لن تنضج فصائل العمل الإسلامي بجميع أطيافها، إلاَّ باستمرار التداول فيما بينهم بالنقد والتوجيه، والنصح والتقويم، وتحمُّل بعضهم البعض في نقد الأعمال والتوجُّهات المغايرة للمنهج الإسلامي القويم.
ولا أظن أنَّ أحداً يجادل في أهمية النقد البنَّاء لجميع أشكال العمل الإسلامي سواء الفكرية أو العلمية أو السياسية أو التربويَّة... فإنَّ العمل البشري سيبقى معرَّضاً للخلل والقصور، ويبقى الكمال لله عزَّ وجل.
هذه مقدِّمة مهمَّة أحسب أنَّها من الأهميَّة بمكان، ليبقى التناصح و النقد البنَّاء ما بين الاتجاهات الإسلاميَّة قائم على قدم وساق .
وفي هذا الزمن والذي يصح بأن يوصم بأنَّه زمن صراع وقتال بين أهل الإيمان وأهل الكفر، فإنَّ فيه للمجاهدين في سبيل الله دوراً كبيراً في الدفاع عن حياض الإسلام، ودفع العدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا معاً، ورد كيد العتاة و مغتصبي حقوق المسلمين وبلادهم وأعراضهم.
وحيال جهود المجاهدين، نجد أنَّ هناك أناساً لا يهنأ لهم بال، ولا يقرُّ لهم قرار إلاَّ بالقدح فيهم، ولمزهم، والسخرية بهم، والتندر بأحوالهم، بل الإقذاع في ذلك وكأنَّهم مجرمون إرهابيُّون بل يسمونهم بذلك!
وحسبي في هذا المقال أن أخاطب من خلاله شريحتين لهما دور واضح في تسفيه جهود المقاومة الإسلاميَّة، وكثرة البَرَم والحديث في وسائل الإسلام بتشويه صورة المجاهدين، والتنقيص من قدرهم وهما:
1ـ من يسمُّون أنفسهم بالإسلاميين الليبراليين، والذين يتصدَّرون الوسائل الإعلاميَّة بالقدح واللمز والتشويه للمجاهدين في سبيل الله.
2ـ بعض المنتسبين للعلم ـ وإن كانوا قلَّة ـ والذين يحقِّرون من المقاومة الإسلاميَّة، ويقولون لا جهاد حقيقي وصحيح في هذا الزمان، بل جميع الحركات المنتسبة للمقاومة الإسلاميَّة حركات عميَّة جاهليَّة!
وحقَّ لنا أن نعجب من هؤلاء القادحين كيف يسمحون لأنفسهم بأن يكونوا نوَّار فتنة، ومشعلي حربٍ ضروسٍ، ضدَّ أناس لا يدافعون عن أنفسهم، لأنَّهم خرجوا بأنفسهم وأموالهم ابتغاء رضا الله تعالى؟! فهم معرَّضون للقتل والاستشهاد في سبيل الله، بل هؤلاء المجاهدون يدافعون عن حرمات المسلمين وعن هؤلاء الذين يلمزونهم، ويحتقرونهم، وهم الدرع الحصين خشية تسلل الكفرة من أعداء الدين إلى بقيَّة بلاد المسلمين .
وهؤلاء القادحون بجهود المجاهدين والمقاتلين في سبيل الله... لهم طرق وأحوال في الهمز واللمز بعدَّة أشكال، فتارة يستهزئ هؤلاء بالمجاهدين قائلين عنهم: إنَّهم قوم ضعاف عاطفيُّون ناقصو العلم والعقل!
وتارة يقولون: أنَّهم متمرِّدون انفصاليُّون !
وتارة يقولون عنهم: إنَّهم مجانين يعرِّضون أنفسهم للقتل والخطر، ولا يصنعون مشروعات شخصيَّة تخدمهم!
وتارة يقولون: إنَّهم متحمِّسون مستعجلون متعطِّشون للدماء !
وتارة يقولون: إنَّهم يضعون أنفسهم في محرقة وأتون حرب لا نجاة لهم منها !
