الحسين بختي
الحمد لله والصلاة و السلام على رسول الله وبعد:
لا تزال دعوة الإسلام منذ أن جهر بها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم إلى يومنا الحاضر تتعرض للهجمات تلو الهجمات من قبل الذين في قلوبهم مرض، ولكن يأبى الله تعالى إلا أن يُظهر دينه، ويُسَخِّرَ لهذه العقيدة السمحة رجالاً يذودون عن حياضها، رغم ما يلاقون في سبيل ذلك من العنت والأذى والإضطهاد .
قال الإمام بن القيم رحمه الله في كتابه طريق الهجرتين وباب السعادتين:
قال الإمام أحمد في خطبة كتابه في ((الرد على الجهمية)): ((الحمد لله الذي جعل في كل زَمَانِ فَتْرَةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، ومن ضالٍّ جاهل قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين)).
ومن قبيل ما ذَكَرْتُ, ما نرى من حملات مسعورة ومغرضة موجهة إلى رجل من العلماء، بحجة أنه أفتى بجواز الزواج ببنت تسع سنين.
وهذا العالم هو الشيخ محمد بن عبد الرحمن المغراوي, إذ هبَّ بَعْضُ الحاقدين والمتربِّصين من العلمانيين إلى التشنيع والإنكار عليه ـ وهذا في الحقيقة اعتراض على حكم شرعي ـ فسوَّدُوا صفحاتِ بعضِ جرائدهم المُغْرِضَةِ بما كانت تُخْفي صدورهم من الحقد والحَنَقِ على دعوة الله سبحانه وتعالى، وعلى أحكامه الشَّرْعِية الْمُحْكَمَةِ.
وهذا التشنيع والتشغيب والإنكار, إنما هو حلقة من سلسلة طويلة من المحاولات للإيقاع بالدعوة وبأهلها, بقصد إطفاء نور الله, وإيقاف دعوة الله, ولكن كل هذه المحولات لا تزيد الدعوة إلا قوة وصلابة, يقول الله سبحنه وتعالى: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ, لَا تَحْسِبُوهُ شَرًّا لَكُمْ, بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ, لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ, وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ }سورة النور (11)
قال أبو تمام :
وإِذَا أَرادَ اللَّهُ نَشْرَ فَضيلَة ٍ ::: طُوِيَتْ أتاحَ لها لسانَ حسودِ
ولقد وجد هؤلاء المغرضون للأسف الشديد آذانا صاغية, من بعض ضعاف النفوس, وسفهاء الأحلام, وذلك لقلة اتصالهم بالعلم والعلماء, ولصمت الكثيرين ممن ينتسبون إلى العلم والدعوة، مع العلم أن تعرية الباطل وأهله, قد أصبح في مثل هذه الظروف من أوجب الواجبات، ومن أهم المهمات، وذلك أن الحق ما دام مختلطا بالباطل، وما دام سبيلُ المجرمين لم يتميز عن سبيل المؤمنين، فسيبقى التلبيس قائما، وسَيَشْمُخُ السَّفَلَةُ الأصاغر برؤوسهم .
ثم إن هذا السكوت المزعج لكثير من العلماء وطلبة العلم أمام كثير من المستجدَّاتِ والنوازل التي تبحث فيها الأمة عن الموقف الشرعي الصحيح، قد يدفع الكثيرين من ذوي القلوب المريضة ـ في غيبة العلماء ـ أن يُلَبِّسُواْ على الأُمَّةِ أَمْرَ دينها، وهذا ما حدث بالفعل في موضوع قضيتنا, فهي على كل حال صادرة عن عالم من علماء المسلمين, وهو فيها بين الأجر والأجرين, كما جاء في الحديث المتفق عليه : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ) .
ثم إن كلام الشيخ لم يَرِدْ موْرِدَ الفتوى، وإنما وَرَدَ مَوْرِدَ التفسير لقوله تعالى: { وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) } سورة الطلاق
لكن لنفترض أن الشيخ قد أخطأ فيما قال، من الذي له الحق في الرد عليه, أأولئك الصحفيون الذين لا يعرف أغلَبُهُمْ أحكامَ الطهارة والصلاة, بل منهم من لا يؤمن بجدوى هذه الأحكام, أم أن الذي له حق الرد هم العلماء، الذين يمتلكون أدوات التمييز بين الحق والباطل, وبين الصواب والخطأ؟
وإن مما يَحُزُّ في النفس أن إحدى القنواتِ التلفزيةِ المُغْرِضَةِ, والمعروفةِ عند الخاصِّ والعامِّ بمواقفها من الدِّينِ وأهلِهِ, أنها أجرت استطلاعا للرأي مع عدد كبير من المارَّةِ، حول هذه المسألة [ أي مسألة الزواج بالصغيرة ] دون خجل أو حياء, وكأن الأحكام الشرعية ينبغي أن تُعْرَضَ على الرَّأْيِ العامِّ، وعلى رَجُلِ الشَّارِعِ, حتىَّ يَبُثَّ فيها برأيه, فيُصْبِحُ الرَّأْيُ العامُّ هو الأصل المُعْتَبَرُ في التشريع بَدَلَ القرآن والسنة .
