المقطع الثاني:
وفيه الدعوة المباشرة إلى الإيمان بالله، وإلى الإنفاق في سبيله، وهذا المقطع يعقب المقطع الأول، فيبتدئ من قوله - تعالى -: {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7].
وينتهي عند الآية الحاديةَ عشرةَ، وهي قوله - تعالى -: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11].
وهذا المقطع فيه غرضان كبيران؛ وهما: الدعوة إلى الإيمان، والدعوة إلى الإنفاق، ولعل غرض السورة الأساس هو هذا، وبقية الأغراض ترجع إليه.
ولأهمية هذا الغرض الأساس، فإنه قد دعاهم إلى الإيمان والإنفاق بأقوى طرق الدعوة، حتى جعله لهم كأنه المصير الذي لا بد هم صائرون إليه، وأنه حتم لازم عليهم، وهذه الطرق المتعددة شملت كل جانب يلمس جوانب الإقناع من نفوسهم:
الطريق الأول: الأمر الصريح بالإيمان والإنفاق، وهو أمرُ مَنْ له الملك والقهر والسلطان؛ ولهذا فإن عظمة هذا الأمر وجلالته إنما تجلَّت وعظمت حين أعقب هذا الأمر ذلك التمجيد والتسبيح والتقديس للمولى - سبحانه - وبعد أن بين عظيم الإحاطة منه لعباده، وبعد أن بين أن له الملك، وإليه يرجع الأمر، وأن هذا الكون وتقليب شؤونه بيده وحده، حتى ما يختلج في نفوسهم لا يخفى عليه منه شيء، فكيف إذا أمر بعد ذلك بالإيمان؟
الطريق الثاني: بيان حقيقة المال، وحقيقة علاقتهم به، وهذه الحقيقة هي من أقوى الدوافع التي تهيئهم للإنفاق، وذلك أنه بيَّن لهم أنهم مستخلفون في هذا المال.
ولفظ الاستخلاف أفاد هنا أمرين:
الأمر الأول: "تزهيد وتنبيه على أن الأموال إنما تصير إلى الإنسان من غيره ويتركها لغيره" .
الأمر الثاني: "فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفًا عنك، فلعل وارثك أن يطيع الله فيه، فيكون أسعد بما أنعم الله به عليك منك، أو يعصي الله فيه، فتكون قد سعيت في معاونته على الإثم والعدوان".
قال سيد قطب - رحمه الله -: "والمخاطبون هنا هم مسلمون؛ ولكنهم يُدعون إلى الإيمان بالله ورسوله، فهي إذًا حقيقة الإيمان، يدعون لتحقيقها في قلوبهم بمعناها، وهي لفتة دقيقة، وهم يُدعون إلى الإنفاق، ومع الدعوة لمسة موحية، فهم لا ينفقون من عند أنفسهم، إنما ينفقون مما استخلفهم الله فيه من ملكه، وهو الذي {له ملك السماوات والأرض}، فهو الذي استخلف بني آدم جملة في شيء من ملكه، وهو {يحي ويميت}، فهو الذي استخلف جيلاً منهم بعد جيل.
وهكذا ترتبط هذه الإشارة بما سبق منَ الحقائق الكليَّة في مطلع السورة، ثم تقوم هي بدورها في استثارة الخَجَل والحياء من الله، وهو المالك الذي استخلفهم وأعطاهم، فماذا هم قائلون حين يدعوهم إلى إنفاق شيء مما استخلفهم فيه ومما أعطاهم؟ وفي نهنهة النفوس عن الشح، والله هو المعطي، ولا نفاد لما عنده، فماذا يمسكهم عن البذل والعطاء، وما في أيديهم رهن بعطاء الله؟".
الطريق الثالث: التفريع والتسبيب على هذا الأمر الصريح بالإيمان والإنفاق بحرف الفاء: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}، كأنه قال: إن الأجر لا يكون إلا لمن اتصف بهذين الوصفين .
