دفعني لكتابة هذا المقال ما رأيته من بعض دعاتنا الفضلاء الذين خلعوا عباءة الأمس المفاصِلة للباطل وأهله، المحذرة من القيم الأمريكية ودعاتها، ليلبسوا عباءة جديدة تسوِّق للقيم الأمريكية، وتدعو إليها بكل فجاجة.
ونحن معشر الدعاة وإن كنا مع التغيير الإداري والسياسي في البلاد الإسلامية، وننادي بالإصلاح المنضبط بضوابط الشرع، الذي يُكافأ فيه المحسن، ويحاسب فيه المسيء، ويُقضى على الفساد بكافة صوره وأشكاله، وفي شتى المجالات؛ فإننا يجب أن نعلم أن هذا الإصلاح لن يأتينا من الثناء على القيم الأمريكية الفاسدة، وتلميعها، وإبرازها للناس على أنها الأحسن؛ فإن التغيير ما لم يكن نابعا من ذواتنا، وبمراجعة ديننا الذي فرطنا فيه فلن يكون إصلاحا حقيقيا، وإنما سيكون انتقالا من فساد إلى فساد آخر، ومهمة الدعاة هي رد الناس إلى دينهم لتصلح حالهم، وليست مهمتهم جلد الأمة، وتلميع قيم الآخرين؛ موافقة للإعلام الكاذب، ومسايرة للواقع الضاغط.
سمعت كلاما يثني داعية فيه على أمريكا وقيمها، فقلت: زلة لسان، وقرأت مقالا لداعية آخر يردد فيه ما قال الأول ولكن بشكل أوسع فقلت: خطأ عابر..
ولكن ذلك كَثُر، وما عاد يُحتمل، وكنا من قبل نسمعه من الليبراليين فنحتمله منهم لأننا نعرف أنهم أبناء أمريكا وقيمها، ويستمدون قوتهم منها، وينتهون بانتهائها أو ضعفها، فلا غرابة أن يستميتوا في إقناعنا ببقائها، وصلاحية قيمها إلى آخر الزمان.
لقد صنع بعض الدعاة من ترشيح أوباما هالة إعلامية لتلميع أمريكا لا يحسنها الليبراليون، واختزلوا قيم أمريكا فيما يسمى بالديمقراطية، واختصروا الديمقراطية في ترشيح أوباما ذي الأصول الإفريقية الإسلامية، وكأن تاريخ أمريكا كله توقف عند هذه اللحظة التي فاز فيها هذا المرشح.
وهذا الاختزال العجيب يأتي في وقت قد فُضحت فيه القيم الأمريكية أمام العالم كله، حتى إن من كانوا يدافعون عنها قبل عقد وعقدين يستحون الآن في المجالس أن يبدو إعجابهم بها لما علمه القاصي والداني، والمسلم والكافر، والمؤمن والمنافق، والمتعلم والجاهل، والكبير والصغير، والطفل والعجوز، والأعرابي والقروي، أن القيم الأمريكية فاسدة، وفي طريقها للزوال والاضمحلال، فما بال بعض دعاتنا قد ساروا في آخر الركب، ولم يروا جمال القيم الأمريكية إلا في وقت فضيحتها وتعريها وتهاويها؟!
كان الغيورون على حرمات الإسلام قبل عقد وعقدين يسمعون بعض المسئولين يتحدثون في المجالس الخاصة عن أمريكا وقيمها العظيمة فيعذرونهم تارة بالجهل بتاريخ أمريكا وسيل الدماء الذي غذاها، وأكوام الجماجم التي قامت عليها من الأفارقة والهنود الحمر، وتارة أخرى يفسرون أقوالهم تلك بالخوف، وأحيانا يرون أنهم يسوِّغون سياسات رُسمت لهم فلا يخرجون عنها، لكن في هذه الأيام وبعد انكشاف كل الأغطية التي كانت تغطي عورة أمريكا لست أدري كيف هُدي هؤلاء الدعاة بفكرهم الجديد لما عَمُوا عنه من قبل، واكتشفوا ما لم يكتشفه غيرهم؟!
لقد كان أعداء هؤلاء الدعاة من أبناء أمريكا في المنطقة يتهمونهم في السابق بأنهم طلاب سلطة أو شهرة أو مال لم يجدوه إلا في التسلق على شحن العواطف، وتهييج الناس على أمريكا الخيرة، وقيمها النبيلة، ونظامها الديمقراطي الذي لم ينجز في التاريخ البشري مثله، وقد توقف العقل والتفكير عنده!!
وفجأة نرى تحولا في بعض الدعاة ليصبحوا في صف أعداء الأمس، ويكونوا أبواقا تسوق للقيم الأمريكية ولكن حسب الشريعة الإسلامية، فما الذي تغير؟ وما الذي حصل؟
لو كان هذا الرأي الجديد قديما لقيل في العقليات الجديدة لدعاتنا: خُدعوا كما خدع غيرهم لما كانت السوءة الأمريكية مغطاة، أمَا وقد كُشفت لكل أحد فما هي فكرتهم؟
لم أجد في مقالات دعاتنا -الذين جُددت عقولهم، وطُورت أفكارهم حتى صارت ليبرالية أو كادت- إلا الثناء على عقلية أوباما وكارزميته وفصاحته وحنكته وسياسته حتى أسقط الشهيرة هيلاري كلنتون ثم أتبعها بإسقاط ماكين، مقرونا بالثناء على النظام الذي أوصل هذا الأفريقي إلى سدة الحكم في أكبر دولة في العالم، وهم يعلمون أنه نفس النظام الذي حوصر فيه العراق حتى مات أطفاله، وغُزيت أرضه وأرض أفغانستان ظلما وعدوانا، ومورست فيها سياسات الأرض المحروقة، وهو ذات النظام الذي كان ولا يزال وسيظل يمد دولة اليهود الباغية بكل أنواع الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي، ويُجهض حق الفلسطينيين في أرضهم.
لم يتحدث أحدٌ من دعاتنا الأفاضل عن خسارة أوباما لدينه حين حولوه إلى النصرانية، وما كان له أن يصل إلى ما وصل إليه لو بقي على دين الحق، حتى كان أثناء التبارز الانتخابي يرميه منافسوه بتهمة الأصل الإسلامي، والأجداد المسلمين، وصلاته صغيرا في المساجد، وخوفهم من الانحياز للمسلمين بسبب ذلك، فيعلن أمام الملأ براءته من تهمة الإسلام أو تعاطفه مع المسلمين، ويعلن دعمه لليهود، وأن أمنهم عنده شيء مقدس.
كان الأجدر بدعاتنا أن يبينوا للناس أن الأمة المسلمة خسرت أوباما حين نصروه-ولا سيما مع إيماننا بمكاثرة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته سائر الأمم- وأن خسارته لدينه أعظم وأكبر من ظفره بالرئاسة الأمريكية ولو بقي فيها خالدا عمره كله، ولكن هذا الكلام يخجل دعاتنا من إسماعه للناس عبر الإعلام العربي الأمريكي، ولو قالوه لربما حُوسبوا عليه، أو فقدوا امتيازات هذا الإعلام المتصهين.
أحد الدعاة الفضلاء المؤثرين في العامة أرسل يوما رسالة لمناضل جنوب إفريقية مانديلا يدعوه للإسلام، وهذا عمل حسن، وسعي مشكور، ودعوة إلى الله تعالى، ولكن دعوة أوباما إلى العودة للإسلام الذي خُلع منه أهم وأولى من دعوة مانديلا الذي لم يكن مسلما في يوم من الأيام، فهل سنرى داعيتنا يدعو أوباما إلى العودة للإسلام عبر الصحيفة التي يكتب فيها، وهي محل عناية الأمريكيين، ولا بد أن أوباما سيطلع عليها، وتبلغه الدعوة، فيكون في هذا العمل اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حين دعا هرقل عظيم الروم إلى الإسلام.
إن أوباما خسر كما خسر هرقل قبله إلا أن يرحم الله تعالى أوباما فيعود إلى دينه ولو خسر الرئاسة، وكلامي هذا سيكون مضحكا في الحسابات الليبرالية، ولكنه صحيح في الميزان الشرعي، وأين عقل أوباما من عقل هرقل؟ وأين سلطان أوباما من رئاسة هرقل؟
لقد كان هرقل عالما بدين النصارى، حاذقا في السياسة، خبيرا في إدارة أمته، وكان يملك نصف الدنيا وقتها، وأمريكا لم تستطع إخضاع حفاة الأفغان، ولا السيطرة على جوعى العراق، وكان هرقل باقيا في حكمه إلى أن يموت أو يزول ملكه، وأما أوباما فرئاسته إن طالت فثمان سنوات، وقد لا يتجاوز أربعا، وقد يغتال أو يستقيل قبل تمامها، وكان سلطان هرقل سلطانا حقيقيا هو الآمر فيه والناهي، وأما أوباما فلا يعدو أن يكون موظفا في البيت الأبيض له صلاحيات محدودة، يأتمر بأوامر جماعات الضغط (لوبيات السلاح والصناعة مع اللوبي الصهيوني الأقوى تأثيرا) فما أبعد ما بين رئيس أمريكا وعظيم الروم؟!
أما رجاحة عقل هرقل وكياسته فظاهرة في استخباره عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحكم عليه في محاورة عجيبة مع أبي سفيان رضي الله عنه، قال بعدها هرقل: ((وَإِنْ يَكُ ما قُلْتَ حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إليه لَتَجَشَّمْتُ لقاءه وَلَوْ كنت عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ)) رواه البخاري.
الله أكبر!! عظيم الروم يتمنى أن يغسل قدمي صاحب مكة المنبتة عن الحضارة والعمران آنذاك؛ ليقينه أنه نبيٌ عليه الصلاة والسلام، ولولا رجاحة عقل هرقل لما قال ذلك، فلم تَغْشَ قوة السلطة، وبهرج الملك على بصره فيعمى عن الحقائق.
وأعظم من ذلك أنه دعا قومه إلى الإسلام فقال: ((يا مَعْشَرَ الرُّومِ هل لَكُمْ في الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هذا النبي فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إلى الْأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قد غُلِّقَتْ فلما رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ من الْإِيمَانِ قال: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، وقال: إني قلت مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بها شِدَّتَكُمْ على دِينِكُمْ فَقَدْ رأيت، فَسَجَدُوا له وَرَضُوا عنه فَكَانَ ذلك آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ)) رواه البخاري.
لقد كان خيارا صعبا جدا لهرقل بين اختيار الدين الحق مع الأذى وربما القتل وخسارة ملك راسخ، وسلطان قاهر، وعز غالب، وبين خسارة دين الحق مع البقاء في الملك، فغلب الثاني، واختار الملك، وما هي إلا سنوات فخسر هرقل الملك والدين، والدنيا والآخرة.
وقبل ذلك جرى في مجلس ملك النصارى الأفريقي النجاشي نحو ما جرى في مجلس هرقل، ولكن النجاشي رحمه الله تعالى اختار الإسلام، ورد شرك أساقفته في عيسى عليه السلام بحزم وعزم، وأعلن توحيده، وحمايته للمسلمين في أرضه، فظفر بالآخرة مع بقاء ملكه.
قرأ جعفر رضي الله عنه على النجاشي وأساقفته صدرا من سورة مريم التي تنقض عقيدة النصارى في المسيح وأمه عليهما السلام ((فَبَكَى النجاشيُ حتى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حتى أخضلوا مَصَاحِفَهُمْ حين سَمِعُوا ما تَلاَ عليهم ثُمَّ قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ من مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ....)) رواه أحمد.
