محاضرة يلقيها سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المُدرّسي ـ دام ظله ـ بمكتبه في كربلاء المقدسة
العزّة من دون الله مآلها الذلّ والهزيمة
بسم الله الرحمن الرحيم
(لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدةٌ طيّبةٌ وربٌ غفور* فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العَرِم وبدّلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكلٍ خمطٍ وأثلٍ وشيءٍ من سدرٍ قليل* ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور).... آمنا بالله
صدق الله العلي العظيم.
التقدم كلمة والتخلف كلمة أيضاً ، إنك تجد الحضارات الشامخة في التاريخ فتستهويك وتنبهر بها وتظن انها هياكل خارجية، كلا انها ميراث عملٍ منظمٍ جدّي من امةٍ كبيرة، وعمل الانسان إنما هو نتيجة نيّتهِ وفكره وثقافته، فليس هناك عملٌ إلا بالنية، وإن لم تكن هناك نية وإرادة ومشيئة كيف يتحقق العمل؟ اذا كانت النيّةُ صالحةً وطيّبةً كان العملُ صالحاً وطيباً، كما قال ربّنا (قل كلٌ يعمل على شاكلته) وإذا كانت النية غير صالحة وخبيثة فان العمل الذي يصدر منها سيكون عملاً خبيثاً، (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربّه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً).
والمؤمنون الذين صفت قلوبهم وزكت نفوسهم وطهرت سرائرهم، صلحت أعمالهم، وهذه الاعمال الصالحة هي التي تتحول الى حضارات كبرى، فما بُنيت حضارة ولا تقدمت أمة إلا بكلمة طيبة، وبثقافةٍ طيّبة، وبنية طيبة لأنَّ (البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه)، وإذا أردتَ إصلاحَ حضارة وإصلاح امة وإيجاد تقدم فما عليك إلا أن تُصلح ثقافة الناس ونياتهم (فعلى نيّاتكم ترزقون) أمّا هدم الحضارات فهو الآخر لن يكون إلا ميراث الكلمة الخبيثة، والفكر الخبيث، والكفر بالله، والكفر بالقيم وثمرة السلوك الخاطئ.
فما الذي هدم حضارة الفراعنة في مصر؟ إنه شركهم بالله. وما الذي هدم حضارة عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وآخرين؟ إنه شركهم بالله أيضاً، فلقد أشركوا بالله وخبثت نيتهم فخبث عملهم فتهدمت حضارتهم. وكثير من هذه الحضارات استؤصلت ولم يبق منها أي أثر يُذكر، ويبحث علماء الآثار حالياً ليل نهار من أجل اكتشاف موقع حضارة (عاد). وقد اختلفوا في موطنها بالرغم من أنها كانت حضارة كبيرة جداً، فلقد بنوا المصانع وشيدوا القلاع فوق الجبال، وبنوا البيوت في السهول، وكانوا -حسب الآية الكريمة-: (وإذا بطشتم بطشتم جبارين) كانوا جبّارين مهيمنين على تلك المنطقة، لكن أين حلّ بهم الدهر؟ لقد أبيدوا عن بكرة أبيهم.
هناك حضارات لم تُستأصل ولكنها تقلّصت وتحولت إلى حضارات بسيطة، مثلما حدث في اليمن وقصة سد مأرب والسيل العرم، فقد منح ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ هذه المنطقة التي تقع في أطراف الجزيرة العربية والتي اشتهرت بالقحط والصراع على المياه الشحيحة والصراعات القبلية؛ حضارة شامخة سميت أثرها بـ (اليمن السعيدة) يأتيها الخير من كل مكان، حتى أن المرء لم يكن بحاجة إلى قطف الثمار بل كانت الثمار تتساقط على رؤوس المارة، بينما كان الأمن مستتباً ويتنقل الناس بين المناطق المتباعدة دون أن يتعرضوا للأذى أو قطاع الطرق، حيث إن جميع المناطق كانت مأهولة بالسكان، وهو ما كان عليه حال البصرة والكوفة أيضا، حيث كانت المسافة التي تفصلها عن الكوفة مأهولة بالسكان ومعمورة بالناس وبالزراعة وبالمدن، وقد أشار كتاب تأريخ التمدن الاسلامي لجورج زيدان إلى هذا المعنى وإلى الإزدهار الكبير الذي كانت تنعم به كل من بغداد والكوفة، فقد كان سكان الكوفة وحدها آنذاك يبلغ تسعة ملايين نسمة أي أضعاف ما عليه الآن، بينما كانت المناطق الزراعية والعمرانية منتشرة في الأرجاء، وعلى عكس ما عليه الآن حيث الصحارى الجرداء.
