قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - مُتَحَدِّثًا عنِ القرآن: "ولا يذكر فيه لفظًا زائدًا إلا لمعنى زائد، وإن كان في ضِمن ذلك التوكيد، وما يجيء من زيادة اللفظ في مثل قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: ١٥٩]، وقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: ٤٠]، وقوله: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: ٣]، فالمعنى مع هذا أزيد منَ المعنى بدونه، فزيادة اللفظِ لزيادة المعنى، وقوة اللفظ لقوة المعنى، والضم أقوى منَ الكسر، والكسر أقوى من الفتح.
ولهذا يقطع على الضم لما هو أقوى؛ مثل: "الكُرْه"، و"الكَرْه"، فالكُره هو الشيء المكروه؛ كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: ٢١٦]، والكَرْه المصدر؛ كقوله: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [التوبة: 53]، والشيءُ الذي في نفسه مَكْروه أقوى مِن نَفْس كراهة الكَارِه، وكذلك "الذِّبْح"، و"الذَّبْح"، فالذِّبْح: المذبوح؛ كقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: ١٠٧]، والذَّبْح: الفِعْل، والذِّبْح: مَذْبُوح، وهو جسد يُذْبَحُ، فهو أكمل من نفس الفعل"[1].
وأما تناول هذه السورة، فسيكون في عدَّة مباحث، كما يلي:
المبحث الأول: نزولها.
المبحث الثاني: فضلها.
المبحث الثالث: غرض السورة الأساس.
المبحث الرابع: اسم السورة، وعلاقته بغرضها الأساس.
المبحث الخامس: ارتباط السورة بما قبلها، وبما بعدها.
المبحث السادس: أغراض السورة المختلفة، وفيه عدة محاور:
المحور الأول: علاقة هذه الأغراض بالغرض الأساس للسورة.
المحور الثاني: وجه ارتباط هذه الأغراض ببعضها.
المحور الثالث: السر في ترتيب هذه الأغراض.
المحور الرابع: المقررات اللغوية والبيانيَّة في هذه الأغراض، ووجه ارتباطها بالغرض الأساس للسورة.
ثم الخاتمة، وفهرس المصادر والمراجع، ثم فهرس المحتويات، والله أعلم.
قال القرطبي - رحمه الله -: "سورة الحديد مدنيَّة في قول الجميع"[2].
إن ما ذكره القرطبي غير مسلم، فقد وقع فيها اختلاف: هل هي مكيَّة أو مدنية؟
قال ابن عاشور - رحمه الله -: "وفي كون هذه السورة مدنية أو مكية اختلاف قوي، لم يختلف مثله في غيرها"[3].
وأكثر المفسرين على أنها مدنيَّة، كما أنَّ طابع السورة هو الطابع المدني، ومواضيعها تشهد بهذا، فقد ذُكِرَ فيها الفتح، وأحوال الناس قبله وبعده، وهذا الفتح سواءٌ قيل إنه فتح مكة، أم صلح الحديبية ظاهرٌ في مدنية هذه الآيات، وكذا ذكر أحوال المنافقين.
ولكن أشكل على هذا ما رواه مسلمٌ في صحيحه، عن عبدالله بن مسعود، أنه قال: "ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] إلا أربع سنين"[4].
وإسلام ابن مسعود متقدِّم، وعليه فتكون هذه الآية المذكورة قد عوتبوا بها قبل الهجرة، فتكون مكية قطعًا.
ولعلَّ الجواب عن هذا أن تكونَ هذه الآية آية مكية في سورة مدنية، وهذا هو الجواب في مثل هذا الضرب منَ الآيات.
ولكن يبقى التنبيه إلى أنَّ هذه الآية المكية لم توضَعْ في هذه السورة المدنية إلا لمناسبةٍ مقصودةٍ، وهذه المناسبةُ هي موافقتها لغرض السورة على ما يأتي - بإذْن الله.
قال ابن تيميَّة - رحمه الله -: "وهذه السورة مدنيَّة باتِّفاق، لم يخاطبْ بها المشركينَ بمكة"[5]، والله أعلم.
على أنَّ هذين الأمرين مرادان لشأنٍ آخر، هو تحقيق التجرُّد الكامل لله - سبحانه وتعالى - والبَذْل في سبيله.
وهذا الغرض قد جاء مصرَّحًا به في أول مقطع بعد مقطع الافتتاح، وهو قوله - تعالى -: {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7].
