هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

2 مشترك

    المناسبة بين الأبنية المتماثلة في القرآن الكريم دراسة في دلالة المبنى على المعنى

    مـــ ماجده ـلاك الروح
    مـــ ماجده ـلاك الروح
    الإداري المتميز
    الإداري المتميز


    الجنس : انثى

    مشاركات : 7979
    البلد : المنصورة مصر
    نقاط التميز : 17095
    السٌّمعَة : 22

    سؤال المناسبة بين الأبنية المتماثلة في القرآن الكريم دراسة في دلالة المبنى على المعنى

    مُساهمة من طرف مـــ ماجده ـلاك الروح الأربعاء 17 سبتمبر - 14:04


    <table dir=ltr cellSpacing=3 cellPadding=0 width="100%" align=right border=0><tr><td dir=ltr vAlign=center align=right height=11>
    المناسبة بين الأبنية المتماثلة في القرآن الكريم دراسة في دلالة المبنى على المعنى
    </TD></TR></TABLE>

    <table cellSpacing=0 cellPadding=0 width=1 align=left border=0><tr><td style="PADDING-RIGHT: 5px"><table cellSpacing=0 cellPadding=0 width='".$newwidth."' border=0><tr><td> </TD></TR></TABLE></TD></TR></TABLE>
    المناسبة بين الأبنية المتماثلة في القرآن الكريم دراسة في دلالة المبنى على المعنى 12214289422137934592_ef32db0198_ogggد. عمرو خاطر عبد الغني وهدان
    كلية البنات – جامعة طيبة
    الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد...،
    فإنَّ الاهتمام بكتاب الله عزَّ وجل – تلاوة ودرسًا – أفضل ما تُقضى فيه الأوقات، وتُفنى فيه الأيَّام والسُّنون فالسَّعيد من صرفه همَّته وفكره إليه.
    هذا وإنَّ الأبنية المتماثلة بين ألفاظ القرآن الكريم مع التَّنوُّع في التَّعريف والتَّنكير، والتَّذكير والتَّأنيث، والاسميَّة والفعليَّة، وما ينطوي تحتها من جزئيات تُعد وجهًا من وجوه إعجاز هذا الكتاب المبارك، ولونًا من ألوان بلاغته وفصاحته.
    وليس مجيء تلك الأبنية تكرارًا،ولغوًا؛ لأنَّه يستحيل عليه الاختلاف والحشو واللَّغو ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت 42]. فالأبنية المتماثلة وجه من وجوه إعجازه البيانيِّ، فما ورد معرَّفًا في موطن، ومنكَّرًا في موطن آخر، أو مذكَّرًا هنا ومؤنَّثًا هناك.. الخ إنَّما هو لحكمة تُطلب وفائدة تُرام، وليس تكرارًا بلا فائدة، يقول الخطيب الإسكافيُّ: "إذا أورد الحكيم – تقدَّست أسماؤه – آية على لفظة مخصوصة، ثمَّ أعادها في موضع آخر من القرآن، وقد غيَّر لفظة عمَّا كانت عليه في الأولى فلابد من حكمة تُطلب، وإن أدركتموها فقد ظفرتم، وإن لم تدركوها فليس لأنَّه لا حكمة هناك، بل جهلتم"[1].
    كما أنَّ ما يرد في الكتاب العزيز "ممَّا ظاهره التَّكرار زيادة فائدة، أو تتميم معنى، أو لبناء غيره من الكلام عليه"[2].
    فهذا التَّحوُّل في الصِّيغ في السِّياق القرآنيِّ، أو العُدُول من صيغة إلى صيغة أخرى يُعدُّ أحد روافد التَّحليل اللُّغويِّ، بل يمثِّل إحدى الوسائل التي تساعد على التَّماسك الشَّكليِّ، وتُعدُّ مدخلاً من مداخل التَّحليل اللُّغويِّ للنَّص؛ للوصول إلى المضمون أو الغاية الدَّلاليَّة من تشاكل الألفاظ، يقول ابن الأثير: "اعلم أيُّها المتوشِّح لمعرفة علم البيان، أنَّ العدول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلا لنوع خصوصية اقتضت ذلك، وهو لا يتوخَّاه في كلامه إلا العارف برموز الفصاحة و البلاغة، الذي اطَّلع على أسرارها، وفتَّش عن دفائنها، ولا تجد ذلك في كلِّ كلام فإنَّه من أشكال ضروب علم البيان، وأدقِّها، وأغمضها طريقًا"[3].
    والبحث في دلالة الأبنية المتماثلة، بحث في التَّنوُّع الأسلوبيِّ؛ لأنَّه مرتبط بالتَّحليل اللُّغويِّ، فالمغايرة بين الألفاظ ظاهرة أسلوبيَّة خاضعة للسِّياق، فمتى كان المقام مقتضيًا للمغايرة، ومراوحة الأسلوب بين فنٍّ وفنٍّ وجدنا النَّظم القرآنيَّ منسجمًا مع هذا التَّغايُر بأبلغ سبيل، ومتى كان المقام مقتضيًا لاستمرار الأسلوب على طريقة، أو فنٍّ واحد وجدت البلاغة متحقِّقة في النَّظم.
    ومن ثمَّ سأحاول إبراز السِّمات اللُّغويَّة التي يستعملها الخطاب القرآنيُّ في ظاهرة الأبنية المتماثلة، مبيِّنًا القيمة الصَّرفيَّة؛ لتداخل الصِّيغ في الاستعمال اللُّغويِّ محتكمًا إلى السِّياق.
    وتُعدُّ المناسبة في البيان القرآنيِّ موضوعًا دقيقًا، وجليل الشَّأن في آنٍ معًا، دقيقًا؛ لأنَّه يبحث ويتناول وجهًا لطيفًا من أوجه بلاغة القرآن، وجليلاً؛ لأنَّه يستلزم المعرفة بدقائق الاستعمال اللُّغويِّ معجميًّا، وصرفيًّا، ودلاليًّا.
    وهذه الدِّراسة هي محاولة متواضعة لمتابعة ما أشار إليه علماؤنا من ارتباط آيات القرآن، واتِّساق معانيه، وانتظام مبانيه، وتعميق البحث في ذلك؛ لإبراز الخصائص البيانيَّة لأسلوب القرآن الكريم.
    فالبحث في الصِّيغة من خلال سياقها يُعدُّ من أهم القرائن اللَّفظيَّة التي تُعين على فهم الخطاب، فالصِّيغة قادرة على تفسير السِّياق الخطابيِّ وخاصَّة فيما يتعلَّق بنظم القرآن الكريم.
    اختلاف أبنية الألفاظ
    أوَّلا: أبنية الأسماء
    أ – اختلاف أبنية اسم الفاعل:
    تختلف صيغ الوصف المشتق في القرآن الكريم من موطن لآخر؛ تبعًا لسياقها، مثاله: صيغة مشتبه – اسم فاعل – جاءت في قوله تعالى: ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ [الأنعام 99]. بينما جاءت صيغة متشابه – اسم فاعل – في قوله سبحانه: ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ [الأنعام 141]. فما سرُّ تعاقب صيغتي اسم الفاعل في السِّياقين؟ وما سبب التَّخصيص؟.
    لحظ بعض الموجِّهين أنَّ ثمَّة سرًّا بلاغيًّا لطيفًا كاد يبوح به تعاور الصِّيغتين في سياقيهما، وقد تأبَّى ذلك على أهل اللُّغة فذهبوا – عندما أعوزهم تلمُّسُه – إلى أنَّ مشتبهًا، ومتشابهًا لغتان بمعنى واحد، فذهب كثير منهم إلى مجيء تفاعل بمعنى افتعل، يقول سيبويه: "وأمَّا تفاعلت فلا يكون إلا وأنت تريد فعل اثنين فصاعدًا..... وذلك قولك: تضاربنا وترامينا وتقاتلنا. وقد يشركه افتعلنا فتريد بهما معنى واحدًا، وذلك قولهم: تضاربوا واضطربوا، وتقاتلوا، واقتتلوا، وتجاوروا، واجتوروا، وتلاقوا، والتقوا"[4].
    واعتمد الزَّمخشريُّ[5]، والرَّازيُّ[6]، وأبو حيَّان[7] على هذا المعهود اللُّغويِّ حينما رأوا أنَّ: اشتبه الشَّيئان وتشابها، كقولك اختصم وتخاصم، واستوى وتساوى، واشترك وتشارك، وغير ذلك ممَّا يشترك فيه باب الافتعال والتَّفاعُل. والافتعال والتَّفاعُل يشتركان كثيرًا.
    سوى أنَّ ابن الزُّبير الغرناطيّ يعقِّب على مذهبهم هذا – مؤيدًا – ويبيِّن الفرق بين الصِّيغتين، وسرَّ تغاير الاستعمال القرآنيِّ في السِّياقين، يقول: "إنَّ مشتبهًا ومتشابهًا لا فرق بينهما إلا ما يُعدُّ فارقًا؛ إذ الافتعال والتَّفاعُل متقاربان، أصولهما: الشِّين والباء والهاء، من قولك: أشبه هذا هذا إذا قاربه وماثله. ورد في أولى الآيتين على أخفِّ البناءين، وفي الثَّانية على أثقلهما؛ رعيًا للتَّرتيب المتقرِّر، وقد مرَّ نحو هذا في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾ في سورة البقرة 38، وقوله: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ﴾ في سورة طه 123"[8].