لقد اجتُثّت بعض الحضارات من الجذور وهي الحضارات الكافرة والمشركة، بينما تقلص البعض الآخر منها بسبب الانحرافات التي طرأت عليها، وربنا يحدثنا عن هذه الحضارات فيقول (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية) كانت قبائل، وربنا لا يسمي ذلك الموقع مساكن، بل يقول: في مسكنهم، ولعل السبب هو ان المنطقة كانت متصلة الى درجة عدّها مسكناً واحداً وهذا ما نستفيده من الآية الكريمة التالية حيث يقول ربنا (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير* سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا) يعني أنهم ما كانوا يرون الصحراء بل كانوا يرون العمارات دائماً، حتى أنهم سئموا الحياة المرفّهة فبدأوا يبحثون عن الصحارى والفيافي.
والسؤال هنا؛ لماذا يحن الانسان أحياناً الى التخلف؟.. لماذا يحن البعض إلى أيام ركوب الحمير والبغال واستعمال الشموع ولا يريد التقدم؟. ولماذا توجد في الإنسان قوة تدفعه الى الامام وأخرى تدفعه الى الخلف بينما الصراع يحتدم في داخله بين هاتين القوتين؟ لماذا الحنين الى الماضي والوقوف على الاطلال والتباكي عليه، ونحن نسأل هذا الإنسان؛ لماذا لا تهتم بالمستقبل وتترك البكاء على الماضي؟ ولماذا لا يتحدث كبار السن لدينا عن المستقبل بدل الكلام عن سنينهم التي مضت، وكيف كانوا يركبون الدابة ويقضون حاجاتهم مستغنين عن الوقود الذي شح هذه الأيام، وبالتالي فهم يحنون إلى الماضي المتخلف وإلى الدكتاتورية والاستبداد ويزعمون أن ذاك الزمان كان أفضل لهم من وضعهم الحالي غافلين عن حقيقة النظام السابق وخباثته.
يقول تعالى: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية* جنّتان عن يمين وشمال) أي أن هنالك من لا يأكل من رزق الله بالرغم من الخير الذي يعم الآفاق. هناك من يمنعون عن أنفسهم متع الحياة بسبب سوء فكرهم وانحراف ثقافتهم وعدم معرفتهم بالحقائق الدينية، أمثال المتصوّفة الذين لا يأكلون الطعام ولا يشربون الشراب ويسمّون ذلك زهداً، والله يوم القيامة يسألهم عن هذه النعم التي منحها لهم بينما لم يستفيدوا منها، إن هذه الحالة تجرّ إلى التطرف والتطرف مرفوض في الدين، وكذلك الحال بالنسبة للسلوك والتعامل مع الآخرين، حيث يرى البعض أن التدين هو الشدة والغلظة في التعامل مع الآخرين فتراه عبوساً قمطريراً بينما (المؤمن هشٌ هين لين فطن) كما يقول الحديث الشريف وأيضاً: (المؤمن بشره في وجههِ وحزنهُ في قلبهِ) وهذا ما كانت عليه سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام).
إذن.. لقد أمر ربنا هؤلاء بالاستفادة من النعم المتاحة فقال (كلوا من رزق ربكم واشكروا له) أي اشكروا له بالقلب، لأن بعض الناس يأكل الطعام وهو لا يحبه، والدنيا تقبل عليه وهو يسأم منها، والمفروض أن يعدّ كل ذلك من نعم الله التي يجب أن يحمد الله عليها ويرضى بقسمه، لأن الرضا يجعل الحالة الإيجابية والتفاؤل يغمران القلب واللسان، ويكون عمل الإنسان نسخة عن ذلك.