إلى غير ذلك من أنواع التهكُّم والتسفيه لجهود المجاهدين الذائدين عن حياض الأمَّة وكرامتها .
نعم... إنَّ المجاهدين غير معصومين فهم بشر تعترضهم الأخطاء، وينتابهم القصور، ويقعون في الزلل، ولا شك في ذلك، بل إنَّهم لا يدَّعون ذلك لأنفسهم، فهم يطلبون من المسلمين المناصرة والمناصحة على حدٍّ سواء ...
بيد أنَّه هل المنهج العلمي الصحيح يبيح لهؤلاء اللاَّمزين أن يُقدِموا على لمز المجاهدين، والطعن فيهم واتِّهامهم بالإرهاب والتطرف؟
وهل مثل هذه العبارات التي سقت شيئاً منها آنفاً، هل يلمس من ورائها نصحٌ وتذكير للمجاهدين، أو نقد بنَّاء يصبُّ في مصلحة الإسلام والمسلمين؟
والجواب عن ذلك: يستحيل أن يكون الهزء بالمجاهدين وحركات المقاومة الإسلاميَّة من قبيل النصح، والفرق بين ذلك واضح .[1]
• تقويم الخطأ بالنصح والتوجيه لا بالسخرية والتسفيه:
إنَّ المنهج الصحيح وهو منهج أهل السنَّة والجماعة أن لا أحد فوق النصح، ولا يعني أنَّه إذا أخطأ المجاهدون في سبيل الله أنَّهم لا يُنصحون ولا يُبيَّن لهم خطؤهم وقصورهم، ولكن تبيين الخطأ شيء واللمز من طرف خفي شيء آخر، وكذلك التبرؤ من بعض الأفعال الخاطئة شيء والتبرؤ من الشخص الفاعل شيء آخر، إنَّها موازنة تقتضي الإنصاف والعلم والعدل .
وخذ مثلاً يوضِّح هذه الحقيقة؛ فعن سالم عن أبيه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام؛ فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، وجعل خالد (يعمل فيهم) قتلاً وأسراً. قال: فدفع إلى كل رجل أسيره، حتى إذا أصبح يومنا، أمر خالد بن الوليد أن يقتل كل رجل منا أسيره. قال ابن عمر: فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل أحد، وقتل بشر من أصحابي أسيره. قال: فقدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له صنع خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ورفع يديه: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» مرتين [2] .
وبالتَّأمل في هذا الحديث فإنّا نجد أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تبرأ من فعل خالد، ولكن بقي خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سلَّه الله على المشركين، ولم يُغْمِدَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هذا السيف على أعداء الدين أو يتنقصه .
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "ولهذا كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب، منذ أسلم، وقال: «إنَّ خالداً سيف سلَّه الله على المشركين» مع أنَّه أحياناً قد كان يعمل ما ينكره النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، حتَّى إنَّه مرَّة قام ثمَّ رفع يديه إلى السماء وقال: «اللهم إنِّي أبرأ إليك ممَّا فعل خالد» لمَّا أرسله إلى بني جذيمة فقتلهم، وأخذ أموالهم بنوع شبهة، ولم يكن يجوز ذلك، وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة، حتَّى وَدَاْهُم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وضمن أموالهم؛ ومع هذا فما زال يقدِّمه في إمارة الحرب؛ لأنَّه كان أصلح في هذا الباب من غيره، وفعل ما فعل بنوع تأويل"[3]
وكلام شيخ الإسلام دقيق، فكما أنَّ العلماء يخطئون وكذا التجَّار والأطبَّاء والمهندسون فإنَّ المجاهدين كغيرهم في هذا الأمر، إلاَّ أنَّ الفارق في طريقة تقويم الخطأ ما بين ناصح أو حاقد، فالناصح يبيِّن الحق، ويذكر سبب الخطأ، ثمَّ يذكر الوجه الصحيح لعلاج ذلك، وأمَّا الحاقد فإنَّه لا يفتأ يلمز ويهمز في المجاهدين، وشتَّان شتَّان ما بين الأمرين !