على أنَّ مَقْطع الافتتاح إنما كان كالمهيئ لهذا الغرض الجليل، فقد قررتِ الآيات المفتتح بها عظمة الباري، بتسبيح المخلوقات له، وبَيَّنَت عظيم ملكه، وإحاطته الشاملة للزمان والمكان، فهو الأول ولا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وبَيَّنَت معيَّته الشاملة لخلقه، وعظيم سلطانه وقهره، ثم دعتِ العباد إلى الإيمان والإنفاق.
وهذا الغرض ملحوظٌ في جميع السورة، فإن الآيات يوم أن دعتْ إلى هذا الغرض انتقلتْ منه إلى جزاء من حقق هذا الغرض؛ فقال - تعالى -: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13]، وهذا الجزاء معلومٌ أنه يُقَرِّر هذا الغرض؛ ولهذا فإنه ذكر بعده الأطراف المناوِئة لهذا الغرض، وذكر جزاءها، ثم حثَّ المؤمنين على الخشوع والخضوع، بل واستحثهم على ذلك، حتى كأنهم قد أبطؤوا.
قال سيد قطب - رحمه الله -: "هذه السورة بِجُملتها دعوةٌ للجماعة الإسلامية؛ كي يتحقق في ذاتها حقيقة إيمانها، هذه الحقيقة التي تخلص بها النفوس لدعوة الله؛ فلا تضنُّ عليها بشيء، ولا تحتجز دونها شيئًا، لا الأرواح ولا الأموال، ولا خلجات القلوب، ولا ذوات الصدور، وهي الحقيقة التي تستحيل بها النفوس ربانيةً، بينما تعيش على الأرض، موازينها هي موازين الله، والقيم التي تعتز بها وتسابق إليها هي القيم التي تثقل في هذه الموازين، كما أنها هي الحقيقة التي تشعر القلوب بحقيقة الله، فتخشع لذكره، وترجف وتفر من كل عائق وكل جاذب يعوقها عن الفرار إليه"[7].
ثم دعتْ صراحًة إلى هذينِ الغرضين مرة أخرى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحديد: 18 - 19]، وكأنها كررتْ ذلك للتأكيد، والحق أنه تأسيس لا تأكيد، كما يأتي بيانه في موضعه - بإذن الله.
وفي قوله: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ} قراءتان، تقرران هذا الغرض الأساس في السورة على ما يأتي بيانه كذلك في موضعه - بإذن الله.
ثم انتقلتِ الآيات إلى التزهيد في الدنيا؛ لقطْع العوائق الدنيوية، التي تجذب الإنسان إليها بحكم الجِبِلَّة البشرية، وعالجتها الآيات بأسلوب متين، لا يترك بعدها لطالب الحق إلا أن يتخلَّص من رهق التراب، وينطلق إلى رحب السماء.
والمقطع الأخير من السورة يُبَيِّن الحل الحاسم لجميع طوائف المجتمع، يُبَيِّن الواجب على المؤمنين منَ الأخذ بالكتاب، وإقامة العدل بالميزان، والواجب عليهم كذلك من أخذ القوة في مقارعة الأعداء بالحديد، آلة الحرب وذخر المقاتل، فالمؤمن واجبٌ عليه مجاهدة المنافق، ومجاهَدة الكافر، يجاهد بالكتاب والحجة، ويجاهد بالحديد، وكل ذلك له حدوده وضوابطه الشرعية، والآيات من خلال ذلك تُبَيِّن حقيقة الدعوة، من لدن نوح - عليه السلام - أول الرسل إلى الأرض، معرِّجة على إبراهيم - عليه السلام - الخليل، وهو ونوح أبوا الأنبياء، لم يبعث نبي إلا من ذريتهما، ثم تختم بذكر عيسى - عليه السلام - وحال قومه في تحقيق العبادة، وما حباهم الله به منَ الرأفة والرحمة، وما ابتدعوه منَ الرَّهبانيَّة، التي كانوا أول مَن تنصل منها، والآيات في ذلك تحدد المعالِم الصحيحة للأمة المحمدية، التي تختم السورة ببيان أنها أفضل الأمم، وبأنها قد سبقت الأمم، بما أنعم الله عليها من الإيمان بالله، وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - وبما أكرمها به من الأجر المضاعف؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28].
وهذا الفضْل منَ الله يهبه لمن يشاء، وحتى يعلم أهل الكتابين أنَّ الفضْل بيده - سبحانه - وأن الله لا يقبل دينًا سواه، والله أعلم.
