الحمد لله الكريم الوهاب، واسع العطاء غافر الذنب لمن تاب وأناب، الحمد لله يسر لنا من دروب الخير أبواب، ومنّ علينا أن هدانا لطرق السعادة في ما سطر لنا من سنته والكتاب، فله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه المهاب، والصلاة والسلام على خير خلقه الذي أحيا بدعوته الأرض اليباب، وألان له الصم الصلاب، وشرح به القلوب وأنار به عقول أولي الألباب، وعلى آله وصحبه خير من سمع دعوة الحق فأجاب ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الجزاء والحساب أما بعد:
عباد الله: لو تدبر الإنسان هذا الكتاب العظيم، وما فيه من الأسرار والعجائب، وما فيه من سبل الخير وجميل الفضائل، لصلحت حاله، وحسن مآله.
أيها المؤمنون: سؤال يدور في خلد كل من على هذه البسيطة، الإنس والجن، والمسلم والكافر، والبر والفاجر والذكر والأنثى، كلهم يسعى لغاية واحدة وهدف مشترك ألا وهو (السعادة والراحة والطمأنينة) في هذه الدنيا، ولو تأمل هذا المخلوق الضعيف في حاله وضعفه وعجزه وأنه مخلوق مربوب وأن الرب الخالق المعبود هو الذي بيده سعادته بيده نجاته، لم يلتفت إلى غيره ليدله على طريق السعادة بل لا طريق لسعادته ونجاحه وفلاحه في أمور الدنيا والآخرة إلا من طريق ربه وخالقه الرحيم الرؤوف بعباده، الذي خلقه وهو أعلم بما يصلحه ويفسده، وبما يسعده ويشقيه.
وقد أوجز الله لنا العبارة، وقصر لنا المقالة لأن كلامه معجز مبين فقال سبحانه في محكم التنزيل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [سورة النحل: 97].
أيها المؤمنون إن الجواب الشافي والعلاج الكافي لكل إنسان حائر مسلم أو كافر، صالح أو عاثر، نجده في هذه الآية ولعلنا نعيش في رحابها فنأخذ منها العبر والفوائد والشوارد الفرائد:
الفائدة الأولى: تميز الإنسان في بداية نشأته بأنه خلق من شيئين رئيسيين:
الأول: أنه خلق من تراب.
الثاني: أن الله نفخ فيه من روحه، فالجزء المادي الذي خلق منه هو التراب فالإنسان مفطور على حب المادة من مال وأكل وشرب وجنس وغيرها من الشهوات الحسية.
وجاء الإسلام وأشبع هذا الجانب فأباح له من ابتغاء المال بالحلال ما لا يخطر على بال، وحرم عليه ما كان فيه مضرة عليه أو على مجتمعه فحرم السرقة والربا والرشوة ونحوها، وأباح له من أصناف المطاعم والمشارب ما لا يخطر على بال وحرم اليسير مما فيه ضرر عليه وعلى مجتمعه، وأباح له الزواج وملك اليمين وحرم عليه اشباع هذه الغريزة بالطريقة الخاطئة التي تعود عليه وعلى مجتمعه بالضرر.
فالحمد لله الذي حرم اليسير وأباح الكثير لقد جاء الإسلام بهذه الشريعة العظيمة فلم يغفل هذا الجانب بل اعتنى به أيما عناية بل عد النبي الكريم صلى الله عليه و سلم من لم يترخص ويشبع جسده المادي بمثل هذه الأمور مخالفاً لسنته وهديه فقال: «فمن رغب عن سنتي فليس مني» [رواه البخاري ومسلم] لأن الله هو الذي خلقه وهو أعلم به، والشرائع الأرضية والقوانين البشرية لما ضلت عن سبيل ربها ونازعت الله في أخص خصائصه فشرعت له وأباحت له كل شيء من غير ضابط ولا رادع فساوته بالبهائم جرَّت على العالم الويلات من حروب ودمار وضياع نسل وتفكك أسري وأمراض مستعصية وهذا أمر لا نطيل حوله فالكل يعلمه.
