الأحزاب: ٣٣].
الثالث: قوله - تعالى -: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: ٤٣].
الرابع: قوله - تعالى -: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: ١].
وهناك موضع خامس لم يضف فيه البيت إلى المــرأة وهو قوله - تعالى -: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْـمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } [النساء: ٥١] ولم يقل المولى - جل وعلا -: بيوتهن، وربما كان السبب في ذلك أنها خانت فلم تحافظ على شرف البيت وطهارته، فلذلك لم تستحق أن يضاف إليها.
ثم جاء بعد ذلك ترشيح آخر لاستقرار النساء في البيوت وهـو النهـي عـن التـبـرج الــوارد فـي قـولـه - تعالـى -: {وَلا تَبَرَّجْنَ} [الأحزاب: ٣٣] فكأن عدم القرار في البيت وكثرة الخروج بغير مسوِّغ شرعي يؤدي إلى تبرج المرأة وإظهار زينتها للرجال، وعلى ذلك فإن تركيب ألفاظ الآية قد انتظم حضَّ المرأة على القرار في البيت من ثلاثة أوجه:
الأول: التعبير عن ذلك بالقرار الذي فيه الراحة والوقار والطمأنينة.
الثاني: إضافة البيوت إليهن للدلالة على الارتباط الوثيق بين المرأة والبيت.
الثالث: النهي عن التبرج الذي غالباً ما يكون الخروج من البيت سبباً فيه أو مدعاة له، فكأن عدم القرار في البيت من الوسائل المعينة على التبرج.
يتبين مما تقدم أن قرار المرأة في بيتها هو الأصل وهو العزيمة التي ينبغي على كل امرأة أن تحرص عليها، والتي ينبغي على كل ولي أمر أن يحضها عليها ويلزمها بها، إذا لم تلزم نفسها بذلك، ومما يدل على ذلك الأصل أيضــاً ما أخرجه البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «خرجت سودة بعدما ضُرِبَ الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب فقال: يا سودة! أما والله ما تخفين علينا؛ فانظري كيف تخرجين! قالت: فانكفأتْ راجعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عَرْق، فدخلت فقالت: يا رسول الله! إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر: كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه ثم رُفِعَ عنه، وإن العَرْق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أُذِنَ لَكُنَّ أن تخرجن لحاجتكن»[2]. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه قد أُذِنَ لَكُنَّ أن تخرجن لحاجتكن» يدلّ على أن الإذن بالخروج مقيَّد بالحاجة؛ فما لم تكن هناك حاجة فالخروج غير مأذون فيه، وهو يبين أن مستقر المرأة إنما هو بيتها، وأن الخروج منه إنما هو أمر عارض في نطاق الحاجة التي أَذِنَ الشرع بها.
يردد أصحاب الفكر النسوي (النساء والرجال) المتغربون أن الحديث عن قرار المرأة في بيتها إنما يعبر عن رغبة بعض الرجـال في التسلـط على النــساء، وإرجاعهن إلى ما يسمونه بـ (عصر الحريم)، أو عن عـــدم الثقة في المـــرأة، أو أن هذا مما يضعف من شخصية المرأة ويحط من قـــدرها ويزري بمكانتها ويمنعها من حقوقها، وأن هذا من التمــييز ضــد المــرأة، أو ما يسمونه بـ (دونية) المـــرأة في المجتمـع الإســـلامي. ولا شك أن هذا رأي خاطئ وظن فاسد، ونقول لهؤلاء: إن الكلام عن قرار المرأة في البيت ليس مجـــرد تصـــور شخصي أو رؤية فردية إنما هو حديث عن حكم شرعي ثبت بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة الثابتة، وما كان كذلك فلا يقال عنه: إن فيه ازدراءً للمرأة وإضعافاً لشخصيتها إلى غير ذلك من الكلمات الشاردة الخاطئة التي لا يرددها إلا من لم يجعل النصوص الشرعية حَكَماً على تصرفات الناس.