قال الله - تعالى -: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 50]، وقال تعالى: {آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]، وقال - تعالى -: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج: 21]، وقال - تعالى -: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10]، والخامسة آية الحديد هذه.
والحديدُ في هذه الآيات إنما أتى في شأن القوة؛ ففي الإسراء يرد على منكري البعث بأنه سيبعثهم، وإن كانوا يستطيعون أن يمتنعوا من ذلك، فليكونوا ما شاؤوا منَ الخلق العظيم القوي، من الحجارة أو الحديد، أو غير ذلك مما هو عظيم في نفوسهم، فالله سيعيدهم.
وفي الكهف استعان ذو القرنين بالحديد في بناء السد بين يأجوج ومأجوج وبين الناس.
وفي سورة الحج ذكر الحديد أداة لتعذيب المجرمين في نار جهنم.
وفي سبأ ذكر الله الحديد ممتنًّا به على نبي الله الكريم داود - عليه السلام - وأنه ألانه له؛ ليعمل به من آلات الحرب، الدروع وغيرها.
وقد علمنا أنَّ سورة الحديد معنيَّة بالأمر بالإيمان والإنفاق، وإعداد العدَّة للجهاد في سبيل الله، حتى بينت تفاضل الناس باعتبار تفاضُلهم في تحقيق هذا الغرض؛ {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10]، وقد بينت السورة في ختامها المقصود من إرسال الرسل، وإنزال الكُتُب، وهو "أن يقومَ الناسُ بالقسط في حقوق الله، وحقوق خلقه، ثم قال - تعالى -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، فمن عدل عن الكتاب قوِّم بالحديد، ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف"[8].
وكان منَ المعلوم أن مِن أعظم ما تُعَدُّ به العدة، وتنفق فيه الأموال: هو عدة القتال، وأعظم عتاد القتال إنما هو الحديد، فالحديد آلة القوة قديمًا وحديثًا.
ولهذا كانتِ المنة على نبي كريم من أنبياء الله بأن ألان الله له الحديد؛ ليعمل آلات الحرب، وهو نبي الله داود - عليه السلام – فقال – تعالى -: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10، 11]، وكما قال أيضًا في آية أخرى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80].
وهذه مع أنها منة من الله فإنها أيضًا حجة على المؤمنين، بأنهم لا بد أن يعدوا العدة للجهاد في سبيل الله، وأن يأخذوا من أسباب الصناعة؛ كما أخذ نبي الله داود، وهو - عليه السلام - قدوة، أمرنا بالاقتداء به، كما هو الأمر بذلك لنبينا - صلى الله عليه وسلم -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90].
وداود - عليه السلام - قد ألان الله له الحديد، والمسلمون لو سعوا في إعداد العدة، فإنَّ الله يسخر لهم، ويسهل ما صعب، وقد ذكر الله أيضًا في القرآن قصة ذي القرنين، وذكر فيها ما أخذه هذا العبد الصالح منَ الأسباب لدفع ضرر قوم أشرار، وهم يأجوج ومأجوج، وكان الحديد من أعظم الأسباب التي اتخذها ليجعل سدًّا بين الناس وبين هؤلاء المفسدين، وهو سدٌّ حبسهم الله به حتى يأتي اليوم الموعود؛ كما قال - تعالى -: {آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]، وزبر الحديد: هي قطعه، والقطر: النحاس، وقيل: الحديد المذاب.
والحاصلُ: أنَّ ذا القرنين استعان بالحديد؛ بل وعلم مِن شأنه صنعة أنتجتْ هذا السد المانع؛ فإنه أوقد على الحديد حتى جعله نارًا، ثم أفرغ عليه القطر حتى تماسَكَ، وهذا هو الواجب على المسلمين أن يعلموا من صنعة الحديد ما يهيئهم للسبق والمغالبة، وكل زمان له صنعته.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - : "قال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]، فذكر أنه أنزل الحديد أيضًا ليتبين مَن يجاهِد في سبيل الله بالحديد"[9]، والله أعلم.
ولهذا يقطع على الضم لما هو أقوى؛ مثل: "الكُرْه"، و"الكَرْه"، فالكُره هو الشيء المكروه؛ كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: ٢١٦]، والكَرْه المصدر؛ كقوله: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [التوبة: 53]، والشيءُ الذي في نفسه مَكْروه أقوى مِن نَفْس كراهة الكَارِه، وكذلك "الذِّبْح"، و"الذَّبْح"، فالذِّبْح: المذبوح؛ كقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: ١٠٧]، والذَّبْح: الفِعْل، والذِّبْح: مَذْبُوح، وهو جسد يُذْبَحُ، فهو أكمل من نفس الفعل"[1].