الطريق الرابع: أنه بين أن مَن حقق الإيمان والإنفاق، فله أجر على عمله ذلك، والنفوس كما جبلها الله تطلب الأجر؛ ولهذا فإنه قدم الجار والمجرور (لهم)؛ ليبين اختصاصهم بهذا.
الطريق الخامس: لقد "فُخم الأجرُ بالتنكير ووُصفَ بالكبيرِ" ، فلم يَصِف هذا الأجر بوصف آخر، فهو عطاء من الكبير - سبحانه - المستحق للطاعة، كما أن هذا الأجر فخم كبيرٌ؛ لأنه عطاء على شيء كبير، وفي هذا من تعظيم أمر الإيمان والإنفاق ما هو ظاهر، فإنَّ العطاء الكبير لا يكون إلا مجازاة على شيء كبير.
الطريق السادس: ثم استفهم منهم، وبَيَّنَ السبب الذي يدعوهم إلى الإيمان، وهو أنه أرسل إليهم رسولاً يعرفونه، هو أكرم رسل الأرض، وهذا يدعو إلى سرعة الاستجابة، والمبادرة إلى الطاعة.
الطريق السابع: أنه ذكرهم بأخذ الميثاق عليهم، بوجوب هذه الطاعة، والميثاق أمر ملزم لا يقتضي التخلف.
الطريق الثامن: أنه علق هذا الأمر على الإيمان {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وفي هذا من استنهاضهم وحثِّهم للاستجابة ما هو جليٌّ لا يخفى.
الطريق التاسع: بَيَّنَ لهم حقيقة بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو أنه النفع لهم، وهو نفع ليس ككل النفع، إنه الإخراج منَ الظلمات إلى النور، والظلمات هي الكفر الذي هم عليه، والنفوس الواضحة تكره هذا الظلام، والسبيل الآخر هو النور وهو الإسلام، والنفوس الواضحة كذلك تحب النور، وهذا ترغيب واضح لا خفاء فيه.
الطريق العاشر: ختم الآية ببيان رأفته بهم ورحمته - سبحانه - وهذا تقرير جليلٌ؛ لأنه يبين بهذا أنه لم يأمرهم بما أمرهم به، إلا وهو رؤوف رحيم بهم؛ ولهذا فقد أكَّد هذا الخبر بـ"إن"، حتى يستقر هذا في نفوسهم، وتذعن له قلوبهم.
الطريق الحاديَ عشرَ: حثهم على الإنفاق في سبيل الله، وأكثر ما يطلق سبيل الله على الجهاد، وقد جاء هذا الطلب على أسلوب الاستفهام: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، وفي هذا الأسلوب الاستفهامي تهييج لهم واستنهاض، وكأنه يقول لهم: إنه لا بد لكم منَ الإنفاق؛ ولهذا فقد ذكر عقب ذلك الحجج المقنعة والبراهين الساطعة، التي تعالج دواخل نفوسهم، وتخرجها من ضيق الشُّح، إلى فسحة الإنفاق، على ما يأتي بيانه في الطرق التالية.
قال سيد قطب - رحمه الله -: "وفي هذه الإشارة عودة إلى حقيقة: {له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور}، فميراث السماوات والأرض ملكه وراجع إليه، وما استخلفوا فيه إذًا سيؤول إليه في الميراث، فما لهم لا ينفقون في سبيله حين يدعوهم إلى الإنفاق، وهو استخلفهم فيه كما قال لهم هناك، وكله عائد إليه كما يقول لهم هنا؟! وما الذي يبقى من دواعي الشح وهواتف البخل أمام هذه الحقائق في هذا الخطاب؟".
الطريق الثانيَ عشرَ: أنه حذف المفعول في الإنفاق، بينما ذكر المنفَق فيه، فقال: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، والذي يظهر أنه إنما حذف المفعول؛ حثًّا لهم على الإنفاق؛ لأنه بهذا يقبل منهم كل نفقة صغيرة وكبيرة، ولو حدد لهم، لصعب على بعض النفوس، كما أن الإنسان إذا أنفق الصغير، فإنه يهون عليه بعد ذلك أن ينفقَ الكبير، ولو طولب مباشرة بإنفاق الكبير، لشق على النفوس، كما أن الناس يتفاوتون في المقدرة على إنفاق الكبير.
وأما ذكر المنفق فيه، وهو في سبيل الله، فهذا من باب الحث؛ يعني: لماذا لا تنفقوا، والأمر أنه في سبيل الله؟
الطريق الثالث عشر: أنه قال: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، فالله - سبحانه - يرث كل شيء فيهما، لا يبقى منه باقٍ لأحد من مال وغيره؛ يعني: وأيّ غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله، والله مهلككم فوارث أموالكم؟! وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله".
ولم يقل: (وله)، والمقام مقام إضمار؛ بل عدل عن الإضمار إلى الإظهار، وإظهار "الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ؛ لزيادة التقريرِ، وتربية المهابةِ" ، ولتذكيرهم بحقيقة العبودية على ما يفيده لفظ الجلالة (الله).
الطريق الرابع عشر: أنه فرَّق بين حال المُنفِقين المبادرين، والمنفقين الذين تأخَّروا عنهم، فبيَّن أن الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، أعظمُ في الأجر.
والفتح قد يكون فتح مكة، أو صلح الحديبية، ويؤيد هذا الثاني:
1- ما رواه مسلم عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبدالرحمن بن عوف شيءٌ، فسبَّه خالد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبُّوا أحدًا من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحد ذهبًا، ما أدرك مُدَّ أحدهم، ولا نصيفه)).
وفي هذا تفضيل إنفاق عبدالرحمن بن عوف على خالدٍ، وهذا التفضيل إنما كان لسبقه، كما هو نص الآية، وخالد بن الوليد أسلَمَ قبل فتح مكة، كما هو معلوم، ودخل مكة فاتحًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما كان إسلامه بين صلح الحديبية وبين فتح مكة. فتبين بهذا أن السبق إنما كان قبل صلح الحديبية، وهو فتح كما سماه الله بذلك في سورة الفتح، والله أعلم.
2- أن المسلمين لم يكونوا قبل صلح الحديبية قادرين على نشر دعوتهم في غير المدينة وما قاربها، وبعد الصلح انطلقوا وأمِنوا، وتغير الحال إلى السعة.
"وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم؛ لأن حاجة الناس كانت أكثر؛ لضعف الإسلام، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذٍ أشقَّ، والأجرُ على قدر النَّصَب، والله أعلم". "وحكم الآية باقٍ غابرَ الدهر، مَن أنفق في وقت حاجة السبيل أعظمُ أجرًا ممن أنفق مع استغناء السبيل".
الطريق الخامس عشر: لما بيَّن فضل السابقين، لم يقِف عند ذلك؛ حتى لا يكون هذا نقصًا لغيرهم، فبيَّن أن الكل موعود بالحسنى.
قال السعدي - رحمه الله -: "ولما كان التفضيل بين الأمور قد يُتوهَّم منه نقصٌ وقدح في المفضول، احترز - تعالى - من هذا بقوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]؛ أي: الذين أسلموا وقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح وبعده، كلهم وعده الله الجنة، وهذا يدل على فضل الصحابة كلهم - رضي الله عنهم - حيث شهد الله لهم بالإيمان، ووعدهم الجنة".
الطريق السادس عشر: ثم دعاهم دعوة أخرى إلى الإنفاق، وبطريق آخرَ فريدٍ، يهزُّ النفوسَ، ويتنامى حتى يصل إلى مكامن الخير فيها، وحتى يصل إلى مكامن المروءة والشهامة، وذلك أنه دعاهم إلى الإنفاق، بطريق الإقراض، ومعلوم أن القرض هو السلف، وهو مسترد إلى صاحبه، فليس فيه فقدٌ للمال إلى أبد؛ بل إلى أجلٍ ثم يعود، هذا مفهوم القرض، والناس غالبًا لا يمانعون من إقراض مَن يثقون به مِن الناس؛ بل وهم يسرعون إلى إقراض صاحب المروءة الكريم، فكلٌّ يريد أن يقرض الغني الكريم؛ لأن الحق عنده محفوظ، وهو للمعروف شاكر.
