العبد الرباني .. من هو؟!
ما هي الصورة المثالية للعبد المسلم، أو العبد الرباني؟
نريد أن نضع في أذهاننا شخص يحب الله والله يحبه، نريد أن نحلم بهذه الصورة كما يريده الله، ما شكله، وفكره، ووضعه، وأعماله.
الإمام "ابن القيم" في كتابه "طريق الهجرتين وباب السعادتين"، رسم لنا هذه الصورة فقال: "ولن يبلغ العبد الربانية إلا إذا ربى نية، وجملة نعت العبد حقًا أنه المتخلى عن الدنيا تصرفًا، والمتجافى عنها تعففًا، لا يستغنى بها تكثرًا، ولا يستكثر منها تملكًا، وإن كان مالكًا لها بهذا الشرط لن تضره، بل هو فقيرًا غناه في فقره، وغني فقره في غناه".
إن الله ـ جلَّ جلاله ـ حين مدح أقرب خلقه إليه المصطفين الأخيار من عباده من الأنبياء مثل "أيوب" ـ عليه السلام ـ قال: "نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ".
سورة "ص": الآية (30).
فنصف العبد أنه خالصًا لله وحده: "إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي".
سورة "آل عمران": الآية (35)
أي خالصًا لله وحده لا يرغب بالدنيا، وليس معنى هذا أن نتخلى عنها ونهمل موارد رزقنا، ولكن نتجافاها تعففًا: "يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ".
سورة "البقرة": الآية (273).
"عفيف متعفف ذو عيال"، وهذا أولهم تبعًا لقول سيد الخلق ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فالعين عفيفة لا تتطلع، واللسان لا ينطق من العفة، والأذن لا تتصنت، والعقل عفيف لا يستشرف، والقلب غنى بالعفة، ففي الحديث عَنْ "حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ" قَالَ: سَأَلْتُ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَعْطَاني، ثمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَاني، ثمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَاني، ثمَّ قَالَ: "إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَاليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى".
أخرجه "مسلم" في صحيحه.
وصف جميل العفيف صاحب القلب الغنى لا يستشرف، وإنما هو غنى، بينه وبين ما لا يملكه تجافى تعففًا، لا يستغنى بها تكثرًا، ولا يستكثر منها تملكًا، وإن كان مالكا لها بهذا الشرط، فهو غناه في فقره فلا يستغنى بها اعتمادًا عليها، ولا يفتقر إليها مساكنة إليها، لا يعتمد عليها أبدًا ولا يحتاج إليها، بل على الله محتاج دائمًا لله، يقول الله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ".
سورة "يونس": الآيات (7ـ8).
فهذا العبد لا يريد الدنيا، فقدوته النبي الكريم، فقد رُوِيَ عن "ابن عباس" أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل عليه "عمر" وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال: يا نبي الله لو اتخذت فراشا أوثر من هذا. فقال: مالي وللدنيا؟ ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها".
رواه "أحمد" في "مسنده"، وعلَّق عليه "شعيب الأرنؤوط" بقوله: إسناده صحيح.
إننا ينبغي أن نفهم أن من صفة العبد الرباني أنه يعمل على موافقة الله في الصبر، والرضا والتوكل والإنابة، فالصبر مطلوب، وهو صبر بالله، وصبر لله، وصبر في الله، وصبر عن الله.
إن العبد خالصًا بكليته لله، ليس لنفسه ولا هواه في أحواله حظ ونصيب، فهو يريد الله بمراد الله، وهمته لا تقف دون شئ سواه، قد فني بحب الله عن حب ما سواه، وبأمر الله عن شهوته وهواه، وبحسن اختيار الله له عن اختياره لنفسه، فهو في وادٍ والناس في وادٍ أخر.
الشيخ "محمد حسين يعقوب"