وأما الجزء الثاني الذي يتكون منه الإنسان الجانب الروحي، وهو الذي أهملته الشرائع الأرضية بل قد لا يتنبه له بعض المسلمين فيضل فلا يعرف للسعادة ولا للحياة الطيبة طريقاً، لما خلق آدم من نفخة من روح الله، كان محتاجاً ليشبع هذه الروح ولكن بماذا تشبع؟، الذي يعلم هو خالقها وبارئها سبحانه، لا تشعر بالاستقرار ولا بالأمان ولا بالسعادة ولا بالراحة إلا إذا جمعت بين إشباع الروح والبدن، فلا تعجب حينما تسمع كثرة الانتحارات في المجتمعات الكافرة التي لم تهتدي بنور الوحي ولا بنور الرسالة، فهي تفتقد هذا الشرط للسعادة لقد سعت المجتمعات المادية للتركيز على الجانب المادي الحسي وأهملت الجانب الروحي فلم تهتد إلى طريق السعادة وجاء الجواب الحاسم من ربنا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]، وليعلم أن هذا الأمر ينطبق على بعض المسلمين فبعضهم تجده يفني حياته وحياة من يعول في توفير الأسباب المادية ويجعلها أساس اهتمامه ونسي الجانب الروحي فلا ذكر ولا عبادة ولكن لهو وغفلة عن ذكر الله بل وقوع في المعاصي والموبقات ثم بعد ذلك تجده يسأل لماذا الاكتئاب؟، لماذا الملل والضيق لابني أو ابنتي؟
أيها المسلمون: لنراجع برنامج حياتنا كم للعمل الصالح والإيمان من مساحة في أوقاتنا كم لذكر الله والطاعة وقراءة القرآن الذي هو سر سعادتنا كم له نصيب من يومنا؟، بالجواب عن هذا السؤال يزول العجاب.
الفائدة الثانية:إن الإيمان المطلوب هو الإيمان الصحيح الذي يريده الله وهو توحيد الله وإفراده بكل أنواع العبادة فلا تلتفت لغيره فيتشتت ذهنك ولا تتوكل إلا على الله ولا تخاف إلا من الله وعلق قلبك بالله ولا تخاف من مستقبل ولا من عدو ولا من مصائب وأحسن الظن بربك، ولا ترجوا إلا ما عند الله كما قال جل وعلا: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [سورة الزمر: 22]، وقال سبحانه: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [سورة الأنعام: 125].
أيها المؤمنون: من لم يتوكل على الله غلبته الهموم وأساء بربه الظنون، من لم يخف من الله خاف من كل شيء، إن من أعظم النعم على العبد أن يصلح قلبه وتوحيده ويكون ذلك بالعلم وهو من أعظم أسباب انشراح الصدر لأن أهل العلم هم أعرف الناس بالله.
الفائدة الثالثة: إن الإيمان الذي يورث الحياة الطيبة هو الإيمان الذي جاء في هذه الآية مقروناً بالعمل الصالح بكل ما تعنيه هذه الكلمة فهي عامة للأعمال القلبية من محبة الله وخوفه ورجاءه والتوكل عليه والرضا والتسليم لشرعه ودينه، فالنبي صلى الله عليه و سلم يقول: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» الحديث، وجاء أيضا في الحديث: «ذاق طعم الإيمان، من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا» [رواه مسلم]، ويدخل فيه بقية أعمال الجوارح المتنوعة المعروفة فلا سعادة لمن ادعى الإيمان بقلبه ولم يبرهن على ذلك بالعمل الصالح المخلص لوجه الله عز وجل.
الفائدة الرابعة: صور من الحياة الطيبة:
أيها المبارك: أخي يا من آمنت بالله وصدقت رسوله وعملت بشرعه أنت تعيش هذه الحياة الطيبة وتنعم بها فاسأل الله لنفسك الثبات واشكر الله على هذه النعمة التي حرمها غيرك لعلي أذكر ك بها {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].