ولننظر لطريقة القرآن الكريم في تقويم أخطاء المجاهدين، فحين لم يلتزم الرماة في غزوة أحد بأمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ونزلوا لأرض المعركة مع أنَّه عليه السلام أمرهم بأن يلزموا مكانهم، ولا ينزلوا لأرض المعركة إلاَّ حين انتهائها بينهم وبين كفَّار قريش، إلاَّ أنَّهم استعجلوا الأمر ونزلوا لأرض المعركة قبل انتهائها، وبعد هزيمتهم تساءلوا: ما السبب في ذلك ؟
كما قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [ سورة آل عمران: 165] ففي هذه الآية بيَّن سبحانه وتعالى خطأ أولئك المجاهدين، إلاَّ أنَّه عزَّ وجل لم يقدح في عدالتهم، أو يشكِّك في نيَّاتهم.
وذلك لأنَّ هؤلاء لهم دور كبير في نصرة الإسلام، والمنهج الإسلامي في عمليَّة النقد متوازن وموضوعي في الوقت ذاته، فالعتاب وتبيين الخطأ لكلِّ من أخطأ فريضة إسلاميَّة، ولكنَّ ذاك الخلل ينبغي أن يغتفر في الحسنات الكثيرة التي أصاب بها المخطئ، وكثيراً ما كان يركِّز ابن القيِّم رحمه الله على ذلك ويستشهد بحديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم «إذا كان الماء قلَّتين لم يحمل الخبث» [4].وكذلك فإنَّه عليه الصلاة والسلام يقول: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم»[5] وبهذا يكون الاتزان في منهج التعامل مع أخطاء ذوي الأقدار والمروءات.
وعلى ضوء هذه الآيات والأحاديث ينبغي أن ننتهج بنهجها، وحري بنا أن نسير في مضمارها، بدون تلكؤ ولا ارتياب؛ ذلك أنَّ الآيات والأحاديث كلام ليس بالأغاليط بل هو وحي يوحى ، فأين هؤلاء القادحين من هذا؟
• خطورة التشبُّه بالمنافقين في نقد المجاهدين:
إنَّ المرء المسلم ينبغي عليه أن يكون حذراً لدينه في أن يكون مشابهاً للمنافقين في بعض أحوالهم، ومن قرأ سورة الأحزاب بتأمُّل سيجد فيها وصفاً لحال أولئك المنافقين الذين ما فتئوا يقدحون برسول الله والعصابة المؤمنة المجاهدة من الجيل الأول رضوان الله عليهم ومن ذلك قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [سورة الأحزاب:18-19]
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "وهذا السلق بالألسنة الحادَّة، يكون بوجوه:
تارة يقول المنافقون للمؤمنين: هذا الذي جرى علينا بشؤمكم؛ فإنَّكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه، وخالفتموهم؛ فإنَّ هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة .
وتارة يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، والثبات بهذا الثغر إلى هذا الوقت، وإلاَّ فلو كنَّا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا.
وتارة يقولون ـ أنتم مع قلَّتكم وضعفكم ـ تريدون أن تكسروا عدوَّكم، وقد غرَّكم دينكم، كما قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة الأنفال: 49].
وتارة يقولون: أنتم مجانين، لا عقل لكم، تريدون أن تهلكوا أنفسكم والناس معكم.
