الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم..
أما بعد:
فإن المتأمل في حال الأمة الإسلامية في العصور المتأخرة يتألم لما آلت إليه الحال، وما وصلت إليه من مستوى يندى له الجبين، وقد قلبت النظر في هذا الواقع متلمساً الأسباب، وباحثاً عن سبل العلاج، محاولاً المساهمة في الخروج فوجدت أن جهلنا بواقعنا سبب رئيس من أسباب مصيبتنا، وأيقنت أن فقه الواقع علم هجره الكثير من طلاب العلم ورواد الصحوة، فأحببت في هذا المقال أن أذكر بعض (مقومات فقه الواقع) علها تعين طالب العلم على الانطلاق منها.
إن لكل علم أصوله وقواعده التي يبنى عليها، وبدون تلك الأصول والقواعد يصبح علماً لا هوية له، ويخضع للأهواء والأمزجة وفقه الواقع له مقوماته التي عنها ينبثق ومنها ينطلق وهذه المقومات تصونه من استباحة المدعين، وتعين الراغبين في التخصص فيه، والغوص في بحوره، وبمقدار اكتمال هذه المقومات تتكامل شخصية المنتمي إليه، وحسب تخلف أي واحد منها ينثلم العلم ويضعف صاحبه.
أولاً: القناعة بأهميته:
لا يمكن أن يتخصص في هذا العلم من كان يظن أن فقه الواقع مجرد مزيد من الثقافة أو أن الأمة بحاجة إليه. البوابة الرئيسة للولوج فيه: القناعة التامة بأهميته وضرورته، وأن تعلمه فرض كفاية. على طالب العلم أن يدرك أن من أسباب تخلف الأمة في عصرها الحاضر جهلها بواقعها، وغفلة بعض طلاب العلم عما يكيده الأعداء ويخططون له. انشغل بعض طلاب العلم والدعاة في قضايا مهمة ولا شك ولكنهم غفلوا عن قضايا أكثر أهمية، ومنها فقه الواقع، فخلا الجو لأعدائنا، فالمقوم الأول أن نتقنع بأهمية هذا العلم وأثره في حياة المسلمين، وحاجة الأمة إليه حاضراً ومستقبلاً.
ثانياً: التأصيل الشرعي:
من الملحوظ في واقعنا أن أكثر المعنيين بفقه الواقع ممن لم يدرسوا العلوم الشرعية ولم يتخصصوا فيها بل إن عباقرة العلم السياسي المعاصر – حسب ما تنشر وسائل الإعلام – من غير المسلمين، وهذا سببه عزوف كثير من طلاب العلم عن التخصص في هذا الجانب، بل إن بعضهم لديه قناعة أن هذا الأمر لا يعنيه, حتى رأينا من طلاب العلم من يفسر الحديث المشهور «من حسن إسلام المرء تركته مالا يعنيه»[رواه الترمذي]، بترك الأمور السياسية وفقه الواقع لغيره، لذا فإن أقوى مقوم من مقومات فقه الواقع هو التأصيل الشرعي وأحق الناس في هذا الجانب هم العلماء وطلاب العلم، ولا يستلزم أن يكون المتخصص في فقه الواقع أحد خريجي كلية الشريعة، وإنما لا بد أن يكون لديه من العلم الشرعي ما يحتاج إليه في تخصصه مما لا يعذر بجهله من فرض العين أو الكفاية.
ثالثاً: سعة الإطلاع وتجدده:
يختلف هذا العلم عن كثير من العلوم ، فهناك بعض الفنون يستطيع طالبها أن يتقنها في مدة محددة، ثم ينتقل عنها إلى غيرها، بينما بعض أنواع العلوم يحتاج إلى التخصص والاستمرار في متابعة وملاحقة الجديد فيها، وفقه الواقع يحتاج إلى شيئين مهمين:
1- سعة الإطلاع: نظراً لتشعب هذا العلم وشموله، فيحتاج إلى كثير من الفنون، سواء العلوم الشرعية كالعقيدة والفقه أو العلوم الاجتماعية كالتاريخ، أو العلوم المعاصرة كالسياسية والإعلامية... وهلم جراً، وإذا قصر في علم من هذه العلوم أو غيرها مما يحتاج إليه، فسينعكس ذلك سلباً على قدرته على فقه الواقع وتقويم الأحداث والحكم عليها.
2- التجديد والاستمرار: فهذا العلم يحتاج إلى قدرة فائقة على المتابعة والبحث في كل جديد، فهو يختلف عن كثير من العلوم، لذا يلزم المتخصص أن يكون لديه دأب لا يكل في متابعة الأحداث، ودراسة أحوال الأمم والشعوب، فلو انقطع عنه مدة من الزمن أثر على تحصيله وقدرته في فهم مجريات الأحداث وتقويمها.
ومن هنا أصبح لزاماً على طالب العلم أن يعي هاتين الحقيقتين، وهما:
- سعة الإطلاع وتنوعه.
- التجديد والاستمرار فيه.