ومن الغد حاول مشركو مكة الوقيعة بين النجاشي والمسلمين فقالوا: ((أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ في عِيسَى بن مَرْيَمَ قَوْلاً عَظِيماً ... فقال لهم: ما تَقُولُونَ في عِيسَى بن مَرْيَمَ؟ فقال له جَعْفَرُ بن أَبِى طَالِبٍ رضي الله عنه: نَقُولُ فيه الذي جاء بِهِ نَبِيُّنَا هو عبد الله وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ، فَضَرَبَ النجاشي يَدَهُ إلى الأَرْضِ فَأَخَذَ منها عُوداً ثُمَّ قال: ما عَدَا عِيسَى بن مَرْيَمَ ما قُلْتَ هذا الْعُودَ، فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حين قال ما قال، فقال: وإن نَخَرْتُمْ)) رواه أحمد.
ففاز النجاشي رحمه الله تعالى، وعُرفت في الإسلام صلاة الغائب على الميت بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: استغفروا لأخيكم.
إنني أعلم أن بعض الناس قد يمتعض من محاكمة السياسة للدين، أو التذكير بما حُفظ لنا في السنة النبوية من مواقف ملوك النصارى مع الإسلام في هذا الوقت الذي لا نسمع فيه إلا كلاما سياسيا مجردا يملؤه الإعجاب بكارزمية أوباما، وحدة ذكائه، وقوة خطابه، مع ثناء وتبجيل للنظام الذي أوصله لرئاسة أكبر دولة، وهو أفريقي.
ولكن بميزان الإسلام الذي لا يخطئ يبين لنا أن أوباما خسر دينه وإن فاز بملك محدود ذي سلطة محدودة، وسيفقد هذه السلطة كما فقد هرقل سلطة أكبر منها.
إن اختزال أمريكا وقيمها في حادثة ترشيح أوباما وفوزه بالرئاسة تسطيح لا يليق بالعقلاء، فضلا عن الدعاة، ولو كان أوباما في إحدى الدول العربية والإسلامية لربما كان وزيرا أو نائبا أو مستشارا أو تاجرا كبيرا، أو مديرا للقصر الرئاسي يأمر فيه وينهى، ولا يلزم أن يكون في مكاتب الترحيل؛ لأن أمثالا له مسلمون ناجحون لهم مكانتهم المرموقة في بلدانهم.
ورغم ما في الدول الإسلامية من فساد إداري ومالي وسياسي، وظلم عظيم، وبغي كبير؛ فإن العنصرية العرقية فيها أضعف منها في أمريكا، والحكام العرب -رغم ما فيهم من أثرة- يئدون أي محاولة للتراشق العرقي؛ لأنه ليس في مصلحة سلطانهم، فلماذا جلد الأمة المسلمة بهذه الطريقة المقيتة؟ ولماذا الثناء على بيت العنصرية ومركزها الرئيس بهذا الأسلوب المهين؟ لا سيما وأمريكا قد نالت المركز المتقدم في الاستعمار، وأهم مرتكزات الاستعمار التي يقوم عليها هو العنصرية، وقد كتب عن هذه العنصرية كتاب أمريكان وغربيون.
ولو كان أوباما في مكاتب الترحيل في إحدى الدول الإسلامية مع بقائه على دين الحق لكان خيرا له ولأمة محمد عليه الصلاة والسلام مما هو الآن فيه مع خلعه لدينه، وإعلانه البراءة من اتهامه به، فهل تحول دعاتنا إلى صحفيين لا يعنيهم شأن التنصير في قليل ولا كثير؟!
وليعذرني دعاتنا الأكارم على محاكمة السياسة للدين، وليقبلوا عتبي عليهم حين كتبوا عن أوباما وقيم أمريكا بنفَس الصحفيين والإعلاميين، لا بنَفَس الدعاة المصلحين، وليقبلوا ذلك مني كما يقبلونه من الآخر، فقد قرروا كثيرا قولا وكتابة لزوم الاستماع للرأي الآخر، واتساع الصدر له، فليتعاملوا مع مقالي هذا كما يتعاملون مع مقال الآخر، ولتتسع له صدورهم، والله يحفظني ويحفظهم، ويسددني ويسددهم.
الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل
مـــ ماجده ـلآك الروح
ونحن معشر الدعاة وإن كنا مع التغيير الإداري والسياسي في البلاد الإسلامية، وننادي بالإصلاح المنضبط بضوابط الشرع، الذي يُكافأ فيه المحسن، ويحاسب فيه المسيء، ويُقضى على الفساد بكافة صوره وأشكاله، وفي شتى المجالات؛ فإننا يجب أن نعلم أن هذا الإصلاح لن يأتينا من الثناء على القيم الأمريكية الفاسدة، وتلميعها، وإبرازها للناس على أنها الأحسن؛ فإن التغيير ما لم يكن نابعا من ذواتنا، وبمراجعة ديننا الذي فرطنا فيه فلن يكون إصلاحا حقيقيا، وإنما سيكون انتقالا من فساد إلى فساد آخر، ومهمة الدعاة هي رد الناس إلى دينهم لتصلح حالهم، وليست مهمتهم جلد الأمة، وتلميع قيم الآخرين؛ موافقة للإعلام الكاذب، ومسايرة للواقع الضاغط.
سمعت كلاما يثني داعية فيه على أمريكا وقيمها، فقلت: زلة لسان، وقرأت مقالا لداعية آخر يردد فيه ما قال الأول ولكن بشكل أوسع فقلت: خطأ عابر..
ولكن ذلك كَثُر، وما عاد يُحتمل، وكنا من قبل نسمعه من الليبراليين فنحتمله منهم لأننا نعرف أنهم أبناء أمريكا وقيمها، ويستمدون قوتهم منها، وينتهون بانتهائها أو ضعفها، فلا غرابة أن يستميتوا في إقناعنا ببقائها، وصلاحية قيمها إلى آخر الزمان.
لقد صنع بعض الدعاة من ترشيح أوباما هالة إعلامية لتلميع أمريكا لا يحسنها الليبراليون، واختزلوا قيم أمريكا فيما يسمى بالديمقراطية، واختصروا الديمقراطية في ترشيح أوباما ذي الأصول الإفريقية الإسلامية، وكأن تاريخ أمريكا كله توقف عند هذه اللحظة التي فاز فيها هذا المرشح.
وهذا الاختزال العجيب يأتي في وقت قد فُضحت فيه القيم الأمريكية أمام العالم كله، حتى إن من كانوا يدافعون عنها قبل عقد وعقدين يستحون الآن في المجالس أن يبدو إعجابهم بها لما علمه القاصي والداني، والمسلم والكافر، والمؤمن والمنافق، والمتعلم والجاهل، والكبير والصغير، والطفل والعجوز، والأعرابي والقروي، أن القيم الأمريكية فاسدة، وفي طريقها للزوال والاضمحلال، فما بال بعض دعاتنا قد ساروا في آخر الركب، ولم يروا جمال القيم الأمريكية إلا في وقت فضيحتها وتعريها وتهاويها؟!
كان الغيورون على حرمات الإسلام قبل عقد وعقدين يسمعون بعض المسئولين يتحدثون في المجالس الخاصة عن أمريكا وقيمها العظيمة فيعذرونهم تارة بالجهل بتاريخ أمريكا وسيل الدماء الذي غذاها، وأكوام الجماجم التي قامت عليها من الأفارقة والهنود الحمر، وتارة أخرى يفسرون أقوالهم تلك بالخوف، وأحيانا يرون أنهم يسوِّغون سياسات رُسمت لهم فلا يخرجون عنها، لكن في هذه الأيام وبعد انكشاف كل الأغطية التي كانت تغطي عورة أمريكا لست أدري كيف هُدي هؤلاء الدعاة بفكرهم الجديد لما عَمُوا عنه من قبل، واكتشفوا ما لم يكتشفه غيرهم؟!
لقد كان أعداء هؤلاء الدعاة من أبناء أمريكا في المنطقة يتهمونهم في السابق بأنهم طلاب سلطة أو شهرة أو مال لم يجدوه إلا في التسلق على شحن العواطف، وتهييج الناس على أمريكا الخيرة، وقيمها النبيلة، ونظامها الديمقراطي الذي لم ينجز في التاريخ البشري مثله، وقد توقف العقل والتفكير عنده!!
وفجأة نرى تحولا في بعض الدعاة ليصبحوا في صف أعداء الأمس، ويكونوا أبواقا تسوق للقيم الأمريكية ولكن حسب الشريعة الإسلامية، فما الذي تغير؟ وما الذي حصل؟
لو كان هذا الرأي الجديد قديما لقيل في العقليات الجديدة لدعاتنا: خُدعوا كما خدع غيرهم لما كانت السوءة الأمريكية مغطاة، أمَا وقد كُشفت لكل أحد فما هي فكرتهم؟
لم أجد في مقالات دعاتنا -الذين جُددت عقولهم، وطُورت أفكارهم حتى صارت ليبرالية أو كادت- إلا الثناء على عقلية أوباما وكارزميته وفصاحته وحنكته وسياسته حتى أسقط الشهيرة هيلاري كلنتون ثم أتبعها بإسقاط ماكين، مقرونا بالثناء على النظام الذي أوصل هذا الأفريقي إلى سدة الحكم في أكبر دولة في العالم، وهم يعلمون أنه نفس النظام الذي حوصر فيه العراق حتى مات أطفاله، وغُزيت أرضه وأرض أفغانستان ظلما وعدوانا، ومورست فيها سياسات الأرض المحروقة، وهو ذات النظام الذي كان ولا يزال وسيظل يمد دولة اليهود الباغية بكل أنواع الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي، ويُجهض حق الفلسطينيين في أرضهم.
لم يتحدث أحدٌ من دعاتنا الأفاضل عن خسارة أوباما لدينه حين حولوه إلى النصرانية، وما كان له أن يصل إلى ما وصل إليه لو بقي على دين الحق، حتى كان أثناء التبارز الانتخابي يرميه منافسوه بتهمة الأصل الإسلامي، والأجداد المسلمين، وصلاته صغيرا في المساجد، وخوفهم من الانحياز للمسلمين بسبب ذلك، فيعلن أمام الملأ براءته من تهمة الإسلام أو تعاطفه مع المسلمين، ويعلن دعمه لليهود، وأن أمنهم عنده شيء مقدس.
كان الأجدر بدعاتنا أن يبينوا للناس أن الأمة المسلمة خسرت أوباما حين نصروه-ولا سيما مع إيماننا بمكاثرة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته سائر الأمم- وأن خسارته لدينه أعظم وأكبر من ظفره بالرئاسة الأمريكية ولو بقي فيها خالدا عمره كله، ولكن هذا الكلام يخجل دعاتنا من إسماعه للناس عبر الإعلام العربي الأمريكي، ولو قالوه لربما حُوسبوا عليه، أو فقدوا امتيازات هذا الإعلام المتصهين.
أحد الدعاة الفضلاء المؤثرين في العامة أرسل يوما رسالة لمناضل جنوب إفريقية مانديلا يدعوه للإسلام، وهذا عمل حسن، وسعي مشكور، ودعوة إلى الله تعالى، ولكن دعوة أوباما إلى العودة للإسلام الذي خُلع منه أهم وأولى من دعوة مانديلا الذي لم يكن مسلما في يوم من الأيام، فهل سنرى داعيتنا يدعو أوباما إلى العودة للإسلام عبر الصحيفة التي يكتب فيها، وهي محل عناية الأمريكيين، ولا بد أن أوباما سيطلع عليها، وتبلغه الدعوة، فيكون في هذا العمل اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حين دعا هرقل عظيم الروم إلى الإسلام.
إن أوباما خسر كما خسر هرقل قبله إلا أن يرحم الله تعالى أوباما فيعود إلى دينه ولو خسر الرئاسة، وكلامي هذا سيكون مضحكا في الحسابات الليبرالية، ولكنه صحيح في الميزان الشرعي، وأين عقل أوباما من عقل هرقل؟ وأين سلطان أوباما من رئاسة هرقل؟
لقد كان هرقل عالما بدين النصارى، حاذقا في السياسة، خبيرا في إدارة أمته، وكان يملك نصف الدنيا وقتها، وأمريكا لم تستطع إخضاع حفاة الأفغان، ولا السيطرة على جوعى العراق، وكان هرقل باقيا في حكمه إلى أن يموت أو يزول ملكه، وأما أوباما فرئاسته إن طالت فثمان سنوات، وقد لا يتجاوز أربعا، وقد يغتال أو يستقيل قبل تمامها، وكان سلطان هرقل سلطانا حقيقيا هو الآمر فيه والناهي، وأما أوباما فلا يعدو أن يكون موظفا في البيت الأبيض له صلاحيات محدودة، يأتمر بأوامر جماعات الضغط (لوبيات السلاح والصناعة مع اللوبي الصهيوني الأقوى تأثيرا) فما أبعد ما بين رئيس أمريكا وعظيم الروم؟!
أما رجاحة عقل هرقل وكياسته فظاهرة في استخباره عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحكم عليه في محاورة عجيبة مع أبي سفيان رضي الله عنه، قال بعدها هرقل: ((وَإِنْ يَكُ ما قُلْتَ حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إليه لَتَجَشَّمْتُ لقاءه وَلَوْ كنت عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ)) رواه البخاري.
الله أكبر!! عظيم الروم يتمنى أن يغسل قدمي صاحب مكة المنبتة عن الحضارة والعمران آنذاك؛ ليقينه أنه نبيٌ عليه الصلاة والسلام، ولولا رجاحة عقل هرقل لما قال ذلك، فلم تَغْشَ قوة السلطة، وبهرج الملك على بصره فيعمى عن الحقائق.
وأعظم من ذلك أنه دعا قومه إلى الإسلام فقال: ((يا مَعْشَرَ الرُّومِ هل لَكُمْ في الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هذا النبي فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إلى الْأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قد غُلِّقَتْ فلما رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ من الْإِيمَانِ قال: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، وقال: إني قلت مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بها شِدَّتَكُمْ على دِينِكُمْ فَقَدْ رأيت، فَسَجَدُوا له وَرَضُوا عنه فَكَانَ ذلك آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ)) رواه البخاري.
لقد كان خيارا صعبا جدا لهرقل بين اختيار الدين الحق مع الأذى وربما القتل وخسارة ملك راسخ، وسلطان قاهر، وعز غالب، وبين خسارة دين الحق مع البقاء في الملك، فغلب الثاني، واختار الملك، وما هي إلا سنوات فخسر هرقل الملك والدين، والدنيا والآخرة.
وقبل ذلك جرى في مجلس ملك النصارى الأفريقي النجاشي نحو ما جرى في مجلس هرقل، ولكن النجاشي رحمه الله تعالى اختار الإسلام، ورد شرك أساقفته في عيسى عليه السلام بحزم وعزم، وأعلن توحيده، وحمايته للمسلمين في أرضه، فظفر بالآخرة مع بقاء ملكه.
قرأ جعفر رضي الله عنه على النجاشي وأساقفته صدرا من سورة مريم التي تنقض عقيدة النصارى في المسيح وأمه عليهما السلام ((فَبَكَى النجاشيُ حتى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حتى أخضلوا مَصَاحِفَهُمْ حين سَمِعُوا ما تَلاَ عليهم ثُمَّ قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ من مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ....)) رواه أحمد.
ومن الغد حاول مشركو مكة الوقيعة بين النجاشي والمسلمين فقالوا: ((أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ في عِيسَى بن مَرْيَمَ قَوْلاً عَظِيماً ... فقال لهم: ما تَقُولُونَ في عِيسَى بن مَرْيَمَ؟ فقال له جَعْفَرُ بن أَبِى طَالِبٍ رضي الله عنه: نَقُولُ فيه الذي جاء بِهِ نَبِيُّنَا هو عبد الله وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ، فَضَرَبَ النجاشي يَدَهُ إلى الأَرْضِ فَأَخَذَ منها عُوداً ثُمَّ قال: ما عَدَا عِيسَى بن مَرْيَمَ ما قُلْتَ هذا الْعُودَ، فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حين قال ما قال، فقال: وإن نَخَرْتُمْ)) رواه أحمد.
ففاز النجاشي رحمه الله تعالى، وعُرفت في الإسلام صلاة الغائب على الميت بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: استغفروا لأخيكم.
إنني أعلم أن بعض الناس قد يمتعض من محاكمة السياسة للدين، أو التذكير بما حُفظ لنا في السنة النبوية من مواقف ملوك النصارى مع الإسلام في هذا الوقت الذي لا نسمع فيه إلا كلاما سياسيا مجردا يملؤه الإعجاب بكارزمية أوباما، وحدة ذكائه، وقوة خطابه، مع ثناء وتبجيل للنظام الذي أوصله لرئاسة أكبر دولة، وهو أفريقي.
ولكن بميزان الإسلام الذي لا يخطئ يبين لنا أن أوباما خسر دينه وإن فاز بملك محدود ذي سلطة محدودة، وسيفقد هذه السلطة كما فقد هرقل سلطة أكبر منها.
إن اختزال أمريكا وقيمها في حادثة ترشيح أوباما وفوزه بالرئاسة تسطيح لا يليق بالعقلاء، فضلا عن الدعاة، ولو كان أوباما في إحدى الدول العربية والإسلامية لربما كان وزيرا أو نائبا أو مستشارا أو تاجرا كبيرا، أو مديرا للقصر الرئاسي يأمر فيه وينهى، ولا يلزم أن يكون في مكاتب الترحيل؛ لأن أمثالا له مسلمون ناجحون لهم مكانتهم المرموقة في بلدانهم.
ورغم ما في الدول الإسلامية من فساد إداري ومالي وسياسي، وظلم عظيم، وبغي كبير؛ فإن العنصرية العرقية فيها أضعف منها في أمريكا، والحكام العرب -رغم ما فيهم من أثرة- يئدون أي محاولة للتراشق العرقي؛ لأنه ليس في مصلحة سلطانهم، فلماذا جلد الأمة المسلمة بهذه الطريقة المقيتة؟ ولماذا الثناء على بيت العنصرية ومركزها الرئيس بهذا الأسلوب المهين؟ لا سيما وأمريكا قد نالت المركز المتقدم في الاستعمار، وأهم مرتكزات الاستعمار التي يقوم عليها هو العنصرية، وقد كتب عن هذه العنصرية كتاب أمريكان وغربيون.
ولو كان أوباما في مكاتب الترحيل في إحدى الدول الإسلامية مع بقائه على دين الحق لكان خيرا له ولأمة محمد عليه الصلاة والسلام مما هو الآن فيه مع خلعه لدينه، وإعلانه البراءة من اتهامه به، فهل تحول دعاتنا إلى صحفيين لا يعنيهم شأن التنصير في قليل ولا كثير؟!
وليعذرني دعاتنا الأكارم على محاكمة السياسة للدين، وليقبلوا عتبي عليهم حين كتبوا عن أوباما وقيم أمريكا بنفَس الصحفيين والإعلاميين، لا بنَفَس الدعاة المصلحين، وليقبلوا ذلك مني كما يقبلونه من الآخر، فقد قرروا كثيرا قولا وكتابة لزوم الاستماع للرأي الآخر، واتساع الصدر له، فليتعاملوا مع مقالي هذا كما يتعاملون مع مقال الآخر، ولتتسع له صدورهم، والله يحفظني ويحفظهم، ويسددني ويسددهم.
الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل
مـــ ماجده ـلآك الروح