    أقول: ما ضرب به المثل من آية البقرة، وآية طه فيه نظر؛ لأنَّ سورة طه مكيَّة، وسورة البقرة مدنيَّة[9]، وإن كان مقصد التَّرتيب عنده البداءة بالأخفِّ ثمَّ الأثقل صياغة فهذا يحتاج إلى دليل مخصِّص لسياق هذا الاستعمال، وهو نفسه مثَّل للأخفِّ والأثقل في تغاير الصِّيغتين اسطاع واستطاع[10] بدلالة السِّياق، لا بالتَّرتيب المذكور.
    ووافق ابن عاشور[11] – أيضًا – ما ذهب إليه ابن الزُّبير وذكر أنَّ الاشتباه والتَّشابه بمعنى واحد وأنَّهما مترادفان، واشتقاقهما من الشَّبه، وجمع بينهما في الآية الأولى؛ للتَّفنُّن كراهية إعادة اللَّفظ بعينه؛ ولأنَّ اسم الفاعل من التَّشابه – متشابه – أسعد بالوقف عليه لما فيه من مدِّ الصَّوت بخلاف متشابه وهذا من بديع الفصاحة.
    وأرى أنَّ الصِّيغتين ليستا بمعنى واحد من حيث الدَّلالة السِّياقيَّة، فهناك فرق دقيق بينهما جاء القرآن الكريم به؛ لتخصيص كلِّ آية بالصِّيغة التي وردت فيها؛ لأنَّ الزِّيادة في المبنى تعطي زيادة في المعنى، كما أنَّ القرآن الكريم لا يستعمل كلمة بصيغة محدَّدة في موطن، ويستعملها بصيغة متماثلة في موطن آخر إلا لسبب يقتضيه سياق النَّص، فكلُّ لفظة اختصَّت بموطنها المناسب.
    فسياق الآية الأولى في بيان قدرة الله عز وجل وآياته الباهرة في خلقه قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ... فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ... وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا ... وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ... وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ...﴾ [الأنعام 95-99].
    وسياق الآية الأخرى ففي بيان الأطعمة وما يحلِّله ويحرِّمه أهل الكفر؛ افتراء على الله، وبيان عقائدهم الباطلة، قال تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ ... وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ ... وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ...﴾ [الأنعام 136 – 141].
    فالفعل اشتبه أكثر ما يفيد الالتباس والإشكال، وأنَّ تشابه أكثر ما يفيد المشاركة في معنى من المعاني. جاء في تاج العروس: "أمور مشتبهة ومشبَّهة كمعظَّمة، أي: مشكِلة ملتبسة يشبه بعضها بعضًا"[12]، وجاء في المصباح المنير: "فالمشابهة: المشاركة في معنى من المعاني، والاشتباه: الالتباس"[13].
    فـ "الأمور المشتبهة تحتاج إلى زيادة نظر وتأمُّل؛ لإدراك حقيقة أمرها، فوضع مشتبهًا في السِّياق الدَّال على قدرته وآياته، وفي موضع الأمر بالنَّظر انظروا إلى ثمره دون الموضع الآخر ممَّا ليس في هذا السِّياق،فكان كلُّ تعبير أنسب في سياقه الذي ورد فيه"[14].
    ب – بين التَّفضيل واسم الفاعل:
    جاءت صيغة أفعل التَّفضيل في قوله تعالى: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ﴾ [هود 22]، وصيغة اسم الفاعل في قوله تعالى: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [النحل 109].
    وقد اختلفت نظرة العلماء في بيان وجه المغايرة بين الصِّيغتين في سياقيهما فذهب الخطيب الإسكافيَُّ[15] – معتمدًا على السِّياقين اللُّغويِّ والحاليِّ – إلى أنَّ سياق آية هود تقدَّمها: ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾ [هود 20]، فهؤلاء ضُوعف لهم العذاب؛ لأنَّهم كما وصفهم الله بقوله: ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ [هود 19]، فهم لم يكتفوا بضلالهم، وإنَّما يضلون غيرهم؛ ليكونوا في الضَّلال سواء؛ فاستحقُّوا تضعيف العذاب، ولمَّا كانوا استحقُّوا الوصف بالخسران بصيغة التَّفضيل.
    أمَّا سياق آية النَّحل فلم يُخبر عن الكفَّار أنَّهم مع ضلالهم أضلُّوا من سواهم، وإنَّما جاء وصفهم بقوله سبحانه: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [النَّحل 107]. فهؤلاء لم يُذكر فيهم ما ذكر في آية هود من مضاعفة العذاب، كما أنَّ فواصل الآيات قبلها، مثل: الكافرين، والغافلون ناسب مجيء الخاسرون.
    وقد ذهب الكرمانيُّ إلى ما ذهب إليه الإسكافيُّ، ونقل عنه، وأرجع سبب تخصيص كلِّ صيغة في تراكيبها إلى السِّياق الذي سيقت فيه؛ "لأنَّ هؤلاء صدُّوا عن سبيل الله وصدُّوا غيرهم فهم الأخسرون يُضاعف لهم العذاب، وفي النَّحل صدُّوا فهم الخاسرون"[16]. وإلى هذين التَّحليلين أشار: الأنصاريُّ[17]، والألوسيُّ[18].
    بينما يرى ابن الزُّبير[19] أنَّ آية هود سبقها ما يُفهِم المفاضلة ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ [هود 17]، أي: من كان على بينة من ربه ليس كمن كفر وجحد وكذَّب الرُّسل، ثمَّ جاء قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [هود 18]، فهذه آية مفاضلة – أيضًا – فقد جاء باسم التَّفضيل أظلم، فناسب هذا لفظ الأخسرون بصيغة المفاضلة، ولو ورد الخاسرون لحصل التَّنافُر في النَّظم والتَّبايُن في السِّياق.
    وأمَّا سياق آية النَّحل فلم يقع قبلها تفاضُل وتفاوُت – كما في سياق آية هود – وإنَّما قبلها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النَّحل 104 – 105]، وبعد ذلك: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [النَّحل 107]، و ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [النَّحل 108]، فيلاحظ أنَّ فواصل هذه الآيات جاء بصيغة: اسم الفاعل المجموع جمع السَّلامة، فناسب مجيء الخاسرون ولم يكن هنا ما يستدعي المفاضلة لا من جهة المعنى، ولا من جهة اللَّفظ فتناسبت الآيات في سياقها وفواصلها.
    نلاحظ من تحليلي الإسكافيِّ، وابن الزُّبير أنَّهما اتَّفقا في تفعيل السِّياق اللغُّويِّ القائل بالتَّوفيق بين الفواصل، أمَّا سياق الحال فتأويل ابن الزُّبير يختلف عن الإسكافيِّ، ومن شايعه، فعند ابن الزُّبير أنَّ آية هود جاءت بصيغة التَّفاضُل لما سبقها من التَّفاضُل والتَّفاوُت، ولمَّا لم يكن قبل آية النَّحل مفاضلة جاءت بصيغة اسم الفاعل المجموع جمع مذكَّر سالمًا موافقة لِمَا سبقها من سياقات.
    ووظَّف أبو حيَّان صيغة التَّفضيل في تركيبها فاستلهم قولا لطيفًا، فقال – عند آية هود-: "ولما كان خسران النَّفس أعظم الخسران حكم عليهم بأنَّهم هم الزَّائدون في الخسران على كلِّ خاسر"[20].
    وكذلك كان من اليسير أن نتبيَّن قيمة ما أدركه علماؤنا في بيان الفارق الأساس بين الصِّيغتين في الاستعمال اللُّغويِّ عند تناول ابن عاشور لوجه المغايرة بين الصِّيغتين فذكر أنَّ آية هود جاءت بصيغة المفاضلة؛ لبيان أنَّ خسارتهم الأخرويَّة أعظم من خسارتهم الدُّنيويَّة، حيث قال: " ووقع في سورة هود ﴿هُمُ الأَخْسَرُونَ﴾ ووقع هنا في النَّحل ﴿هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾؛ لأنَّ آية سورة هود تقدَّمها ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ هود 21، فكان المقصود بيان أنَّ خسارتهم في الآخرة أشدُّ من خسارتهم في الدُّنيا"[21].