وتارة يقولون أنواعاً من الكلام المؤذي الشديد. وهم مع ذلك أشحَّة على الخير، أي حرَّاص على الغنيمة والمال الذي قد حصل لكم" [6] ا.هـ
والعجب من هؤلاء المغتابين الهمَّازين للمجاهدين أنَّهم حين يتكلَّمون عن المخالفين لشرع الله، أو الكفَّار عموماً حتَّى المحاربين منهم فإنَّك تجدهم يتوقَّون أشدَّ التوقي للكلمات التي لا تثيرهم عليهم ولا تستفزُّهم؛ ويطالبون الناس بالعدل معهم، وإنصافهم؛ خشية إثارة مشاعرهم بل يجادلون عنهم، مع أنَّ الله سبحانه يقول: {وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (106) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [سورة النساء:105-107] ويقول تعالى محذِّراً من مغبَّة فعل: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [سورة النساء: 109]
وفي مقابل ذلك تجد الكلمات التي يقتبسوها من قاموس المجرمين ليطلقوها ويلصقوها بالمجاهدين، وفي حال سماعهم إشاعة عن مجاهد أو اتهاماً له سارعوا بإذاعة ذلك بكل وسيلة ممكنة، وكأنَّ لحومهم مسموح لها التعرُّض بالقيل والقال، فهل هذا عدل وإنصاف؟! {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [سورة النــور: 15]
ويعجبني في هذا الصدد كلام للمفكِّر الإسلامي منير شفيق[7] حيث كتب مقالاً طيِّباً دفاعاً وذبَّاً عن أعراض المجاهدين قائلاً: "وتسمع بعضهم يتَّهمون المجاهدين في سبيل الله؛ بأنَّهم يتاجرون باسم الله أو يتاجرون بالإسلام، ويقصدون القول إنَّ الاستناد إلى الإسلام في مواجهة أمور الدنيا بما فيها أمور السياسة والاقتصاد متاجرة في الدين، وهذه تهمة لا يوجِّهونها للذين يرفعون شعارات الوطنيَّة والقوميَّة والاشتراكيَّة، فهؤلاء لا يسمون متاجرين بالوطنية والقومية والاشتراكية، على اعتبار أنَّهم منزهون عن الغرض الخاص أو الحزبي حين يرفعون تلك الشعارات وكذلك الأمر بالنسبة إلى كل تلك العبارات التي يتملَّقون بها الناس فهذه كلُّها ليست متاجرة بالمبادئ والدين، أمَّا إذا اغتسل مؤمن وتوضأ وصلَّى، ولبس كفنه ليجاهد في سبيل الله لا يطلب من حطام الدنيا شيئاً فهو متاجر بالدين .
أمَّا بعض الحكَّام الذين يحرصون على أن تؤخذ لهم الصور ساجدين، أو يظهرون في التلفزة وهم يؤدُّون الصلاة وأكثرهم لا يقومون لها إلاَّ وقت التقاط الصور، فهؤلاء لا يتاجرون بالدين. وبالمناسبة إنَّ الجهاد في سبيل الله تجارة حقَّاً ولكنَّها تجارة تباع فيها الدنيا لتشترى الآخرة، وهذه تختلف عن المتاجرة بالدين للكسب في الدنيا" [8]
نعم ! إنَّي لا أنكر أنَّه يتوجَّبُ علينا أن نكون متحرِّين لنقاوة الجهاد ، وناصحين لإخواننا المجاهدين في كل صقع محتل من أصقاع المسلمين، بألاَّ يصيب جهادهم خلل ولا خطل ولا دخل، ولكن لا يكون ذلك إلاَّ بالأساليب الطيِّبة النافعة، والتي لا تستغلُّها الوسائل الإعلاميَّة للقدح فيهم، وتشويه صورتهم.
ونحن نعلم قصَّة قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام، واستغلال الكفَّار للإساءة للمؤمنين بذلك، ولكنَّ الله تعالى علَّم المؤمنين أن يقرِّوا بما وقعوا فيه من خلل، ويحذروا ذلك في المستقبل، كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [سورة البقرة: 217] ولكنَّ ذلك الرد عليهم من قِبَلِه سبحانه متَّسم بالأسلوب القرآني الراقي في العتاب وتبيين الصواب، بلا شتيمة أو إسفاف.
• وقبل الختام:
فقد أجمع علماء الإسلام على حرمة الغيبة والسخرية بالمسلمين، وعدُّوها من كبائر الذنوب، و على هذا فإنَّه يجدر بنا أن يكون لدينا دور تجاه الذَّب عن أعراض المجاهدين قدر الإمكان، فإنَّهم قوم خرجوا بمالهم وأنفسهم لا يبتغون إلاَّ ما عند الله عزَّ وجلَّ من الأجر العظيم، والثواب الجزيل، بل هم حرَّاس الدين وحماته في هذا الزمان وفي كل زمان، فكيف يليق بنا أن نقدح فيهم وهم الذين كان لهم الدور الكبير في صدِّ عدوان المعتدين؟!
