الجهاد الكبير
د. سلمان بن فهد العودة
الجهاد.. موضوع ملأ الدنيا وشغل الناس والعالم، وتنازعت فيه أطراف شتى؛ طرف عالمي ودولي يحاول تعريف الجهاد على أنه رديف للإرهاب والعنف، ويحاول أن يفرغ الإسلام من مفهومه الحقيقي المتعلق بالجهاد، وكأنه يُراد لدين الإسلام أن يُصوّر على أنه دين وديع، وليس لديه القدرة على الدفاع ولا المقاومة، أو كأنه مخلوق أعزل في دنيا متشابكة، ولا أدوات لديه للدفاع عن نفسه؛ فهو يدير خده الأيسر لمن صفعه على خده الأيمن، بكل استسلام وغباء!
وبالمقابل هناك أطراف إسلامية من المتحمسين الذي يتناولون موضوع الجهاد ليسقطوه على ساحة معينة، وعلى ظرف خاص وأداء معين؛ فينزلون المفهوم الشرعي على هذا الواقع المخصوص على أنه التفسير الشرعي للجهاد، بل على أنه التفسير الوحيد لحقيقة الجهاد بسبب التوتر السياسي والاحتقان والمزاج الحزين للواقع الإسلامي العام.
الكثير من الناس لا يرى في لفظ "الجهاد" إلا أنه رديف القتال، فهل هذا هو الاستخدام القرآني العام للفظ الجهاد؟ أو أنه اختزال واختصار لمعنى كبير؟
إن أول آية ورد فيها ذكر الجهاد في القرآن الكريم كانت بمكة، وهي قول الله تعالى: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)، (وَجَاهِدْهُم بِهِ) أي بالقرآن، وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن والسنة الذي وصف الجهاد بأنه كبير.
إذاً فالجهاد الكبير هو جهاد الحجة والبرهان والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والإصلاح والصبر على الحق..
هذا هو الجهاد الأكبر بغض النظر عما يُروى في ذلك من آثار قد تكون ضعيفة، وهذه الآية نزلت في مكة قبل أن يهاجر المسلمون إلى المدينة، وقبل أن يُؤمروا بقتال , هذا الجهاد الكبير العظيم جهاد الحياة كما يقول محمد إقبال:
جهادُ المسلمين لهم حياة ألا إنّ الحياة هي الجهادُ
والحياة كما يقول شوقي: (عقيدة وجهاد)، فللحياة جهادها الكبير العظيم، فمواجهة المشكلات الواقعية وممارسة الإصلاح الداخلي والخارجي، العام والخاص، وامتهان الدعوة والاجتهاد والاستنباط وتعلم القرآن وتعليمه وفهم الواقع لذلك..
كل هذا من أوجه هذا الجهاد الكبير.
وهناك جهاد القلب بالصبر والدعوة، ومراعاة المعاني الشرعية والمصالح، وجهاد العقل والإبداع والابتكار والفهم والوعي الراشد والمقاومة بالحيلة، فقد يدرك الإنسان بعقله ما لا يدركه بيده، بل إن الجهاد باليد (القتال) لا ينفع ما لم يكن مدعوماً برؤية عقلية ونظرة وبصيرة، وماذا ينفع تحرير الأرض إن لم يتم تحرير الإنسان من الوهم والجهل والخرافة والتخلف والضعف والمهانة.
إن الإسلام دين واقعي، يعترف بأن الحرب جزء من الحياة البشرية، لكنه لا يدعو إلى استخدام العنف في التغيير والإصلاح، يقول الله سبحانه: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)، فالدعوة إلى الإصلاح هي الأصل، حتى مع الكفار، فـالكفر ليس مسوّغاً للقتل، يقول سبحانه: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ).[التوبة: من الآية6]، فهو يأمر بحفظه ورعايته أيضاً، والذي يسوّغ الحرب القتالية في الإسلام هو العدوان، فعند ذلك يصبح القتال مشروعاً، والذين يريدون أن يلغوا فكرة القتال في الإسلام نهائياً يريدون أن يقضوا على قوة هذا الدين العسكرية للدفاع، كما فعل رجالات الإسلام المناهضون للاستعمار الذي ألمّ بالعالم الإسلامي كله من المغرب إلى مصر إلى الشام إلى بعض بلاد الجزيرة العربية.