    يتبع
    مـــ ماجده ـلاك الروح
    مـــ ماجده ـلاك الروح
    الإداري المتميز
    الإداري المتميز


    الجنس : انثى

    مشاركات : 7979
    البلد : المنصورة مصر
    نقاط التميز : 17095
    السٌّمعَة : 22

    سؤال رد: المناسبة بين الأبنية المتماثلة في القرآن الكريم دراسة في دلالة المبنى على المعنى

    مُساهمة من طرف مـــ ماجده ـلاك الروح الأربعاء 17 سبتمبر - 14:11

    ج – بين اسم الفاعل وصيغة المبالغة
    تغايرت الصِّيغتان – ساحر وسحَّار – في سياقين، الأولى في سياق قوله تعالى: ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾ [الأعراف 112]، والثانية في قوله عز وجل: ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ [الشعراء 37].
    وقد أشار الزَّمخشريُّ[22] لسبب تخصيص كلِّ صيغة في تركيبها بأنَّ قوم فرعون عارضوا قوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ [الشعراء 109] بقولهم: ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ فجاءوا بصيغة المبالغة سحار؛ ليطمئنوا نفسه، ويسكِّنوا بعض قلقه.
    واستفاد ابن الجزريّ من إشارة الزَّمخشريِّ من دلالة الصِّيغتين في السِّياق وزاد الأمر توصيفًا فذكر أنَّ القرَّاء: " اتَّفقوا على حرف الشُّعراء أنَّه ﴿سَحَّارٍ﴾؛ لأنَّه جواب لقول فرعون[23] فيما استشارهم فيه من أمر موسى بعد قوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ فأجابوه بما هو أبلغ من قوله؛ رعاية لمراده بخلاف التي في الأعراف فإنَّ ذلك جواب قولهم[24] فتناسب اللَّفظان"[25].
    وعلَّل ابن جُمَّاعة[26] مجيء صيغة المبالغة ﴿سَحَّارٍ﴾ في آية الشُّعراء؛ بتقدُّم ﴿بِسِحْرِهِ﴾ في قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ [الشُّعراء 35]، وأمَّا في الأعراف فلم يأت لفظ ﴿بِسِحْرِهِ﴾ في قوله سبحانه: ﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ الأعراف 110، فناسب مجيء ساحر.
    ونقل الألوسيُّ[27] توصيفات في التَّفريق بين سحار و ساحر فسحَّار بصيغة المبالغة يكون لمن يريد السِّحر، وساحر، وساحر بصيغة اسم الفاعل يكون لمن سحر في وقت دون وقت، وقيل: إنَّ السَّاحر للمبتدئ في صناعة السِّحر، والسَّحَّار هو: المتمرِّس في السِّحر والمنتهى الذي يُتعلَّم منه ذلك.
    وهذا التَّفريق الذي نقله الألوسيُّ، هو تفريق في العموم بين السَّاحر والسَّحَّار، وليس مختصًّا في سياق آيتي الأعراف والشُّعراء.
    وجعل ابن عاشور[28] السَّحَّار مرادفًا للسَّاحر في الاستعمال اللُّغويِّ، وأنَّ صيغة فعَّال في قوله: سحَّار جاءت هنا للنَّسب دلالة على الصِّناعة، وذلك مثل: النَّجَّار، والقصَّار، وممَّا يدلُّ على ذلك مجيء عليم بالسِّحر الفائق في علمه.
    وقد استلزم من تحليل ابن عاشور أنَّ بناء فعَّال قد يأتي غير مراد به الكثرة أو المبالغة، قال العكبريُّ – عند قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيـدِ﴾ [آل عمران 182]-: "وظلام: فعَّال من الظُّلم، فإن قيل: بناء فعَّال للتَّكثير، ولا يلزم من نفي الظُّلم الكثير نفي الظُّلم القليل، فلو قال: بظالم لكان أُوِّل على نفي الظُّلم قليله وكثيره. فالجواب من ثلاثة أوجه: أنَّ فعَّالا جاء لا يُراد به الكثرة، كقول طرفة[29]:
    وَلَستُ بِحَلال التِّلاعِِ مَخَافَةً \ وَلَكِن مَتَى يَستَرفِدِ القَومُ أَرفِدِ
    ولا يريد هاهنا أنَّه قد يحلُّ التَّلال قليلا؛ لأنَّ ذلك يدفعه قوله: "مَتَى يَستَرفِدِ القَومُ أَرفِدِ" وهذا يدلُّ على نفي البُخل في كلِّ حال؛ لأنَّه تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة"[30].
    وحاصل دلالة التَّغاير بين الصِّيغتين في كُلٍّ: أنَّ الفاعل من السِّحر: ساحر لسياق قوله تعالى: ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾ [الأعراف 120]، و﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾ [الشًّعراء 40]، كما أنَّ السِّحرة جمع ساحر، ككتبة وكاتب، وفجرة وفاجر، أمَّا سحَّار فقد وُصِفَ بلفظ: عليم ووصفه يدلُّ على تناهيه فيه، وحذقه به؛ فناسب لذلك أن يُذكروا بالاسم الدّال على المبالغة في السِّحر[31].
    د – تبايُن صيغ الجموع
    هاتان الصَّيغتان خطايا و خطيئاتكم من الصِّيغ الدَّالَّة على الكثرة أو القلَّة، حيث وردت الصَّيغة الأولى في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ [البقرة 58]، وجاءت الصِّيغة الثَّانية في قوله سبحانه: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ﴾ [الأعراف 161].
    وقد أخذ الموجِّهون يُعلِّلون لتلك الظَّاهرة – تعاقب الصِّيغتين – وهم على ذُكر من هذه التَّفرقة المعنويَّة، بل التمسوا لإيثار صيغة على أخرى نكات بلاغيَّة كانت هي الدَّاعي إلى الالتفات لموضع كلِّ صيغة في سياقها.
    إذ ربط الخطيب الإسكافيُّ[32] بين موضع البقرة مكسَّرًا، وموضع الأعراف سالمًا، فخصَّ الصِّيغة الأولى بالتَّكسير؛ لأنَّ الله سبحانه أخبر في هذه الآية عن نفسه بقوله: ﴿وَإِذْ قُلْنَا﴾ فلمَّا أسند الفعل إلى نفسه سبحانه ناسب أن يذكر الخطايا التي تدلُّ على الكثرة؛ إشارة إلى أنَّ الله بجوده وكرمه يغفر الخطايا الكثيرة، ولمَّا لم يُسند الفعل إلى نفسه في آية الأعراف، ولم يُسم الفاعل فقال: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ﴾ أتى بلفظ خطيئات التي هي جمع مؤنث سالم للقلَّة فجاء كُلٌّ على ما يناسب، وتابعه على ذلك: الكرمانيُّ [33]، والرَّازيُّ[34]، والنَّيسابوريُّ[35]، والسِّيوطيُّ[36].
    ولم يرتض الألوسيُّ[37] اعتماد الإسكافيِّ على السِّياق اللُّغويِّ في بيان وجه الجمع بين التَّكسير، والسَّالم المتمثِّل في إذ قلنا و إذ قيل حيث ذكر بأنَّه وإن ورد في الأعراف وإذ قيل لكنَّه جاء في السُّورتين نغفر لكم بإضافة الغفران إلى نفسه سبحانه، ولا شك أنَّ رعاية سياق نغفر لكم أولى من رعاية وإذ قيل لهم؛ لتعلُّق الغفران بالخطايا؛ فعلى هذا التَّوجيه كان ينبغي أن يذكر جمع الكثرة الخطايا كذلك في الأعراف. وكأنِّي بالألوسي يشير إلى أنَّ السِّياق وحده هو الحكم في التَّفريق بين مدلولي القلَّة والكثرة بعيدًا عن مجاراة اللُّغوييِّن لتقسيم الجموع إلى كثرة وقلَّة، إلا أنَّه عاد بعد تحليله للصِّيغتين وذكر أنَّ هذه المغايرة ما هي إلا من باب التَّفنُّن في التَّعبير حيث قال: "وبالجملة التَّفنُّن في التَّعبير لم يزل دأب البلغاء وفيه من الدَّلالة على رفعة شأن المتكلم ما لا يخفى، والقرآن الكريم مملوء من ذلك"[38].
    واتَّجه ابن الزُّبير اتِّجاهًا آخر جمع فيه بين مدلولي الكثرة والقلَّة في البقرة والأعراف، وسياق السُّورتين حيث: "ورد جمعها في البقرة مُكسَّرًا؛ ليناسب ما بنيت عليه آيات البقرة من تعداد النِّعم والآلاء...؛ لأنَّ جموع التَّكسير ما عدا الأربعة أبنية: أفعُل، وأفعال، وأفعلة، وفِعلَة، إنَّما ترد في الغالب للكثرة فطابق الوارد في البقرة ما قُصد من تكثير الآلاء والنِّعم، وأمَّا الجمع بالألف والتَّاء فبابه القلَّة، وما لم يقترن به ما يبيِّن أنَّ المراد به الكثرة، فناسب ما ورد في الأعراف من حيث لم تُبنَ آيُها من قصد تعداد النِّعم على ما يناسب والله أعلم"[39].
    وعبارة ابن الزُّبير: " وأمَّا الجمع بالألف والتَّاء فبابه القلَّة، ما لم يقترن به ما يبيِّن أنَّ المراد الكثرة " عبارة على بساطتها ووجازتها خطيرة الأبعاد في دلالتها النَّافذة على دور السِّياق في التَّفريق بين مدلولي القلَّة والكثرة، فالعرب قد يجمعون بالألف والتَّاء، وهم يريدون الكثرة، وهذا ما ذكره سيبويه[40]، والنَّحَّاس[41]، ونقله ابن جِنِّي[42]، ودلَّل عليه، وأخذ به الزَّمخشريُّ[43]، وابن عطيَّة[44].
    يتبع
    مـــ ماجده ـلاك الروح
    مـــ ماجده ـلاك الروح
    الإداري المتميز
    الإداري المتميز