وأما تناول هذه السورة، فسيكون في عدَّة مباحث، كما يلي:
المبحث الأول: نزولها.
المبحث الثاني: فضلها.
المبحث الثالث: غرض السورة الأساس.
المبحث الرابع: اسم السورة، وعلاقته بغرضها الأساس.
المبحث الخامس: ارتباط السورة بما قبلها، وبما بعدها.
المبحث السادس: أغراض السورة المختلفة، وفيه عدة محاور:
المحور الأول: علاقة هذه الأغراض بالغرض الأساس للسورة.
المحور الثاني: وجه ارتباط هذه الأغراض ببعضها.
المحور الثالث: السر في ترتيب هذه الأغراض.
المحور الرابع: المقررات اللغوية والبيانيَّة في هذه الأغراض، ووجه ارتباطها بالغرض الأساس للسورة.
ثم الخاتمة، وفهرس المصادر والمراجع، ثم فهرس المحتويات، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
[b]المبحث الأول[/b]
نزولها
[b]المبحث الأول[/b]
نزولها
قال القرطبي - رحمه الله -: "سورة الحديد مدنيَّة في قول الجميع"[2].
إن ما ذكره القرطبي غير مسلم، فقد وقع فيها اختلاف: هل هي مكيَّة أو مدنية؟
قال ابن عاشور - رحمه الله -: "وفي كون هذه السورة مدنية أو مكية اختلاف قوي، لم يختلف مثله في غيرها"[3].
وأكثر المفسرين على أنها مدنيَّة، كما أنَّ طابع السورة هو الطابع المدني، ومواضيعها تشهد بهذا، فقد ذُكِرَ فيها الفتح، وأحوال الناس قبله وبعده، وهذا الفتح سواءٌ قيل إنه فتح مكة، أم صلح الحديبية ظاهرٌ في مدنية هذه الآيات، وكذا ذكر أحوال المنافقين.
ولكن أشكل على هذا ما رواه مسلمٌ في صحيحه، عن عبدالله بن مسعود، أنه قال: "ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] إلا أربع سنين"[4].
وإسلام ابن مسعود متقدِّم، وعليه فتكون هذه الآية المذكورة قد عوتبوا بها قبل الهجرة، فتكون مكية قطعًا.
ولعلَّ الجواب عن هذا أن تكونَ هذه الآية آية مكية في سورة مدنية، وهذا هو الجواب في مثل هذا الضرب منَ الآيات.
ولكن يبقى التنبيه إلى أنَّ هذه الآية المكية لم توضَعْ في هذه السورة المدنية إلا لمناسبةٍ مقصودةٍ، وهذه المناسبةُ هي موافقتها لغرض السورة على ما يأتي - بإذْن الله.
قال ابن تيميَّة - رحمه الله -: "وهذه السورة مدنيَّة باتِّفاق، لم يخاطبْ بها المشركينَ بمكة"[5]، والله أعلم.
المبحث الثاني
فضلها
قال ابن كثير - رحمه الله -: "قال الإمام أحمد: حَدَّثنا يزيد بن عبدربه، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، حدثني بحير بن سعد، عن خالد بن مَعْدَان، عن ابن أبي بلال، عن عِرْبَاض بن سارية، أنه حدثهم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، وقال: ((إن فيهن آية أفضل من ألف آية))، والآية المشار إليها في الحديث هي - والله أعلم - قوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: ٣]"[6].فضلها
المبحث الثالث
غرض السورة الأساس
إن المتأمل في هذه السورة ليلوح له أنها قد اعتنتْ بأمرٍ مهمٍّ بالغ الأهمية في حياة الأمة المسلمة، ألا وهو أمر الإنفاق في سبيل الله، وهذا الغَرَض النبيل لا يمكن أن يَتَمَثَّل في حياة الفرد المسلم، وكذا في حياة الجماعة المسلمة؛ إلا بالإيمان الباعث الأكبر على هذا الغرض الكبير؛ ولهذا فقد قرن الإنفاق بالإيمان في سياق هذه السورة، حتى بدا هذان الغرضان كأنهما غرض واحد.غرض السورة الأساس
على أنَّ هذين الأمرين مرادان لشأنٍ آخر، هو تحقيق التجرُّد الكامل لله - سبحانه وتعالى - والبَذْل في سبيله.