ومقصد القتال هنا هو حماية المشروع الإسلامي، وحماية الإسلام والمسلمين، والحماية تعني المقاومة، فالمقاومة في الإسلام ومدافعة المحتلين والغزاة قدر متفق عليه في الأصل عند المسلمين وعند غير المسلمين، فكل الأمم تؤمن بأن من حقها مقاومة من يغزوها أو يحتل أرضها، وينهب خيراتها، ويعتدي على حرماتها في الوقت الذي يحرّم الإسلام فيه شتى أنواع العدوان، يقول الله جل وعلا: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ).
إن كل ذلك حق مشروع مكفول، أما أن يتحول "الجهاد" إلى احتراف قتالي وعسكري لا يستثني أحداً فهو تشويه لمفهومه، وجهل بحقيقة هذا الدين؛ فإن الله أنزل آدم ليحيا، ويعبد الله، فكانت أول خطيئة على الأرض هي القتل؛ فبقاء الناس على ظهر الأرض وحياتهم وطول أعمارهم مقصد ديني عظيم؛ ليحيا الناس و يستمتع بهم أهلوهم، وينتفعوا بهم، وليعبدوا الله سبحانه وتعالى، وليعمروا الأرض، ويدعوا إليه على بصيرة.
وأخيراً فإن الإسلام ينحاز للحياة بوضوح، وأما الموت في سبيل الله فمطلب له ظرفه ومكانه وشرطه، فالحياة في سبيل الله مطلب أعظم، ومن لم يتقن فن الحياة في سبيل الله فلن يتقن فن الموت في سبيله.
فالإسلام دين الحياة بكل ما تحمله من هِـنات، وبكل ما تزدان به من هبات؛ إذ إن كفاحها ومعاصرتها جزء رئيس من هذا الجهاد الكبير
د. سلمان بن فهد العودة
الجهاد.. موضوع ملأ الدنيا وشغل الناس والعالم، وتنازعت فيه أطراف شتى؛ طرف عالمي ودولي يحاول تعريف الجهاد على أنه رديف للإرهاب والعنف، ويحاول أن يفرغ الإسلام من مفهومه الحقيقي المتعلق بالجهاد، وكأنه يُراد لدين الإسلام أن يُصوّر على أنه دين وديع، وليس لديه القدرة على الدفاع ولا المقاومة، أو كأنه مخلوق أعزل في دنيا متشابكة، ولا أدوات لديه للدفاع عن نفسه؛ فهو يدير خده الأيسر لمن صفعه على خده الأيمن، بكل استسلام وغباء!
وبالمقابل هناك أطراف إسلامية من المتحمسين الذي يتناولون موضوع الجهاد ليسقطوه على ساحة معينة، وعلى ظرف خاص وأداء معين؛ فينزلون المفهوم الشرعي على هذا الواقع المخصوص على أنه التفسير الشرعي للجهاد، بل على أنه التفسير الوحيد لحقيقة الجهاد بسبب التوتر السياسي والاحتقان والمزاج الحزين للواقع الإسلامي العام.
الكثير من الناس لا يرى في لفظ "الجهاد" إلا أنه رديف القتال، فهل هذا هو الاستخدام القرآني العام للفظ الجهاد؟ أو أنه اختزال واختصار لمعنى كبير؟
إن أول آية ورد فيها ذكر الجهاد في القرآن الكريم كانت بمكة، وهي قول الله تعالى: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)، (وَجَاهِدْهُم بِهِ) أي بالقرآن، وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن والسنة الذي وصف الجهاد بأنه كبير.
إذاً فالجهاد الكبير هو جهاد الحجة والبرهان والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والإصلاح والصبر على الحق..
هذا هو الجهاد الأكبر بغض النظر عما يُروى في ذلك من آثار قد تكون ضعيفة، وهذه الآية نزلت في مكة قبل أن يهاجر المسلمون إلى المدينة، وقبل أن يُؤمروا بقتال , هذا الجهاد الكبير العظيم جهاد الحياة كما يقول محمد إقبال:
جهادُ المسلمين لهم حياة ألا إنّ الحياة هي الجهادُ
والحياة كما يقول شوقي: (عقيدة وجهاد)، فللحياة جهادها الكبير العظيم، فمواجهة المشكلات الواقعية وممارسة الإصلاح الداخلي والخارجي، العام والخاص، وامتهان الدعوة والاجتهاد والاستنباط وتعلم القرآن وتعليمه وفهم الواقع لذلك..
كل هذا من أوجه هذا الجهاد الكبير.
وهناك جهاد القلب بالصبر والدعوة، ومراعاة المعاني الشرعية والمصالح، وجهاد العقل والإبداع والابتكار والفهم والوعي الراشد والمقاومة بالحيلة، فقد يدرك الإنسان بعقله ما لا يدركه بيده، بل إن الجهاد باليد (القتال) لا ينفع ما لم يكن مدعوماً برؤية عقلية ونظرة وبصيرة، وماذا ينفع تحرير الأرض إن لم يتم تحرير الإنسان من الوهم والجهل والخرافة والتخلف والضعف والمهانة.
إن الإسلام دين واقعي، يعترف بأن الحرب جزء من الحياة البشرية، لكنه لا يدعو إلى استخدام العنف في التغيير والإصلاح، يقول الله سبحانه: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)، فالدعوة إلى الإصلاح هي الأصل، حتى مع الكفار، فـالكفر ليس مسوّغاً للقتل، يقول سبحانه: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ).[التوبة: من الآية6]، فهو يأمر بحفظه ورعايته أيضاً، والذي يسوّغ الحرب القتالية في الإسلام هو العدوان، فعند ذلك يصبح القتال مشروعاً، والذين يريدون أن يلغوا فكرة القتال في الإسلام نهائياً يريدون أن يقضوا على قوة هذا الدين العسكرية للدفاع، كما فعل رجالات الإسلام المناهضون للاستعمار الذي ألمّ بالعالم الإسلامي كله من المغرب إلى مصر إلى الشام إلى بعض بلاد الجزيرة العربية.
ومقصد القتال هنا هو حماية المشروع الإسلامي، وحماية الإسلام والمسلمين، والحماية تعني المقاومة، فالمقاومة في الإسلام ومدافعة المحتلين والغزاة قدر متفق عليه في الأصل عند المسلمين وعند غير المسلمين، فكل الأمم تؤمن بأن من حقها مقاومة من يغزوها أو يحتل أرضها، وينهب خيراتها، ويعتدي على حرماتها في الوقت الذي يحرّم الإسلام فيه شتى أنواع العدوان، يقول الله جل وعلا: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ).
إن كل ذلك حق مشروع مكفول، أما أن يتحول "الجهاد" إلى احتراف قتالي وعسكري لا يستثني أحداً فهو تشويه لمفهومه، وجهل بحقيقة هذا الدين؛ فإن الله أنزل آدم ليحيا، ويعبد الله، فكانت أول خطيئة على الأرض هي القتل؛ فبقاء الناس على ظهر الأرض وحياتهم وطول أعمارهم مقصد ديني عظيم؛ ليحيا الناس و يستمتع بهم أهلوهم، وينتفعوا بهم، وليعبدوا الله سبحانه وتعالى، وليعمروا الأرض، ويدعوا إليه على بصيرة.
وأخيراً فإن الإسلام ينحاز للحياة بوضوح، وأما الموت في سبيل الله فمطلب له ظرفه ومكانه وشرطه، فالحياة في سبيل الله مطلب أعظم، ومن لم يتقن فن الحياة في سبيل الله فلن يتقن فن الموت في سبيله.
فالإسلام دين الحياة بكل ما تحمله من هِـنات، وبكل ما تزدان به من هبات؛ إذ إن كفاحها ومعاصرتها جزء رئيس من هذا الجهاد الكبير