    الجنس : انثى

    مشاركات : 7979
    البلد : المنصورة مصر
    نقاط التميز : 17095
    السٌّمعَة : 22

    سؤال رد: المناسبة بين الأبنية المتماثلة في القرآن الكريم دراسة في دلالة المبنى على المعنى

    مُساهمة من طرف مـــ ماجده ـلاك الروح الأربعاء 17 سبتمبر - 14:11

    فإذا سلَّمنا بأنَّ ثَمَّ جموعًا للكثرة، وأخرى للقلَّة مجاراة للُّغوييِّن فهم أنفسهم يُقرِّرون حينما اصطدموا بالنُّصوص أنَّ: "جموع القلَّة إذا تَعَرفت بالألف واللام غير العهدية أو أضيفت،" عمَّت وصارت لا تخصُّ القليل والعام المستغرق لجميع الأفراد"[45].
    فالسِّياق هو المحدِّد الأساس لدور الكلمة في الاستعمال اللُّغويِّ لا بالقوالب الجامدة التي تبتعد عن روح النَّص.
    وبالجملة فإنَّ الفائدة من اختلاف الصِّيغتين بين السُّورتين مع كون القصة واحدة هي: "الإشارة إلى أنّ هذه الذُّنوب سواء كانت قليلة أو كثيرة فهي مغفورة بعد الإتيان بالمأمور به"[46]، أو "إذا حصل منهم الدُّعاء والتَّضرُّع"[47].
    وتتعاقب – كذلك – الصَّيغتان النبييِّن، و الأنبياء في سياقيهما، حيث وردت الصِّيغة الأولى جمعًا سالمًا، في قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [البقرة 61] ووردت صيغة الجمع المكسَّر في قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [آل عمران 112].
    لحظ الكرمانيُّ[48] أنَّ النَّسق القرآنيَّ في آية البقرة ورد جمع السَّلامة لموافقة ما بعده، حيث جُمِعَ جَمعَ سلامة، في نحو: الذين !!، و الصَّابئين، في سياق قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ﴾ [البقرة 62].
    أمَّا آية آل عمران التي وردت بالجمع المكسَّر فهي بخلاف ذلك وقد نقل الفيروز آبادي[49] هذا التَّوجيه، غير أنِّي أرى في توجيه الكرمانيِّ بُعدٌ؛ لأنَّ آية البقرة ورد فيها جمع التَّكسير: النَّصارى فكُسِر النَّسق الذي استدلَّ به الكرمانيُّ، كما أنَّ لفظ الذين ليس جمع مذكَّر سالمًا.
    وابتعد ابن الزُّبير الغرناطيُّ[50] عن المعهود اللُّغويِّ في دلالة الجمعين فلم يوجِّه الصِّيغتين في سياقهما،على ما يفيده الجمع السَّالم من القلَّة وجمع التَّكسير من الكثرة، وإنَّما وجَّههما توجيهًا آخر فذكر أنَّ سبب التَّخصيص هو أنَّ جمع التَّكسير يكون لأولي العلم وغيرهم، وأمَّا جمع المذكَّر السَّالم فالأصل أن يختصَّ بأولي العلم، وقد يأتي لغيرهم على سبيل الإلحاق والتَّشبيه، كقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف 4]، فإذا تقرَّر هذا فإنَّ ورود جمع المذكَّر السَّالم في آية البقرة مناسب لأمرين:
    الأوَّل: شرف الجمع لشرف المجموع، أي: أنَّ جمع المذكَّر أشرف لجمع نبي من جمع التَّكسير.
    الثّاني: أنَّ زيادة المدِّ في نبيين مناسبة لزيادة أداة التَّعريف في لفظ الحق.
    وأما آية آل عمران فلم يكن فيها إلاَّ شرف المجموع وكانت العرب تتَّسع في جمع التَّكسير فتوقعها على العقلاء أولي العلم وغيرهم، فجيء بجمع التَّكسير لتحصل اللُّغتان، فلا يبقى حجَّة لمن تُحدِّي بالقرآن؛ لأنَّهم مُخاطبون بما في لغاتهم فجيء بالجمعين كليهما؛ لبيان جوازهما.
    أقول: إنَّ في تحليل ابن الزَّبير نظر؛ وذلك لأنَّ شرف الجمع لشرف المجموع يتحقق في الجمعين كليهما وقد قرَّر هو نفسه هذا الكلام. أمَّا زيادة المدِّ لزيادة التَّعريف في لفظ الحق في آية البقرة، فإنَّه يتحقق هنا، ويتحقَّق كذلك في آية آل عمران التي فيها الأنبياء، الأولى بهذا التَّجانس الصَّوتي: لفظ الأنبياء فإنَّه مدُّ لازم يُمَّد أربع أو خمس حركات.
    ويتجه أبو حيَّان اتجاهًا آخر حيث يرى أنَّه لا فرق في الدَّلالة بين النبيين والأنبياء "لأنَّ الجمعين إذا دخلت عليهما أل تساويا، بخلاف حالهما إذا كانا نكرتين؛ لأنَّ جمع السَّلامة إذ ذاك ظاهر في القلَّة، وجمع التْكسير على أفعلاء ظاهر في الكثرة"[51].
    وقد قرَّر أبو حيَّان في موطن آخر هذه الرؤية، وهي أنَّ "جموع القلَّة إذا تعرَّفتْ بالألف واللاَّم غير العهدية أو أضيفتْ، عمَّت وصارتْ لا تخصُّ القليل، والعام مستغرق لجميع الأفراد"[52].
    ويؤيد ذلك ما ورد في سياق القرآن من جمعي السَّلامة مرادًا بها الكثرة، بل أكثر من ذلك استعمال الذِّكر الحكيم لصيغة جمع الكثرة في قوله سبحانه: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ﴾ [البقرة 228] في موضع القلَّة، وصيغة جمع القلَّة بأنفسهن في موضع الكثرة[53].
    وينساق ابن جني - سابقًا أبا حيَّان- في التَّأكيد على أنَّ جمع السَّلامة قد يفيدان الكثرة بدلالة السِّياق حيث ورد قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾ [الأحزاب 35] والغرض في جميعه الكثرة لا ما هو بين الثَّلاثة إلى العشرة"[54].
    وهكذا تخرج الصِّيغة الدِّالة على القلِّة عن أصل وضعها إلى الدَّلالة على الكثرة في سياقها.
    ثانيًا: أبنية الأفعال
    أ‌- أبنية الفعل بين التَّجريد والزيادة:
    تختلف صيغة الفعلين اسطاع واستطع بوحدة صرفيّة لها أثر فاعل في القيمة الدَّلالية لسياق قول الله عزَّ وجل: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف 97] فبينما يشير بعض المفسرين واللُّغويين كأمثال: ابن جرير[55]، والزَّجاج[56]، والفارسيّ[57]، وابن جني[58]، وأبو حيَّان[59]، إلى أنَّ الفعل اسطاع أصله: استطاع وحُذفتْ منه التاء؛ تخفيفًا، وهي علَّة يشيع دورانها في مثل هذا اللَّون من الحذف.
    نرى آخرين منهم[60] يستغلُّون هذا اللَّون وتلك العلَّة في الكشف عن سرِّ المغايرة في مبنى الفعلين في سياق واحد. فهذا ابن الزُّبير الغرناطيُّ يعتمد على هذه العلَّة، فيربط بينها وبين غرض الآية الَّذي يصوِّر علوَّ السَّدِّ وملاسته وصلابته وموقف يأجوج ومأجوج منه "فجيء أولاً بالفعل مُخفًّفًا عند إرادة نفي قدرتهم على الظُّهور على السَّد والصُّعود فوقه، ثمَّ جيء بأصل الفعل مُستوفى الحروف عند نفي قدرتهم على نقْبه وخرْقه، ولا شكَّ أنَّ الظُّهور أيسر من النَّقب، والنَّقب أشد عليهم وأثقل، فجيء بالفعل مخفَّفًا مع الأخفِّ، وجيء به تامًا مستوفى مع الأثقل، فتناسب، ولو قُدِّر بالعكس لما تناسب"[61].
    وبهذه القيمة التَّعبيريَّة التي ارتداها ابن الزُّبير نستطيع أن نستصحبها لبيان مراعاة النَّسق القرآنيِّ للمغايرة بين الفعلين تستطع وتسطع [الكهف 78، 82] من السُّورة نفسها بغرض إحداث نوعٍ من المناسبة الدَّلاليَّة بين المبنيين في سياقهما؛ إذ ورد الفعل في الآية غير محذوف التَّاء؛ لتصوير شدَّة الثِّقل الَّذي شعر به موسى - عليه السلام - حينما غُمَّ عليه لما كان يقوم به العبد الصَّالح من أفعال لا تتفق في ظاهر الأمر مع ما يعتاده النَّاس في الحياة، حتّى بلغت بهما المفارقة العلميَّة مبلغها، ثُمَّ ورد الفعل في الآية الأخرى مخفَّفًا بحذف التَّاء؛ للتَّنبيه على زوال ذلك الثِّقل عن كاهله، حيث خفَّ عليه ما لَقِيَه بظهور سببه، وبيان ذاته وكنهه، فكانت المناسبة بين كل بناء من البنائين مع ما يصوِّره من معنى، وما يكتنفه من قيم جماليَّة وتعبيريَّة[62].
    مـــ ماجده ـلاك الروح
    مـــ ماجده ـلاك الروح
    الإداري المتميز
    الإداري المتميز