توحيدك وإيمانك بربك هو من أعظم أسباب الحياة الطيبة ومراقبتك لله وإيمانك بكل ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله مما تشاهده أو هو غيب عنك فما أعظم النعمة التي تعيشها وأنت تؤمن بالله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا إله غيره ولا رب سواه الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحانه وتعالى عما يشركون.
أيها المبارك أنت تؤدي أركان الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج وتؤمن بأركان الإيمان كلها فهنيئاً لك على هذا كله نسأل الله أن يثبتك ويزيدك عبادة وتقوى وصلاحاً، وبقدر مما معك من هذه الأصول بقدر ما يحصل لك من السعادة.
فالصلاة فيها الأنس والراحة والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول لبلال: «يا بلال أقم الصلاة، أرحنا بها» [رواه أبو داود وصححه الألباني]، وكان يقول: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» [رواه النسائي وصححه الألباني]، الله أكبر كم هو محروم من هذا الأنس وهذه السعادة من لم يعفر جبهته خضوعاً وذلاً وعبوديةً بين يدي ربه ومولاه.
أيها المبارك: إن الإيمان بالقضاء والقدر والصبر على المصيبة ورضاك عن ربك ومولاك لهو من أعظم ما يميز المؤمن السعيد عن الكافر التعيس، «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له» [رواه مسلم]، إن المؤمن يؤمن بأنه إن صبر واحتسب سوف يؤجر ويكفر عنه خطيئته وأن هذه الدنيا زائلة فلا تستحق الجزع والحزن عليها فقولوا لي بربكم أين يجد مثل هذه المفاهيم من لم ينعم بنور هذه الرسالة وهدي هذا الدين العظيم.
أيها المبارك: إن برك بوالديك من أعظم الأسباب الجالبة للسعادة كيف لا وهما ممن عظم الإسلام شأنهما وأعلى منزلتهما ولا يوجد هذا في أي دين من الأديان، والواقع والحس يشهد بهذا فهنيئاً لك أخي ببرك والديك وثبتك على ذلك فإن كنت باراً بهما فاحمد الله على هذه النعمة العظيمة وإن كنت مقصراً فتدارك نفسك وتب إلى الله فإن الخسارة والحرمان في معصيتهما أعاذنا الله وإياك من ذلك.
أيها المبارك: من الصور التي يعيشها المسلم وهي من أنواع الحياة الطيبة أداء الحقوق لأصحابها أداء حق الزوجة والولد والعمال والأجراء ومن استدنت منهم مالاً أو غير ذلك هنيئاً لمن بات وليس في ذمته حق لأحد.
أيها المبارك: إن من صور الحياة الطيبة الإحسان إلى الخلق بالمال والمشورة والنصح وصلة الرحم وكف الأذى عنهم وحسن الخلق وحسن المعاملة فبقدر إحسانك إلى الآخرين بقدر ما تجد من السعادة والأنس والطمأنينة، يقول ابن القيم –رحمه الله -: "ومنها - أي من أسباب انشراح الصدر - الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال، والجاه والنفع بالبدن وأنواع الإحسان فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدراً وأطيبهم نفساً وأنعمهم قلباً والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدراً وأنكدهم عيشاً وأعظمهم هماً وغماً" ا.هـ
أيها المبارك: إن أعظم أسباب الراحة والسعادة والعيش في ظل الحياة الطيبة سلامة الصدرة وخلوها من الغل والحقد والحسد على المسلمين بل هي حياة المؤمنين في الجنة {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [سورة الحجر: 47]، فهنيئاً لك يا صاحب القلب الصافي وأكثر من الدعاء الذي أوصاك به ربك {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا} [سورة الحشر: 10].