فوائد قرار المرأة في البيت:
ولقرار المرأة في بيتها فوائد عظيمة تعود على المرأة نفسها كما تعود على أسرتها وعلى المجتمع الذي تعيش فيه؛ فأُولى تلك الفوائد وأعلاها وأزكاها وأجلُّها: طاعة الله مولاها ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الجالبة لرضوان الله وتوفيقه وتسديده، ومنها: التفرُّغ لرعاية الزوج، والتفقد لمواضع رضاه وغضبه واحتياجاته والقيام بواجبها نحوه، ومنها: التفرغ لرعاية أولادها من البنين والبنات وتربيتهم والإحسان إليهم والقيام على شؤونهم ومتابعة أمورهم وعــدم تـرك ذلك للخــادمات أو الخدم، ومنها: التفقد لبيتها واحتياجاته ولوازمه والإشراف على نظافته وطهارته وترتيبه، ومنها: حفظ الوقت الذي هو من أثمن الأشياء، فالوقت هو العمر من حافظ عليه حفظ عمره ومن ضيَّعه ضيَّع عمره، فينفعها ذلك في توفير الوقت للاطلاع على الكتب النافعة المفيدة التي تزيدها علماً وإيماناً وكذلك الاستماع إلى الأشرطة المفيدة، ومنها: إراحة الجسد من تعب الخروج والانتقال، ومنها: القدوة الحسنة لغيرها من النساء القريبات أو الجارات مما قد يحملهن على الاقتداء بها فيعود عليها من وراء ذلك النفع الكثير والأجر العظيم.
كما أن قرار المرأة في بيتها يحفظ عليها دينها ويصونها، ويكف شرها عن الناس وشر الناس عنها، وتأمن بذلك أذيَّة الناس لها وشرهم؛ سواء بالنظر إليها، أو التحــدث معهــا، أو التضييق عليها في الطرقات.
حالات الخروج المأذون فيها:
وقرار المرأة في بيتها لا يعني عدم خروجها منه أبداً بل تخرج للحاجة كما دل على ذلك حديث عائشة - رضي الله عنها - السابق. والحاجة هذه قد تكون حاجة دينية وقد تكون حاجة دنيوية كما أنها قد تكون حاجــة المــرأة إلـى الخروج أو حاجة المجتمع إلى خروجها، ولذلك أمثلة متعددة:
1 - فمن ذلك: الخروج للصلاة في المسجد بعد استئذان الزوج أو الولي، وإن كانت صلاتها في بيتها خير لها وأفضل.
2 - ومن ذلك: الخروج لطلب العلم الشرعي المطلوب منها علمه والعمل به إذا لم تتمكن المرأة من تحصيله عن طريق الأب أو الأخ أو الزوج أو الَمحْرَم، أو عن طريق الكتاب والشريط، ولم يمكنها تحصيل العلم الواجب عليها تعلُّمه إلا بالخروج إلى مجلس العلم؛ فإن الخروج حينئذ يكون لطلب علمِ ما أُمرت به أو نُهيت عنه وهذا من الحوائج الشرعية.
3 - ومن ذلك: الخروج لصلاة العيدين، وقد ورد التأكيد على ذلك في السنة الصحيحة، حتى إن بعض أهل العلم يذهب إلى وجوبه.
4 - ومن ذلك: الخروج لحضور العرس والمناسبات الاجتماعية، وقد بوَّب البخاري باباً في صحيحه فقال: باب: ذهاب النساء والصبيان إلى العرس، قال ابن حجر - رحمه الله -: (كأنه ترجم بهذا لئلا يتخيل أحد كراهة ذلك، فأراد أنه مشروع بغير كراهة)[3]، لكن ذلك مقيد بعدم وجود المنكر في الأعراس؛ فإن كان فيها منكر فعليها أن تعمل على إزالته، فإذا لم تكن قادرة على ذلك فلا ينبغي لها الذهاب.
5 - ومن ذلك: الخروج لحاجتها الدنيوية أو الدينية من عمل مشروع ونحوه قد تحتاج المرأة إليه أو يحتاجه منها المجتمع، كما خرجت ابنتا الرجل الصالح لسقي الأنعام؛ إذ كان أبوهما شيخاً كبيراً كما ورد في قصة موسى - عليه السلام - وكما كانت تخرج بعض النساء مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد يسقين الماء ويداوين الجرحى.