    الجنس : انثى

    مشاركات : 7979
    البلد : المنصورة مصر
    نقاط التميز : 17095
    السٌّمعَة : 22

    سؤال رد: المناسبة بين الأبنية المتماثلة في القرآن الكريم دراسة في دلالة المبنى على المعنى

    مُساهمة من طرف مـــ ماجده ـلاك الروح الأربعاء 17 سبتمبر - 14:12

    كما تشير صيغتا تبع واتبع إلى قيمة تعبيريَّة يشير إليها، الملحظُ الدَّلاليُّ المستفاد من اختلاف الوحدة الصَّرفيَّة في الفعلين؛ تبعًا لسياقهما، حيث وردت الصِّيغتان في سياق آية [البقرة 38] ﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وفي سياق آية [طه 123] ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾.
    جاءت آية البقرة بلفظ تَبِعَ على وزن فَعِلَ، وجاءت آية طه بلفظ اتَّبع على وزن افْتَعَل، وقد يكونان بمعنى واحد، وهو ما تردَّد في قول سيبويه: "وقالوا: قرأت واقترأت يريدون شيئًا واحدًا.... وكذلك قلع واقتلع، وجذب واجتذب بمعنى واحد"[63].
    وكان هذا التَّعليل اللُّغويُّ خليقًا بأن يجد لنفسه أثرًا في توجيه هاتين الصِّيغتين في سياقهما، فاستقى الرَّاغب الأصفهانيَّ وجهته الدَّلاليَّة من كلام سيبويه؛ إذ "تبعه واتبعه قَفَا أثره... بالارتسام والائتمار"[64].
    ويكرر ابن منظور هذا الملحظ الدَّلاليَّ لوجه المناسبة بين المبنيين، وينقل عن أبي عُبيد، واللَّيث بن سعد الرَّأي نفسه في دلالة الصِّيغتين، يقول: "قال أبو عبيد: أَتْبَعْت القوم مثل أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم، قال: واتَّبعْتُهم مثل: افتعلت إذا مرُّوا بك فمضيتُ وتَبعْتُهم تبعًا مثله.... وقال اللَّيث: تَبِعْتُ فلانًا واتَّبعْته وأتَبعْته سواء"[65].
    ويستغلُّ الكرمانيّ[66]. السِّياق اللُّغويَّ؛ لتأكيد هذا المعهود اللُّغويِّ لمبنى الصِّيغتين، فيرى أنَّ ما جِيءَ في طه بلفظ اتَّبع لموافقة قوله تعالى قبل ذلك: ﴿يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ﴾ [طه 108].
    ويناصر الأنصاريُّّ[67] الكرمانيَّ فيما ذهب إليه، وزاد أنَّ آية البقرة على الأصل، وأنَّ السِّياق في آية طه لما بُني على التَّأكيد بقوله عزَّ وجل: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ﴾ [طه 115] ناسب أن تَختصَّ بالزِّيادة التي تفيد التَّأكيد.
    وقد لحظ ابن الزُّبير الغرناطيّ[68] أنَّ لكل واحد من الصِّيغتين تمايزًا عن الآخر؛ لأنَّ صيغة تبع ثلاثي هو الأصل، وصيغة اتبع مزيد هو الفرع، وما فيه من زيادة في المبنى يستلزم زيادة في المعنى، فإذا اشتركت الصِّيغتان في دلالتهما على الاتباع، فإنَّ تبع تدلّ على الاتِّباع الَّذي لا تكلُّفَ فيه ولا مشقة، وأمَّا اتبع فإنَّ هذه البنية افتعل تنبيء عن تكلُّف ومشقة، وتحميل للنَّفس طاقة أخرى.
    ويستدلُّ ابن الزُّبير على هذا الفرق بقوله: "ألا ترى قول الخليل -عليه السلام - في إخبار الله تعالى عنه ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ [إبراهيم 36] حيث أشار بقوله: فإنه مني إلى الخاصَّة من سالكي سبيله... فعبَّر بما يشير إلى غاية التَّمسك والقرب حين قال: مِنِّي فناسب ذلك قوله: تبعني، يريد: الجري على مقتضى الفطرة، وميَّز الحق بديهًا بسابقة التَّوفيق من غير إطالة نظر أو كبير علاج لسَبقية الهدى ووضوح الشَّواهد. وفي طرف من حال هؤلاء مَنْ قيل فيه: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص 50]، وهذه الآية وأمثالها مراد بها من تعامى عن النظر في الدَّلالات، وترك واضح الاعتبار وحمَّل نفسه - بقدر الله - على ما لا يشهد له نظر ولا يقوم عليه البرهان، فكأنَّ هؤلاء.... عالجوا أنفسهم حتى انقادت طباعهم إلى غير ما تشهد به الفطرة"[69].
    ويواصل ابن الزُّبير تأكيد ذلك بعرض مزيد من الشَّواهد تؤكِّد صحة ما ذهب إليه، فيقول: "وكذلك قيل لمن وُسِمَ بالإسراف من عصاة الموحدين، فقيل لهم ﴿اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم﴾ [الزمر 55]، وذلك لإلفتهم المخالفات، وانقياد نفوسهم لها احتاجوا في الإقلاع عن ذلك والأخذ في خلاف حالهم إلى التَّعمل والعلاج.
    وكذا قيل لمن ألف الطَّاعات وارتاض لالتزامها ﴿لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [النور 21]؛ لإلفة نفوسهم الطَّاعات حتَّى إنَّهم إن وقعتْ منهم مخالفة فبتعمُّل وعلاج؛ لأنها خلاف المألوف"[70].
    ويعتمد ابن الزُّبير سياق الحال الوارد في سياق القصَّة محل السُّورتين؛ لأنَّ سورة البقرة لم يُذكر فيها من كيد إبليس كما ذكر في سورة طه فلم يرد في البقرة من كيد إبليس إلاَّ قوله تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾ [البقرة 36] من غير تفصيل وبيان لهذا الإضلال والإغواء، فكانت المناسبة الدَّلالية لمبنى تبع التي تعني مجرد الاتباع من غير تعمل، ولا تكلَّفَ، ولا مشقَّة.
    وأمَّا في سورة طه فكان التَّفصيل، حيث ذكر كيفية الإغواء في قول الله عزَّ وجلَّ ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى﴾ [طه 120]، وذكر فيها قوة كيد اللَّعين واستحكام قبضته وحيلته حتى احتنك كثيرًا من البشر وأخلهم عن المستقيم؛ ومن ثم أصبح تمييز الحق لا يكون إلاَّ بتعمُّل ومشقَّة؛ لذا ناسب اتبع وجاء كلّ على ما يناسب معنى ونظمًا وإيجازًا، وإطالة مراعاة لسياق الحال في الآيات محل القصَّة القرآنية[71].
    ويتابع البقاعيُّ[72] ابن الزُّبير في توضيح الفرق بين الصِّيغتين وسرّ تغاير الاستعمال القرآنيّ لهما حيث احتكم لسياق الحال؛ لبيان الفرق مسترشدًا بالسِّياق اللُّغويِّ فيكون الاختلاف في عرض القصَّة هو السَّبب في المغايرة بين الصِّيغتين، فلمَّا عُرضتْ القصَّة في سورة البقرة لم يرد فيها حكاية إغواء الشَّيطان لآدم وزوجه إلاَّ بصيغة مجملة، فجاء الفعل تبع.
    وأمّا في سورة طه فقد ورد في القصَّة كيفية الإغواء، فلمَّا زاد ذلك قابله زيادة في صيغة الفعل.
    لكن ابن جُمَّاعة يضيف إلى هذه التَّحليلات السَّابقة وجهًا آخر تحتمله صيغة افتعل؛ إذ يمكن في نظره أن تفيد تجديد الفعل، وقد علَّل لذلك بالرَّبط بين سياق فعل آدم - عليه السلام - ومعصيته، ففي سياق سورة طه جاء الفعل اتبع بعد قوله ولم نجد له عزما، وبقوله وعصى آدم ربه فغوى "فناسب فمن اتبع، أي: جدَّد قصد الاتباع"[73].
    يتبع
    مـــ ماجده ـلاك الروح
    مـــ ماجده ـلاك الروح
    الإداري المتميز
    الإداري المتميز


