تفسير قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}
قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، خص سبحانه رَفْعَه بالأقدار والدرجات الذين أوتوا العلم والإيمان، وهم الذين استشهد بهم في قوله تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًَا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18].
وأخبر أنهم هم الذين يرَون ما أنزل إلى الرســول، هــو الحق بقوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]، فدلَّ على أن تَعَلُّم الحجة والقيام بها يرفع درجات من يرفعها، كما قال تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء} [يوسف: 76].
قال زيد بن أسلم: بالعلم.
فَرَفعُ الدرجات والأقدار على قدر معاملة القلوب بالعلم والإيمان، فكم ممن يختم القرآن في اليوم مرة أو مرتين، وآخر لا ينام الليل، وآخر لا يفطر، وغيرهم أقل عبادة منهم، وأرفع قدرًا في قلوب الأمة، فهذا كُرْز بن وَبرَة [هو كرز بن وبرة الحارثي، أبو عبد الله، تابعي، من أهل الكوفة، يضرب به المثل في التعبد، دخل جرجان غازيا مع يزيد بن المهلب سنة 98هـ. ثم سكنها، وتوفي بها سنة 728م]، وكَهْمَس، وابن طارق، يختمون القرآن في الشهر تسعين مرة، وحال ابن المسيب وابن سيرين والحسن وغيرهم في القلوب أرفع.
وكذلك ترى كثيرًا ممن لبس الصوف، ويهجر الشهوات، ويتقشف، وغيره ممن لا يدانيه في ذلك من أهل العلم والإيمان أعظم في القلوب، وأحلي عند النفوس، وما ذاك إلا لقوة المعاملة الباطنة وصفائها، وخُلُوصَها من شهوات النفوس، وأكدار البشرية، وطهارتها من القلوب التي تكدر معاملة أولئك، وإنما نالوا ذلك بقوة يقينهم بما جاء به الرسول،وكمال تصديقه في قلوبهم، ووده ومحبته، وأن يكون الدين كلــه لله، فإن أرفع درجات القلوب فرحها التام بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وابتهاجها وسرورها، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [الرعـد: 36]، وقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} الآية [يونس: 58].
ففضل الله ورحمته: القرآن والإيمان، من فرح به فقد فرح بأعظم مَفرُوح به، ومن فرح بغيره فقد ظلم نفسه ووضع الفرح في غير موضعه.
فإذا استقر في القلب، وتمكن فيه العلم بكفايتـه لعبـده، ورحمته له، وحلمه عـنده، وبره به، وإحسانه إليه على الدوام، أوجب له الفرح والسرور أعظم من فرح كل مُحِب بكل محبوب سواه، فلا يزال مترقيا في درجات العلو والارتفاع بحسب رقيه في هذه المعارف.
هذا في باب معرفة الأسماء والصفات.
====
وأما في باب فهم القرآن فهو دائم التفكر في معانيه، والتدبر لألفاظه، واستغنــائه بمعانــي القــرآن وحكمه عن غيره من كلام الناس، وإذا سمع شيئًا من كلام الناس وعلومهم عرضــه على القرآن، فإن شـهد له بالتزكية قَبِلَه، و إلا رده،
وإن لم يشهد له بقبول ولا رد وقفه، وهمته عاكفــة على مراد ربه من كلامه.
ولا يجعل همته فيما حُجِبَ به أكثرُ الناس من العلوم عن حقائق القرآن، إما بالوسوسة في خروج حروفه، وترقيقها، وتفخيمها، وإمالتها، والنطق بالمد الطويل، والقصير، والمتوسط، وغير ذلك.
فإن هذا حائل للقلوب، قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه، وكذلك شغل النطق بـ {أأنذرتهم}، وضم الميم من {عليهم} ووصلها بالواو، وكسر الهاء أو ضمها ونحو ذلك. وكذلك مراعاة النغم، وتحسين الصوت.
وكذلك تتبع وجوه الإعراب، واستخراج التأويلات المستكرهة، التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالبيان.
وكذلك صرف الذهن إلى حكاية أقوال الناس، ونتائج أفكارهم.
وكذلك تأويل القرآن على قول من قَلَّدَ دينه أو مذهبه، فهو يتعسف بكل طريق، حتى يجعل القرآن تبعًا لمذهبه، وتقوية لقول إمامه، وكلٌّ محجوبون بما لديهم عن فهم مراد الله من كلامه في كثير من ذلك أو أكثره.
وكذلك يظن من لم يقدر القرآن حق قدره، أنه غير كاف في معرفة التوحيد، والأسماء والصفات، وما يجب لله وينزه عنه، بل الكافي في ذلك: عقول الحيارى والمُتَهَوِّكين [المتهوكون: المتحيرون] الذين كل منهم قد خالف صريح القرآن مخالفة ظاهرة.
وهؤلاء أغلظ الناس حجابا عن فهم كتاب الله تعالى.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
:::المرجع:
المجلد السادس عشر
مجموع الفتاوي لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهُ الله:::
مآآآآآآآجى