لهذا فإنَّ اللاَّمزين للمجاهدين والقادحين فيهم، لا يقال لهم إلاَّ ما قاله الشاعر العربي الأوَّل:
يتبع
ولا أظن أنَّ أحداً يجادل في أهمية النقد البنَّاء لجميع أشكال العمل الإسلامي سواء الفكرية أو العلمية أو السياسية أو التربويَّة... فإنَّ العمل البشري سيبقى معرَّضاً للخلل والقصور، ويبقى الكمال لله عزَّ وجل.
هذه مقدِّمة مهمَّة أحسب أنَّها من الأهميَّة بمكان، ليبقى التناصح و النقد البنَّاء ما بين الاتجاهات الإسلاميَّة قائم على قدم وساق .
وفي هذا الزمن والذي يصح بأن يوصم بأنَّه زمن صراع وقتال بين أهل الإيمان وأهل الكفر، فإنَّ فيه للمجاهدين في سبيل الله دوراً كبيراً في الدفاع عن حياض الإسلام، ودفع العدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا معاً، ورد كيد العتاة و مغتصبي حقوق المسلمين وبلادهم وأعراضهم.
وحيال جهود المجاهدين، نجد أنَّ هناك أناساً لا يهنأ لهم بال، ولا يقرُّ لهم قرار إلاَّ بالقدح فيهم، ولمزهم، والسخرية بهم، والتندر بأحوالهم، بل الإقذاع في ذلك وكأنَّهم مجرمون إرهابيُّون بل يسمونهم بذلك!
وحسبي في هذا المقال أن أخاطب من خلاله شريحتين لهما دور واضح في تسفيه جهود المقاومة الإسلاميَّة، وكثرة البَرَم والحديث في وسائل الإسلام بتشويه صورة المجاهدين، والتنقيص من قدرهم وهما:
1ـ من يسمُّون أنفسهم بالإسلاميين الليبراليين، والذين يتصدَّرون الوسائل الإعلاميَّة بالقدح واللمز والتشويه للمجاهدين في سبيل الله.
2ـ بعض المنتسبين للعلم ـ وإن كانوا قلَّة ـ والذين يحقِّرون من المقاومة الإسلاميَّة، ويقولون لا جهاد حقيقي وصحيح في هذا الزمان، بل جميع الحركات المنتسبة للمقاومة الإسلاميَّة حركات عميَّة جاهليَّة!
وحقَّ لنا أن نعجب من هؤلاء القادحين كيف يسمحون لأنفسهم بأن يكونوا نوَّار فتنة، ومشعلي حربٍ ضروسٍ، ضدَّ أناس لا يدافعون عن أنفسهم، لأنَّهم خرجوا بأنفسهم وأموالهم ابتغاء رضا الله تعالى؟! فهم معرَّضون للقتل والاستشهاد في سبيل الله، بل هؤلاء المجاهدون يدافعون عن حرمات المسلمين وعن هؤلاء الذين يلمزونهم، ويحتقرونهم، وهم الدرع الحصين خشية تسلل الكفرة من أعداء الدين إلى بقيَّة بلاد المسلمين .
وهؤلاء القادحون بجهود المجاهدين والمقاتلين في سبيل الله... لهم طرق وأحوال في الهمز واللمز بعدَّة أشكال، فتارة يستهزئ هؤلاء بالمجاهدين قائلين عنهم: إنَّهم قوم ضعاف عاطفيُّون ناقصو العلم والعقل!
وتارة يقولون: أنَّهم متمرِّدون انفصاليُّون !
وتارة يقولون عنهم: إنَّهم مجانين يعرِّضون أنفسهم للقتل والخطر، ولا يصنعون مشروعات شخصيَّة تخدمهم!
وتارة يقولون: إنَّهم متحمِّسون مستعجلون متعطِّشون للدماء !
وتارة يقولون: إنَّهم يضعون أنفسهم في محرقة وأتون حرب لا نجاة لهم منها !
إلى غير ذلك من أنواع التهكُّم والتسفيه لجهود المجاهدين الذائدين عن حياض الأمَّة وكرامتها .