وهذا الغرض قد جاء مصرَّحًا به في أول مقطع بعد مقطع الافتتاح، وهو قوله - تعالى -: {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7].
على أنَّ مَقْطع الافتتاح إنما كان كالمهيئ لهذا الغرض الجليل، فقد قررتِ الآيات المفتتح بها عظمة الباري، بتسبيح المخلوقات له، وبَيَّنَت عظيم ملكه، وإحاطته الشاملة للزمان والمكان، فهو الأول ولا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وبَيَّنَت معيَّته الشاملة لخلقه، وعظيم سلطانه وقهره، ثم دعتِ العباد إلى الإيمان والإنفاق.
وهذا الغرض ملحوظٌ في جميع السورة، فإن الآيات يوم أن دعتْ إلى هذا الغرض انتقلتْ منه إلى جزاء من حقق هذا الغرض؛ فقال - تعالى -: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13]، وهذا الجزاء معلومٌ أنه يُقَرِّر هذا الغرض؛ ولهذا فإنه ذكر بعده الأطراف المناوِئة لهذا الغرض، وذكر جزاءها، ثم حثَّ المؤمنين على الخشوع والخضوع، بل واستحثهم على ذلك، حتى كأنهم قد أبطؤوا.
قال سيد قطب - رحمه الله -: "هذه السورة بِجُملتها دعوةٌ للجماعة الإسلامية؛ كي يتحقق في ذاتها حقيقة إيمانها، هذه الحقيقة التي تخلص بها النفوس لدعوة الله؛ فلا تضنُّ عليها بشيء، ولا تحتجز دونها شيئًا، لا الأرواح ولا الأموال، ولا خلجات القلوب، ولا ذوات الصدور، وهي الحقيقة التي تستحيل بها النفوس ربانيةً، بينما تعيش على الأرض، موازينها هي موازين الله، والقيم التي تعتز بها وتسابق إليها هي القيم التي تثقل في هذه الموازين، كما أنها هي الحقيقة التي تشعر القلوب بحقيقة الله، فتخشع لذكره، وترجف وتفر من كل عائق وكل جاذب يعوقها عن الفرار إليه"[7].
ثم دعتْ صراحًة إلى هذينِ الغرضين مرة أخرى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحديد: 18 - 19]، وكأنها كررتْ ذلك للتأكيد، والحق أنه تأسيس لا تأكيد، كما يأتي بيانه في موضعه - بإذن الله.
وفي قوله: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ} قراءتان، تقرران هذا الغرض الأساس في السورة على ما يأتي بيانه كذلك في موضعه - بإذن الله.
ثم انتقلتِ الآيات إلى التزهيد في الدنيا؛ لقطْع العوائق الدنيوية، التي تجذب الإنسان إليها بحكم الجِبِلَّة البشرية، وعالجتها الآيات بأسلوب متين، لا يترك بعدها لطالب الحق إلا أن يتخلَّص من رهق التراب، وينطلق إلى رحب السماء.
والمقطع الأخير من السورة يُبَيِّن الحل الحاسم لجميع طوائف المجتمع، يُبَيِّن الواجب على المؤمنين منَ الأخذ بالكتاب، وإقامة العدل بالميزان، والواجب عليهم كذلك من أخذ القوة في مقارعة الأعداء بالحديد، آلة الحرب وذخر المقاتل، فالمؤمن واجبٌ عليه مجاهدة المنافق، ومجاهَدة الكافر، يجاهد بالكتاب والحجة، ويجاهد بالحديد، وكل ذلك له حدوده وضوابطه الشرعية، والآيات من خلال ذلك تُبَيِّن حقيقة الدعوة، من لدن نوح - عليه السلام - أول الرسل إلى الأرض، معرِّجة على إبراهيم - عليه السلام - الخليل، وهو ونوح أبوا الأنبياء، لم يبعث نبي إلا من ذريتهما، ثم تختم بذكر عيسى - عليه السلام - وحال قومه في تحقيق العبادة، وما حباهم الله به منَ الرأفة والرحمة، وما ابتدعوه منَ الرَّهبانيَّة، التي كانوا أول مَن تنصل منها، والآيات في ذلك تحدد المعالِم الصحيحة للأمة المحمدية، التي تختم السورة ببيان أنها أفضل الأمم، وبأنها قد سبقت الأمم، بما أنعم الله عليها من الإيمان بالله، وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - وبما أكرمها به من الأجر المضاعف؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28].