لكن الأمر هنا مختلف، إنه إقراض الغني الحميد، فالمقرِض يقرض اللهَ الكريم، فالحق مسترد ولا شك، والأعجب من هذا أنه قرضٌ لمن أعطاك المال ومنحه لك، سبحان الله! ما أكرمه!
ومع هذا فإن هذا القرض مضاعف، وهو لو رُدَّ لكان عين الوفاء، لكنه مردود ومضاعف، وهذا التضعيف يحتمل أن يكون ضعفًا واحدًا، ويحتمل أن يكون أضعافًا كثيرةً، وقد جاء في البقرة أن الله يضاعف هذا القرض أضعافًا كثيرة؛ قال الله – تعالى -: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: ٢٤٥].
قال ابن جرير - رحمه الله -: "وأما قوله: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}، فإنه عدة من الله - تعالى ذكره - مُقرضه، ومنفق ماله في سبيل الله، من إضعاف الجزاء له على قرضه ونفقته، ما لا حدَّ له ولا نهاية".
ثم إن هذا القرض مع أنه مضاعَف إلى أضعاف لا يعلمها إلا الله، وهذا كرم في الردِّ كبير، إلا أن وقت ردِّه أعظم وأجل من وقت إقراضه؛ لأن وقت الردِّ سيكون في يوم أحوج وأفقر ما يكون فيه المقرِض، في يومٍ {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: ٣٣].
ثم زاد الكريم - سبحانه - على هذا التضعيف زيادة أخرى {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] "زيادة على التضعيف المترتب على القرض؛ أي: وله مع التضعيف أجر كريم".
فهد الشتوي
مـــ ماجده ـلآك الروح
وفيه الدعوة المباشرة إلى الإيمان بالله، وإلى الإنفاق في سبيله، وهذا المقطع يعقب المقطع الأول، فيبتدئ من قوله - تعالى -: {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7].
وينتهي عند الآية الحاديةَ عشرةَ، وهي قوله - تعالى -: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11].
وهذا المقطع فيه غرضان كبيران؛ وهما: الدعوة إلى الإيمان، والدعوة إلى الإنفاق، ولعل غرض السورة الأساس هو هذا، وبقية الأغراض ترجع إليه.
ولأهمية هذا الغرض الأساس، فإنه قد دعاهم إلى الإيمان والإنفاق بأقوى طرق الدعوة، حتى جعله لهم كأنه المصير الذي لا بد هم صائرون إليه، وأنه حتم لازم عليهم، وهذه الطرق المتعددة شملت كل جانب يلمس جوانب الإقناع من نفوسهم:
الطريق الأول: الأمر الصريح بالإيمان والإنفاق، وهو أمرُ مَنْ له الملك والقهر والسلطان؛ ولهذا فإن عظمة هذا الأمر وجلالته إنما تجلَّت وعظمت حين أعقب هذا الأمر ذلك التمجيد والتسبيح والتقديس للمولى - سبحانه - وبعد أن بين عظيم الإحاطة منه لعباده، وبعد أن بين أن له الملك، وإليه يرجع الأمر، وأن هذا الكون وتقليب شؤونه بيده وحده، حتى ما يختلج في نفوسهم لا يخفى عليه منه شيء، فكيف إذا أمر بعد ذلك بالإيمان؟
الطريق الثاني: بيان حقيقة المال، وحقيقة علاقتهم به، وهذه الحقيقة هي من أقوى الدوافع التي تهيئهم للإنفاق، وذلك أنه بيَّن لهم أنهم مستخلفون في هذا المال.