لِِمَ لا وقد صار تحكيم رجل الشارع في قضايا الأمة المصيرية، مِنْ أهم مظاهر التمدن والتَّحَضُّرِ والدِّيمقراطية.
وتأمل يا أخي رعاك الله إلى هذا التوصيف الدقيق ممن لا ينطق عن الهوى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحالنا المؤلم، ولهذه الرَّزِية التي لا يُعَبِّر عنها أصدقُ من الواقع الْمَعِيشِ.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن أمام الدَّجَّال سِنُونَ خدَّاعَاتٍ, يُكَذَّبُ فيها الصادقُ, ويُصَدَّقُ فيها الكاذبُ, وَيُخَوَّنُ فيها الأمينُ, ويُؤْتَمَنُ فيها الخائن, ويتكلم فيها الرويبضة " الحديث أخرجه أحمد وأبو يعلى والبزار وسنده جيد، ومثله لابن ماجه, مِنْ حديث أبي هريرة وفيه " قيل وما الرويبضة ؟ قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة "
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسوا الله - صلى الله عليه وسلم - : « " سيأتي على الناس سنواتٌ خدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فيها الكاذب, و يُكَذَّب فيها الصادق, ويؤتمن فيها الخائن ويُخَوَّنُ فيها الأمين, وينطِقُ فيها الرويبضة .
قيل : وما الرويبضة ؟
قال : الرجل التَّافِهُ يتكلم في أمر العامَّةِ "» .
أخرجه ابن ماجه و الحاكم و أحمد عن أبي هريرة وحسنه الشيخ الألباني في سلسلته الصحيحة, وذكر رواية أخرى عن أنس بن مالك, عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ : " إنَّ أَمَامَ الدَّجَّالِ سِنِينَ خَدَّاعَةً ... " الحديث مثله, إلا أنه قال : ".. الفُوَيْسِقُ يتكلَّم في أمر العامَّة " . أخرجه أحمد ( 3 / 220 ) . و رجاله ثقات لولا عنعنة ابن إسحاق .
قال ابن بطال في شرحه لهذا الحديث:
« وقد رأينا أكثر هذه العلامات, وما بقى منها فغير بعيد . »
شرح ابن بطال لصحيح البخاري
إن علماء الملة اشترطوا لنقد العلماء شرطين :
1 ـ الرسوخ في العلم .
2 ـ سلامة القصد .
لكن المخجل أن المقالات التي اطَّلعْتُ عليها في تلك الجرائد التي تصدَّت للردِّ على الشيخ, لا تَتَّسِمُ بالموضوعية, وَلاَ تَمُتُّ للعلم بصلة, إنما هي سخرية واستهزاء ورسوم كاريكاتورية { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ } سورة النور الآية : 11
وبهذا تفتقد هذه المقالاتُ الشَّرطين المذكورين, إذ أن السخرية والإستهزاء واللمز, هي أساليب العاجز عن المواجهة, الفاقِدِِ للعلم, الفاقِدِ لسلامة القصد, الدَّاخِلِ تحت وعيد قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) } سورة المطففين من الآية: 29 إلى الآية: 33
إن التاريخ يعيد نفسه كما يقال, بل إن نبينا عليه الصلاة والسلام قد أخبر عن رجوع الأمر إلى مثل ما كان عليه في الزمان الأول من الغربة.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -مرفوعا: بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء». رواه مسلم وأحمد من حديث ابن مسعود, وفيه : "مَنِ الغُرَبَاءُ ؟ " قال: «النُّزَّاع مِنَ القبائل ». وفي رواية: «الغرباء الذين يَصْلُحُونَ إذا فَسَدَ الناس» وللترمذي من حديث كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده: «طوبى للغرباء الذين يُصْلِحُونَ ما أفسد الناس من سنتي».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
«وقد تكون الغربة في بعض شرائعه، وقد يكون ذلك في بعض الأمكنة. ففي كثير من الأمكنة يخفى عليهم من شرائعه ما يصير به غريبًا بينهم، لا يعرفه منهم إلا الواحد بعد الواحد. ومع هذا، فطوبى لمن تمسك بتلك الشريعة كما أمر الله ورسوله، فإن إظهاره، والأمر به، والإنكار على من خالفه هو بحسب القوة والأعوان. اهـ. »
الفتاوى الجزء الثامن عشر ص : 298
وقال ابن القيم :
«..فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جدا سموا غرباء, فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة -الذين يميزونها من الأهواء والبدع- منهم غرباء. والداعون إليها, الصابرون على أذى المخالفين، هم أشد هؤلاء غربة. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقا، فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين . »
وقال أيضا :
« فإذا أراد المؤمن الذي رزقه الله بصيرة في دينه، وفِقْهًا في سنَّة رسوله، وفهما في كتابه وأراه ما الناس فيه: من الأهواء والبدع والضلالات، وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله وأصحابه. فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط, فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه, وطعنهم عليه, وازدرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه, كما كان سلفهم من الكفار يفعلونه مع متبوعه وإمامه -صلى الله عليه وسلم- ، فأما إن دعاهم إلى ذلك، وقدح فيما هم عليه, فهناك تقوم قيامتهم, ويبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل.
فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم »