د.محمد عبد الخالق شريبة
طبيب وكاتب إسلامي مصري
الديار التي سكنها قيدار لتترنم سكان سالع
قيدار هو الجد الأكبر لقبائل مكة، وهو من أبناء إسماعيل عليه السلام كما تخبرنا المصادر التاريخية ، وكما يخبرنا أيضا الكتاب المقدس في سفر التكوين الإصحاح 25 الفقرة 13:
(وهذه أسماء بني إسماعيل بأسمائهم حسب مواليدهم: نبايوت بكر إسماعيل وقيدار وأدبائيل ومبسام……).
وقيدار بن إسماعيل ينسب له العرب المستعربة، والتي تسمى أيضا بالعرب العدنانية نسبة إلى عدنان الذي انحدر من صلب قيدار بن إسماعيل عليه السلام.
والديار التي سكنها قيدار هي الديار التي سكنها إسماعيل، وهي الديار التي سكنها النبي – صلى الله عليه وسلم-، وهى مكة المكرمة..
ورد في كتاب قلب جزيرة العرب:(ولى إسماعيل عليه السلام زعامة مكة وولاية البيت طوال حياته، ثم ولى اثنان من أبنائه: نابت ثم قيدار، ويقال العكس).
وورد في كتاب الرحيق المختوم في حديثه عن نسب النبي-صلى الله عليه وسلم- وقبائل مكة إلى قيدار بن إسماعيل: (وقد رزق الله إسماعيل اثني عشر ولدا ذكرا وهم: نابت أو بنايوط وقيدار وأدبائيل ومبشام ومشماع ودوما وميشا وحدد ويتما ويطور ونفيس وقيدمان، وتشعبت من هؤلاء اثنتا عشرة قبيلة، وانتشرت هذه القبائل فى أرجاء الجزيرة بل وإلى خارجها، ثم أدرجت أحوالهم فى غياهب الزمان إلا أولاد نابت وقيدار.
وقد ازدهرت حضارة الأنباط –أبناء نابت- في شمال الحجاز وكونوا حكومة قوية ولم يكن يستطيع مناوأتهم أحد حتى جاء الرومان فقضوا عليهم، وأما قيدار بن إسماعيل فلم يزل أبناؤه بمكة يتناسلون هناك حتى كان منه عدنان وولده معد.
وقد تفرقت بطون معد من ولده نزار إلى أربعة قبائل عظيمة: إياد وأنمار وربيعة ومضر، وهذان الأخيران هما اللذين كثرت بطونهما فكان من ربيعة: أسد بن ربيعة وعنزة وعبد القيس وابنا وائل-بكر- وتغلب وحنيفة وغيرها
وتشعبت قبائل مضر إلى شعبتين عظيمتين: قيس بن عيلان بن مضر وبطون إلياس بن مضر. فمن قيس عيلان: بنو سليم وبنو هوازن وبنو غطفان، ومن إلياس بن مضر: تميم بن مرة وهذيل بن مدركة وبنو أسد بن خزيمة وبطون كنانة بن خزيمة، ومن كنانة:قريش، وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة.
وانقسمت قريش إلى قبائل شتى من أشهرها بطون قصي بن كلاب وهى عبد الدار بن قصي وأسد بن عبد العزى بن قصي وعبد مناف بن قصي.
وكان من عبد مناف أربع فصائل:عبد شمس ونوفل والمطلب وهاشم وبيت هاشم هو الذي اصطفى الله منه سيدنا محمد بن عبد الله بن هاشم صلى الله عليه وسلم).
