متى يكفر الحج كل الذنوب والمعاصي؟
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
سألني سائل بعد صلاة الجمعة أنه وبينما كان في حج هذه السنة، وقد تحلل الحل الأول -بعد رمي جمرة العقبة- دخل محلاً فاشترى منه غرضاً، ولكنه نوى في قلبه ألا يدفع الثمن للبائع؟! ثم خرج ولم يعط البائع ثمن السلعة!! ولكنه ندم بعد ذلك عندما سمع محدثاً يحدث بحديث الرسول صلى الله عليه وسلـم: [من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه]، فتأثـم وخشي على حجته وذهب لينقـد البائع ثمن سلعته، ولكنه لم يهتد إلى المحل الذي كان قد اشترى منه وسألني ماذا أصنع الآن؟
وقد أثار هذا السؤال حزني وألمي. ورأيت أن هناك أربع قضايا كبيرة قد يغفل عنها كثير من المسلمين أحببت بيانها في هذا المقال: وهي على وجه الإجمـال: الحج لا يكفر الذنوب التي لم يتب منها صاحبها، فعل المعصية وقت الطاعة يبطل الطاعة، الذنوب التي باعثها حقارة النفس من أكبر الكبائر، الذنب يتضاعف في الحرم كما أن ثواب الطاعة يتضاعف أضعافاً كثيرة.
الحج لا يكفر الذنوب التي لم يتب منها صاحبها:
يجب العلم أن الحج لا يكفر الذنوب التي لم يتب منها صاحبها فالمقيم على ذنب ما لم يتب منه، وهو مستمر فيـه، فإن الحج لا يكفر ذنبه، وإنما الحج كفارة وأجر للعبد التائب إلى الله الراجع إليه، الراجي رحمته وعفوه، والذي أقلع عن ذنوبه الكبار إقلاعاً لا رجعة بعده.
والدليل على ذلك ما رواه الإمام مسلم رحمه الله بإسناده إلى عبدالله بن مسعود رضى الله عنه قال: قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟! قال صلى الله عليه وسلم: [أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام].
وفي رواية أخرى: [قلنا يا رسول الله: أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر].
هذا مع بيان النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يهدم ما قبله كما في حديث مسلم أيضاً أن عمرو بن العاص رضى الله عنه قال: [.. فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك فبسط صلى الله عليه وسـلم يمينه. قال: فقبضت يدي. قال صلى الله عليه وسلم: [ما بالك يا عمر] قال قلت: أردت أن اشترط. قال صلى الله عليه وسلم: [تشترط بماذا؟] قلت: أن يُغْفر لي. قال صلى الله عليه وسلم: [أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله]. انتهى
فمع أن الإسلام يهدم ما كان قبله إلا أن من أساء في الإسلام جوزي بعمله السيء في الإسلام، وما كان قبل الإسـلام. فمن كان يشرب الخمر مثلاً ويزني في جاهليته، وحال كفره، فإنه إن دخل في الإسلام حط الله عنه وغفر له ما كان قد سلف منه من هذه المعاصي، ولكنه إن عاد إلى الزنا وشرب الخمر في الإسـلام جوزي بعمله الأول والآخر، وكذلك الحال فيمن له معاصٍ لم يتب منها قبل الحج فإن الحج يهدم ما كان من هذه المعاصي إلا أن يكون هذا الحاج مقيماً على معاصيه مستمراً فيها فإن الحـج لا يهدم ما كان قبله في هذه الحالة، وهذا يعني أن الحج لا يفيد إلا التائب من الذنب، والعائد إلى الله، الراجع إليه المقلع عن ذنوبه، وأما المقيم على معاصيه وذنوبه المستمر فيها فإن الحج لا يهدم ما كان قبله في هذه الحالة.
هل يكفر الحج الكبائر دون توبة منها؟!
ثم إن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر، والصغائر قد جاء أن الله سبحانه وتعالى يغفرها إذا اجتنبت الكبائـر كما قال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما ينهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً}..
فمجرد ترك الكبائر خوفاً من الله وطاعة مكفر لصغائر الذنوب، وكذلك يكفر الله السيئات والصغائـر بموالاة العبد على الطاعة، كما في الحديث الصحيح: [الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر].
وفي رواية أخرى: [الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر] (رواه مسلم عن أبي هريرة)
وفي هذا دليـل على أن ما بين الطاعة ومثلها يكفر الله عنه ما بينهما من الذنوب الصغائر إذا ترك العبد الكبائر.