ولفظ الاستخلاف أفاد هنا أمرين:
الأمر الأول: "تزهيد وتنبيه على أن الأموال إنما تصير إلى الإنسان من غيره ويتركها لغيره" .
الأمر الثاني: "فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفًا عنك، فلعل وارثك أن يطيع الله فيه، فيكون أسعد بما أنعم الله به عليك منك، أو يعصي الله فيه، فتكون قد سعيت في معاونته على الإثم والعدوان".
قال سيد قطب - رحمه الله -: "والمخاطبون هنا هم مسلمون؛ ولكنهم يُدعون إلى الإيمان بالله ورسوله، فهي إذًا حقيقة الإيمان، يدعون لتحقيقها في قلوبهم بمعناها، وهي لفتة دقيقة، وهم يُدعون إلى الإنفاق، ومع الدعوة لمسة موحية، فهم لا ينفقون من عند أنفسهم، إنما ينفقون مما استخلفهم الله فيه من ملكه، وهو الذي {له ملك السماوات والأرض}، فهو الذي استخلف بني آدم جملة في شيء من ملكه، وهو {يحي ويميت}، فهو الذي استخلف جيلاً منهم بعد جيل.
وهكذا ترتبط هذه الإشارة بما سبق منَ الحقائق الكليَّة في مطلع السورة، ثم تقوم هي بدورها في استثارة الخَجَل والحياء من الله، وهو المالك الذي استخلفهم وأعطاهم، فماذا هم قائلون حين يدعوهم إلى إنفاق شيء مما استخلفهم فيه ومما أعطاهم؟ وفي نهنهة النفوس عن الشح، والله هو المعطي، ولا نفاد لما عنده، فماذا يمسكهم عن البذل والعطاء، وما في أيديهم رهن بعطاء الله؟".
الطريق الثالث: التفريع والتسبيب على هذا الأمر الصريح بالإيمان والإنفاق بحرف الفاء: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}، كأنه قال: إن الأجر لا يكون إلا لمن اتصف بهذين الوصفين .
الطريق الرابع: أنه بين أن مَن حقق الإيمان والإنفاق، فله أجر على عمله ذلك، والنفوس كما جبلها الله تطلب الأجر؛ ولهذا فإنه قدم الجار والمجرور (لهم)؛ ليبين اختصاصهم بهذا.
الطريق الخامس: لقد "فُخم الأجرُ بالتنكير ووُصفَ بالكبيرِ" ، فلم يَصِف هذا الأجر بوصف آخر، فهو عطاء من الكبير - سبحانه - المستحق للطاعة، كما أن هذا الأجر فخم كبيرٌ؛ لأنه عطاء على شيء كبير، وفي هذا من تعظيم أمر الإيمان والإنفاق ما هو ظاهر، فإنَّ العطاء الكبير لا يكون إلا مجازاة على شيء كبير.
الطريق السادس: ثم استفهم منهم، وبَيَّنَ السبب الذي يدعوهم إلى الإيمان، وهو أنه أرسل إليهم رسولاً يعرفونه، هو أكرم رسل الأرض، وهذا يدعو إلى سرعة الاستجابة، والمبادرة إلى الطاعة.
الطريق السابع: أنه ذكرهم بأخذ الميثاق عليهم، بوجوب هذه الطاعة، والميثاق أمر ملزم لا يقتضي التخلف.
الطريق الثامن: أنه علق هذا الأمر على الإيمان {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وفي هذا من استنهاضهم وحثِّهم للاستجابة ما هو جليٌّ لا يخفى.
الطريق التاسع: بَيَّنَ لهم حقيقة بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو أنه النفع لهم، وهو نفع ليس ككل النفع، إنه الإخراج منَ الظلمات إلى النور، والظلمات هي الكفر الذي هم عليه، والنفوس الواضحة تكره هذا الظلام، والسبيل الآخر هو النور وهو الإسلام، والنفوس الواضحة كذلك تحب النور، وهذا ترغيب واضح لا خفاء فيه.