نعم... إنَّ المجاهدين غير معصومين فهم بشر تعترضهم الأخطاء، وينتابهم القصور، ويقعون في الزلل، ولا شك في ذلك، بل إنَّهم لا يدَّعون ذلك لأنفسهم، فهم يطلبون من المسلمين المناصرة والمناصحة على حدٍّ سواء ...
بيد أنَّه هل المنهج العلمي الصحيح يبيح لهؤلاء اللاَّمزين أن يُقدِموا على لمز المجاهدين، والطعن فيهم واتِّهامهم بالإرهاب والتطرف؟
وهل مثل هذه العبارات التي سقت شيئاً منها آنفاً، هل يلمس من ورائها نصحٌ وتذكير للمجاهدين، أو نقد بنَّاء يصبُّ في مصلحة الإسلام والمسلمين؟
والجواب عن ذلك: يستحيل أن يكون الهزء بالمجاهدين وحركات المقاومة الإسلاميَّة من قبيل النصح، والفرق بين ذلك واضح .[1]
• تقويم الخطأ بالنصح والتوجيه لا بالسخرية والتسفيه:
إنَّ المنهج الصحيح وهو منهج أهل السنَّة والجماعة أن لا أحد فوق النصح، ولا يعني أنَّه إذا أخطأ المجاهدون في سبيل الله أنَّهم لا يُنصحون ولا يُبيَّن لهم خطؤهم وقصورهم، ولكن تبيين الخطأ شيء واللمز من طرف خفي شيء آخر، وكذلك التبرؤ من بعض الأفعال الخاطئة شيء والتبرؤ من الشخص الفاعل شيء آخر، إنَّها موازنة تقتضي الإنصاف والعلم والعدل .
وخذ مثلاً يوضِّح هذه الحقيقة؛ فعن سالم عن أبيه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام؛ فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، وجعل خالد (يعمل فيهم) قتلاً وأسراً. قال: فدفع إلى كل رجل أسيره، حتى إذا أصبح يومنا، أمر خالد بن الوليد أن يقتل كل رجل منا أسيره. قال ابن عمر: فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل أحد، وقتل بشر من أصحابي أسيره. قال: فقدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له صنع خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ورفع يديه: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» مرتين [2] .
وبالتَّأمل في هذا الحديث فإنّا نجد أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تبرأ من فعل خالد، ولكن بقي خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سلَّه الله على المشركين، ولم يُغْمِدَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هذا السيف على أعداء الدين أو يتنقصه .
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "ولهذا كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب، منذ أسلم، وقال: «إنَّ خالداً سيف سلَّه الله على المشركين» مع أنَّه أحياناً قد كان يعمل ما ينكره النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، حتَّى إنَّه مرَّة قام ثمَّ رفع يديه إلى السماء وقال: «اللهم إنِّي أبرأ إليك ممَّا فعل خالد» لمَّا أرسله إلى بني جذيمة فقتلهم، وأخذ أموالهم بنوع شبهة، ولم يكن يجوز ذلك، وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة، حتَّى وَدَاْهُم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وضمن أموالهم؛ ومع هذا فما زال يقدِّمه في إمارة الحرب؛ لأنَّه كان أصلح في هذا الباب من غيره، وفعل ما فعل بنوع تأويل"[3]
وكلام شيخ الإسلام دقيق، فكما أنَّ العلماء يخطئون وكذا التجَّار والأطبَّاء والمهندسون فإنَّ المجاهدين كغيرهم في هذا الأمر، إلاَّ أنَّ الفارق في طريقة تقويم الخطأ ما بين ناصح أو حاقد، فالناصح يبيِّن الحق، ويذكر سبب الخطأ، ثمَّ يذكر الوجه الصحيح لعلاج ذلك، وأمَّا الحاقد فإنَّه لا يفتأ يلمز ويهمز في المجاهدين، وشتَّان شتَّان ما بين الأمرين !