وفي الحديث الصحيح أيضاً: [العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما من الذنوب والخطايا، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة] (رواه أحمد وانظر الصحيحة لشيخنا الألباني 1200)
وفي هذا دليل على أن الموالاة بين طاعتين يكفر الله ما بينهما من الذنوب الصغائر. لكن هل يكفر الحج إثم الذنوب الكبائر لمن لم يترك هذه الكبائر ولم يحصل منه توبة عنها؟
لا شك أن ظاهر الحديث: [الحج المبرور ليس له جـزاء إلا الجنة] وقوله صلى الله عليه وسلم: [من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدتـه أمه] يدل على أن الحج يكفر الذنوب كلها صغيرها وكبيرها، ولكنه يستفاد من الآيات والأحاديث الأخرى أن ذلك إذا كان الحاج تائباً عن الكبائر كلها مقلع عنها عازماً على عدم العودة إليها، وأما إن كان من أهل السرقة وهو مستمر في سرقته، أو من أهل الزنا وهو مستمر في زناه، أو ممن يشرب الخمر وهو مستمر في شربها، فإن الحج لا يكفر خطيئة من لم يتب منها فاعلها ولم يقلع عنها.
ومن ظن أن الحج يكفر الكبائر المقيم عليها صاحبها فقد أخطأ خطئاً بليغاً، وفهم الحديث على غير معناه.
ومما يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى في نهاية آيات الحج من سورة البقرة: {واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون}. ( البقرة: 203)
فقوله سبحانه وتعالى: {لمن اتقى} يدل على أن المتقي لله الخائف منه هو الذي تغفر له ذنوبه بعد تمام الحج متعجلاً في يومين أو متأخراً لليوم الثالث، فقوله تعالى: {لمن اتقى} راجع للمتعجل والمتأخر.
ومعلوم أن المقيم على الذنب ليس من اتقى الله وخافه.
وأما هل يكفر الحج الكبائر التي لم يتب عنها صاحبها، وإن كان قد تركها، فالصحيح -إن شاء الله- أنها إن كانت مما يتعلق بحقوق العباد فإن الحج لا يغفرها كما جاء في الحديث أن [الشهادة في سبيل الله تكفر الذنـوب كلها إلا الدّين]، وذلك أنه من حقوق العباد، وهكذا الأمر هنا، فإن الحج لا يكفر حقوق العباد، فمن كان عليه دين لم يؤده، أو في ذمته عهد أو مال أو أمانة لغيره فإن الحـج شأنه شأن كل الطاعات التي يكفر الله بها السيئات، لا يكفر الله بها حقوق الآدميين، لأن حقـوق العباد لا بد من ردها، أو تنازل أهل الحقوق عنها في الدنيا أو في الآخرة، أو المقاضاة فيها يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم: [أيها الناس من كان له عند أخيه مظلمة من عرض أو مال فليتحلل منه الآن قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إنما هي الحسنات والسيئات، فإن كان له حسنات أخذ منه بقدر مظلمته، وإلا أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار].
يتبع
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
سألني سائل بعد صلاة الجمعة أنه وبينما كان في حج هذه السنة، وقد تحلل الحل الأول -بعد رمي جمرة العقبة- دخل محلاً فاشترى منه غرضاً، ولكنه نوى في قلبه ألا يدفع الثمن للبائع؟! ثم خرج ولم يعط البائع ثمن السلعة!! ولكنه ندم بعد ذلك عندما سمع محدثاً يحدث بحديث الرسول صلى الله عليه وسلـم: [من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه]، فتأثـم وخشي على حجته وذهب لينقـد البائع ثمن سلعته، ولكنه لم يهتد إلى المحل الذي كان قد اشترى منه وسألني ماذا أصنع الآن؟
وقد أثار هذا السؤال حزني وألمي. ورأيت أن هناك أربع قضايا كبيرة قد يغفل عنها كثير من المسلمين أحببت بيانها في هذا المقال: وهي على وجه الإجمـال: الحج لا يكفر الذنوب التي لم يتب منها صاحبها، فعل المعصية وقت الطاعة يبطل الطاعة، الذنوب التي باعثها حقارة النفس من أكبر الكبائر، الذنب يتضاعف في الحرم كما أن ثواب الطاعة يتضاعف أضعافاً كثيرة.
الحج لا يكفر الذنوب التي لم يتب منها صاحبها:
يجب العلم أن الحج لا يكفر الذنوب التي لم يتب منها صاحبها فالمقيم على ذنب ما لم يتب منه، وهو مستمر فيـه، فإن الحج لا يكفر ذنبه، وإنما الحج كفارة وأجر للعبد التائب إلى الله الراجع إليه، الراجي رحمته وعفوه، والذي أقلع عن ذنوبه الكبار إقلاعاً لا رجعة بعده.
والدليل على ذلك ما رواه الإمام مسلم رحمه الله بإسناده إلى عبدالله بن مسعود رضى الله عنه قال: قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟! قال صلى الله عليه وسلم: [أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام].
وفي رواية أخرى: [قلنا يا رسول الله: أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر].
هذا مع بيان النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يهدم ما قبله كما في حديث مسلم أيضاً أن عمرو بن العاص رضى الله عنه قال: [.. فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك فبسط صلى الله عليه وسـلم يمينه. قال: فقبضت يدي. قال صلى الله عليه وسلم: [ما بالك يا عمر] قال قلت: أردت أن اشترط. قال صلى الله عليه وسلم: [تشترط بماذا؟] قلت: أن يُغْفر لي. قال صلى الله عليه وسلم: [أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله]. انتهى
فمع أن الإسلام يهدم ما كان قبله إلا أن من أساء في الإسلام جوزي بعمله السيء في الإسلام، وما كان قبل الإسـلام. فمن كان يشرب الخمر مثلاً ويزني في جاهليته، وحال كفره، فإنه إن دخل في الإسلام حط الله عنه وغفر له ما كان قد سلف منه من هذه المعاصي، ولكنه إن عاد إلى الزنا وشرب الخمر في الإسـلام جوزي بعمله الأول والآخر، وكذلك الحال فيمن له معاصٍ لم يتب منها قبل الحج فإن الحج يهدم ما كان من هذه المعاصي إلا أن يكون هذا الحاج مقيماً على معاصيه مستمراً فيها فإن الحـج لا يهدم ما كان قبله في هذه الحالة، وهذا يعني أن الحج لا يفيد إلا التائب من الذنب، والعائد إلى الله، الراجع إليه المقلع عن ذنوبه، وأما المقيم على معاصيه وذنوبه المستمر فيها فإن الحج لا يهدم ما كان قبله في هذه الحالة.
هل يكفر الحج الكبائر دون توبة منها؟!
ثم إن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر، والصغائر قد جاء أن الله سبحانه وتعالى يغفرها إذا اجتنبت الكبائـر كما قال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما ينهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً}..
فمجرد ترك الكبائر خوفاً من الله وطاعة مكفر لصغائر الذنوب، وكذلك يكفر الله السيئات والصغائـر بموالاة العبد على الطاعة، كما في الحديث الصحيح: [الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر].
وفي رواية أخرى: [الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر] (رواه مسلم عن أبي هريرة)
وفي هذا دليـل على أن ما بين الطاعة ومثلها يكفر الله عنه ما بينهما من الذنوب الصغائر إذا ترك العبد الكبائر.
وفي الحديث الصحيح أيضاً: [العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما من الذنوب والخطايا، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة] (رواه أحمد وانظر الصحيحة لشيخنا الألباني 1200)
وفي هذا دليل على أن الموالاة بين طاعتين يكفر الله ما بينهما من الذنوب الصغائر. لكن هل يكفر الحج إثم الذنوب الكبائر لمن لم يترك هذه الكبائر ولم يحصل منه توبة عنها؟
لا شك أن ظاهر الحديث: [الحج المبرور ليس له جـزاء إلا الجنة] وقوله صلى الله عليه وسلم: [من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدتـه أمه] يدل على أن الحج يكفر الذنوب كلها صغيرها وكبيرها، ولكنه يستفاد من الآيات والأحاديث الأخرى أن ذلك إذا كان الحاج تائباً عن الكبائر كلها مقلع عنها عازماً على عدم العودة إليها، وأما إن كان من أهل السرقة وهو مستمر في سرقته، أو من أهل الزنا وهو مستمر في زناه، أو ممن يشرب الخمر وهو مستمر في شربها، فإن الحج لا يكفر خطيئة من لم يتب منها فاعلها ولم يقلع عنها.
ومن ظن أن الحج يكفر الكبائر المقيم عليها صاحبها فقد أخطأ خطئاً بليغاً، وفهم الحديث على غير معناه.
ومما يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى في نهاية آيات الحج من سورة البقرة: {واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون}. ( البقرة: 203)
فقوله سبحانه وتعالى: {لمن اتقى} يدل على أن المتقي لله الخائف منه هو الذي تغفر له ذنوبه بعد تمام الحج متعجلاً في يومين أو متأخراً لليوم الثالث، فقوله تعالى: {لمن اتقى} راجع للمتعجل والمتأخر.
ومعلوم أن المقيم على الذنب ليس من اتقى الله وخافه.
وأما هل يكفر الحج الكبائر التي لم يتب عنها صاحبها، وإن كان قد تركها، فالصحيح -إن شاء الله- أنها إن كانت مما يتعلق بحقوق العباد فإن الحج لا يغفرها كما جاء في الحديث أن [الشهادة في سبيل الله تكفر الذنـوب كلها إلا الدّين]، وذلك أنه من حقوق العباد، وهكذا الأمر هنا، فإن الحج لا يكفر حقوق العباد، فمن كان عليه دين لم يؤده، أو في ذمته عهد أو مال أو أمانة لغيره فإن الحـج شأنه شأن كل الطاعات التي يكفر الله بها السيئات، لا يكفر الله بها حقوق الآدميين، لأن حقـوق العباد لا بد من ردها، أو تنازل أهل الحقوق عنها في الدنيا أو في الآخرة، أو المقاضاة فيها يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم: [أيها الناس من كان له عند أخيه مظلمة من عرض أو مال فليتحلل منه الآن قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إنما هي الحسنات والسيئات، فإن كان له حسنات أخذ منه بقدر مظلمته، وإلا أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار].
يتبع