السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حائرة ومهمومة؛ وذلك لأن أمي تأخذ مني وقتي كله، حيث إنها تسكن في بيت والدي المتوفى، علمًا أن لديها خادمة تقوم بشؤون بيتها، وأزورها أكثر الأوقات مع الاتصال بها، وأقوم بشؤونها، إلا أنها دائمة الضجر والملل، وتتعذر بأمور لكي تخرج لتقضي وقتها، وأنها كثيرة الاتصال بي وفي أي وقت، وتعتمد علي في كل صغيرة وكبيرة، علمًا أنني متزوجة ولدي أولاد، وليست لدي خادمة تقوم بخدمة البيت، ولا أحب الخروج في معظم الأوقات، وأحب أن أجلس وأهتم بشؤون بيتي. فهل أستجيب لها في أي وقت وأخرج رغم أن زوجي لا يرغب خروجي في بعض الأوقات؟ (وهو ليس رافضًا ولكنه متضجر لكثرة طلبها)، أريد أعرف ما واجباتي تجاه والدتي، وما حقوقها علي، وما حقوقي عليها، حيث إنني في بعض الأوقات أتضجر لكثرة طلبها. وهل عندما أرفض الاستجابة لها اعتبر غير بارة بها؟
الحمد لله وحده، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمين، أما بعد:
قد أحسنتِ صنعاً لقيامك على حاجة والدتك، وزياراتك لها، والقيام بشؤونها، فهذا خير ما تُقَدِّميه لحياتك الباقية، فوالدتك -كما تعلمين- قد بذلت لكِ مالا تستطيعين وفاءه مهما بذلتِ؛ فبطنها كان لكِ وِعَاء، وَثَدْيِها كان لكِ سِقَاء، وَحِجْرِها كان لكِ حِوَاء، ولذا كانت الجنَّة تحتَ رجلها (الزم رجلها فثم الجنة) (صحيح الجامع)، وهي الأحق بك، فعن أبي هريرة رَضِيَ الله عَنْهُ قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك. وفي رواية لمسلم: (أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك).
جاء في شرح النووي على مسلم: (قَالَ الْعُلَمَاء: وَسَبَب تَقْدِيم الْأُمّ كَثْرَة تَعَبهَا عَلَيْهِ، وَشَفَقَتهَا، وَخِدْمَتهَا، وَمُعَانَاة الْمَشَاقّ فِي حَمْله، ثُمَّ وَضْعه، ثُمَّ إِرْضَاعه، ثُمَّ تَرْبِيَته وَخِدْمَته وَتَمْرِيضه، وَغَيْر ذَلِكَ).
فبارك الله لكِ يا ابنة الأصول، وأقرَّ الله عينكِ ببر أولادك بك، وجمعك ومن تُحبين في جنات رب العالمين، كيف وقد قٌمْتِ بأفضل الأعمال بعد الصلاة، فعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) رواه البخاري.
أختي الكريمة..
والدتك حفظها الله ورعاها تَمُر بمرحلة الشيخوخة، وهي التي أشار إليها المولى سبحانه وتعالى بقوله: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ" [الروم:54].
وهذه المرحلة تبدأ من سن (60)، تزيد قليلاً، أو تنقص قليلاً، يصاحبها تغيرات جسمية، واجتماعية، ونفسية، وعقلية، وفسيولوجية، وانفعالية، ومن أبرز خصائص هذه المرحلة: الشعور الشديد بنهاية العمر، وبالعزلة الاجتماعية، وبالصعوبة الشديدة في حل المشكلات، مع عدم القدرة على ضبط الانفعالات، كما أن صاحبها يهتم بنفسه، ويعشق ذاته.
والذي يهمنا هنا في الجانب الاجتماعي؛ هو أن حياة المسن الاجتماعية تتميز بفراغ كبير، نظراً لانشغال أولاده في شؤون حياتهم الخاصة، وصعوبة تنقلاته، الأمر الذي يشكِّل ضيقاً أحياناً لدى أفراد أسرته، ومواقف سلبية في تعاملهم معها.