رابعاً:- القدرة على الربط والمقارنة والتحليل:
هناك عناصر أساسية للوصول إلى حقائق الواقع وتوقع المستقبل، وهي:
1- جمع الأخبار والمعلومات.
2- المقارنة والربط بين الأحداث.
3- تحليل المعلومات والوصول إلى نتائجها.
أما الأول فمسألة آلية يستطيعها كثير من العامة.
وأما الثاني والثالث فتحتاج إلى عاملين أساسيين:
الأول: الموهبة.
الثاني: الاكتساب.
فلو ضعف أحد العاملين أمكن تداركه بالثاني، ومن هنا فمسألة الربط والمقارنة ثم التحليل مسألة مهمة وأساسية، وبدونهما تكون النتائج خاطئة.
خامساً: التفاعل الإيجابي مع الواقع:
من أجل أن تفقه الواقع لا بد أن تعيش هذا الواقع وأن تكون عنصراً متأثراً ومؤثراً فيه، والذي يعيش على هامش الحياة لا يستطيع أن يدرك أبعاد هذا العالم وما يجري فيه، ولهذا فمن لوازم هذا العلم أن تتفاعل مع الأحداث تفاعلاً إيجابياً.
سادساً: حسن اختيار المصادر:
مشكلة فقه الواقع تباين المصادر وتعارضها، فمصادر الفقه كتب الفقه وأصوله، ومصادر اللغة كتب اللغة، أما مصادر فقه الواقع فإنها متعددة ومتنوعة ومتباينة، فمن مصادر إسلامية إلى مصادر مادية، ومن مراجع قديمة إلى مراجع معاصرة، ومن أخبار المسلمين إلى أخبار الكفار والملحدين وهكذا.
وبهذا يعيش المتخصص في هذا العلم في حيرة من أمره كيف يختار هذه المصادر، فيحتاج الأمر إلى دقة وعناية، وكذلك نظراً لكثرة مصادر هذا العلم وتنوعها، لا يستطيع المتخصص الإحاطة بها، فيحتاج إلى حسن اختيار توفيراً للجهد، واكتفاء بالأحسن عن الحسن والفاضل عن المفضول، والأهم عن المهم.
فهذه هي مقومات فقه الواقع، من أقامها انقاد له هذا العلم وتمكن منه، ومن قصر فيها انعكس ذلك على علمه وإدراكه.. أسأل الله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
____________
(*) هذه الكلمة مستلة من كتابي فقه الواقع، ومن أراد مزيد بسط للمقال فليراجع الكتاب.
مـــ ماجده ـلاك الروح
أما بعد:
فإن المتأمل في حال الأمة الإسلامية في العصور المتأخرة يتألم لما آلت إليه الحال، وما وصلت إليه من مستوى يندى له الجبين، وقد قلبت النظر في هذا الواقع متلمساً الأسباب، وباحثاً عن سبل العلاج، محاولاً المساهمة في الخروج فوجدت أن جهلنا بواقعنا سبب رئيس من أسباب مصيبتنا، وأيقنت أن فقه الواقع علم هجره الكثير من طلاب العلم ورواد الصحوة، فأحببت في هذا المقال أن أذكر بعض (مقومات فقه الواقع) علها تعين طالب العلم على الانطلاق منها.
إن لكل علم أصوله وقواعده التي يبنى عليها، وبدون تلك الأصول والقواعد يصبح علماً لا هوية له، ويخضع للأهواء والأمزجة وفقه الواقع له مقوماته التي عنها ينبثق ومنها ينطلق وهذه المقومات تصونه من استباحة المدعين، وتعين الراغبين في التخصص فيه، والغوص في بحوره، وبمقدار اكتمال هذه المقومات تتكامل شخصية المنتمي إليه، وحسب تخلف أي واحد منها ينثلم العلم ويضعف صاحبه.
أولاً: القناعة بأهميته:
لا يمكن أن يتخصص في هذا العلم من كان يظن أن فقه الواقع مجرد مزيد من الثقافة أو أن الأمة بحاجة إليه. البوابة الرئيسة للولوج فيه: القناعة التامة بأهميته وضرورته، وأن تعلمه فرض كفاية. على طالب العلم أن يدرك أن من أسباب تخلف الأمة في عصرها الحاضر جهلها بواقعها، وغفلة بعض طلاب العلم عما يكيده الأعداء ويخططون له. انشغل بعض طلاب العلم والدعاة في قضايا مهمة ولا شك ولكنهم غفلوا عن قضايا أكثر أهمية، ومنها فقه الواقع، فخلا الجو لأعدائنا، فالمقوم الأول أن نتقنع بأهمية هذا العلم وأثره في حياة المسلمين، وحاجة الأمة إليه حاضراً ومستقبلاً.