    الجنس : انثى

    مشاركات : 7979
    البلد : المنصورة مصر
    نقاط التميز : 17095
    السٌّمعَة : 22

    سؤال رد: المناسبة بين الأبنية المتماثلة في القرآن الكريم دراسة في دلالة المبنى على المعنى

    مُساهمة من طرف مـــ ماجده ـلاك الروح الأربعاء 17 سبتمبر - 14:12

    ويحتفي الدُّكتور السَّامرائي بسياق الحال؛ لإظهار الفرق بين صيغتي الفعل كلتيهما في مقامهما فقصة آدم - عليه السلام - في البقرة مبنية على تكريمه وتشريفه حيث ذكر فيها استخلاف آدم - عليه السلام - في الأرض، وتفضيله على الملائكة بتعليمه الأسماء كُلِّها، وجهل الملائكة بها، وكذلك تكريمه بإسجاد الملائكة له، فاكتفى في البقرة بالصِّيغة الأخفِّ مبنى تبع، ولم يُشدِّد على بني آدم؛ تخفيفًا عليهم؛ مراعاة لمقام التَّكريم والتَّشريف. وأمَّا في سياق آية طه جاء اتَّبع بالتَّشديد؛ لإفادة المبالغة.
    ولم يكتف الدُّكتور السَّامرائي برؤيته هذه، بل ربط بين سياق الحال والسِّياق اللُّغويِّ، حيث جاء في أول البقرة قوله قلنا اهبطوا فالفعل قلنا أُسند إلى الله تعالى فناسبه: التَّخفيف الذي يفيد تلطُّف المولى سبحانه بعباده فجيء بالفعل تبع، كما أنَّ الفعل تبع تردَّد في سورة البقرة أكثر من أيِّ سورة أخرى فكان ذلك مناسبًا لمجيئه هنا[74].
    وتتغاير كذلك صيغتا كسب واكتسب في سياقهما؛ للدَّلالة على التَّنّوع الأسلوبيِّ الذي يُعدُّ نوعًا من أنواع الترابط النَّصي فقد كثر استعمال هاتين الصِّيغتين في سياقات مختلفة من كلام ربنِّا سبحانه فوقف اللُّغويون، والمفسِّرون فِرقًا في تعليل ذلك التَّنوع وتلك المغايرة في مبنى الفعلين.
    فاتَّجه خلق منهم - كأمثال ابن الجوزيِّ[75]، وأبي حيَّان[76]، وابن عاشور[77] - إلى أنَّ كسب واكتسب بمعنى واحد، فهما لغتان، ومعناهما واحد في كلام العرب، وإنَّما صار هذا التَّنوع في الاستعمال؛ تفنُّنًا وتحسينًا للكلام، وكراهية لإعادة الكلمة بعينها، وهي علَّة - كما ذكرنا قبلاً- يكثر دورانها في مثل هذا اللَّون من الحذف في الأبنية.
    واستدلوا بسياق قوله تعالى: ﴿فَمَهِّلِ الْكَـافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ [الطارق 17] حيث أفاد الكرمانيُّ أنَّه عَدَل في الصِّيغة إلى أمهل؛ لأنَّه من أصل مهَّل وبمعناه؛ كراهة التَّكرار[78].
    وبقول ذي الرُّمَّة[79]:
    ومُطْعَمُ الصَّيدِ هبَّالٌ لِبُغْيَتِهِ \ أَلْفَى أَبَاهُ بِذَاكَ الكَسْبِ يَكْتَسِبُ
    وقول النَّابغة[80]:
    إِنَّا اقْتَسَمْنَا خُطَّتَيْنَا بَيْنَنَا \ فَحَمَلْتُ بَرَّةَ وَاحْتَمَلْتَ فَجَارِ
    كما أنَّ السِّياق القرآنيَّ للصِّيغتين جاء بالتَّسوية بين الكسب والاكتساب، يقول أبو حيَّان: "... وقد جاء القرآن بالكسب والاكتساب في مورد واحد. قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر 38]، وقال تعالى: ﴿ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا﴾ [الأنعام 164]، وقال تعالى: ﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ [البقرة 81]، وقال تعالى: ﴿بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا﴾ [الأحزاب 58] فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشَّرِّ"[81].
    ويلحظ آخرون أنَّ ثمة سرًّا بلاغيًا لطيفًا كاد يبوح به تركيب المبنيين فهناك تمايز بين الكسب والاكتساب، وهو ما استلهمه الزَّمخشري الذي يرى أنَّ الاكتساب: اعتمال، فلمَّا كانت السَّيئات مِمَّا تشتهيه النَّفس وتَنجذب إليه وتأمر به كانت في تحصيله أجدّ، لذا جُعلت مكتسبة له، ولمَّا لم تكن النَّفس كذلك في الخير والحسنات وصفت بما لا دلالة فيه على المشقة والتَّعب، يقول: "فإن قلت: لِمَ خَصَّ الخير بالكسب والشَّدَّ بالاكتساب؟ قلت: في الاكتساب اعتمال، ولمَّا كان الشَّرُّ ممَّا تشتهيه النَّفس، وهي منجذبة إليه، وأمّارة به كانت في تحصيله أعمل وآجد فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولمّا لم تكن كذلك في باب الخير وُصِفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال"[82].
    ويعتمد ابن عطيَّة في توضيح وجه المغايرة بين الصِّيغتين على الأمرين، الأول: في نمط الكلام وحسن تصريفه وإيقاعه في التَّركيب، وهو سرُّ المخالفة بين المبنيين والثَّاني: في دلالة المبنيين على الخير والشَّرِّ. يقول: "وكُرِّر فعل الكسب فخالف بين التِّصريف حُسْنًا لنمط الكلام، كما قال تعالى: ﴿فَمَهِّلِ الْكَـافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ [الطارق 17] هذا وجهٌ، والذي يظهر لي في هذا أنَّ الحسنات هي ممَّا يُكسب دون تكلُّف؛ إذ كاسبها على جادَّة أَمر الله ورسم شرع، والسَّيئات تُكتَسَبُ ببناء المبالغة؛ إذ كاسبها يتكلَّف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى، ويتجاوز إليها فَحَسُن في الآية مجيء التَّصريفين؛ إحرازًا لهذا المعنى"[83]. واستظهر هذا التَّفريق الدَّلالي وقيمه البلاغيَّة: السَّمين[84]، وابن جُزيّ[85]، والألوسيّ[86].
    ولم يكن مستغربًا لدينا أن يسلك اللُّغويون والمفسِّرون هذا المسلك لبيان سرِّ التَّلوين بين المبنيين؛ إذ كان هذا التَّحليل موافقًا لسلفهم من أئمَّة اللُّغة، فهذا سيبويه يقول: "وأمَّا كسب فإنَّه يقول: أصاب، وأمَّا اكتسب فهو التَّصُّرف والطَّلب، والاجتهاد بمنزلة الاضطراب"[87].
    وكذا كان صنيع ابن جنيِّ؛ لأنَّ "معنى كسب دون معنى اكتسب لما فيه من الزِّيادة"[88].
    ويجاري الرَّضي رأيَّ سيبويه، وصنيع ابن جنِّي "فمعنى كسب: أصاب، ومعنى اكتسب: اجتهد في تحصيل الإصابة بأن زَاوَل أسبابها"[89].
    وبالجملة فإنَّ سياق الكلام هو الَّذي يُعيِّن المتلقِّي على فهم سرِّ المغايرة بين الأبنية المتماثلة بحسب ما يُمليه منطق التَّعبير، وأحسب أنَّ هذه المغايرة دليل على القيمة التعبيريَّة الكبرى التي أملاها التَّركيب على الصيغتين، وهي تكثيف دلالة التَّركيب بتعدُّدها واختلافها من مُتلقٍ إلى آخر بحسب نظره إلى السِّياق.
    ب- بناء الفعل للمعلوم والمجهول:
    يوافقنا في ذلك اختلاف الصِّيغتين قلنا وقيل في الخطاب القرآنيِّ، حيث وردت الصِّيغة الأولى في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ [البقرة 58] بذكر الفاعل، والثَّانية بطرح الفاعل في قوله عزَّ وجل: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ [الأعراف 161].
    هذا التَّلوين في الخطاب القرآنيِّ بين الصِّيغتين أرجعه الرَّازيُّ[90] في السِّياق الأوَّل قلنا لعلَّتين: إزالة الإبهام، وللسِّياق اللُّغويِّ السَّابق في التَّركيب، وهو تقدم ذكر النَّعم ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة 40، 47] فناسب التَّصريح بالفاعل وإذا قلنا بنسبة القول إلى الله عزَّ وجل.
    أمَّا آية الأعراف فقد زال الإبهام الحاصل بعد تقدُّم التَّصريح بالفاعل في آية البقرة، فكان المناسب بناء الفعل لما لم يُسمَّ فاعله، وتابعه على ذلك النَّيسابوريُّ[91]، وأبو حيَّان[92].
    ويميل ابن جُمَّاعة[93] لتحليل الرَّازيِّ، إلاَّ أنَّه أضاف: أنَّ آية الأعراف جيء فيها بصيغة الفعل لما لم يُسمَّ فاعله؛ لِمَا تقدّم من تعريفهم وتوبيخهم في قوله تعالى: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [الأعراف 138] ثم توبيخهم على فعلتهم في اتخاذهم العجل.
    وعلى هَدْي ممَّا سبق يأتي البقاعي؛ ليشيرإلى أنَّه عُبِّر بما لم يُسمَّ فاعله؛ "إعراضًا عن تلذيذهم بالخطاب؛ وإيذانًا بأنَّ هذا السِّياق للغضب عليهم بتساقطهم في الكفر وإعراضهم عن الشُّكر"[94].
    ويستغلُّ الألوسي هذه المغايرة بين مبنى الفعلين؛ لينبِّه على أنَّ هذا الاختلاف جاء للتفنُّن في التَّعبير؛ لأنَّ هذا التَّفنُّن في الخطاب طريق البلغاء، وفيه دلالة على رفعة شأن المتكلم[95]. كما أفاد عند آية الأعراف أنَّ الفعل ورد بالبناء للمفعول فيها؛ جريًا على سنن الكبرياء؛ وإيذانًا بأنَّ الفاعل غنيٌّ عن التَّصريح به[96].
    يتبع
    مـــ ماجده ـلاك الروح
    مـــ ماجده ـلاك الروح
    الإداري المتميز
    الإداري المتميز


    الجنس : انثى

    مشاركات : 7979
    البلد : المنصورة مصر
    نقاط التميز : 17095
    السٌّمعَة : 22

    سؤال رد: المناسبة بين الأبنية المتماثلة في القرآن الكريم دراسة في دلالة المبنى على المعنى

    مُساهمة من طرف مـــ ماجده ـلاك الروح الأربعاء 17 سبتمبر - 14:14

    أقول: إنَّ صيغة قِيلَ ألقتْ بظلال كثيفة من المعاني في سياقها حيث طُرح الفاعلُ معها، ولا شك أنَّ فاعل القول هو الله عز وجل كما صرَّحتْ به الصَّيغة الأولى عندئذ يصير حذفه لازمة أسلوبيَّة في التَّعبير، ويقوم سياق العلم به - سبحانه- مقام ذكره.
    وقد تناول اللُّغويُّون والمفسِّرون تلك الظاهرة - كما رأينا- وألمحوا في بحثها بلمحات جيدة في بابها من حيث ربطها بالسِّياق القرآنيِّ، إلاَّ إنَّهم لم يلتفتوا إلى أنَّ ما وراء اطِّراد ظاهرة البناء للمفعول قِيلَ غرضٌ بلاغيٌ عامٌ يضبط حركة التَّعبير بها - وإن كان الرَّازيُّ والبقاعيُّ قريبين من ذلك - وذلك حيثما يكون الاهتمام منصرفًا إلى الإعلام بوقوع الفعل، أو الاكتفاء على الحدث ألبتة دونما الاهتمام بفاعله.
    وإذا نظرنا إلى الصِّيغة قِيلَ محل التَّحليل لوجدنا أنَّ مقصود الآية هو: التَّنبيه على فعلتهم الشَّنيعة التي خالفوا فيها أمر الله بدخول مصر ساجدين، ووقوعهم في الكفر، وإعراضهم عن شكر الله تعالى، واتِّخاذهم العجل إلهًا من دون الله سبحانه، فوبَّخهم الله عزَّ وجل، ووصفهم بالجهل إنكم قوم تجهلون. وليس المقصود: الاهتمام بالفاعل والتَّصريح به؛ لأنَّ الغاية هي البنية الإخباريَّة لا البنية اللِّفظية في مقامها الأوَّل.
    وحذف الفاعل للاهتمام بوقوع الحدث ملحظ دلاليٌّ ترددَّ كثيرًا في ظاهرة البناء للمفعول، وقد فطن إلى ذلك ابن جنِّي في معرض توجيهه لبناء الفعل للمفعول[97] في قوله عز وجل: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾ [البقرة 31]، حيث قال: "... فإذا ثبت بهذا كلّه قوة عنايتهم بالفضلة حتى ألغوا حديث الفاعل معها وبنوا الفعل لمفعوله فقالوا: ضُرِبَ زيدٌ- حسُن قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾ لما كان الغرض منه أنَّه قد عرفها وعلمها، وأنس - أيضًا - علم المخاطبين بأنَّ الله تعالى هو الذي علّمه إيّاها بقراءة من قرأ ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾، ونحوه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ [المعارج 19]، وقوله تعالى: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء 28].... فقد علم أنَّ الغرض بذلك في جميعه أنَّ الإنسان مخلوق ومضعوف، وكذلك قولهم: ضُرِبَ زيدٌ، إنما الغرض منه أن يُعلم أنَّه منضرب وليس الغرض أن يعلم مَنْ الذي ضربه، فإن أريد ذلك، ولم يدل دليل عليه فلابد أن يذكر الفاعل فيُقال: ضَرَبَ فلانٌ زيدًا، فإن لم يفعل ذلك كَلَّفَ عِلْمَ الغيب[98].
    ويكرر ابن جنِّي هذا الملحظ البلاغيّ، ويؤكد عليه - بقوله - في موضع آخر: "إنَّ الفعل إذا بُنيَ للمفعول، لم يلزم أن يكون ذلك للجهل بالفاعل، بل ليُعْلم أنَّ الفعل قد وقع به، فيكون المعنى هذا لا ذكر الفاعل، ألا ترى إلى قول الله تعالى: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء 28]، وقوله تعالى: ﴿خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ [الأنبياء 37]، وهذا مع قوله عزّ وجل: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق 16]، وقال سبحانه: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ [العلق 2] فالغرض في نحو هذا المعروف: الفاعل إذا بُنيَ للمفعول إنَّما هو الإخبار عن وقوع الفعل به حَسْبُ، وليس الغرض فيه ذِكْرَ من أوقعه به فاعرف ذلك"[99].
    وتفطن الدكتورة بنت الشَّاطئ للقيمة الجماليَّة التي أدركها ابن جنيِّ في معرض حديثها عن ظاهرة الاستغناء عن الفاعل وبناء الفعل للمفعول، إذ هداها البيان القرآني في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ* وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ [الحاقة 13، 14] ببناء الأفعال نفخ وحملت ودكتا للمفعول إلى أنَّ "اطِّراد هذه الظَّاهرة في موقف البعث والقيامة يُنبِّه إلى أسرار بيانيَّة وراء ضوابط الصَّنعة البلاغيَّة وإجراءات الإعراب الشّكليَّة"[100]. ثم رأَتْ أنَّ بناء الفعل للمفعول والاستغناء عن ذكر الفاعل" فيه تركيز الاهتمام على الحدث بصرف النَّظر عن محدثه"[101].
    وقد يستدعي النَّظم القرآني العدول من البناء للمعلوم إلى المجهول؛ لإبراز سر بلاغيِّ، ربما لا يتَّضح تمام الوضوح بصيغة واحدة: كما في طُبِعَ، وطَبَعَ فهاتان صيغتان وردتا في سورة التَّوبة في سياقين يتقاربان لفظًا ومعنى فبين السِّياقين خمس آيات فقط، الصِّيغة الأولى: قوله تعالى: ﴿وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة 87]، والصِّيغة الثَّانية: قوله تعالى: ﴿وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة 93].
