عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق
" إنَّ الله جميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ "
الجَمالُ حُسْنٌ في الشيءِ ، مزروعٌ فيه ، و ظاهرٌ عليه ،
يستلفتُ انتباهَ الصرِ و البصيرة ، و يستجلبُ المدحَ و الإشادة باللسانِ ،
و يرجع بذلك الانتباه إلى سائرِ الكيان البشري ، حيثُ الميلُ الجميل ، و الإقبال الراقي .
الجَمالُ سِرٌّ ساحرٌ في الوجودِ ، وضعه الخالقُ ليكون دالاً عليه ،
و منبئاً عنها ، و ليكونَ ظاهرةً من ظواهر إبداعه في صنع الكون ،
نعتَ به نفسَه ووصفها ، ليكون أبلغَ في بيان سرِّه .
إنَّ جَمالاً كان الله موصوفاً به يحملُ رسالتين إلى الإنسانِ ،
عبرَ رُسُلِ الكونِ الموزَّعةِ فيه :
الرسالةُ الأولى :
أنَّ الله الجميلَ وصفَ نفسَه بهذا الجمالِ ، و سَمى نفسَه به ،
ليجعل الجمالَ أساساً في الوجود ، و أصلاً في الذاتياتِ و الصفات ،
فكان جميلاً في كلِّ شيءٍ ، جميلاً في كونه هو الله ،
و جميلاً في كونه هو الخالقُ ، و جميلاً في تلك الأسماءِ التي له ،
و جميلاً في تلك الأفعالِ التي فعلها ، و جميلاً في كلامه ،
و جميلاً في الوجود ، و جميلاً في الجمالِ ، و جمَّلَ الجمالَ به فكان جمالاً لا يُضاهى ،
جَمالُ اللهِ الجميلِ كانَ منشوراً في الكونِ ، في كلِّ جزئياته فضلاً عن كلِّيَّاته .
جَمالُ اللهِ ليس له حدٌّ ينتهي إليه ، لأنَّ الجميلَ ذاته كذلك ،
و جَمالُ ما منهُ كذلكَ ، و جمالُ جمالياتِهِ كذلك ، و سلسلةٌ لا تنتهي مِن جمالِ الجميلِ اللهِ .
تلك رسالةُ الجميلِ إلى خلقه في الكونِ يُعرِّفهم بجَمالِهِ و حُسْنِه ،
و يجعلهم يُحبون الجَمالَ و يَعْشَقونه حدَّ اللا حدَّ و نهايةَ اللا نهاية ،
لأنَّ جمالَ الجميلِ كذلك ، فإذا ما أدركوها يقيناً جاءتهم :
الرسالةُ الثانية :
صناعة الجمالِ ، في النفسِ ، و في الكونِ كله ،
قولاً و فعلاً ، صفةً و ذاتاً ، حقيقةً و صورة ،
صناعته من ذاك الحبِّ الذي انْزرَعَ في النفوسِ ،
حيثُ حُبُّ الجميلِ اللهِ له ، حيثُ كوَّنَه في كَوْنِهِ الفسيحِ ،
صناعته بشتَّى أنواعِهِ و أشكالِهِ ، وِفْقَ الأذواقِ النفسية و الروحية .
صناعة الجمالِ في الوجودِ وظيفة المخلوقاتِ ،
في إخراجها من نفسها لتكون ظاهرةً في الوجودِ مُدْرَكَةً في الشُّهود ،
فالجَمالُ لن يكون جَمالاً إلا في إظهارِ المخلوقاتِ له ،
و في قبولها إياه و استحسانها إياه ، فنحنُ أساسُ الجمالِ الذي خُلِقَ في ذواتنا ،
و صُنِعَ لنا ، لنجعلَه آيةُ الكونِ منشورةً ، و علامةً بيِّنَةً لكلِّ أحدٍ ،
و إذا ما أغفلناه و أهملناه خَبا بريقُه ، و ضُلَّ طريقُه ،
و صارَ مقبوحاً منبوذاً ، و تقبيحُ الحُسْنِ خللُ العقلِ .
صناعة الجَمالِ تشتملُ كلَّ ما نراه بالعَيْن ، و نسمعه بالأُذُنِ ،
و نشُمُّه بالأنفِ ، و نذوقُه باللسانِ ، و نعقِلُه بالقلبِ ،
و نستشعرُه بالنفس ، و نميلُ إليه بالروح ، و نُدركه كُلَّه بكُلِّنا .
بين الرسالتين تواصُلٌ و ترابُطٌ ، فصناعةُ الجمالِ متكوِّنَةٌ من معرفةِ جمالِ اللهِ الجميل ،
فجمالُ كلامِهِ يُدركُه جمالُ السمعِ ، و الأقوى و الأعمقُ سَمعاً أدْرَك للجمالِ الكلامي الإلهي من غيره ،
و جَمالُ الصورِ يُدركه جَمال البَصَر ، و جمَال كلِّ شيءٍ في موجوداتِهِ يُدركه شيءٌ من مُدْرِكاتِ خلقه .
تأمُّلٌ يسيرٌ في أبعادِ الوجودِ نجد جَمالاً متجدداً ،
في كلِّ شيءٍ جَمالٌ ، نحن بتأملنا نصنعه في نفوسنا ،
ثم ننقلُه للغيرِ عن طريق تعبيرنا عن أذواقنا ، و نسعى لنشره في الوجود باستعمالنا إياه .
هذا في الجمالِ الظاهرِ جمالُه ،
و هناك جمالٌ آخرَ و أعمقَ ، و لا يكون مُدرَكاً إلا بالتأمُّلِ ،
و هو جَمال القُبْحِ و الدمامة ، فلولا القُبْحُ ما عُرِفَ الجَمالُ ،
و لولاه ما تنوَّعَت الأذواق الجَمالية ، فلو لم يَكن القُبْحُ ما كان الجمالُ .
الجَمالُ واسعٌ و كبيرٌ ، حيثُ لا قانون يضبطه ، و الأذواقُ تحكُمُه ،
و الأذواقُ لا حاكم عليها ، فكان الجَمالُ جميلاً في إطلاق عنان إدراكه و تذوقه .
م
ماجده