وقفات مع آيات الصيام
فضيلة الشيخ خالد الشارخ
10/9/1425 هـ
فضيلة الشيخ خالد الشارخ
10/9/1425 هـ
الحمد لله الذي اختص شهر رمضان بفضيلة الصيام من بين سائر الشهور ، وفتح فيه أبواب الجنان بما فيها من السرور والحبور ، وكملها بأنواع الكرامات ، وهيأها لكل موحد شكور ، وأغلق فيه أبواب النيران ، وأعدها لكل مشرك كفور ، وسلسل فيه مردة الشياطين فكل منهم مسلسل مأسور ، ووفق بعض عباده باستغلال هذا الشهر ، وكف عن قلوبهم الحجب والستور ، فنصبوا في خدمته الأقدام ، ولازموا الصيام والقيام ، وأنصبوا الأبدان ، وبادروا الوقت والزمان ، وهرم آخرين فحرموا الأنس بالرحمن ، وابعدوا عن التدبر لكلام الواحد الديان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، يفرح بتوبة التائبين ، ويقبل دعاء الداعين ، ويحب من عباده المخبتين المنيبين المفكرين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، الذي أمره ربه فأجاب ، ونهاه فما خالف نهيه وما ارتاب ، وأخبت إلى ربه وأناب ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين أحيوا أيام رمضان بتلاوة القرآن ، وبالتهجد والقيام ، علموا أنها أيام ، فعمروها بطاعة الحي الذي لا ينام ، فرضي الله عنهم وأرضاهم ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنهم وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم ) .. أما بعد :
فيا معاشر المسلمين فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا ، فقد قال الله تعالى في سورة البقرة في آيات الصيام ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ....
فدعونا نتأمل في هذه الآيات العظيمات ، ونجول في معانيها ، ونأخذ الدروس منها ..
أيها الأخوة :
الوقفة الأولى :- إن الناظر في آيات الصيام في هذه السورة ، يجد ولأول وهلة ، أن التعقيب بقوله تعالى ( لعلكم تتقون ) ، قد تكرر في أكثر من مرة .. فقال سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ، وقال تعالى ( تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ) .. بينما غيره من التعقيبات لم تتكرر ، بل أن التعقيبات الأخرى لتصب في معنى التقوى وفي معانيها ، فجاء لعلكم تشكرون ، لعلهم يرشدون ، وهذه وتلك لولا التقوى ما شكر العبد وما رشد ..
فما الحكمة من تكرار لفظ التقوى ههنا ؟؟
أيها الأخوة : إن تكرار التقوى في ثنايا آيات الصيام ، لأن الصوم من أعظم العبادات الجالبة للتقوى ، فالذي يهجر الطعام والشراب ، ويترك الاستمتاع بأهله ، لله عز وجل وتقرباً إليه ، فسوف يُوهب التقوى ويوفق إليها ، ولذلك يقول الله عز وجل في الحديث القدسي ( كل عمل ابن آدم له ، الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وطعامه من أجلي ) ..
فأعظم مقاصد الصوم هي التقوى الجالبة لكل خير ، الصارفة عن كل شر .. فحين نهاك الله عن الأكل والشرب مدة صومك والأكل والشرب مباح لك في الأصل ، لتعتاد نفسك على ترك الحرام ، فالذي قدر أن يمنع نفسه من المباح ، لهو أقدر أن يمنعها من الحرام ، وهذا سر من أسرار التقوى الجالب للتقوى !!
وأما الذين لا يفهمون من الصوم إلا ترك الطعام والشراب ، فهؤلاء ما فهموا حقيقة الصيام عن الله شيء ، ولا انتفعوا بالصيام ، ولذا فأنت تجد أحدهم يمسك عن الطعام والشراب ، ولكن قد أفطر لسانه بالحرام ، ونطق بالحرام ، وأفطرت عينه بالنظر إلى الحرام ، وأفطر سمعه على سماع الحرام ، ولأمثال هؤلاء يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه ) رواه البخاري .