ولننظر لطريقة القرآن الكريم في تقويم أخطاء المجاهدين، فحين لم يلتزم الرماة في غزوة أحد بأمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ونزلوا لأرض المعركة مع أنَّه عليه السلام أمرهم بأن يلزموا مكانهم، ولا ينزلوا لأرض المعركة إلاَّ حين انتهائها بينهم وبين كفَّار قريش، إلاَّ أنَّهم استعجلوا الأمر ونزلوا لأرض المعركة قبل انتهائها، وبعد هزيمتهم تساءلوا: ما السبب في ذلك ؟
كما قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [ سورة آل عمران: 165] ففي هذه الآية بيَّن سبحانه وتعالى خطأ أولئك المجاهدين، إلاَّ أنَّه عزَّ وجل لم يقدح في عدالتهم، أو يشكِّك في نيَّاتهم.
وذلك لأنَّ هؤلاء لهم دور كبير في نصرة الإسلام، والمنهج الإسلامي في عمليَّة النقد متوازن وموضوعي في الوقت ذاته، فالعتاب وتبيين الخطأ لكلِّ من أخطأ فريضة إسلاميَّة، ولكنَّ ذاك الخلل ينبغي أن يغتفر في الحسنات الكثيرة التي أصاب بها المخطئ، وكثيراً ما كان يركِّز ابن القيِّم رحمه الله على ذلك ويستشهد بحديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم «إذا كان الماء قلَّتين لم يحمل الخبث» [4].وكذلك فإنَّه عليه الصلاة والسلام يقول: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم»[5] وبهذا يكون الاتزان في منهج التعامل مع أخطاء ذوي الأقدار والمروءات.
وعلى ضوء هذه الآيات والأحاديث ينبغي أن ننتهج بنهجها، وحري بنا أن نسير في مضمارها، بدون تلكؤ ولا ارتياب؛ ذلك أنَّ الآيات والأحاديث كلام ليس بالأغاليط بل هو وحي يوحى ، فأين هؤلاء القادحين من هذا؟
• خطورة التشبُّه بالمنافقين في نقد المجاهدين:
إنَّ المرء المسلم ينبغي عليه أن يكون حذراً لدينه في أن يكون مشابهاً للمنافقين في بعض أحوالهم، ومن قرأ سورة الأحزاب بتأمُّل سيجد فيها وصفاً لحال أولئك المنافقين الذين ما فتئوا يقدحون برسول الله والعصابة المؤمنة المجاهدة من الجيل الأول رضوان الله عليهم ومن ذلك قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [سورة الأحزاب:18-19]
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "وهذا السلق بالألسنة الحادَّة، يكون بوجوه:
تارة يقول المنافقون للمؤمنين: هذا الذي جرى علينا بشؤمكم؛ فإنَّكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه، وخالفتموهم؛ فإنَّ هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة .
وتارة يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، والثبات بهذا الثغر إلى هذا الوقت، وإلاَّ فلو كنَّا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا.
وتارة يقولون ـ أنتم مع قلَّتكم وضعفكم ـ تريدون أن تكسروا عدوَّكم، وقد غرَّكم دينكم، كما قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة الأنفال: 49].
وتارة يقولون: أنتم مجانين، لا عقل لكم، تريدون أن تهلكوا أنفسكم والناس معكم.
وتارة يقولون أنواعاً من الكلام المؤذي الشديد. وهم مع ذلك أشحَّة على الخير، أي حرَّاص على الغنيمة والمال الذي قد حصل لكم" [6] ا.هـ
والعجب من هؤلاء المغتابين الهمَّازين للمجاهدين أنَّهم حين يتكلَّمون عن المخالفين لشرع الله، أو الكفَّار عموماً حتَّى المحاربين منهم فإنَّك تجدهم يتوقَّون أشدَّ التوقي للكلمات التي لا تثيرهم عليهم ولا تستفزُّهم؛ ويطالبون الناس بالعدل معهم، وإنصافهم؛ خشية إثارة مشاعرهم بل يجادلون عنهم، مع أنَّ الله سبحانه يقول: {وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (106) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [سورة النساء:105-107] ويقول تعالى محذِّراً من مغبَّة فعل: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [سورة النساء: 109]
وفي مقابل ذلك تجد الكلمات التي يقتبسوها من قاموس المجرمين ليطلقوها ويلصقوها بالمجاهدين، وفي حال سماعهم إشاعة عن مجاهد أو اتهاماً له سارعوا بإذاعة ذلك بكل وسيلة ممكنة، وكأنَّ لحومهم مسموح لها التعرُّض بالقيل والقال، فهل هذا عدل وإنصاف؟! {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [سورة النــور: 15]
ويعجبني في هذا الصدد كلام للمفكِّر الإسلامي منير شفيق[7] حيث كتب مقالاً طيِّباً دفاعاً وذبَّاً عن أعراض المجاهدين قائلاً: "وتسمع بعضهم يتَّهمون المجاهدين في سبيل الله؛ بأنَّهم يتاجرون باسم الله أو يتاجرون بالإسلام، ويقصدون القول إنَّ الاستناد إلى الإسلام في مواجهة أمور الدنيا بما فيها أمور السياسة والاقتصاد متاجرة في الدين، وهذه تهمة لا يوجِّهونها للذين يرفعون شعارات الوطنيَّة والقوميَّة والاشتراكيَّة، فهؤلاء لا يسمون متاجرين بالوطنية والقومية والاشتراكية، على اعتبار أنَّهم منزهون عن الغرض الخاص أو الحزبي حين يرفعون تلك الشعارات وكذلك الأمر بالنسبة إلى كل تلك العبارات التي يتملَّقون بها الناس فهذه كلُّها ليست متاجرة بالمبادئ والدين، أمَّا إذا اغتسل مؤمن وتوضأ وصلَّى، ولبس كفنه ليجاهد في سبيل الله لا يطلب من حطام الدنيا شيئاً فهو متاجر بالدين .
أمَّا بعض الحكَّام الذين يحرصون على أن تؤخذ لهم الصور ساجدين، أو يظهرون في التلفزة وهم يؤدُّون الصلاة وأكثرهم لا يقومون لها إلاَّ وقت التقاط الصور، فهؤلاء لا يتاجرون بالدين. وبالمناسبة إنَّ الجهاد في سبيل الله تجارة حقَّاً ولكنَّها تجارة تباع فيها الدنيا لتشترى الآخرة، وهذه تختلف عن المتاجرة بالدين للكسب في الدنيا" [8]
نعم ! إنَّي لا أنكر أنَّه يتوجَّبُ علينا أن نكون متحرِّين لنقاوة الجهاد ، وناصحين لإخواننا المجاهدين في كل صقع محتل من أصقاع المسلمين، بألاَّ يصيب جهادهم خلل ولا خطل ولا دخل، ولكن لا يكون ذلك إلاَّ بالأساليب الطيِّبة النافعة، والتي لا تستغلُّها الوسائل الإعلاميَّة للقدح فيهم، وتشويه صورتهم.
ونحن نعلم قصَّة قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام، واستغلال الكفَّار للإساءة للمؤمنين بذلك، ولكنَّ الله تعالى علَّم المؤمنين أن يقرِّوا بما وقعوا فيه من خلل، ويحذروا ذلك في المستقبل، كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [سورة البقرة: 217] ولكنَّ ذلك الرد عليهم من قِبَلِه سبحانه متَّسم بالأسلوب القرآني الراقي في العتاب وتبيين الصواب، بلا شتيمة أو إسفاف.
• وقبل الختام:
فقد أجمع علماء الإسلام على حرمة الغيبة والسخرية بالمسلمين، وعدُّوها من كبائر الذنوب، و على هذا فإنَّه يجدر بنا أن يكون لدينا دور تجاه الذَّب عن أعراض المجاهدين قدر الإمكان، فإنَّهم قوم خرجوا بمالهم وأنفسهم لا يبتغون إلاَّ ما عند الله عزَّ وجلَّ من الأجر العظيم، والثواب الجزيل، بل هم حرَّاس الدين وحماته في هذا الزمان وفي كل زمان، فكيف يليق بنا أن نقدح فيهم وهم الذين كان لهم الدور الكبير في صدِّ عدوان المعتدين؟!
لهذا فإنَّ اللاَّمزين للمجاهدين والقادحين فيهم، لا يقال لهم إلاَّ ما قاله الشاعر العربي الأوَّل:
يتبع