    وقد اعتمد الخطيبُ الإسكافيُّ في توضيح المغايرة الصَّرفية للبناءين على السِّياق اللُّغويِّ والحاليِّ، فيرى أنَّ صيغة لم يُسمَّ فاعله جاءت مساوقة لتركيب الآية قبلها، حيث قال تعالى: ﴿وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ﴾ [التوبة 86] فنوسب بين آخر هذه الآية، ومطلع الآية التي قبلها ووُفِّق بين صدر الكلام وآخره.
    أمَّا الصِّيغة الثَّانية طَبَعَ فجاءت في تركيب بُسِطَ فيه الكلام وأُشْيِعَ في بيان عذر المعذورين في سياق قوله تعالى: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة 91]، وقوله سبحانه: ﴿وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ [التوبة 92]، فلمَّا بُسط الكلام في عذر هؤلاء مع ما ناسبه من توبيخ للمتخلفين بغير عذر في قوله عزَّ وجل: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة 93]، فبنى الفعل للفاعل؛ لأنَّ السِّياق سياق بسط وإشباع وتوكيد لحال هؤلاء وهؤلاء، ولم يقع قبل هذا السِّياق ما يقتضي - لفظًا - البناء للمفعول فجاءت على الأصل[102]. وتابعه على ذلك التَّحليل: الكرمانيُّ[103]، وابن الزُّبير[104]، وابن جُمَّاعة[105]، والأنصاريُّ[106]. وهو تناسب لفظي جميل رُوعي منه سياق الآيات لفظًا ومعنى.
    غير أنَّ ابن عاشور[107] يرى أنَّه صرَّح بالفاعل في الصِّيغة الثَّانية؛ لاحتمال أن يكون الطبع فيها غير الطَّبع الذي جُبلوا عليه كما في سياق الصِّيغة الأولى، فهو طبع على طبع لغضب الله عليهم فَحرمهم النَّجاة من الطَّبع الأصليِّ، وزادهم غواية.
    وتُبرز المغايرة بين الصِّيغتين وجهًا آخر من المناسبة التي تجمع بين اللِّفظ والمعنى، حيث أفادت صيغة طَبَعَ أنَّ إسناد الطَّبع إلى الله عزَّ وجل أشد تمكنًا في القلب من بنائه على صيغة طُبِعَ بطرح الفاعل، فهو في الأولى أشدّ وأقوى، وقد كان ذلك لأنَّ صيغة طَبَعَ فيها من المبالغة والتَّأكيد ممَّا ليس في الصِّيغة الثَّانية، ويتَّضح ذلك من سياق الآيات الثَّلاث التي بعد سياق صيغة طَبَعَ فناسب ذلك إسناد الطَّبع إلى الله للإشارة على شدَّة تمكُّن الكفر في قلوبهم بخلاف سياق صيغة المبني للمفعول[108].
    وتظهر – كذلك – قيمة التَّحول في التَّركيب بتقديم صيغة على أخرى؛ لاستشراف قيم دلاليَّة، هي الغاية والسِّرُّ في التَّقديم، يتمثل هذا في يُطاف ويَطُوف حيث وردت الصِّيغتان كلتاهما في سورة الإنسان وسياق الحديث بهما عن الجنَّة والنَّار، فالصِّيغة الأولى في قوله تعالى: ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا﴾ [الإنسان 15]، والثَّانية في قوله تعالى: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا﴾ [الإنسان 19].
    نلاحظ أنَّ الفعل المبني للمفعول تقدّم الفعل المبني للفاعل، وقد ذكر سيبويه أنَّهم - أي العرب - "يقدِّمون الذي بيانه أهم لهم وهم ببيانه أعنى وإن كان جميعًا يهمانهم ويعنيانهم"[109]؛ ومن ثمَّ استثمر الخطيبُّ الإسكافيُّ هذه القاعدة المطَّردة في بيان علَّة مجيء النَّظم القرآني على هذا النَّسق، حيث أفاد أنَّ الصِّيغة الأولى في سياقها القصد فيها وصف ما يُطاف به، ولم يقصد وصف الطَّائفين، فناسب لذلك بناء الفعل للمفعول،وأنَّ الصِّيغة الثَّانية في سياقها. المقصود فيها وصف الطَّائفين، لا وصف المطوف به، فقال: "إنَّ القصد في الآية الأولى وصف ما يُطاف به من الأواني دون وصف الطَّائفين، فلمَّا كان المعتمد بالإفادة ذاك بني الفعل مقصودًا به ذكر المفعول لا الفاعل.... وأمَّا الموضع الثَّاني الذي سمَّي فيه الفاعل، وهو قوله: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ﴾ فإنَّ القصد فيه وصف الفاعلين الذين يطوفون بهذه الآنية فوجب ذِكْرهم؛ لتعلُّق الصِّفة بهم"[110].
    م
    ماجده
    مدير عام
    مدير عام


    الجنس : ذكر

    مشاركات : 6872
    البلد : Morocco
    نقاط التميز : 8208
    السٌّمعَة : 3

    سؤال رد: المناسبة بين الأبنية المتماثلة في القرآن الكريم دراسة في دلالة المبنى على المعنى

    مُساهمة من طرف مدير عام الجمعة 19 سبتمبر - 17:56

    المناسبة بين الأبنية المتماثلة في القرآن الكريم دراسة في دلالة المبنى على المعنى Mnwa8tk7

      مواضيع مماثلة

      -

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة 22 نوفمبر - 10:22