وينبغي للمرأة عند الخروج - إذا احتاجت إليه - ألا تخرج متبرجة كاشفة عن زينتها أو بعضها، ولا أن تقوم بعمل مما يـدل على الزينة المخفية، أو تخرج متعطرة، بل عليها أن تخـرج بغيـر ذلك؛ فالعطر من المرأة فتنة قد يدفع إلى ما لا تحمد عقباه، ولذا جاء في الحديث: «إذا استعطرت المرأة فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا، قال قولاً شديداً، وفي رواية: فهي زانية»[4]، ولتكن مشيتها سوية بغير تكسُّر أو تهتُّك، بل تكون مستقيمة في مشيتها إلى حيث تريد، يزينها الحياء كما جاء في وصف ابنة الرجل الصالح التي أتت إلى موسى - عليه السلام - تدعوه لمقابلة أبيها قال - تعالى -: {فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص: ٥٢]، وإذا احتاجت إلى الكلام مع الرجال فليكن الكلام بغير خضوع أو ليونة في الحديث، ولا تكتمل الصيانة في الجانب الاجتماعي إلا بغضِّ البصر، فيغضُّ الرجل بصره عن المرأة، وتغضُّ المرأة بصرها عن الرجل.
والخروج من غير حاجة له مفاسد كثيرة، فمن ذلك:
- تبذُّل المرأة واضطرارها للتحدث مع الرجال الأجانب.
- حدوث الاختلاط بين الرجال والنساء.
- إضاعة الأوقات.
- حدوث الخلافات الأسرية.
- تشتت الأولاد وتعرضهم للضياع.
- تعرض النساء للأذى من الفسّاق.
- حدوث الخلوة المنهي عنها إذا ركبت مع السائق بمفردها.
- الوقوع في التبرج والسفور نظراً إلى كثرة الــخــروج، أو على الأقل التعرض لانكشاف شيء منها نظراً إلى ذلك.
ثانياً: منع الاختلاط عند الخروج: مـــ ماجده ـلاك الروح
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الإسلام هو الدين الذي أنزله الله - تعالى - على رسله جميعاً من لدن آدم - عليه السلام - إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم -، ورضيه للناس ديناً ولم يرضَ ديناً سواه، فليس هو مجموعة أفكار لبعض المفكرين، وليس هو اختيار لبعض أقوال الفقهاء، لذا كان الاعتراض على ما يقرره الدين هو اعتراض على رب العالمين.
وقد جاء الإســلام فــي تشريعــاته المتعلقــة بالمــرأة بما يصونها ويحفظ عليها كرامتها في كل شأنها، وليس التحقير لها والحجر عليها تغليباً لجنس الرجل؛ كما يزعم ذلك من لا خلاق له من الناس، فما أمرُ الله للنساء بالقرار في البيوت ومنع اختلاطهن بالرجال ومنع الخلوة بهن؛ إلا من هذه الصيانة المتعلقة بالعلاقات الاجتماعية بين الجنسين؛ فإن الله - تعالى - خلق النساء على صفة وطبيعة معينة، وقد شرع الله لهن من الأحكام ما يناسب الخلقة التي خلقهن عليها. وفي ظل الحملة المسعورة التي توظف لها كبرى المؤسسات العالمية كالأمم المتحدة لجعل الفساد والشذوذ والتفلُّت من القيود الخلقية عن طريق المؤتمرات والقرارات والاتفاقيات؛ نعالج تلك الصيانة في ثلاثة محاور؛ الأول: الأمر بالقرار في البيت، والثاني: منع الاختلاط بالرجال عند الخروج إذا احتجن إليه، والثالث: منع الدخول عليهن والاختلاء بهن.
أولاً: أمر المرأة بالقرار في بيتها:
أمر الله - سبحانه وتعالى - نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - - ونساءُ المسلمين تبع لهن في ذلك - بالقرار في بيوتهن، فقــال - تعالى -: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْـجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: ٣٣]، وقد قرئ قوله - تعالى -: {وَقَرْنَ} بفتح القاف؛ قرأ بذلك عامة قراء المدينة وبعض الكوفيين، وهي بمعنى: اقررن، والقرار: الاستقرار والإقامة الدائمة من غير تحوُّل أو انتقال، كما قرأ عامة قراء الكوفة والبصرة بكسر القاف (وقِرن) وهي بمعنى: كنَّ أهل سكينة ووقار. والآية الواحدة إذا ورد فيها أكثر من قراءة كانت كل قراءة فيها في إفادة المعاني والأحكام بمنزلة الآية المستقلة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (فهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلُّها حق، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية يجب الإيمان بها كلهــا واتبــاع ما تتضمن من المعنى علماً وعملاً، لا يجوز ترك موجب إحداها لأجل الأخرى)[1]. وعلى ذلك؛ فإن قوله - تعالى -: {وَقَرْنَ} يعبر عن الحالة أو الكيفية التي تكون عليها المرأة في البيت فهي في استقرار دائم وما يتبع ذلك الاستقرار من الطمأنينة وعدم الاضطراب أو القلق، وقراءة (وقِرن) تدل على السكينة والوقار الذي يصاحب الاستقرار والإقامة، ولو جاء التعبير بلفظ (الْزَمْنَ) أو (احتبسْنَ) أو (ابقيْنَ) لأدَّت تلك الألفاظ معنى البقاء في البيت لكنها لن تؤدي معنى الراحة والسكينة والطمأنينة والوقار، وهكذا البيت بالنسبة للمرأة في ميزان الشرع. وقد رشح نظم الآية استقرار المرأة في البيت وذلك بقوله - تعالى -: {فِي بُيُوتِكُنَّ} ولم يقل في البيوت، فأضاف البيوت إلى النساء إضافة تمليك مع أن البيوت في غالب الأحوال ملك الرجل أو مستأجرة عن طريقه - لأن سكن الزوجة ونفقتها تلزم الزوج - وهذه الإضافة تشعر اختصاص المرأة بالقرار في البيوت، فلما اختصت بذلك أنزلتها الآية منزلة المالك للبيت، فإضافته إليها للدلالة على الترابط الوثيق بين المرأة والبيت، وقد نبَّه على هذا المعنى وأشار إليه - فيما يظهر لي - الإمام البخاري - رحمه الله تعالى - حيث بوَّب في صحيحه على تلك الآية فقال: (باب ما جاء في بيوت أزواج النبــي - صلى الله عليه وسلم - وما نسب من البيوت إليهن، وقول الله - تعالى -: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ} و {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: ٣٥]) فبيَّن البخاري - رحمه الله تعالى - أن البيوت على الحقيقة هي بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - بــدليــل قولــه - تعالــى -: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} ومع ذلك فقد أضيفت البيوت إلى أزواجه - صلى الله عليه وسلم - في قوله - تعالى -: {فِي بُيُوتِكُنّ}. وقد جاءت إضافة البيت إلى المــرأة في أربعة مواضع من كتاب الله - تعالى - وهي على ترتيب المصحف كما يلي:
الأول: قوله - تعالى -: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ} [يوسف: ٣٢].
الثاني: قوله - تعالى -: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ}[الأحزاب: ٣٣].
الثالث: قوله - تعالى -: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: ٤٣].
الرابع: قوله - تعالى -: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: ١].
وهناك موضع خامس لم يضف فيه البيت إلى المــرأة وهو قوله - تعالى -: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْـمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } [النساء: ٥١] ولم يقل المولى - جل وعلا -: بيوتهن، وربما كان السبب في ذلك أنها خانت فلم تحافظ على شرف البيت وطهارته، فلذلك لم تستحق أن يضاف إليها.
ثم جاء بعد ذلك ترشيح آخر لاستقرار النساء في البيوت وهـو النهـي عـن التـبـرج الــوارد فـي قـولـه - تعالـى -: {وَلا تَبَرَّجْنَ} [الأحزاب: ٣٣] فكأن عدم القرار في البيت وكثرة الخروج بغير مسوِّغ شرعي يؤدي إلى تبرج المرأة وإظهار زينتها للرجال، وعلى ذلك فإن تركيب ألفاظ الآية قد انتظم حضَّ المرأة على القرار في البيت من ثلاثة أوجه:
الأول: التعبير عن ذلك بالقرار الذي فيه الراحة والوقار والطمأنينة.
الثاني: إضافة البيوت إليهن للدلالة على الارتباط الوثيق بين المرأة والبيت.
الثالث: النهي عن التبرج الذي غالباً ما يكون الخروج من البيت سبباً فيه أو مدعاة له، فكأن عدم القرار في البيت من الوسائل المعينة على التبرج.
يتبين مما تقدم أن قرار المرأة في بيتها هو الأصل وهو العزيمة التي ينبغي على كل امرأة أن تحرص عليها، والتي ينبغي على كل ولي أمر أن يحضها عليها ويلزمها بها، إذا لم تلزم نفسها بذلك، ومما يدل على ذلك الأصل أيضــاً ما أخرجه البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «خرجت سودة بعدما ضُرِبَ الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب فقال: يا سودة! أما والله ما تخفين علينا؛ فانظري كيف تخرجين! قالت: فانكفأتْ راجعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عَرْق، فدخلت فقالت: يا رسول الله! إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر: كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه ثم رُفِعَ عنه، وإن العَرْق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أُذِنَ لَكُنَّ أن تخرجن لحاجتكن»[2]. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه قد أُذِنَ لَكُنَّ أن تخرجن لحاجتكن» يدلّ على أن الإذن بالخروج مقيَّد بالحاجة؛ فما لم تكن هناك حاجة فالخروج غير مأذون فيه، وهو يبين أن مستقر المرأة إنما هو بيتها، وأن الخروج منه إنما هو أمر عارض في نطاق الحاجة التي أَذِنَ الشرع بها.
يردد أصحاب الفكر النسوي (النساء والرجال) المتغربون أن الحديث عن قرار المرأة في بيتها إنما يعبر عن رغبة بعض الرجـال في التسلـط على النــساء، وإرجاعهن إلى ما يسمونه بـ (عصر الحريم)، أو عن عـــدم الثقة في المـــرأة، أو أن هذا مما يضعف من شخصية المرأة ويحط من قـــدرها ويزري بمكانتها ويمنعها من حقوقها، وأن هذا من التمــييز ضــد المــرأة، أو ما يسمونه بـ (دونية) المـــرأة في المجتمـع الإســـلامي. ولا شك أن هذا رأي خاطئ وظن فاسد، ونقول لهؤلاء: إن الكلام عن قرار المرأة في البيت ليس مجـــرد تصـــور شخصي أو رؤية فردية إنما هو حديث عن حكم شرعي ثبت بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة الثابتة، وما كان كذلك فلا يقال عنه: إن فيه ازدراءً للمرأة وإضعافاً لشخصيتها إلى غير ذلك من الكلمات الشاردة الخاطئة التي لا يرددها إلا من لم يجعل النصوص الشرعية حَكَماً على تصرفات الناس.
فوائد قرار المرأة في البيت:
ولقرار المرأة في بيتها فوائد عظيمة تعود على المرأة نفسها كما تعود على أسرتها وعلى المجتمع الذي تعيش فيه؛ فأُولى تلك الفوائد وأعلاها وأزكاها وأجلُّها: طاعة الله مولاها ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الجالبة لرضوان الله وتوفيقه وتسديده، ومنها: التفرُّغ لرعاية الزوج، والتفقد لمواضع رضاه وغضبه واحتياجاته والقيام بواجبها نحوه، ومنها: التفرغ لرعاية أولادها من البنين والبنات وتربيتهم والإحسان إليهم والقيام على شؤونهم ومتابعة أمورهم وعــدم تـرك ذلك للخــادمات أو الخدم، ومنها: التفقد لبيتها واحتياجاته ولوازمه والإشراف على نظافته وطهارته وترتيبه، ومنها: حفظ الوقت الذي هو من أثمن الأشياء، فالوقت هو العمر من حافظ عليه حفظ عمره ومن ضيَّعه ضيَّع عمره، فينفعها ذلك في توفير الوقت للاطلاع على الكتب النافعة المفيدة التي تزيدها علماً وإيماناً وكذلك الاستماع إلى الأشرطة المفيدة، ومنها: إراحة الجسد من تعب الخروج والانتقال، ومنها: القدوة الحسنة لغيرها من النساء القريبات أو الجارات مما قد يحملهن على الاقتداء بها فيعود عليها من وراء ذلك النفع الكثير والأجر العظيم.
كما أن قرار المرأة في بيتها يحفظ عليها دينها ويصونها، ويكف شرها عن الناس وشر الناس عنها، وتأمن بذلك أذيَّة الناس لها وشرهم؛ سواء بالنظر إليها، أو التحــدث معهــا، أو التضييق عليها في الطرقات.