إن الحسود يعيش في نكد وهم دائم والذي يرضى بقسمة الله يعيش معافى طيب النفس منشرح الصدر جعلنا الله وإياكم منهم، واعمل بوصية نبيك صلى الله عليه و سلم الذي أمرك بأن تنظر إلى من هو دونك في أمور الدنيا فتتعرف على عظيم نعمة الله عليك ولا تنظر إلى من هو أعلى منك في الدنيا فتأخذك الحسرات قال صلى الله عليه و سلم : «انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» [رواه الترمذي وصححه الألباني].
أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي الصالحين، وناصر المؤمنين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين وعلى آله وصحبه أجمعين:
أما بعد:
الفائدة الخامسة: إن من رحمة الله بنا أنه لم يكلفنا من أعمال الصالحة ما لا نطيق فقال عز وجل: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» بل من عظيم هذا الدين أنه نهانا عن أن نكلف أنفسنا فوق طاقتها وهذا نبينا ينهى أصحابه عن ذلك ويقول: «مه، عليكم بما تطيقون» [رواه البخاري]، ويرشدهم للأصلح والذي هو أنفع لهم وهو العمل القليل الدائم خير من الكثير المنقطع كما قال صلى الله عليه وسلم: «أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل» [رواه مسلم].
الفائدة السادسة: من أسباب الحياة الطيبة: إشغال النفس بما ينفع من علم أو حرفة أو مهنة أو تجارة بشرط أن تكون وسيلة ومعينة لطاعة الله غير مشغلة له عن الدار الآخرة، بل إن ديننا حث على التكسب والتجارة وعمل اليد فقد صح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال: «أطيب الكسب عمل الرجل بيده» [صححه الألباني]، وفي رواية: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ خَيْرَ الْكَسْبِ كَسْبُ يَدَ العَامِلٍ إِذَا نَصَحَ» [صححه الألباني]، وجاء في الحديث: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَفْضَلِ الْكَسْبِ فَقَالَ: «بَيْعٌ مَبْرُورٌ وَعَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ» [صححه الألباني]، وجاء في البخاري عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ» فهنيئاً لك يا من تعمل بالحلال وتعف نفسك عن الحرام وسؤال الناس فإنها من أسباب الحياة الطيبة.
عباد الله إن السعادة الحقيقية الكاملة السليمة من المنغصات والمكدرات هي في {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [سورة هود: 108].
مـــ ماجده ـلآك الروح
عباد الله: لو تدبر الإنسان هذا الكتاب العظيم، وما فيه من الأسرار والعجائب، وما فيه من سبل الخير وجميل الفضائل، لصلحت حاله، وحسن مآله.
أيها المؤمنون: سؤال يدور في خلد كل من على هذه البسيطة، الإنس والجن، والمسلم والكافر، والبر والفاجر والذكر والأنثى، كلهم يسعى لغاية واحدة وهدف مشترك ألا وهو (السعادة والراحة والطمأنينة) في هذه الدنيا، ولو تأمل هذا المخلوق الضعيف في حاله وضعفه وعجزه وأنه مخلوق مربوب وأن الرب الخالق المعبود هو الذي بيده سعادته بيده نجاته، لم يلتفت إلى غيره ليدله على طريق السعادة بل لا طريق لسعادته ونجاحه وفلاحه في أمور الدنيا والآخرة إلا من طريق ربه وخالقه الرحيم الرؤوف بعباده، الذي خلقه وهو أعلم بما يصلحه ويفسده، وبما يسعده ويشقيه.
وقد أوجز الله لنا العبارة، وقصر لنا المقالة لأن كلامه معجز مبين فقال سبحانه في محكم التنزيل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [سورة النحل: 97].
أيها المؤمنون إن الجواب الشافي والعلاج الكافي لكل إنسان حائر مسلم أو كافر، صالح أو عاثر، نجده في هذه الآية ولعلنا نعيش في رحابها فنأخذ منها العبر والفوائد والشوارد الفرائد:
الفائدة الأولى: تميز الإنسان في بداية نشأته بأنه خلق من شيئين رئيسيين:
الأول: أنه خلق من تراب.