وقول الزور كل قول باطل من الغيبة والنميمة ، والسب والشتم ، وكل قول باطل ، والعمل به كل باطل يعمل ، ولذلك أيها الأخوة : فقد ذكر أهل العلم في مفطرات الصائم أنها على نوعين : حسية ، ومعنوية ، أما الحسية كالأكل والشرب والجماع وغير ذلك .. أما المعنوية فكالغيبة والنميمة وقول الزور والعمل به ، فإن أجر الصائم ينقص بحسب ما ألم به من الزور والعمل به ، فبعض الصائمين تستغرق ذنوبه أجر صومه كله ، فلا يكون له من صومه إلا الجوع والعطش ، أعاذنا الله وإياكم من الزور وأهله ..
أيها الأخوة : ومن معاني التقوى التعود على شظف العيش ، وترك ملاذ الحياة ، والإقلال منها ، وليحس المسلمون الصائمون بأن لهم إخواناً يعيشون الصيام طيلة عامهم ، فلا يجدون الطعام والشراب الذي يكفيهم من شدة الخصاصة والفقر ، ليبذلوا المال بعد ذلك سخية ببذله نفوسهم ..
أيها الأخوة ..
( الوقفة الثانية ) : وقال تعالى ( أياماً معدودات ) فمن رحمة الله بعباده أن جعل الصيام أياماً معدودات ، فليس فريضة العمر ، وتكليف الدهر ، ومع هذا أعفى من أدائه المرضى حتى يصحوا ، والمسافرين حتى يقيموا ، رحمة وتيسيرا ..
أياماً معدودات ، ( فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ) ، وأيضاً فثمة أمر جليل تؤديه هذه الآية فقد قال تعالى وهو أعلم بمن خلق ، قال عن أيام رمضان ( أياماً معدودات ) لأنها سريعة التقضي ، سريعة الأفول ، فحري بعبد يرجوا ما عند الله ألا تفوته هذه الأيام القليلة ، باستغلالها بطاعة الله عز وجل ، فقد جاء في الصحيحين ، أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) ويقول ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) ويقول ( من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ) رواه أهل السنن بإسناد صحيح ..
فلا يفوتك هذا الفضل العظيم ، والعطاء الجسيم ، فبمجرد قيامك مع الإمام ساعة أو أقل تكتب عند الله قائماً لليل كله ، فمن يزهد في هذا العطاء الإلهي والمنحة الربانية ..
أيها الأخوة :
الوقفة الثالثة :- قال تعالى في ثنايا آيات الصيام ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان ... ) .. فرمضان شهر القرآن وكان السلف رحمهم الله إذا أقبل رمضان أقبلوا على القرآن ، وتركوا كتب أهل العلم .. ، قال الزهري رحمه الله إذا دخل رمضان يقول ( إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام ) ، وكان مالك رحمه الله إذا دخل رمضان ، ترك قراءة الحديث ومجالس العلم ، وأقبل على قراءة القرآن من المصحف ، وكان قبلهم المعلم الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم يدارس جبريل القرآن في كل رمضان ، فيعرض عليه ، حتى إذا كان سنة وفاته عليه الصلاة والسلام عرض عليه مرتين ، فما أحوجنا أيها الإخوة لهذا القرآن العظيم ، وخاصة في هذا الشهر الكريم ، فأكثروا فيه من تلاوة القرآن وتأمل معانيه وتدبره والعمل به ..
آيات من القرآن يلين بها ما قسى من القلوب ، وسيشهد بها ما جف من المآقي ، فوا عجباً لنفوس لا تستعذب تلاوة كلام الله ولا ترق لكلام الله ، ولا تلين جلودها وقلوبها لكلام الله ، لقد أثنى الله على عباده المؤمنين فقال ( الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ) نعم .. هذا توفيق وهداية لا يوفق إليها كل واحد .. ( ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد ) ووا عجباً من قلوب كيف تعيش وليس لها ورد من كتاب الله ، وواعجباً من قلوب ما أقساها وهي لا تحرك قلوبها بتلاوة كلام الله ، لقد عاتب الله الصحابة وهم حدثاء عهد بإسلام ، فقال ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق )
فحرب بك أخي المسلم أن تجعل لك ورداً من كتاب الله تتأمل فيه ، وتتلوه تحرك به قلبك ، وتدر به دمعك ، وتغير به حياتك ، ولا يكن همك آخر السورة بل اتلوا بتمعن وتدبر ..
الوقفة الرابعة ..
أيها الأخوة : ومما جاء في آيات الصيام .. قال تعالى ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) فعلى كل من أدرك شهر رمضان وهو قادر على صومه فواجب عليه الصوم ، فيمسك عن الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، متعبداً لله عز وجل بذلك ، فمن تناول شيئا من المفطرات مختاراً غير مكره ، ذاكراً غير ناسٍ ، عالماً غير جاهل ، لم يصح صومه ..
أما المريض فإن كان مرض يرجى برؤه وشفاءه ، فهذا يفطر مدة مرضه ويقضي مكان الأيام التي أفطرها ، وإن كان مرضه لا يرجى شفاءه فهذا يطعم عن كل يوم مسكين ، لكل مسكين نصف صاع أي : كيلو ونصف من الأرز ونحوه ، أو إن شاء جمع فقراء بعدد الأيام التي أفطرها وأطعمهم ، فإن ذلك يجزئه ..
وأما المسافر فإن كان الصوم لا يشق عليه فالصوم أولى إبراء للذمة ، وأما إن كان يشق عليه الصوم أو يضره ، فإنه يجب عليه الفطر ..
واعلموا أيها الإخوة .. أن المريض الذي يضره الصوم لا يجوز له الصوم ، والصوم في حقه حرام ، فإذا قرر الأطباء أن هذا المريض يضره الصوم ، فلا يجوز له الصوم بل يطعم ولا شيء عليه ، ومن يغسل الكلى فهؤلاء لا صوم لهم ، ولا يصح منهم حال غسيلهم ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( أفطر الحاجم والمحجوم ) ، وغسيل الكلى إخراج للدم من البدن ، فإن كان يستطيع الصوم في أيام التي لا يغسل فيها صامها ، وقضى مكان الأيام التي أفطرها ، وإن كان لا يطيق الصوم فإنه يطعم عن كل يوم مسكين ..
واعلموا أيها الإخوة .. أنه كل ما كان في معنى الأكل والشرب ، كحقن الدم ، والإبر المغذية فإنها مفطرة لأنها تقوم مقام الأكل والشرب من حيث استغناء الجسم بها .. ومن أراد البسط في هذا فليرجع لكتب أهل العلم ، وليسأل عما أشكل عليه ..
الوقفة الخامسة : قال تعالى ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) لقد جاءت هذه الآية في ثنايا آيات الصيام ، يا لها من آية عجيبة ـ آية تسكب في قلب المؤمن النداوة والطمأنينة ، والراحة والأنس ، فللصيام أثر في إجابة الدعوات ، فاعرضوا حاجاتكم على مولاكم وخالقكم ، اعرضوا عليه سؤالكم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( إن الله تعالى ليستحي من أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيها خيرا فيردهما خائبتين ) ..
يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( ما من مسلم يدعوا بدعوة ليست بإثم ولا قطيعة رحم إلا كان له إحدى ثلاث ، إما أن يستجيب الله له ، أو أن يصرف عنه السوء مثلها وإما أن يدخرها له يوم القيامة ) ، فقال الصحابة يا رسول الله إذا نكثر ؟ فقال ( الله أكثر ) ..
تقبل الله منا صيامنا وقيامنا ، اللهم أعنا على القيام بطاعتك في هذا الشهر الكريم ، واجعلنا من المقبولين ، ومن المعتوقين من النار ..
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم .....
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ....
الوقفة السادسة : قال تعالى بعد ما ذكر فرض الصوم على عباده ، وإنه وضعه عن المسافر والمريض ، قال ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ، إنها القاعدة الثابتة الراسخة في كل ما فرض الله علينا ، فليس فيما فرض الله علينا أراده علينا به العسر .. كلا ، فلقد أراد بنا اليسر يوم أن فرض علينا الصلاة ، فجعلها خمس صلوات في اليوم والليلة ، ولم يجعلها خمسين صلاة ، وأراد بنا اليسر يوم أن فرض علينا الزكاة ، فجعلها في جزء بسيط من المال ، وهي مع ذلك تزكية وتنمية ، ولقد أراد الله بنا اليسر يوم افترض علينا الصيام ، فقد جعله شهراً في السنة ، وخفف على المسافر والمريض ، وجعل الصوم مدة النهار ، ويعود الصائم في ليلة كأيام فطره فيباح له كل شيء مما أباحه الله عز وجل ..
ولقد أراد الله بنا اليسر يوم أن فرض علينا الحج ، فهو واجب في العمر مرة ، ولمن استطاع إليه سبيلا ، ولم يكلف العباد ما لا يطيقون في ذلك ، ولقد أراد الله بنا اليسر يوم أن فرض علينا الجهاد في سبيله ، فالجهاد مشقة ما في ذلك شك ، كما قال تعالى ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم ) ، فالجهاد مشقة على النفوس ، مشقة على الأبدان ، لكن من وراءه عز للإسلام ، وتمكين للمسلمين ، وحماية بيضة المسلمين ، وحفظ أعراضهم ، وإرغام الكافر المنتفش ، وإصغار الباطل المسيطر ، فمن هنا فالجهاد يسير ..
ويوم أن تركت الأمة الجهاد في سبيل الله واعتبرته تطرفاً حاق عليها الذل والصغار ، فكانت تنشد من وراء ذلك اليسر ، فإذا هي واقفة في العسر ، إنما اليسر في إمضاء ما أمضاه الله ، وتطبيق ما أمر الله به ، فبهذا يتحقق اليسر ، ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ..
ولقد أراد الله بنا اليسر يوم أن أمر المرأة أن تتحجب عن الرجال ، ولا تبدي زينتها ، ولا يظهر منها شيء للرجال الأجانب ، وليس هذا من العنت الذي فرض الله علينا ، وها نحن نرى البلدان الغربية يوم أن أخرجوا المرأة عن مكانها الذي جعله الله لها ، جروا ويلات لا تحصى ، وأصبحوا يعانون من مشاكل اجتماعية ، تخالف الفطرة السليمة ، فقبل أيام أجري حوار عبر الإذاعة لعلاج ظاهرة ، ويستقبل البرنامج اتصالات المتابعين ، أتدرون أيها الإخوة ما موضوع الحوار ؟؟ إنه موضوع لا يدور في خاطر ( أحد ) إلا من عاش واقع مساواة المرأة بالرجال ، وكانت المرأة فيه لها ما للرجال تماماً ، ولم يراعوا أنوثتها ، والله يقول ( وليس الذكر كالأنثى ) ، إن موضوع الحوار أيها الإخوة عن ظاهرة بدأت تظهر وتستشري عندهم ، وهي ظاهرة ( ضرب المرأة للرجل ) ، وكانت هذه الإذاعة تستقبل اتصالات المستمعين ، ويقترحون حلولاً لهذه الظاهرة !! وهذا خلاف الفطرة ، ولكن لما أن ترك الناس أمر الله جرى عليهم العسر ، وقد كانوا يظنون أنهم يطلبون اليسر ، فليس عسر على المرأة أن تكون تحت عناية الرجال ، وتحت ولايتهم ، أما الذين يريدون أن تستقل المرأة بكل شيء ، ومن ذلك البطاقة الرسمية ، فهؤلاء ما أرادوا لها اليسر ، إنما حملوها مشاقة ما هي بحاجتها ، فأي عسر في أن تكون المرأة مخدومة مكفية عن كل عناء ، محفوظة عن كل عين أجنبية ، إن هذا لهو عين اليسر ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ..