إن المعركة بين الحق والباطل لن تنتهي، وأعداء هذا الدِّين لن يَدَعوه في راحة، ولن يتركوا أولياء هذا الدين في أمن، وسبيل هذا الدين هو أن يتحرك ليهاجم الباطل، وسبيل أوليائه أن يتحركوا لتحطيم قدرة أهل الباطل على العدوان، ثم لإعلاء راية الله؛ حتى لا يجرؤ عليها أهل الباطل.
وتتنوع وسائل أهل الباطل في محاربة المسلمين، ولكن الهدف يظل ثابتًا، أن يَردُّوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا، وكلما انكسر في يدهم سلاح، انْتَضَوا سلاحًا غيره، وكلما كلَّت في أيديهم أداةٌ، شحذوا أداة غيرها.
كيد:
قال ابن منظور: فلان يكيد أَمرًا ما أَدْرِي ما هو؟ إذا كان يُرِيغُه، ويَحْتالُ له، ويسعى له، ويَخْتِلُه.
وكَيْد الله - تعالى - لهم: استدراجهم من حيث لا يعلمون[1].
وقال الراغب:
الكيد: ضربٌ من الاحتيال، وقد يكون مذمومًا وممدوحًا، وإن كان يستعمل في المذموم أكثر.
وكيد الله: وهو الإملاء والإمهال المؤدي للعقاب[2].
والكيد: إخفاء قَصد الضر، وإظهار خلافه.
وأما الكيد المسند إلى ضمير الجلالة، فهو مستعمل في الإمهال، مع إرادة الانتقام عند وجود ما تقتضيه الحكمة من إنزاله بهم[3].
الكيد بإبراهيم – عليه السلام - وكيد الله – جل جلاله - له:
أخبر القرآن: أن قوم إبراهيم أرادوا أن يضرُّوه، مرةً بالحُجة، فلقَّنه الله الحجة الدامغة، فلما فشلوا معه، ألقوه في النار، فكَاد اللهُ له، وجعل النار بردًا وسلامًا عليه.
قال – تعالى -: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}[4]، لما دحضت حُجتهم، وبان عجزهم، وظهر الحق، واندفع الباطل - عدلوا إلى استعمال جاه مُلكهم، فقالوا: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}[5].
وقوله: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ}؛ أي: المغلوبين الأسفلين؛ لأنهم أرادوا بنبي الله كيدًا، فكادهم الله ونجَّاه من النار، فغُلِبوا هنالك[6]، وقيل: معناه: أنهم خسروا السعي والنفقة، ولم يحصل لهم مرادهم[7]، وقيل: أرادوا أن يكيدوه فما كانوا إلا مغلوبين، غالبوه بالجدال، فلَقَّنه الله - تعالى - الحجة المبكتة، ثم عدلوا القوة والجبروت، فنصره وقوَّاه عليهم، ثم إنه - سبحانه - أتم النعمة عليه بأن نجاه ونجَّى لوطًا معه[8].
وقال – تعالى -: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}[9]؛ يعني: الأَذَلِّين حجة، وغَلَّبنا إبراهيم عليهم بالحجة، وأنقذناه مما أرادوا به من الكيد[10].
وقيل في وقت المحاجة حصلت الغلبة له، وعندما ألقوه في النار، صرف الله عنه ضرر النار، فصار هو الغالبَ عليهم[11].
وكونهم الأسفلين واضح؛ لعلوِّه عليهم، وسلامته من شرِّهم، وكونهم الأخسرين؛ لأنهم خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، وفي القصة: أن الله سلَّط عليهم خلقًا من أضعف خلقه فأهلكهم، وهو البعوض[12].
وأين يذهب كيد العباد إذا كان الله يريد؟
وماذا يملك أولئك الضعاف المهازيل من الطغاة، والمتجبرين، وأصحاب السلطان، وأعوانهم من الكبراء، إذا كانت رعاية الله تحوط عباده المخلصين؟![13].
الكيد بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وكيد الله – جل جلاله - له:
قال – تعالى -: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ}[14].
يقول: فهم المكيدون الممكورُ بهم دونك، فثِقْ بالله، وامضِ لما أمرك به[15]؛ لأن ضرر ذلك يعود عليهم، ويحيق مكرهم بهم[16].
إنهم يكيدون للإسلام والمسلمين، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله يكيد لهم بالاستدراج، حتى يأتي موعد إهلاكهم، والله خير الماكرين.
وقال – تعالى -: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا}[17].
صور من كيد المجرمين:
- إلقاء الشبهات: كقولهم: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}[18]، {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[19].
- الطعن فيه بكونه ساحرًا، وشاعرًا، ومجنونًا.
- القتل على ما قاله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ}[20].
وهذا ما يفعله المجرمون اليوم مع المجاهدين في غزة وفي غيرها:
- حاولوا تشويه صورة المجاهدين قائلين: إن المجاهدين مختبئون، وإنهم جعلوا شعب غزة دروعًا بشرية، وكذَّب الواقع دعواهم، حيث تواجَدَ المجاهدون مع شعبهم، والتفَّ الشعب حولهم، واحتضنهم وذبَّ عنهم.
- قالوا: إن المجاهدين يبيعون المساعدات، وأبطل الله كيدهم، وظهر المجاهدون وهم يوزعون المساعدات على المتضررين، ونفت الأنروا ما ادَّعاه هؤلاء المجرمون.
- حاولوا القضاء على المجاهدين بالقتل من خلال معركة غير متكافئة من الناحية العسكرية، استخدمت فيها الأسلحة المحرمة دوليًّا، وأبطل الله كيدهم، وخرج المجاهدون أقوياء منتصرين، وخرج المجرمون أذلاء مدحورين.
الكيد في حق الله - تعالى - محمول على وجوه:
قال – تعالى -: {وَأَكِيدُ كَيْدًا}[21]، وقال - تعالى - في وصف كيده: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[22].
أحدها: دفعه - تعالى - كيدَ الكفرةِ، ويقابل ذلك الكيد بالنصرة وإعلاء الدين.
وثانيها: أن كيده - تعالى - بهم هو إمهاله إياهم على كفرهم، حتى يأخذهم على غِرَّة[23].
فهذا كيد، وهذا كيد، وهذه هي المعركة، ذات طرف واحد في الحقيقة، وإن صورت ذات طرفين لمجرد السخرية والاستهزاء.
واجب المجاهدين تجاه الكيد:
لا تعجلوا، ولا تستبطئوا نهاية المعركة، وقد رأيتم طبيعتها وحقيقتها، فإنما الحكمةَ وراء الإمهال الإمهالُ قليلاً، وهو قليل حتى لو استغرق عمر الحياة الدنيا، فما هو عمر الحياة الدنيا إلى جانب تلك الآباد المجهولة المدى؟
وليعلم المؤمنون أن المجرم أضعف وأحقر من أن يغالِبَ القوي العليم في كيده.
ألا فليطمئن المجاهدون إلى كيد الله بالمجرمين، وكيده للمؤمنين الصادقين المجاهدين، فما المجرمون إلا نزلاء في هذه الأرض، وهم عنها راحلون، في الوقت الذي يقدره - جل جلاله - بحكمته.
[1] "لسان العرب": 3 / 383.
[2] "مفردات الراغب": 728.
[3] "التحرير والتنوير": 16 / 210.
[4] الأنبياء: 70.
[5] الأنبياء: 68.
[6] "تفسير ابن كثير": 5 / 351.
[7] "تفسير البغوي": 5 / 329.
[8] "تفسير الرازي": 11 / 40.
[9] الصافات: 98.
[10] "جامع البيان":21 / 71.
[11] "تفسير الرازي": 13 / 136.
[12] "تفسير البيان": 4 / 237.
[13] "في ظلال القرآن": 6 / 187.
[14] الطور: 42.
[15] "جامع البيان": 22 / 484.
[16] "تفسير البغوي": 7 / 393.
[17] الطارق: 15، 16.
[18] يس: 78.
[19] الزخرف: 31.
[20] الأنفال: 30.
[21] الطارق: 16.
[22] الأعراف: 183.
[23] "تفسير الرازي": 16 / 455.
د. توفيق علي زبادي
مـــ ماجده ـلآك الروح