يقول الله في كتابه الكريم: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفوراً رحيما}.. الأحزاب الآيات 23 – 24.
روى البخاري عن أنس بن مالك قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر. فقال: يا رسول الله غبتُ عن أول قتال قاتلت المشركين لئن أشهدني الله مع النبي قتال المشركين ليريد الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد أنكشف المسلمون فقال: اللهم أني أعتذر إليك ما صنع هؤلاء يعني أصحابه.
وابرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فأستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة درب النضر إني لا أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع ثم تقدم، قال أنس فوجدنا به بضعاً وثمانين ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح ورميه بالسهم ووجدناه وقد مثل به المشركون فما عرفه إلا أخته بشامة أو ببنانة.
قال: أنس كنا نرى هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}.
هذا نموذج الرجولة النادرة التي لم يجود الزمان بمثلها والتي تقوم عليها الدعوات ويرس على أركانها البناء وقبل أن تمضي هذه الصفحة المشرقة فإنه تطالعنا صفحة أنصع بياضا وأكثر أشراقا من سابقتها.
فقد روى بن اسحق: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ينظر إلى ما فعل سعد بن الربيع أمن الأحياء هو أم من الأموات؟ فقال رجل من الأنصار أنا فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر أمن الأحياء أنت أم في الأموات؟
فقال: أنا في الأموات فابلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامي وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله خير ما يجزي نبياً عن أمته وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: أن سعد بن الربيع يقول لكم إنه لا عذر لكم عند الله إن خَلُصَ إلى نبيكم وفيكم عين تطرف قال: ثم لم أبرح حتى مات وجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره.
إن الرجال الذين يكتبون التاريخ بدمائهم ويوجهون زمامه بعزماتهم هم الذين خاضوا غمار الحروب وحفظوا بها مصير الإسلام في الأرض إن التاريخ البشري على طول الدنيا وعرضها لم يشهد من الرجولة الصادقة والنفوس الزكية والأبية الطاهرة التي تحرث الحقيقة.
وآمنت بها ما شهده من تاريخ الإسلام ورجاله السابقين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما بذلوه من جهد خارق في سبيل نصرة الإسلام وإرساء دعائم الحق وتحقيق الخلق السامي، فلقد عقدوا عزمهم ونياتهم على غاية تناهت من الرفعة والسمو.
لقد جاءوا الحياة في وقتهم المرتقب وتاريخ البشرية يسأل كيف أنجز أولئك الأبرار كل ما أنجزوه في بضع سنين وكيف أهالوا على تاريخ الدنيا الظالم كثيبا حتى لم يعد يبقى له أثر وكيف بنوا بقرآن الله عالما جديدا يهتز نظره ويتألق عظمه وكيف استطاعوا أن يضيئوا الضمير الإنساني بحقيقة التوحيد ويطهروه من وثنية القرون البالية.
لقد اعتصموا بالله وتشبثوا بإيمانهم على نحو يندر له مثيل، ونحن نرى فيهم وفي سيرتهم وبطولتهم وولائهم لله ولرسوله الأسوة الحسنة، نرى البذل الذي بذلوا والهول الذي احتملوا والنصر الذي أحرزوا أو نرى الدور العظيم الذي هبوا به لتحرير البشرية من وثنية الضمير وضياع المصير.
وإننا لنرى فيهم كتائب الحق هي تطوي العالم القديم بإيمانها محلقة في آفاق السماء برايات الحقيقة الجديدة التي أعلنوا بها توحيد العالمين وتحرير الخلق من العبودية لغير لله وفي تلك الغزوة والتي نزلت هاتان الآيتان تعقيبا على أحداثها يروى ان خيتمه قتل أبنه في بدر فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أخطأتني وقفة بدر وكنت والله عليه حريصا حتى ساهمت ابني في الخروج فخرج من القرعة الهمه فرزق الشهادة.
وقد رأيت البارحة أبني في النوم في أحسن صورة يسرح من ثمار الجنة وأزهارها يقول الحق بنا ترافقنا في الجنة فوجدت ما وعدني ربي حقا ثم قال: وقد أصبحت يا رسول الله مشتاقا إلى مرافقته وقد كبرت سني ورق عظمي وأحببت لقاء ربي.
فأدع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة أبني خيثمة في الجنة فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد شهيد. وتروى لنا كتب السيرة أن عمر بن الجحجوح كان اعرج شديد العرج وكان له أربعة أبناء شباب يغزون معه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما توجه الرسول إلى أحد أراد أن يخرج معه فقال بنوه: إن الله قد جعل رخصة فلو قعدت ونحنوا نكفيك وقد وضع الله عنك الجهاد.
فأتى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن بني هؤلاء يمنعوني أن أجهاد معك و والله إني لا أرجوا ان أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد وقال لبنه: وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد شهيدا.
فيما يروى عن النعمان بن مالك أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا نبي الله لا تحرمنا الجنة – وذلك قبل نشوب القتال في أحد – فوا الذي نفسي بيده لأدخلنها. فقال له صلى الله عليه وسلم بم؟
قال بأني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف فقال له صلى الله عليه وسلم صدقت فأستشهد يوم احد وجاء عبد اله بن جحش قبل يوم احد بيوم وقال اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غدا فأقاتلهم فيقتلونني ويبعروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني ثم تسألوني فيم ذلك؟ فأقول فيك فتقول صدق عبدي أدخلوه الجنة.
هؤلاء هم الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وقد تحقق لهم ما أرادوا في نفس المعركة ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الجحجوح وهو يطأ الفردوس الأعلى من الجنة برجله التي كانت عرجاء وهي أسلم من الخرى فقال حديثه: أن منكم معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره.
هؤلاء هم من شهداء أحد والذين كان منهم رجال لامرأة أبوها وأخوها وزوجها وولدها فخرجت تستنبؤ عن أخبار القتال فأخبرت بقتلاها فقالت: ما عن هؤلاء سألتكم اخبروني ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقالوا لها هو بخير فقالت أرونيه فلما رأته معافى سليما حيا قالت: كل مصيبة بعدك هينة ثم وضعت قتلاها على بعيبرها تريد أن تذهب بهم إلى المدينة فأبى البعير فلما وجهته لأحد توجه فقال صلى الله عليه وسلم ردوها بهم فو الذي نفسي بيده لو نقل هؤلاء لنقل ورائهم جبل احد ليدفنوا فيه ثم دفنهم مع الشهداء وقال: أنا شهيد على أن هؤلاء شهداء.
ثم قال زوروهم وسلموا عليهم فو الذي نفسي بيده لا يزورهم احد ويسلم عليه إلا أحياهم الله فردوا السلام عليه وقال أحد جبل يحبنا ونحبه فهل رأت الدنيا رجال كهؤلاء الرجال؟