ثانياً: التأصيل الشرعي:
من الملحوظ في واقعنا أن أكثر المعنيين بفقه الواقع ممن لم يدرسوا العلوم الشرعية ولم يتخصصوا فيها بل إن عباقرة العلم السياسي المعاصر – حسب ما تنشر وسائل الإعلام – من غير المسلمين، وهذا سببه عزوف كثير من طلاب العلم عن التخصص في هذا الجانب، بل إن بعضهم لديه قناعة أن هذا الأمر لا يعنيه, حتى رأينا من طلاب العلم من يفسر الحديث المشهور «من حسن إسلام المرء تركته مالا يعنيه»[رواه الترمذي]، بترك الأمور السياسية وفقه الواقع لغيره، لذا فإن أقوى مقوم من مقومات فقه الواقع هو التأصيل الشرعي وأحق الناس في هذا الجانب هم العلماء وطلاب العلم، ولا يستلزم أن يكون المتخصص في فقه الواقع أحد خريجي كلية الشريعة، وإنما لا بد أن يكون لديه من العلم الشرعي ما يحتاج إليه في تخصصه مما لا يعذر بجهله من فرض العين أو الكفاية.
ثالثاً: سعة الإطلاع وتجدده:
يختلف هذا العلم عن كثير من العلوم ، فهناك بعض الفنون يستطيع طالبها أن يتقنها في مدة محددة، ثم ينتقل عنها إلى غيرها، بينما بعض أنواع العلوم يحتاج إلى التخصص والاستمرار في متابعة وملاحقة الجديد فيها، وفقه الواقع يحتاج إلى شيئين مهمين:
1- سعة الإطلاع: نظراً لتشعب هذا العلم وشموله، فيحتاج إلى كثير من الفنون، سواء العلوم الشرعية كالعقيدة والفقه أو العلوم الاجتماعية كالتاريخ، أو العلوم المعاصرة كالسياسية والإعلامية... وهلم جراً، وإذا قصر في علم من هذه العلوم أو غيرها مما يحتاج إليه، فسينعكس ذلك سلباً على قدرته على فقه الواقع وتقويم الأحداث والحكم عليها.
2- التجديد والاستمرار: فهذا العلم يحتاج إلى قدرة فائقة على المتابعة والبحث في كل جديد، فهو يختلف عن كثير من العلوم، لذا يلزم المتخصص أن يكون لديه دأب لا يكل في متابعة الأحداث، ودراسة أحوال الأمم والشعوب، فلو انقطع عنه مدة من الزمن أثر على تحصيله وقدرته في فهم مجريات الأحداث وتقويمها.
ومن هنا أصبح لزاماً على طالب العلم أن يعي هاتين الحقيقتين، وهما:
- سعة الإطلاع وتنوعه.
- التجديد والاستمرار فيه.
رابعاً:- القدرة على الربط والمقارنة والتحليل:
هناك عناصر أساسية للوصول إلى حقائق الواقع وتوقع المستقبل، وهي:
1- جمع الأخبار والمعلومات.
2- المقارنة والربط بين الأحداث.
3- تحليل المعلومات والوصول إلى نتائجها.
أما الأول فمسألة آلية يستطيعها كثير من العامة.
وأما الثاني والثالث فتحتاج إلى عاملين أساسيين:
الأول: الموهبة.
الثاني: الاكتساب.
فلو ضعف أحد العاملين أمكن تداركه بالثاني، ومن هنا فمسألة الربط والمقارنة ثم التحليل مسألة مهمة وأساسية، وبدونهما تكون النتائج خاطئة.
خامساً: التفاعل الإيجابي مع الواقع:
من أجل أن تفقه الواقع لا بد أن تعيش هذا الواقع وأن تكون عنصراً متأثراً ومؤثراً فيه، والذي يعيش على هامش الحياة لا يستطيع أن يدرك أبعاد هذا العالم وما يجري فيه، ولهذا فمن لوازم هذا العلم أن تتفاعل مع الأحداث تفاعلاً إيجابياً.
سادساً: حسن اختيار المصادر:
مشكلة فقه الواقع تباين المصادر وتعارضها، فمصادر الفقه كتب الفقه وأصوله، ومصادر اللغة كتب اللغة، أما مصادر فقه الواقع فإنها متعددة ومتنوعة ومتباينة، فمن مصادر إسلامية إلى مصادر مادية، ومن مراجع قديمة إلى مراجع معاصرة، ومن أخبار المسلمين إلى أخبار الكفار والملحدين وهكذا.
وبهذا يعيش المتخصص في هذا العلم في حيرة من أمره كيف يختار هذه المصادر، فيحتاج الأمر إلى دقة وعناية، وكذلك نظراً لكثرة مصادر هذا العلم وتنوعها، لا يستطيع المتخصص الإحاطة بها، فيحتاج إلى حسن اختيار توفيراً للجهد، واكتفاء بالأحسن عن الحسن والفاضل عن المفضول، والأهم عن المهم.
فهذه هي مقومات فقه الواقع، من أقامها انقاد له هذا العلم وتمكن منه، ومن قصر فيها انعكس ذلك على علمه وإدراكه.. أسأل الله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
____________
(*) هذه الكلمة مستلة من كتابي فقه الواقع، ومن أراد مزيد بسط للمقال فليراجع الكتاب.
مـــ ماجده ـلاك الروح