والبلدة الطيبة نباتها طيب، وهواؤها طيب، وحياة أبنائها طيبة، وينتشر فيها الأمن والاستقرار والرفاهية والعلاقات الايجابية، وأما جملة (وربٌ غفور) في الآية الكريمة فتحتاج إلى تعمق، فلماذا يختار السياق القرآني في هذه الآيات اسماً من أسماء الله الحسنى (غفور)؟ ولماذا يؤكد على المغفرة هنا بالتحديد؟
لأن الإنسان مطالب بالاعتماد على غفران الرب ـ سبحانه وتعالى ـ حيث قال النبي (ص) لأحد أصحابه : (أحسن ظنك بالله فو الذي بعثني بالحق ما أحسن المرء او الرجل ظنّه بالله حين وفاته إلا وغفرت له ذنوبه).
لكن البعض –وللأسف- ظلموا أنفسهم (فأعرضوا) ولم يستمعوا الى هذه الوصايا الإلهية، أعرضوا عن ذكر الله وعن الشكر (فأرسلنا عليهم سيل العرم) وبالتالي فهم لايستحقون هذه الحضارة، وإذا بتلك الجنان الطيبة تحولت الى بعض الاشواك وبعض السدر (وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا) ولعل معنى الكفران هنا ليس الكفر بالله بل الكفر بالنعمة حيث إن الله طالبهم بالشكر وقال (اشكروا له) فلم يشكروا وانما كفروا بهذه النعمة (وهل نجازي إلا الكفور).
على الإنسان أن لا ينسى أن الله هو من أعطاه هذه النعم، وأنه لن يسترجعها منه إلا إذا كفر بها، بينما لو شكر الله عليها فإنه سيزيده منها أكثر فأكثر (ولا تزيده كثرة العطاء الا جودا وكرما).
يقول تعالى: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية) أي إنها موعظة ينبغي أن نعرفها ونستفيد منها، وذلك لأن هذه القصة تتكرر، والذي يتبدل هو الأسماء فقط، بينما السنة الإلهية والعبرة من ورائها ثابتة.
وهنا نتساءل أ لنا –نحن في العراق- نصيب من هذه الآيات أم لا؟
الجواب على ذلك في نقطتين:
الأولى: إننا بحاجة إلى شكر الله على النعم المتاحة لدينا، وأن ننظر إلى النصف الممتلئ من الكأس ونتغاضى عن السلبيات، لأن التركيز على هذه السلبيات سيسلبنا ما هو متاح بين أيدينا.
يُروى أن رسولنا الأكرم (ص) كان يشكر الله في اليوم (260 مرة) فقيل له يا رسول الله لماذا (260) مرة قال: لان في جسم الانسان (260 عرقاً) ولو أن عرقاً واحداً تعرض للخلل فسيصاب الإنسان بالألم والأرق إذن يجب أن يشكر الله على سلامة العروق كلها.
فالعراق اليوم فيه كثير من الايجابيات التي إن لم نأخذها بعين الاعتبار فإنها ستفارقنا إلى الأبد، وهذا هو معنى الشكر ومعنى النظرة الإيجابية نحو النصف الآخر من الكأس، فسقوط الصنم والحصول على حكومة وطنية وانتخابات حرة أمور تستحق الشكر، أما ما يسمى بـ (الأمن) الذي كان سائداً في ظل النظام البائد فهو لم يكن بالأمن الحقيقي، حيث أن تحركات وسكنات الإنسان كانت مراقبة، وأنفاسه محبوسة، وأحلامه كانت تجره إلى الاعتقال والمحاكمة، وبالتالي فإن الوضع لم يعد اسوأ مما كان عليه في عهد النظام البائد كما يروِّج إليه البعض.