هذا هو قيدار بن إسماعيل الذي انحدرت منه قبائل مكة، ولكن ما هو سالع؟
سالع هو جبل سلع بالمدينة المنورة، وهو جبل يقع غرب المسجد النبوي علي بعد 500 متر تقريبا من سوره الغربي، يبلغ عرضه ما بين 300 إلي 800 مترا، وارتفاعه 80 مترا، ولهذا الجبل أهمية تاريخية فلقد وقعت علي سفوحه أو بالقرب منه عدة أحداث هامة أهمها غزوة الخندق التي تجمع فيها المشركون في جهته الغربية وكان يفصل بينه وبينهم الخندق، وكان سفح جبل سلع مقر قيادة المسلمين إذ ضربت خيمة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم-ورابط عدد من الصحابة في مواقع مختلفة منه، عند قاعدة الجبل سكنت منذ العهد النبوي قبائل عدة، وفي العهد العثماني أقيمت علي قمته عدة أبنية عسكرية ما زالت أثارها باقية حتى الآن، وفي عصرنا الحالي أحاط العمران بالجبل من كل ناحية وصار جزءا من حدود المنطقة المركزية للمدينة المنورة.(1)
ولكن ماذا يقول الكتاب المقدس عن الديار التي سكنها قيدار وعن سالع ؟
ورد في التوراة في سفر أشعياء ( أشعياء أحد أنبياء بني إسرائيل ولد قبل ميلاد المسيح بحوالي ثمانمائة عام ) الإصحاح 41: 29 و 42 من 1 إلى 17:
41:29 ها هم كلهم باطل وأعمالهم عدم ومسبوكاتهم ريح وخواء (يتحدث الله عن قوم يصفهم ويصف أعمالهم بالباطل والضلال و ( المسبوكات ) إشارة إلى الأصنام التي يصنعوها بأيديهم )
42: 1 هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرت به نفسي وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم. ( يتحدث الله عن عبده ومختاره الذي سيؤيده ويؤازره حتى يخرج الحق للأمم )
42: 2 لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته. (إشارة إلى حسن أخلاقه وأنه يتحدث بخشوع وبرفق لا يؤذي من يسمعه بصوته)
42: 3 قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفيء إلى الأمان يخرج الحق. ( إشارة إلى رحمته بالضعيف )
42: 4 لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته. (الجزائر جمع جزيرة ويقصد بها البلاد والأماكن عموما في الكتاب المقدس، ويقول قاموس الكتاب المقدس عنها أنها تعني الأراضي الجافة التي تطل على مياه وهذا يوافق أرض الجزيرة العربية الجافة والتي يحيط بها الخليج العربي والبحر الأحمر).
42: 5 هكذا يقول الله الرب خالق السماوات وناشرها باسط الأرض ونتائجها معطي الشعب عليها نسمة والساكنين عليها روحا.
42: 6 أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدا للشعب ونورا للأمم.
42: 7 لتفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة.
42: 8 أنا الرب هذا اسمي، ومجدي لا أعطيه لآخر، ولا تسبيحي للمنحوتات. ( المنحوتات هي الأصنام المنحوتة )
42: 9 هوذا الأوليات قد أتت والحديثات أنا مخبر بها قبل أن تنبت أعلمكم بها. ( يخبر الله أنه هنا يتكلم عن أشياء مستقبلية يخبرنا بها قبل أن تحدث)
42: 10 غنوا للرب أغنية جديدة تسبيحة من أقصى الأرض أيها المنحدرون في البحر وملؤه والجزائر(جمع جزيرة) وسكانها.
42: 11 لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا.
42: 12 ليعطوا الرب مجدا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر.
42: 13 الرب كالجبار يخرج كرجل حروب ينهض غيرته يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه.
42: 14 قد صمت منذ الدهر. (هذه الجملة في النسخة الإنجليزية: أمسكت سلامي منذ زمن طويل، ويقول القاموس الإنجليزي للكتاب المقدس أن سلامي تكتب في العبرية شيلاميم، ونلاحظ أن حروفها هي نفس الحروف التي تشتق منها كلمة الإسلام).
42: 15 اخرب الجبال و الآكام و أجفف كل عشبها واجعل الأنهار يبسا وانشف الآجام.
42: 16 وأسير العمي في طريق لم يعرفوها في مسالك لم يدروها أمشيهم اجعل الظلمة أمامهم نورا والمعوجات مستقيمة هذه الأمور افعلها ولا اتركهم.
42: 17 قد ارتدوا إلى الوراء يخزى خزيا المتكلون على المنحوتات القائلون للمسبوكات انتن آلهتنا. ( يؤكد النص مرة أخرى أن هؤلاء العمي كانوا قبل هدايتهم من عبدة الأصنام )
إذا تأملنا النص التوراتي السابق يتبين لنا بوضوح أنه يشير للنبي – صلى الله عليه وسلم- فالنص بدأ بالحديث عن قوم ضالين من عبدة الأصنام:
41:29 ها هم كلهم باطل وأعمالهم عدم ومسبوكاتهم ريح وخواء.
ثم بدأ النص في الحديث عن صفات ذلك النبي الذي سيبعثه الله لهؤلاء القوم الضالين عبدة الأصنام وتلك الصفات التي وردت في النص لا يمكن أن تنطبق إلا على النبي –صلى الله عليه وسلم:
42: 1 هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرت به نفسي وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم.
42: 2 لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته.
42: 3 قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفيء إلى الأمان يخرج الحق .
42: 4 لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته.