الثاني: أن الله نفخ فيه من روحه، فالجزء المادي الذي خلق منه هو التراب فالإنسان مفطور على حب المادة من مال وأكل وشرب وجنس وغيرها من الشهوات الحسية.
وجاء الإسلام وأشبع هذا الجانب فأباح له من ابتغاء المال بالحلال ما لا يخطر على بال، وحرم عليه ما كان فيه مضرة عليه أو على مجتمعه فحرم السرقة والربا والرشوة ونحوها، وأباح له من أصناف المطاعم والمشارب ما لا يخطر على بال وحرم اليسير مما فيه ضرر عليه وعلى مجتمعه، وأباح له الزواج وملك اليمين وحرم عليه اشباع هذه الغريزة بالطريقة الخاطئة التي تعود عليه وعلى مجتمعه بالضرر.
فالحمد لله الذي حرم اليسير وأباح الكثير لقد جاء الإسلام بهذه الشريعة العظيمة فلم يغفل هذا الجانب بل اعتنى به أيما عناية بل عد النبي الكريم صلى الله عليه و سلم من لم يترخص ويشبع جسده المادي بمثل هذه الأمور مخالفاً لسنته وهديه فقال: «فمن رغب عن سنتي فليس مني» [رواه البخاري ومسلم] لأن الله هو الذي خلقه وهو أعلم به، والشرائع الأرضية والقوانين البشرية لما ضلت عن سبيل ربها ونازعت الله في أخص خصائصه فشرعت له وأباحت له كل شيء من غير ضابط ولا رادع فساوته بالبهائم جرَّت على العالم الويلات من حروب ودمار وضياع نسل وتفكك أسري وأمراض مستعصية وهذا أمر لا نطيل حوله فالكل يعلمه.
وأما الجزء الثاني الذي يتكون منه الإنسان الجانب الروحي، وهو الذي أهملته الشرائع الأرضية بل قد لا يتنبه له بعض المسلمين فيضل فلا يعرف للسعادة ولا للحياة الطيبة طريقاً، لما خلق آدم من نفخة من روح الله، كان محتاجاً ليشبع هذه الروح ولكن بماذا تشبع؟، الذي يعلم هو خالقها وبارئها سبحانه، لا تشعر بالاستقرار ولا بالأمان ولا بالسعادة ولا بالراحة إلا إذا جمعت بين إشباع الروح والبدن، فلا تعجب حينما تسمع كثرة الانتحارات في المجتمعات الكافرة التي لم تهتدي بنور الوحي ولا بنور الرسالة، فهي تفتقد هذا الشرط للسعادة لقد سعت المجتمعات المادية للتركيز على الجانب المادي الحسي وأهملت الجانب الروحي فلم تهتد إلى طريق السعادة وجاء الجواب الحاسم من ربنا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]، وليعلم أن هذا الأمر ينطبق على بعض المسلمين فبعضهم تجده يفني حياته وحياة من يعول في توفير الأسباب المادية ويجعلها أساس اهتمامه ونسي الجانب الروحي فلا ذكر ولا عبادة ولكن لهو وغفلة عن ذكر الله بل وقوع في المعاصي والموبقات ثم بعد ذلك تجده يسأل لماذا الاكتئاب؟، لماذا الملل والضيق لابني أو ابنتي؟
أيها المسلمون: لنراجع برنامج حياتنا كم للعمل الصالح والإيمان من مساحة في أوقاتنا كم لذكر الله والطاعة وقراءة القرآن الذي هو سر سعادتنا كم له نصيب من يومنا؟، بالجواب عن هذا السؤال يزول العجاب.
الفائدة الثانية:إن الإيمان المطلوب هو الإيمان الصحيح الذي يريده الله وهو توحيد الله وإفراده بكل أنواع العبادة فلا تلتفت لغيره فيتشتت ذهنك ولا تتوكل إلا على الله ولا تخاف إلا من الله وعلق قلبك بالله ولا تخاف من مستقبل ولا من عدو ولا من مصائب وأحسن الظن بربك، ولا ترجوا إلا ما عند الله كما قال جل وعلا: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [سورة الزمر: 22]، وقال سبحانه: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [سورة الأنعام: 125].