أما النقطة الثانية، فإن هناك بالفعل مشاكل كثيرة ومستعصية؛ لا يمكن حلها إلا بتوحيد الجهود وإصلاح النفوس وتطهيرها من الحسد والبغضاء والحقد والتحزب والعصبية. وهو السبيل لتغيير الواقع نحو الأحسن، ويمكن تحقيق ذلك من خلال الكلمة الطيبة والثقافة الصحيحة، فالمجتمع اليوم مبتلى بثقافة الانطوائية والانغلاق على الذات والروح السلبية والإتهامات المتبادلة بدل الحوار الطيب والتواصي والمحبة، ونتج عن ذلك تفاقم المشاكل وتفشي الأوضاع المتردية، في حين يقول ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتفكرون) ثم يقول (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض مالها من قرار، يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا). فنحن بحاجة الى قول ثابت والى رؤية صحيحة والى بصيرة إيمانية وقرآنية، فنشكر الله على ما آتانا ونعمل من أجل المزيد. ولو كانت هذه الثقافة الإيمانية هي السائدة لما تعرَّض المسلمون للكوارث عبر التاريخ، ولما وقعت نكسة حزيران (التي تمر ذكراها الأربعون) والتي لا زلت أذكرها رغم السنين التي مرَّت، حيث كنت حينها في مدينة كربلاء المقدسة وكان أهالي المدينة غارقين في الوجوم والحزن العميق على ضياع فلسطين وسيناء ودمار الجيوش العربية وخيبة الآمال التي كانت معلقة على هذه الجيوش، وقد تعددت تسميات ما حدث بين النكبة والنكسة والهزيمة، وقد صادف الحدث مع وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كنت في طور تأليف كتاب (النبي (ص) قدوة وأسوة) فأخذت أقارن بين سيرة النبي وفتوحات المسلمين في حرب بدر التي انتصروا فيها ثم انهزموا في حرب أحد لكنهم عادوا وانتصروا في حملة ذات السويق، وتوالت الإنتصارات في الخندق وفتح مكة ولم يكونوا يملكون من العدة والعتاد إلا القليل، وكان رصيدهم الوحيد هو الإيمان القوي، بينما حالنا على عكس ذلك تماماً، فبالرغم من إمكاناتنا وأسلحتنا وجيوشنا وشعوبنا فقد انهزمنا شر هزيمة. فبدأت أتساءل: لماذا انهزمت الجيوش العربية بهذا الشكل؟ صحيح هناك هزائم في التاريخ لكن لم يُهزم جيش من الجيوش بهذا الشكل الفظيع.
السبب في ذلك أنهم تخلوا عن الكلمة الطيبة وتركوا عزة الله ليركنوا إلى الاشتراكية ويعتمدوا على الروس الذين باعوهم خردة الاسلحة وفسحوا المجال أمام الجواسيس كي يتوغلوا في كل مكان وحاربوا القوى الحقيقية في المجتمع وهي الحركات الإسلامية وعزلوها عن مجاري الأمور بل واستبدلوها بمجاميع من العملاء المرتزقة فابتلوا بهذه الهزيمة النكراء.
إن من أراد العزة فليعتز بالله، لأن الإعتزاز بشياطين الجن والإنس نهايته الدمار، ولو أن الناس ـ وبعد أربعين عاماً ـ عادوا الى الدين الصحيح، والاسلام الأصيل، والكلمة الطيبة، ووحدوا صفوفهم فإنهم سوف لن يجدوا عناءً في هزيمة إسرائيل، لأن بقاء إسرائيل مرهون بضعفنا وتخاذلنا وليس بقوتها وشوكتها، ويكفي أن نعتبر بما حدث في جنوب لبنان خلال حرب تموز الماضي.
إنَّ من هزم إسرائيل لم يكن سوى كوكبة من الشباب المؤمن الذي توكل على الله وشد العزم على النصر أو الشهادة، فكانوا أنموذجاً حياً للآية الكريمة: (انهم فتية آمنوا بربهم فزدناهم هدى)، فلم تكن الصواريخ التي وجهتها المقاومة الإسلامية ضد الكيان الصهيوني هي المهمة، بل المقاوم البطل الذي كان خلفها، ولو كانت هذه هي حالة المسلمين عموماً لرأينا العجب العجاب، والتاريخ خير شاهد على ذلك.
ومن هنا فنحن بحاجة إلى ثقافة الإيمان بالله والاعتزاز به والتوكل عليه والاعتماد على ما وهب الله للانسان وتوحيد الصفوف ونبذ الخلافات.. نحن بحاجة إلى الكلمة الطيبة التي ستبدل الوضع في بلدنا كلياً.. نحن بحاجة إلى العودة الى بصائر القرآن (بلدة طيبة وربٌ غفور) أن نشكر الله على ما أعطانا ونأكل رزقه ونستفيد من الامكانات المتوفرة لدينا، ثم ننطلق بتوحيد صفوفنا وتقوية أواصر المحبة والتعاون فيما بيننا، وننطلق لبناء ما أفسده النظام السابق والله يعيننا على ذلك ان شاء الله.
نسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ ان يبصِّرنا بعيوب أنفسنا، ويعيننا عليها كما أعان الصالحين على أنفسهم، ويرزقنا عزم الايمان بالله، وعزة التوكل عليه، والثقة به، ويجعلنا من الصالحين، ويلحقنا بمحمد وآل بيته الطيبين الطاهرين.