42: 5 هكذا يقول الله الرب خالق السماوات وناشرها باسط الأرض ونتائجها معطي الشعب عليها نسمة والساكنين عليها روحا.
42: 6 أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدا للشعب ونورا للأمم.
42: 7 لتفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة.
42: 8 أنا الرب هذا اسمي، ومجدي لا أعطيه لآخر، ولا تسبيحي للمنحوتات.
كما نرى فإن تلك الصفات لا يمكن أن تشير إلا للنبي صلى الله عليه وسلم فهو عبد الله ومختاره الذي أخرج الحق للأمم، ولم يكل ولم ينكسر حتى وضع الحق في الأرض وأرشد الناس إلى جميع الحق، فهو صاحب الشريعة الكاملة التي أتمها الله في عهده، ولم يقبضه إلا بعد اكتمالها( لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض )، ولذلك يقول الله تعالى في سورة المائدة (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، وهو الذي عصمه الله من المشركين حتى بلغ رسالته، وأدى أمانته (فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدا للشعب ونورا للأمم).. ولذلك يقول الله في قرآنه مخاطبا نبيه(والله يعصمك من الناس).. والنبي-صلى الله عليه وسلم- هو الذي أخرج الناس من ظلمة الشرك وعبادة الأصنام والمنحوتات إلي عبادة الله الواحد (أنا الرب هذا اسمي، ومجدي لا أعطيه لآخر، ولا تسبيحي للمنحوتات).
والعجيب أن النصارى حملوا الصفات الواردة في النص على المسيح عليه السلام رغم أن تلك الصفات لا يمكن أن تنطبق على المسيح عليه السلام لأن دعوة المسيح قد ظهرت في بني إسرائيل، وهي أمة كتابية ليست من عبدة الأصنام مثل أهل مكة الذين بعث فيهم النبي-صلى الله عليه وسلم-.. بل إن المسيح قد بعث في بني إسرائيل في وقت كانوا قد تخلصوا فيه من الوثنية وعبادة الأصنام تماما.. وكلمة (وضعت روحي عليه) التي وردت في النص تعنى النصرة والتأييد من الله، وهى عامة لجميع الأنبياء، ولا يختص بها المسيح من دونهم، ومثال ذلك ما جاء في الكتاب المقدس (وكان روح الله على عزريا بن عوديد)، وأيضا ما جاء في الكتاب المقدس في سفر العدد(يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء إذا وضع الله روحه عليهم). ولو افترضنا أن النص يتحدث عن المسيح عليه السلام ؛ فهو بذلك يثبت أن المسيح عليه السلام هو عبد لله، وليس ابنا له أو شريكا معه في الألوهية(هو ذا عبدي الذي أعضده).. والمفاجأة التي وجدناها في النص عند قراءته في النسخة الإنجليزية ( وما أكثر المفاجآت عند مقارنة النسخة العربية بالنسخة الإنجليزية ! ) هو أن كلمة ( الأمم ) الواردة في النص ليست ترجمة لكلمة (nations) كما هو متوقع ولكنها ترجمة لكلمة (gentiles) وتترجم في العربية إلى الأميين ويقول قاموس الكتاب المقدس (إيستون بيبل ديكشوناري) أن هذا اللفظ هو ترجمة لكلمة ( جوييم ) في العبرية وهو لفظ يطلقه اليهود على الأمم الغير إسرائيلية ويقول أيضا أن اليهود يستخدمونه كمصطلح لاحتقار الأمم الأخرى من غير اليهود حيث يقسم اليهود الناس إلى صنفين: أهل كتاب يقصدون أنفسهم وباقي الناس يطلقون عليهم هذا اللفظ ( جوييم ) أو ( أميين ) .. وبالطبع يرفض النصارى هذا التقسيم باعتبارهم أيضا من أهل الكتاب، وهذا هو الحق عند المسلمين وهو أن هذا اللفظ كان يستخدم لوصف الأمم من غير أهل الكتاب قبل ظهور الإسلام كما يخبرنا القرآن الكريم: (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا). آل عمران 20.. (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) آل عمران: 75..وهم الذين بعث فيهم النبي –صلى الله عليه وسلم- ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) الجمعة 2..(الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل)..الأعراف 157.. (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) الأعراف 158.. والصفات السابقة هي تقريبا نفس الصفات التي وردت في النص الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه عن عطاء بن ياسر أنه قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص قلت: أخبرني عن صفة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في التوراة، قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا ).
وبعد حديث النص عن عبدة الأصنام وعن صفات النبي الذي سيخرج فيهم بدأ النص في الحديث عن مكان خروج الرسالة الجديدة:
يتبع