الطريق العاشر: ختم الآية ببيان رأفته بهم ورحمته - سبحانه - وهذا تقرير جليلٌ؛ لأنه يبين بهذا أنه لم يأمرهم بما أمرهم به، إلا وهو رؤوف رحيم بهم؛ ولهذا فقد أكَّد هذا الخبر بـ"إن"، حتى يستقر هذا في نفوسهم، وتذعن له قلوبهم.
الطريق الحاديَ عشرَ: حثهم على الإنفاق في سبيل الله، وأكثر ما يطلق سبيل الله على الجهاد، وقد جاء هذا الطلب على أسلوب الاستفهام: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، وفي هذا الأسلوب الاستفهامي تهييج لهم واستنهاض، وكأنه يقول لهم: إنه لا بد لكم منَ الإنفاق؛ ولهذا فقد ذكر عقب ذلك الحجج المقنعة والبراهين الساطعة، التي تعالج دواخل نفوسهم، وتخرجها من ضيق الشُّح، إلى فسحة الإنفاق، على ما يأتي بيانه في الطرق التالية.
قال سيد قطب - رحمه الله -: "وفي هذه الإشارة عودة إلى حقيقة: {له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور}، فميراث السماوات والأرض ملكه وراجع إليه، وما استخلفوا فيه إذًا سيؤول إليه في الميراث، فما لهم لا ينفقون في سبيله حين يدعوهم إلى الإنفاق، وهو استخلفهم فيه كما قال لهم هناك، وكله عائد إليه كما يقول لهم هنا؟! وما الذي يبقى من دواعي الشح وهواتف البخل أمام هذه الحقائق في هذا الخطاب؟".
الطريق الثانيَ عشرَ: أنه حذف المفعول في الإنفاق، بينما ذكر المنفَق فيه، فقال: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، والذي يظهر أنه إنما حذف المفعول؛ حثًّا لهم على الإنفاق؛ لأنه بهذا يقبل منهم كل نفقة صغيرة وكبيرة، ولو حدد لهم، لصعب على بعض النفوس، كما أن الإنسان إذا أنفق الصغير، فإنه يهون عليه بعد ذلك أن ينفقَ الكبير، ولو طولب مباشرة بإنفاق الكبير، لشق على النفوس، كما أن الناس يتفاوتون في المقدرة على إنفاق الكبير.
وأما ذكر المنفق فيه، وهو في سبيل الله، فهذا من باب الحث؛ يعني: لماذا لا تنفقوا، والأمر أنه في سبيل الله؟
الطريق الثالث عشر: أنه قال: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، فالله - سبحانه - يرث كل شيء فيهما، لا يبقى منه باقٍ لأحد من مال وغيره؛ يعني: وأيّ غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله، والله مهلككم فوارث أموالكم؟! وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله".
ولم يقل: (وله)، والمقام مقام إضمار؛ بل عدل عن الإضمار إلى الإظهار، وإظهار "الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ؛ لزيادة التقريرِ، وتربية المهابةِ" ، ولتذكيرهم بحقيقة العبودية على ما يفيده لفظ الجلالة (الله).
الطريق الرابع عشر: أنه فرَّق بين حال المُنفِقين المبادرين، والمنفقين الذين تأخَّروا عنهم، فبيَّن أن الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، أعظمُ في الأجر.
والفتح قد يكون فتح مكة، أو صلح الحديبية، ويؤيد هذا الثاني:
1- ما رواه مسلم عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبدالرحمن بن عوف شيءٌ، فسبَّه خالد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبُّوا أحدًا من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحد ذهبًا، ما أدرك مُدَّ أحدهم، ولا نصيفه)).
وفي هذا تفضيل إنفاق عبدالرحمن بن عوف على خالدٍ، وهذا التفضيل إنما كان لسبقه، كما هو نص الآية، وخالد بن الوليد أسلَمَ قبل فتح مكة، كما هو معلوم، ودخل مكة فاتحًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما كان إسلامه بين صلح الحديبية وبين فتح مكة. فتبين بهذا أن السبق إنما كان قبل صلح الحديبية، وهو فتح كما سماه الله بذلك في سورة الفتح، والله أعلم.
2- أن المسلمين لم يكونوا قبل صلح الحديبية قادرين على نشر دعوتهم في غير المدينة وما قاربها، وبعد الصلح انطلقوا وأمِنوا، وتغير الحال إلى السعة.
"وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم؛ لأن حاجة الناس كانت أكثر؛ لضعف الإسلام، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذٍ أشقَّ، والأجرُ على قدر النَّصَب، والله أعلم". "وحكم الآية باقٍ غابرَ الدهر، مَن أنفق في وقت حاجة السبيل أعظمُ أجرًا ممن أنفق مع استغناء السبيل".
الطريق الخامس عشر: لما بيَّن فضل السابقين، لم يقِف عند ذلك؛ حتى لا يكون هذا نقصًا لغيرهم، فبيَّن أن الكل موعود بالحسنى.
قال السعدي - رحمه الله -: "ولما كان التفضيل بين الأمور قد يُتوهَّم منه نقصٌ وقدح في المفضول، احترز - تعالى - من هذا بقوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]؛ أي: الذين أسلموا وقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح وبعده، كلهم وعده الله الجنة، وهذا يدل على فضل الصحابة كلهم - رضي الله عنهم - حيث شهد الله لهم بالإيمان، ووعدهم الجنة".
الطريق السادس عشر: ثم دعاهم دعوة أخرى إلى الإنفاق، وبطريق آخرَ فريدٍ، يهزُّ النفوسَ، ويتنامى حتى يصل إلى مكامن الخير فيها، وحتى يصل إلى مكامن المروءة والشهامة، وذلك أنه دعاهم إلى الإنفاق، بطريق الإقراض، ومعلوم أن القرض هو السلف، وهو مسترد إلى صاحبه، فليس فيه فقدٌ للمال إلى أبد؛ بل إلى أجلٍ ثم يعود، هذا مفهوم القرض، والناس غالبًا لا يمانعون من إقراض مَن يثقون به مِن الناس؛ بل وهم يسرعون إلى إقراض صاحب المروءة الكريم، فكلٌّ يريد أن يقرض الغني الكريم؛ لأن الحق عنده محفوظ، وهو للمعروف شاكر.
لكن الأمر هنا مختلف، إنه إقراض الغني الحميد، فالمقرِض يقرض اللهَ الكريم، فالحق مسترد ولا شك، والأعجب من هذا أنه قرضٌ لمن أعطاك المال ومنحه لك، سبحان الله! ما أكرمه!
ومع هذا فإن هذا القرض مضاعف، وهو لو رُدَّ لكان عين الوفاء، لكنه مردود ومضاعف، وهذا التضعيف يحتمل أن يكون ضعفًا واحدًا، ويحتمل أن يكون أضعافًا كثيرةً، وقد جاء في البقرة أن الله يضاعف هذا القرض أضعافًا كثيرة؛ قال الله – تعالى -: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: ٢٤٥].
قال ابن جرير - رحمه الله -: "وأما قوله: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}، فإنه عدة من الله - تعالى ذكره - مُقرضه، ومنفق ماله في سبيل الله، من إضعاف الجزاء له على قرضه ونفقته، ما لا حدَّ له ولا نهاية".
ثم إن هذا القرض مع أنه مضاعَف إلى أضعاف لا يعلمها إلا الله، وهذا كرم في الردِّ كبير، إلا أن وقت ردِّه أعظم وأجل من وقت إقراضه؛ لأن وقت الردِّ سيكون في يوم أحوج وأفقر ما يكون فيه المقرِض، في يومٍ {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: ٣٣].
ثم زاد الكريم - سبحانه - على هذا التضعيف زيادة أخرى {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] "زيادة على التضعيف المترتب على القرض؛ أي: وله مع التضعيف أجر كريم".
فهد الشتوي
مـــ ماجده ـلآك الروح