ومن هنا أوصيك بالتالي:
1- ابذلي ما استطعتِ لوالدتك، أفيضي عليها ما استطعتِ من برٍّ وصلة، وخدمة واستجابة، أدخلي السرور عليها، أحيطيها برعاية خاصة ما استطعتِ إلى ذلك سبيلاً، فقد بَذَلَتْ لكِ يوماً كلَّ عافيتها، واهتمامها، وجهدها؛ حتى أمست إلى شيخوخة، ضعيفة كسيرة، تحتاج إلى عناية خاصة، ورعاية مباشرة، دون أن تشعر بما يدل على أنها سبب في مضايقتكم أو ضجركم، ودون أن تسمع كلمة هنا أو هناك ليس فيها كمال الأدب والاحترام لمكانتها، إنها الآن باب موصول إلى مرضاة الله ونعمائه، حبل ممدد إلى الجنة، سبب بإذن الله للبركة في حياتكم، والاطمئنان في أسرتكم، ولذا لا تُفكِّري في حقوق بينكِ وبينها، "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا" [الإسراء:24].
يقول صاحب الظلال رحمه الله: (ثم يأخذ السياق في تظليل الجو كله بأرق الظلال؛ وفي استجاشة الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب والعطف والحنان:
"إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما".. والكبر له جلاله، وضعف الكبر له إيحاؤه؛ وكلمة (عندك) تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف.. "فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما" وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يبدر من الولد ما يدل على الضجر والضيق، والإهانة وسوء الأدب.. "وقل لهما قولاً كريماً" وهي مرتبة أعلى إيجابية أن يكون كلامه لهما بشيء من الإكرام والاحترام.. "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة" وهنا يشف التعبير ويلطف، ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان. فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عيناً، ولا يرفض أمراً. وكأنما للذل جناح يخفضه إيذاناً بالسلام والاستسلام. "وقل: رب ارحمهما كما ربياني صغيرا" فهي الذكرى الحانية. ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان. وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع، ورعاية الله أشمل، وجناب الله أرحب. وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء).
2- جميل جداً ما ذكرت من بذلك لوالدتك، وزياراتك المتواصلة معها، وحرصك على تأمين احتياجاتها، فَنِعْمَ البنت أنتِ، ونعم الأصل أصلك، وأما بشأن طلباتها الإضافية، فإن استطعت القيام بها، فَبِرٌ منكِ وإحسان، وإن تعارض هذا مع واجباتك تجاه زوجك وأولادك، فيقول مولانا الرحيم: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" [البقرة:286]، ويمكنك التنسيق مع إخوتك أو أخواتك إن كان أحد منهم موجوداً، لسد هذه الحاجة، فإن لم يكن هناك أحد، فعليك بالابتسامة والكلمة الطيبة، فذاك خير ما تقدمين إلى والدتك مع جهدك ورعايتك.
لا تحملي همَّ طلباتها الأخرى التي لا تستطيعين تلبيتها، ولا تتضجَّري وتسخطي، ولا تحتاري وتهتمي، فأنت على خير، وإلى خير بإذن الله، ابتسامتك عنوان استجابتك، وكلماتك الطيبة دليل برِّك وتواصلك، (أبشري يا أمي، أنت الخير والبركة يا أمي، سأعمل على تحقيق طلبك يا غالية، الله لا يحرمنا منك ومن ابتسامتك ودعواتك يا نور البيت) وهكذا من الكلمات التي تُعبِّر عن ارتياحك ورغبتك في التواصل معها.
وإذا رأيتِ أنَّك تبذلين ما تستطيعين لوالدتك، وتعارض أمر ما، بين والدتك وزوجك، فقدِّمي أمر زوجك، واعتذري لوالدتك بكلمة طيبة، ووعد بتحقيق أمرها قريباً، سَدِّدي وقاربي ، فليس مطلوباً منك الاستجابة المباشرة لكل أمر تطلبه والدتك، مادام يتعارض مع واجبات أخرى في حقِّك، ثمَّ قَدِّري لكل طلب قدره، فبعض الاحتياجات يصعب تأجيلها، ويترتب على الإخلال بالمبادرة إليها مفاسد، وبعضها الآخر يَسَعك التأجيل، أو الاعتذار عنه بلطف، مع وصيتي ألا تُبدين هذا التعارض بينهما، حتى لا يكون في نفوس بعضهما على بعض شيء لا تُحبين.
3- (من يفعل المعروف لا يعدم جوازيه.. لا يذهب العرف بين الله والناس)، احتسبي بنيَّة صادقة الأعمال التي تقدميها لوالدتك، واستمتعي غاية الاستمتاع بفضل الله عليك أن جعلك بارَّة بوالدتك، دعي عنك وساوس الشيطان الرجيم بما يجعله في نفسك من الحيرة والهموم، ابتسمي، فالأم نعيم لا يعرفه إلا من حُرِمه، ابتسمي، فما دُمتِ في خدمة والدتك، فأنت بإذن الله تنعمين بمرضاة الله، وفضله، ورحمته،
وتبنينَ لكِ غِراساً يانعة في الدار الآخرة، وتأمَّلي ما جاء من فضائل بر الوالدين:
- هو سبب لإجابة الدعاء، كما في قصة أصحاب الغار في صحيح مسلم.
- هو سبب لمرضاة الله، جاء في شعب الإيمان، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين".
- هو سبب لتكفير السيئات، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ قَالَ هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ قَالَ لَا قَالَ هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ: فَبِرَّهَا.
- هو سبب للبركة وزيادة الرزق، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" رواه البخاري.
بل إني لأرجو أن تكون خدمتك لوالدتك، ومتابعتك لتأمين احتياجاتها، وإدخال السرور عليها؛ ضرب من ضروب الجهاد، قال صلى الله عليه وسلم: "وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله" صححه الألباني رحمه الله.
بارك الله لك في أولادك، وأقرَّ عينك بصلاحهم وفلاحهم وبرِّهم ونجاحهم، وأسعدك في الدنيا والآخرة ، والله أعلم، وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أ / عادل بن سعد الخوفى
ماجده
حائرة ومهمومة؛ وذلك لأن أمي تأخذ مني وقتي كله، حيث إنها تسكن في بيت والدي المتوفى، علمًا أن لديها خادمة تقوم بشؤون بيتها، وأزورها أكثر الأوقات مع الاتصال بها، وأقوم بشؤونها، إلا أنها دائمة الضجر والملل، وتتعذر بأمور لكي تخرج لتقضي وقتها، وأنها كثيرة الاتصال بي وفي أي وقت، وتعتمد علي في كل صغيرة وكبيرة، علمًا أنني متزوجة ولدي أولاد، وليست لدي خادمة تقوم بخدمة البيت، ولا أحب الخروج في معظم الأوقات، وأحب أن أجلس وأهتم بشؤون بيتي. فهل أستجيب لها في أي وقت وأخرج رغم أن زوجي لا يرغب خروجي في بعض الأوقات؟ (وهو ليس رافضًا ولكنه متضجر لكثرة طلبها)، أريد أعرف ما واجباتي تجاه والدتي، وما حقوقها علي، وما حقوقي عليها، حيث إنني في بعض الأوقات أتضجر لكثرة طلبها. وهل عندما أرفض الاستجابة لها اعتبر غير بارة بها؟
الحمد لله وحده، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمين، أما بعد:
قد أحسنتِ صنعاً لقيامك على حاجة والدتك، وزياراتك لها، والقيام بشؤونها، فهذا خير ما تُقَدِّميه لحياتك الباقية، فوالدتك -كما تعلمين- قد بذلت لكِ مالا تستطيعين وفاءه مهما بذلتِ؛ فبطنها كان لكِ وِعَاء، وَثَدْيِها كان لكِ سِقَاء، وَحِجْرِها كان لكِ حِوَاء، ولذا كانت الجنَّة تحتَ رجلها (الزم رجلها فثم الجنة) (صحيح الجامع)، وهي الأحق بك، فعن أبي هريرة رَضِيَ الله عَنْهُ قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك. وفي رواية لمسلم: (أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك).
جاء في شرح النووي على مسلم: (قَالَ الْعُلَمَاء: وَسَبَب تَقْدِيم الْأُمّ كَثْرَة تَعَبهَا عَلَيْهِ، وَشَفَقَتهَا، وَخِدْمَتهَا، وَمُعَانَاة الْمَشَاقّ فِي حَمْله، ثُمَّ وَضْعه، ثُمَّ إِرْضَاعه، ثُمَّ تَرْبِيَته وَخِدْمَته وَتَمْرِيضه، وَغَيْر ذَلِكَ).
فبارك الله لكِ يا ابنة الأصول، وأقرَّ الله عينكِ ببر أولادك بك، وجمعك ومن تُحبين في جنات رب العالمين، كيف وقد قٌمْتِ بأفضل الأعمال بعد الصلاة، فعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) رواه البخاري.
أختي الكريمة..
والدتك حفظها الله ورعاها تَمُر بمرحلة الشيخوخة، وهي التي أشار إليها المولى سبحانه وتعالى بقوله: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ" [الروم:54].
وهذه المرحلة تبدأ من سن (60)، تزيد قليلاً، أو تنقص قليلاً، يصاحبها تغيرات جسمية، واجتماعية، ونفسية، وعقلية، وفسيولوجية، وانفعالية، ومن أبرز خصائص هذه المرحلة: الشعور الشديد بنهاية العمر، وبالعزلة الاجتماعية، وبالصعوبة الشديدة في حل المشكلات، مع عدم القدرة على ضبط الانفعالات، كما أن صاحبها يهتم بنفسه، ويعشق ذاته.
والذي يهمنا هنا في الجانب الاجتماعي؛ هو أن حياة المسن الاجتماعية تتميز بفراغ كبير، نظراً لانشغال أولاده في شؤون حياتهم الخاصة، وصعوبة تنقلاته، الأمر الذي يشكِّل ضيقاً أحياناً لدى أفراد أسرته، ومواقف سلبية في تعاملهم معها.
ومن هنا أوصيك بالتالي:
1- ابذلي ما استطعتِ لوالدتك، أفيضي عليها ما استطعتِ من برٍّ وصلة، وخدمة واستجابة، أدخلي السرور عليها، أحيطيها برعاية خاصة ما استطعتِ إلى ذلك سبيلاً، فقد بَذَلَتْ لكِ يوماً كلَّ عافيتها، واهتمامها، وجهدها؛ حتى أمست إلى شيخوخة، ضعيفة كسيرة، تحتاج إلى عناية خاصة، ورعاية مباشرة، دون أن تشعر بما يدل على أنها سبب في مضايقتكم أو ضجركم، ودون أن تسمع كلمة هنا أو هناك ليس فيها كمال الأدب والاحترام لمكانتها، إنها الآن باب موصول إلى مرضاة الله ونعمائه، حبل ممدد إلى الجنة، سبب بإذن الله للبركة في حياتكم، والاطمئنان في أسرتكم، ولذا لا تُفكِّري في حقوق بينكِ وبينها، "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا" [الإسراء:24].
يقول صاحب الظلال رحمه الله: (ثم يأخذ السياق في تظليل الجو كله بأرق الظلال؛ وفي استجاشة الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب والعطف والحنان:
"إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما".. والكبر له جلاله، وضعف الكبر له إيحاؤه؛ وكلمة (عندك) تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف.. "فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما" وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يبدر من الولد ما يدل على الضجر والضيق، والإهانة وسوء الأدب.. "وقل لهما قولاً كريماً" وهي مرتبة أعلى إيجابية أن يكون كلامه لهما بشيء من الإكرام والاحترام.. "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة" وهنا يشف التعبير ويلطف، ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان. فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عيناً، ولا يرفض أمراً. وكأنما للذل جناح يخفضه إيذاناً بالسلام والاستسلام. "وقل: رب ارحمهما كما ربياني صغيرا" فهي الذكرى الحانية. ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان. وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع، ورعاية الله أشمل، وجناب الله أرحب. وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء).
2- جميل جداً ما ذكرت من بذلك لوالدتك، وزياراتك المتواصلة معها، وحرصك على تأمين احتياجاتها، فَنِعْمَ البنت أنتِ، ونعم الأصل أصلك، وأما بشأن طلباتها الإضافية، فإن استطعت القيام بها، فَبِرٌ منكِ وإحسان، وإن تعارض هذا مع واجباتك تجاه زوجك وأولادك، فيقول مولانا الرحيم: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" [البقرة:286]، ويمكنك التنسيق مع إخوتك أو أخواتك إن كان أحد منهم موجوداً، لسد هذه الحاجة، فإن لم يكن هناك أحد، فعليك بالابتسامة والكلمة الطيبة، فذاك خير ما تقدمين إلى والدتك مع جهدك ورعايتك.
لا تحملي همَّ طلباتها الأخرى التي لا تستطيعين تلبيتها، ولا تتضجَّري وتسخطي، ولا تحتاري وتهتمي، فأنت على خير، وإلى خير بإذن الله، ابتسامتك عنوان استجابتك، وكلماتك الطيبة دليل برِّك وتواصلك، (أبشري يا أمي، أنت الخير والبركة يا أمي، سأعمل على تحقيق طلبك يا غالية، الله لا يحرمنا منك ومن ابتسامتك ودعواتك يا نور البيت) وهكذا من الكلمات التي تُعبِّر عن ارتياحك ورغبتك في التواصل معها.
وإذا رأيتِ أنَّك تبذلين ما تستطيعين لوالدتك، وتعارض أمر ما، بين والدتك وزوجك، فقدِّمي أمر زوجك، واعتذري لوالدتك بكلمة طيبة، ووعد بتحقيق أمرها قريباً، سَدِّدي وقاربي ، فليس مطلوباً منك الاستجابة المباشرة لكل أمر تطلبه والدتك، مادام يتعارض مع واجبات أخرى في حقِّك، ثمَّ قَدِّري لكل طلب قدره، فبعض الاحتياجات يصعب تأجيلها، ويترتب على الإخلال بالمبادرة إليها مفاسد، وبعضها الآخر يَسَعك التأجيل، أو الاعتذار عنه بلطف، مع وصيتي ألا تُبدين هذا التعارض بينهما، حتى لا يكون في نفوس بعضهما على بعض شيء لا تُحبين.
3- (من يفعل المعروف لا يعدم جوازيه.. لا يذهب العرف بين الله والناس)، احتسبي بنيَّة صادقة الأعمال التي تقدميها لوالدتك، واستمتعي غاية الاستمتاع بفضل الله عليك أن جعلك بارَّة بوالدتك، دعي عنك وساوس الشيطان الرجيم بما يجعله في نفسك من الحيرة والهموم، ابتسمي، فالأم نعيم لا يعرفه إلا من حُرِمه، ابتسمي، فما دُمتِ في خدمة والدتك، فأنت بإذن الله تنعمين بمرضاة الله، وفضله، ورحمته،
وتبنينَ لكِ غِراساً يانعة في الدار الآخرة، وتأمَّلي ما جاء من فضائل بر الوالدين:
- هو سبب لإجابة الدعاء، كما في قصة أصحاب الغار في صحيح مسلم.
- هو سبب لمرضاة الله، جاء في شعب الإيمان، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين".
- هو سبب لتكفير السيئات، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ قَالَ هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ قَالَ لَا قَالَ هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ: فَبِرَّهَا.
- هو سبب للبركة وزيادة الرزق، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" رواه البخاري.
بل إني لأرجو أن تكون خدمتك لوالدتك، ومتابعتك لتأمين احتياجاتها، وإدخال السرور عليها؛ ضرب من ضروب الجهاد، قال صلى الله عليه وسلم: "وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله" صححه الألباني رحمه الله.
بارك الله لك في أولادك، وأقرَّ عينك بصلاحهم وفلاحهم وبرِّهم ونجاحهم، وأسعدك في الدنيا والآخرة ، والله أعلم، وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أ / عادل بن سعد الخوفى
ماجده