ماجده
العزّة من دون الله مآلها الذلّ والهزيمة
بسم الله الرحمن الرحيم
(لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدةٌ طيّبةٌ وربٌ غفور* فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العَرِم وبدّلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكلٍ خمطٍ وأثلٍ وشيءٍ من سدرٍ قليل* ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور).... آمنا بالله
صدق الله العلي العظيم.
التقدم كلمة والتخلف كلمة أيضاً ، إنك تجد الحضارات الشامخة في التاريخ فتستهويك وتنبهر بها وتظن انها هياكل خارجية، كلا انها ميراث عملٍ منظمٍ جدّي من امةٍ كبيرة، وعمل الانسان إنما هو نتيجة نيّتهِ وفكره وثقافته، فليس هناك عملٌ إلا بالنية، وإن لم تكن هناك نية وإرادة ومشيئة كيف يتحقق العمل؟ اذا كانت النيّةُ صالحةً وطيّبةً كان العملُ صالحاً وطيباً، كما قال ربّنا (قل كلٌ يعمل على شاكلته) وإذا كانت النية غير صالحة وخبيثة فان العمل الذي يصدر منها سيكون عملاً خبيثاً، (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربّه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً).
والمؤمنون الذين صفت قلوبهم وزكت نفوسهم وطهرت سرائرهم، صلحت أعمالهم، وهذه الاعمال الصالحة هي التي تتحول الى حضارات كبرى، فما بُنيت حضارة ولا تقدمت أمة إلا بكلمة طيبة، وبثقافةٍ طيّبة، وبنية طيبة لأنَّ (البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه)، وإذا أردتَ إصلاحَ حضارة وإصلاح امة وإيجاد تقدم فما عليك إلا أن تُصلح ثقافة الناس ونياتهم (فعلى نيّاتكم ترزقون) أمّا هدم الحضارات فهو الآخر لن يكون إلا ميراث الكلمة الخبيثة، والفكر الخبيث، والكفر بالله، والكفر بالقيم وثمرة السلوك الخاطئ.
فما الذي هدم حضارة الفراعنة في مصر؟ إنه شركهم بالله. وما الذي هدم حضارة عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وآخرين؟ إنه شركهم بالله أيضاً، فلقد أشركوا بالله وخبثت نيتهم فخبث عملهم فتهدمت حضارتهم. وكثير من هذه الحضارات استؤصلت ولم يبق منها أي أثر يُذكر، ويبحث علماء الآثار حالياً ليل نهار من أجل اكتشاف موقع حضارة (عاد). وقد اختلفوا في موطنها بالرغم من أنها كانت حضارة كبيرة جداً، فلقد بنوا المصانع وشيدوا القلاع فوق الجبال، وبنوا البيوت في السهول، وكانوا -حسب الآية الكريمة-: (وإذا بطشتم بطشتم جبارين) كانوا جبّارين مهيمنين على تلك المنطقة، لكن أين حلّ بهم الدهر؟ لقد أبيدوا عن بكرة أبيهم.
هناك حضارات لم تُستأصل ولكنها تقلّصت وتحولت إلى حضارات بسيطة، مثلما حدث في اليمن وقصة سد مأرب والسيل العرم، فقد منح ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ هذه المنطقة التي تقع في أطراف الجزيرة العربية والتي اشتهرت بالقحط والصراع على المياه الشحيحة والصراعات القبلية؛ حضارة شامخة سميت أثرها بـ (اليمن السعيدة) يأتيها الخير من كل مكان، حتى أن المرء لم يكن بحاجة إلى قطف الثمار بل كانت الثمار تتساقط على رؤوس المارة، بينما كان الأمن مستتباً ويتنقل الناس بين المناطق المتباعدة دون أن يتعرضوا للأذى أو قطاع الطرق، حيث إن جميع المناطق كانت مأهولة بالسكان، وهو ما كان عليه حال البصرة والكوفة أيضا، حيث كانت المسافة التي تفصلها عن الكوفة مأهولة بالسكان ومعمورة بالناس وبالزراعة وبالمدن، وقد أشار كتاب تأريخ التمدن الاسلامي لجورج زيدان إلى هذا المعنى وإلى الإزدهار الكبير الذي كانت تنعم به كل من بغداد والكوفة، فقد كان سكان الكوفة وحدها آنذاك يبلغ تسعة ملايين نسمة أي أضعاف ما عليه الآن، بينما كانت المناطق الزراعية والعمرانية منتشرة في الأرجاء، وعلى عكس ما عليه الآن حيث الصحارى الجرداء.
لقد اجتُثّت بعض الحضارات من الجذور وهي الحضارات الكافرة والمشركة، بينما تقلص البعض الآخر منها بسبب الانحرافات التي طرأت عليها، وربنا يحدثنا عن هذه الحضارات فيقول (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية) كانت قبائل، وربنا لا يسمي ذلك الموقع مساكن، بل يقول: في مسكنهم، ولعل السبب هو ان المنطقة كانت متصلة الى درجة عدّها مسكناً واحداً وهذا ما نستفيده من الآية الكريمة التالية حيث يقول ربنا (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير* سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا) يعني أنهم ما كانوا يرون الصحراء بل كانوا يرون العمارات دائماً، حتى أنهم سئموا الحياة المرفّهة فبدأوا يبحثون عن الصحارى والفيافي.
والسؤال هنا؛ لماذا يحن الانسان أحياناً الى التخلف؟.. لماذا يحن البعض إلى أيام ركوب الحمير والبغال واستعمال الشموع ولا يريد التقدم؟. ولماذا توجد في الإنسان قوة تدفعه الى الامام وأخرى تدفعه الى الخلف بينما الصراع يحتدم في داخله بين هاتين القوتين؟ لماذا الحنين الى الماضي والوقوف على الاطلال والتباكي عليه، ونحن نسأل هذا الإنسان؛ لماذا لا تهتم بالمستقبل وتترك البكاء على الماضي؟ ولماذا لا يتحدث كبار السن لدينا عن المستقبل بدل الكلام عن سنينهم التي مضت، وكيف كانوا يركبون الدابة ويقضون حاجاتهم مستغنين عن الوقود الذي شح هذه الأيام، وبالتالي فهم يحنون إلى الماضي المتخلف وإلى الدكتاتورية والاستبداد ويزعمون أن ذاك الزمان كان أفضل لهم من وضعهم الحالي غافلين عن حقيقة النظام السابق وخباثته.
يقول تعالى: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية* جنّتان عن يمين وشمال) أي أن هنالك من لا يأكل من رزق الله بالرغم من الخير الذي يعم الآفاق. هناك من يمنعون عن أنفسهم متع الحياة بسبب سوء فكرهم وانحراف ثقافتهم وعدم معرفتهم بالحقائق الدينية، أمثال المتصوّفة الذين لا يأكلون الطعام ولا يشربون الشراب ويسمّون ذلك زهداً، والله يوم القيامة يسألهم عن هذه النعم التي منحها لهم بينما لم يستفيدوا منها، إن هذه الحالة تجرّ إلى التطرف والتطرف مرفوض في الدين، وكذلك الحال بالنسبة للسلوك والتعامل مع الآخرين، حيث يرى البعض أن التدين هو الشدة والغلظة في التعامل مع الآخرين فتراه عبوساً قمطريراً بينما (المؤمن هشٌ هين لين فطن) كما يقول الحديث الشريف وأيضاً: (المؤمن بشره في وجههِ وحزنهُ في قلبهِ) وهذا ما كانت عليه سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام).
إذن.. لقد أمر ربنا هؤلاء بالاستفادة من النعم المتاحة فقال (كلوا من رزق ربكم واشكروا له) أي اشكروا له بالقلب، لأن بعض الناس يأكل الطعام وهو لا يحبه، والدنيا تقبل عليه وهو يسأم منها، والمفروض أن يعدّ كل ذلك من نعم الله التي يجب أن يحمد الله عليها ويرضى بقسمه، لأن الرضا يجعل الحالة الإيجابية والتفاؤل يغمران القلب واللسان، ويكون عمل الإنسان نسخة عن ذلك.
والبلدة الطيبة نباتها طيب، وهواؤها طيب، وحياة أبنائها طيبة، وينتشر فيها الأمن والاستقرار والرفاهية والعلاقات الايجابية، وأما جملة (وربٌ غفور) في الآية الكريمة فتحتاج إلى تعمق، فلماذا يختار السياق القرآني في هذه الآيات اسماً من أسماء الله الحسنى (غفور)؟ ولماذا يؤكد على المغفرة هنا بالتحديد؟
لأن الإنسان مطالب بالاعتماد على غفران الرب ـ سبحانه وتعالى ـ حيث قال النبي (ص) لأحد أصحابه : (أحسن ظنك بالله فو الذي بعثني بالحق ما أحسن المرء او الرجل ظنّه بالله حين وفاته إلا وغفرت له ذنوبه).
لكن البعض –وللأسف- ظلموا أنفسهم (فأعرضوا) ولم يستمعوا الى هذه الوصايا الإلهية، أعرضوا عن ذكر الله وعن الشكر (فأرسلنا عليهم سيل العرم) وبالتالي فهم لايستحقون هذه الحضارة، وإذا بتلك الجنان الطيبة تحولت الى بعض الاشواك وبعض السدر (وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا) ولعل معنى الكفران هنا ليس الكفر بالله بل الكفر بالنعمة حيث إن الله طالبهم بالشكر وقال (اشكروا له) فلم يشكروا وانما كفروا بهذه النعمة (وهل نجازي إلا الكفور).
على الإنسان أن لا ينسى أن الله هو من أعطاه هذه النعم، وأنه لن يسترجعها منه إلا إذا كفر بها، بينما لو شكر الله عليها فإنه سيزيده منها أكثر فأكثر (ولا تزيده كثرة العطاء الا جودا وكرما).
يقول تعالى: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية) أي إنها موعظة ينبغي أن نعرفها ونستفيد منها، وذلك لأن هذه القصة تتكرر، والذي يتبدل هو الأسماء فقط، بينما السنة الإلهية والعبرة من ورائها ثابتة.
وهنا نتساءل أ لنا –نحن في العراق- نصيب من هذه الآيات أم لا؟
الجواب على ذلك في نقطتين:
الأولى: إننا بحاجة إلى شكر الله على النعم المتاحة لدينا، وأن ننظر إلى النصف الممتلئ من الكأس ونتغاضى عن السلبيات، لأن التركيز على هذه السلبيات سيسلبنا ما هو متاح بين أيدينا.
يُروى أن رسولنا الأكرم (ص) كان يشكر الله في اليوم (260 مرة) فقيل له يا رسول الله لماذا (260) مرة قال: لان في جسم الانسان (260 عرقاً) ولو أن عرقاً واحداً تعرض للخلل فسيصاب الإنسان بالألم والأرق إذن يجب أن يشكر الله على سلامة العروق كلها.
فالعراق اليوم فيه كثير من الايجابيات التي إن لم نأخذها بعين الاعتبار فإنها ستفارقنا إلى الأبد، وهذا هو معنى الشكر ومعنى النظرة الإيجابية نحو النصف الآخر من الكأس، فسقوط الصنم والحصول على حكومة وطنية وانتخابات حرة أمور تستحق الشكر، أما ما يسمى بـ (الأمن) الذي كان سائداً في ظل النظام البائد فهو لم يكن بالأمن الحقيقي، حيث أن تحركات وسكنات الإنسان كانت مراقبة، وأنفاسه محبوسة، وأحلامه كانت تجره إلى الاعتقال والمحاكمة، وبالتالي فإن الوضع لم يعد اسوأ مما كان عليه في عهد النظام البائد كما يروِّج إليه البعض.