وهذا الفضْل منَ الله يهبه لمن يشاء، وحتى يعلم أهل الكتابين أنَّ الفضْل بيده - سبحانه - وأن الله لا يقبل دينًا سواه، والله أعلم.
المبحث الرابع
اسم السورة وعلاقته بغرضها الأساس
وهذه السورة اسمها الحديد، والحديد معدن معروف، وقد ورد ذكره في القرآن الكريم في خمسة مواضع:اسم السورة وعلاقته بغرضها الأساس
قال الله - تعالى -: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 50]، وقال تعالى: {آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]، وقال - تعالى -: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج: 21]، وقال - تعالى -: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10]، والخامسة آية الحديد هذه.
والحديدُ في هذه الآيات إنما أتى في شأن القوة؛ ففي الإسراء يرد على منكري البعث بأنه سيبعثهم، وإن كانوا يستطيعون أن يمتنعوا من ذلك، فليكونوا ما شاؤوا منَ الخلق العظيم القوي، من الحجارة أو الحديد، أو غير ذلك مما هو عظيم في نفوسهم، فالله سيعيدهم.
وفي الكهف استعان ذو القرنين بالحديد في بناء السد بين يأجوج ومأجوج وبين الناس.
وفي سورة الحج ذكر الحديد أداة لتعذيب المجرمين في نار جهنم.
وفي سبأ ذكر الله الحديد ممتنًّا به على نبي الله الكريم داود - عليه السلام - وأنه ألانه له؛ ليعمل به من آلات الحرب، الدروع وغيرها.
وقد علمنا أنَّ سورة الحديد معنيَّة بالأمر بالإيمان والإنفاق، وإعداد العدَّة للجهاد في سبيل الله، حتى بينت تفاضل الناس باعتبار تفاضُلهم في تحقيق هذا الغرض؛ {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10]، وقد بينت السورة في ختامها المقصود من إرسال الرسل، وإنزال الكُتُب، وهو "أن يقومَ الناسُ بالقسط في حقوق الله، وحقوق خلقه، ثم قال - تعالى -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، فمن عدل عن الكتاب قوِّم بالحديد، ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف"[8].
وكان منَ المعلوم أن مِن أعظم ما تُعَدُّ به العدة، وتنفق فيه الأموال: هو عدة القتال، وأعظم عتاد القتال إنما هو الحديد، فالحديد آلة القوة قديمًا وحديثًا.
ولهذا كانتِ المنة على نبي كريم من أنبياء الله بأن ألان الله له الحديد؛ ليعمل آلات الحرب، وهو نبي الله داود - عليه السلام – فقال – تعالى -: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10، 11]، وكما قال أيضًا في آية أخرى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80].
وهذه مع أنها منة من الله فإنها أيضًا حجة على المؤمنين، بأنهم لا بد أن يعدوا العدة للجهاد في سبيل الله، وأن يأخذوا من أسباب الصناعة؛ كما أخذ نبي الله داود، وهو - عليه السلام - قدوة، أمرنا بالاقتداء به، كما هو الأمر بذلك لنبينا - صلى الله عليه وسلم -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90].
وداود - عليه السلام - قد ألان الله له الحديد، والمسلمون لو سعوا في إعداد العدة، فإنَّ الله يسخر لهم، ويسهل ما صعب، وقد ذكر الله أيضًا في القرآن قصة ذي القرنين، وذكر فيها ما أخذه هذا العبد الصالح منَ الأسباب لدفع ضرر قوم أشرار، وهم يأجوج ومأجوج، وكان الحديد من أعظم الأسباب التي اتخذها ليجعل سدًّا بين الناس وبين هؤلاء المفسدين، وهو سدٌّ حبسهم الله به حتى يأتي اليوم الموعود؛ كما قال - تعالى -: {آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]، وزبر الحديد: هي قطعه، والقطر: النحاس، وقيل: الحديد المذاب.
والحاصلُ: أنَّ ذا القرنين استعان بالحديد؛ بل وعلم مِن شأنه صنعة أنتجتْ هذا السد المانع؛ فإنه أوقد على الحديد حتى جعله نارًا، ثم أفرغ عليه القطر حتى تماسَكَ، وهذا هو الواجب على المسلمين أن يعلموا من صنعة الحديد ما يهيئهم للسبق والمغالبة، وكل زمان له صنعته.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - : "قال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]، فذكر أنه أنزل الحديد أيضًا ليتبين مَن يجاهِد في سبيل الله بالحديد"[9]، والله أعلم.