أيها المؤمنون: من لم يتوكل على الله غلبته الهموم وأساء بربه الظنون، من لم يخف من الله خاف من كل شيء، إن من أعظم النعم على العبد أن يصلح قلبه وتوحيده ويكون ذلك بالعلم وهو من أعظم أسباب انشراح الصدر لأن أهل العلم هم أعرف الناس بالله.
الفائدة الثالثة: إن الإيمان الذي يورث الحياة الطيبة هو الإيمان الذي جاء في هذه الآية مقروناً بالعمل الصالح بكل ما تعنيه هذه الكلمة فهي عامة للأعمال القلبية من محبة الله وخوفه ورجاءه والتوكل عليه والرضا والتسليم لشرعه ودينه، فالنبي صلى الله عليه و سلم يقول: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» الحديث، وجاء أيضا في الحديث: «ذاق طعم الإيمان، من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا» [رواه مسلم]، ويدخل فيه بقية أعمال الجوارح المتنوعة المعروفة فلا سعادة لمن ادعى الإيمان بقلبه ولم يبرهن على ذلك بالعمل الصالح المخلص لوجه الله عز وجل.
الفائدة الرابعة: صور من الحياة الطيبة:
أيها المبارك: أخي يا من آمنت بالله وصدقت رسوله وعملت بشرعه أنت تعيش هذه الحياة الطيبة وتنعم بها فاسأل الله لنفسك الثبات واشكر الله على هذه النعمة التي حرمها غيرك لعلي أذكر ك بها {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].
توحيدك وإيمانك بربك هو من أعظم أسباب الحياة الطيبة ومراقبتك لله وإيمانك بكل ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله مما تشاهده أو هو غيب عنك فما أعظم النعمة التي تعيشها وأنت تؤمن بالله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا إله غيره ولا رب سواه الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحانه وتعالى عما يشركون.
أيها المبارك أنت تؤدي أركان الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج وتؤمن بأركان الإيمان كلها فهنيئاً لك على هذا كله نسأل الله أن يثبتك ويزيدك عبادة وتقوى وصلاحاً، وبقدر مما معك من هذه الأصول بقدر ما يحصل لك من السعادة.
فالصلاة فيها الأنس والراحة والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول لبلال: «يا بلال أقم الصلاة، أرحنا بها» [رواه أبو داود وصححه الألباني]، وكان يقول: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» [رواه النسائي وصححه الألباني]، الله أكبر كم هو محروم من هذا الأنس وهذه السعادة من لم يعفر جبهته خضوعاً وذلاً وعبوديةً بين يدي ربه ومولاه.
أيها المبارك: إن الإيمان بالقضاء والقدر والصبر على المصيبة ورضاك عن ربك ومولاك لهو من أعظم ما يميز المؤمن السعيد عن الكافر التعيس، «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له» [رواه مسلم]، إن المؤمن يؤمن بأنه إن صبر واحتسب سوف يؤجر ويكفر عنه خطيئته وأن هذه الدنيا زائلة فلا تستحق الجزع والحزن عليها فقولوا لي بربكم أين يجد مثل هذه المفاهيم من لم ينعم بنور هذه الرسالة وهدي هذا الدين العظيم.
أيها المبارك: إن برك بوالديك من أعظم الأسباب الجالبة للسعادة كيف لا وهما ممن عظم الإسلام شأنهما وأعلى منزلتهما ولا يوجد هذا في أي دين من الأديان، والواقع والحس يشهد بهذا فهنيئاً لك أخي ببرك والديك وثبتك على ذلك فإن كنت باراً بهما فاحمد الله على هذه النعمة العظيمة وإن كنت مقصراً فتدارك نفسك وتب إلى الله فإن الخسارة والحرمان في معصيتهما أعاذنا الله وإياك من ذلك.
أيها المبارك: من الصور التي يعيشها المسلم وهي من أنواع الحياة الطيبة أداء الحقوق لأصحابها أداء حق الزوجة والولد والعمال والأجراء ومن استدنت منهم مالاً أو غير ذلك هنيئاً لمن بات وليس في ذمته حق لأحد.
أيها المبارك: إن من صور الحياة الطيبة الإحسان إلى الخلق بالمال والمشورة والنصح وصلة الرحم وكف الأذى عنهم وحسن الخلق وحسن المعاملة فبقدر إحسانك إلى الآخرين بقدر ما تجد من السعادة والأنس والطمأنينة، يقول ابن القيم –رحمه الله -: "ومنها - أي من أسباب انشراح الصدر - الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال، والجاه والنفع بالبدن وأنواع الإحسان فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدراً وأطيبهم نفساً وأنعمهم قلباً والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدراً وأنكدهم عيشاً وأعظمهم هماً وغماً" ا.هـ
أيها المبارك: إن أعظم أسباب الراحة والسعادة والعيش في ظل الحياة الطيبة سلامة الصدرة وخلوها من الغل والحقد والحسد على المسلمين بل هي حياة المؤمنين في الجنة {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [سورة الحجر: 47]، فهنيئاً لك يا صاحب القلب الصافي وأكثر من الدعاء الذي أوصاك به ربك {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا} [سورة الحشر: 10].
إن الحسود يعيش في نكد وهم دائم والذي يرضى بقسمة الله يعيش معافى طيب النفس منشرح الصدر جعلنا الله وإياكم منهم، واعمل بوصية نبيك صلى الله عليه و سلم الذي أمرك بأن تنظر إلى من هو دونك في أمور الدنيا فتتعرف على عظيم نعمة الله عليك ولا تنظر إلى من هو أعلى منك في الدنيا فتأخذك الحسرات قال صلى الله عليه و سلم : «انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» [رواه الترمذي وصححه الألباني].
أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي الصالحين، وناصر المؤمنين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين وعلى آله وصحبه أجمعين:
أما بعد:
الفائدة الخامسة: إن من رحمة الله بنا أنه لم يكلفنا من أعمال الصالحة ما لا نطيق فقال عز وجل: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» بل من عظيم هذا الدين أنه نهانا عن أن نكلف أنفسنا فوق طاقتها وهذا نبينا ينهى أصحابه عن ذلك ويقول: «مه، عليكم بما تطيقون» [رواه البخاري]، ويرشدهم للأصلح والذي هو أنفع لهم وهو العمل القليل الدائم خير من الكثير المنقطع كما قال صلى الله عليه وسلم: «أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل» [رواه مسلم].
الفائدة السادسة: من أسباب الحياة الطيبة: إشغال النفس بما ينفع من علم أو حرفة أو مهنة أو تجارة بشرط أن تكون وسيلة ومعينة لطاعة الله غير مشغلة له عن الدار الآخرة، بل إن ديننا حث على التكسب والتجارة وعمل اليد فقد صح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال: «أطيب الكسب عمل الرجل بيده» [صححه الألباني]، وفي رواية: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ خَيْرَ الْكَسْبِ كَسْبُ يَدَ العَامِلٍ إِذَا نَصَحَ» [صححه الألباني]، وجاء في الحديث: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَفْضَلِ الْكَسْبِ فَقَالَ: «بَيْعٌ مَبْرُورٌ وَعَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ» [صححه الألباني]، وجاء في البخاري عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ» فهنيئاً لك يا من تعمل بالحلال وتعف نفسك عن الحرام وسؤال الناس فإنها من أسباب الحياة الطيبة.
عباد الله إن السعادة الحقيقية الكاملة السليمة من المنغصات والمكدرات هي في {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [سورة هود: 108].
مـــ ماجده ـلآك الروح