أما النقطة الثانية، فإن هناك بالفعل مشاكل كثيرة ومستعصية؛ لا يمكن حلها إلا بتوحيد الجهود وإصلاح النفوس وتطهيرها من الحسد والبغضاء والحقد والتحزب والعصبية. وهو السبيل لتغيير الواقع نحو الأحسن، ويمكن تحقيق ذلك من خلال الكلمة الطيبة والثقافة الصحيحة، فالمجتمع اليوم مبتلى بثقافة الانطوائية والانغلاق على الذات والروح السلبية والإتهامات المتبادلة بدل الحوار الطيب والتواصي والمحبة، ونتج عن ذلك تفاقم المشاكل وتفشي الأوضاع المتردية، في حين يقول ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتفكرون) ثم يقول (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض مالها من قرار، يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا). فنحن بحاجة الى قول ثابت والى رؤية صحيحة والى بصيرة إيمانية وقرآنية، فنشكر الله على ما آتانا ونعمل من أجل المزيد. ولو كانت هذه الثقافة الإيمانية هي السائدة لما تعرَّض المسلمون للكوارث عبر التاريخ، ولما وقعت نكسة حزيران (التي تمر ذكراها الأربعون) والتي لا زلت أذكرها رغم السنين التي مرَّت، حيث كنت حينها في مدينة كربلاء المقدسة وكان أهالي المدينة غارقين في الوجوم والحزن العميق على ضياع فلسطين وسيناء ودمار الجيوش العربية وخيبة الآمال التي كانت معلقة على هذه الجيوش، وقد تعددت تسميات ما حدث بين النكبة والنكسة والهزيمة، وقد صادف الحدث مع وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كنت في طور تأليف كتاب (النبي (ص) قدوة وأسوة) فأخذت أقارن بين سيرة النبي وفتوحات المسلمين في حرب بدر التي انتصروا فيها ثم انهزموا في حرب أحد لكنهم عادوا وانتصروا في حملة ذات السويق، وتوالت الإنتصارات في الخندق وفتح مكة ولم يكونوا يملكون من العدة والعتاد إلا القليل، وكان رصيدهم الوحيد هو الإيمان القوي، بينما حالنا على عكس ذلك تماماً، فبالرغم من إمكاناتنا وأسلحتنا وجيوشنا وشعوبنا فقد انهزمنا شر هزيمة. فبدأت أتساءل: لماذا انهزمت الجيوش العربية بهذا الشكل؟ صحيح هناك هزائم في التاريخ لكن لم يُهزم جيش من الجيوش بهذا الشكل الفظيع.
السبب في ذلك أنهم تخلوا عن الكلمة الطيبة وتركوا عزة الله ليركنوا إلى الاشتراكية ويعتمدوا على الروس الذين باعوهم خردة الاسلحة وفسحوا المجال أمام الجواسيس كي يتوغلوا في كل مكان وحاربوا القوى الحقيقية في المجتمع وهي الحركات الإسلامية وعزلوها عن مجاري الأمور بل واستبدلوها بمجاميع من العملاء المرتزقة فابتلوا بهذه الهزيمة النكراء.
إن من أراد العزة فليعتز بالله، لأن الإعتزاز بشياطين الجن والإنس نهايته الدمار، ولو أن الناس ـ وبعد أربعين عاماً ـ عادوا الى الدين الصحيح، والاسلام الأصيل، والكلمة الطيبة، ووحدوا صفوفهم فإنهم سوف لن يجدوا عناءً في هزيمة إسرائيل، لأن بقاء إسرائيل مرهون بضعفنا وتخاذلنا وليس بقوتها وشوكتها، ويكفي أن نعتبر بما حدث في جنوب لبنان خلال حرب تموز الماضي.
إنَّ من هزم إسرائيل لم يكن سوى كوكبة من الشباب المؤمن الذي توكل على الله وشد العزم على النصر أو الشهادة، فكانوا أنموذجاً حياً للآية الكريمة: (انهم فتية آمنوا بربهم فزدناهم هدى)، فلم تكن الصواريخ التي وجهتها المقاومة الإسلامية ضد الكيان الصهيوني هي المهمة، بل المقاوم البطل الذي كان خلفها، ولو كانت هذه هي حالة المسلمين عموماً لرأينا العجب العجاب، والتاريخ خير شاهد على ذلك.
ومن هنا فنحن بحاجة إلى ثقافة الإيمان بالله والاعتزاز به والتوكل عليه والاعتماد على ما وهب الله للانسان وتوحيد الصفوف ونبذ الخلافات.. نحن بحاجة إلى الكلمة الطيبة التي ستبدل الوضع في بلدنا كلياً.. نحن بحاجة إلى العودة الى بصائر القرآن (بلدة طيبة وربٌ غفور) أن نشكر الله على ما أعطانا ونأكل رزقه ونستفيد من الامكانات المتوفرة لدينا، ثم ننطلق بتوحيد صفوفنا وتقوية أواصر المحبة والتعاون فيما بيننا، وننطلق لبناء ما أفسده النظام السابق والله يعيننا على ذلك ان شاء الله.
نسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ ان يبصِّرنا بعيوب أنفسنا، ويعيننا عليها كما أعان الصالحين على أنفسهم، ويرزقنا عزم الايمان بالله، وعزة التوكل عليه، والثقة به، ويجعلنا من الصالحين، ويلحقنا بمحمد وآل بيته الطيبين الطاهرين.
ماجده