حالات الخروج المأذون فيها:
وقرار المرأة في بيتها لا يعني عدم خروجها منه أبداً بل تخرج للحاجة كما دل على ذلك حديث عائشة - رضي الله عنها - السابق. والحاجة هذه قد تكون حاجة دينية وقد تكون حاجة دنيوية كما أنها قد تكون حاجــة المــرأة إلـى الخروج أو حاجة المجتمع إلى خروجها، ولذلك أمثلة متعددة:
1 - فمن ذلك: الخروج للصلاة في المسجد بعد استئذان الزوج أو الولي، وإن كانت صلاتها في بيتها خير لها وأفضل.
2 - ومن ذلك: الخروج لطلب العلم الشرعي المطلوب منها علمه والعمل به إذا لم تتمكن المرأة من تحصيله عن طريق الأب أو الأخ أو الزوج أو الَمحْرَم، أو عن طريق الكتاب والشريط، ولم يمكنها تحصيل العلم الواجب عليها تعلُّمه إلا بالخروج إلى مجلس العلم؛ فإن الخروج حينئذ يكون لطلب علمِ ما أُمرت به أو نُهيت عنه وهذا من الحوائج الشرعية.
3 - ومن ذلك: الخروج لصلاة العيدين، وقد ورد التأكيد على ذلك في السنة الصحيحة، حتى إن بعض أهل العلم يذهب إلى وجوبه.
4 - ومن ذلك: الخروج لحضور العرس والمناسبات الاجتماعية، وقد بوَّب البخاري باباً في صحيحه فقال: باب: ذهاب النساء والصبيان إلى العرس، قال ابن حجر - رحمه الله -: (كأنه ترجم بهذا لئلا يتخيل أحد كراهة ذلك، فأراد أنه مشروع بغير كراهة)[3]، لكن ذلك مقيد بعدم وجود المنكر في الأعراس؛ فإن كان فيها منكر فعليها أن تعمل على إزالته، فإذا لم تكن قادرة على ذلك فلا ينبغي لها الذهاب.
5 - ومن ذلك: الخروج لحاجتها الدنيوية أو الدينية من عمل مشروع ونحوه قد تحتاج المرأة إليه أو يحتاجه منها المجتمع، كما خرجت ابنتا الرجل الصالح لسقي الأنعام؛ إذ كان أبوهما شيخاً كبيراً كما ورد في قصة موسى - عليه السلام - وكما كانت تخرج بعض النساء مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد يسقين الماء ويداوين الجرحى.
وينبغي للمرأة عند الخروج - إذا احتاجت إليه - ألا تخرج متبرجة كاشفة عن زينتها أو بعضها، ولا أن تقوم بعمل مما يـدل على الزينة المخفية، أو تخرج متعطرة، بل عليها أن تخـرج بغيـر ذلك؛ فالعطر من المرأة فتنة قد يدفع إلى ما لا تحمد عقباه، ولذا جاء في الحديث: «إذا استعطرت المرأة فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا، قال قولاً شديداً، وفي رواية: فهي زانية»[4]، ولتكن مشيتها سوية بغير تكسُّر أو تهتُّك، بل تكون مستقيمة في مشيتها إلى حيث تريد، يزينها الحياء كما جاء في وصف ابنة الرجل الصالح التي أتت إلى موسى - عليه السلام - تدعوه لمقابلة أبيها قال - تعالى -: {فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص: ٥٢]، وإذا احتاجت إلى الكلام مع الرجال فليكن الكلام بغير خضوع أو ليونة في الحديث، ولا تكتمل الصيانة في الجانب الاجتماعي إلا بغضِّ البصر، فيغضُّ الرجل بصره عن المرأة، وتغضُّ المرأة بصرها عن الرجل.
والخروج من غير حاجة له مفاسد كثيرة، فمن ذلك:
- تبذُّل المرأة واضطرارها للتحدث مع الرجال الأجانب.
- حدوث الاختلاط بين الرجال والنساء.
- إضاعة الأوقات.
- حدوث الخلافات الأسرية.
- تشتت الأولاد وتعرضهم للضياع.
- تعرض النساء للأذى من الفسّاق.
- حدوث الخلوة المنهي عنها إذا ركبت مع السائق بمفردها.
- الوقوع في التبرج والسفور نظراً إلى كثرة الــخــروج، أو على الأقل التعرض لانكشاف شيء منها نظراً إلى ذلك.
ثانياً: منع الاختلاط عند الخروج: مـــ ماجده ـلاك الروح