الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، أحمده - سبحانه - وأشكرُه على ما أعطى وأسبغَ من النِّعَم، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، دافع النِّقَم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير مَن مشى على الثرى بقدم، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله أهل القِمَم، وصحابته أُولِي الهِمَم، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، إلى يومٍ يجمعُ اللهُ فيه الأمم.
أما بعدُ، فاتَّقوا الله - معاشرَ المؤمنين - حقَّ التَّقوى، وأصْلِحوا أقوالكم وأحوالكم، تصلح لكم أعمالكم وآخرتكم؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71].
إخوة الإيمان:
الرجلُ المبارك: وصفٌ تهفو له القلوب، ووسامٌ تمتدُّ نحوه الأعناق.
الرجلُ المبارك: حقيقة لا خيال، وواقعٌ ليس مُحال.
الرجل المبارك: مفتاحُ خير، دلاَّلُ معروف، وسفيرُ هداية، ورسولُ صَلاح وإصلاح، تَهْتفُ له الألسنةُ بالثناء، وترتفعُ له الأكفُّ بالدُّعاء بالبركةِ والبركات، دعا الأنبياء وسألُوا، وسعوا إليها وتحلَّوا؛ فهذا عيسى - عليه السلام - قال عن نفسه: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31]، ودعا نوح ربَّه: {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون: 29]، أما إبراهيُم خليلُ الرحمن، فكان مباركًا ببركة الله عليه: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} [الصافات: 113].
الرجلُ المبارك: هو مَن فَتَحَتْ له البركةُ أبوابَها، فكان مبارَكًا في علمه، وعمله، وعمرِه، ومالِه، وذرِّيتِه، وبقيةِ شؤون حياتِه، فهلاَّ حدَّثْتَ نفسَك - - أن تكونَ هذا الرجل، فحيَّهلا بك، فالطريقُ أمامك مفتوحٌ، وسبيلُ الوُصُولِ إليه سهلٌ ممنوح.
معاشر المؤمنين:
البركةُ - عند أهل اللِّسان -: النَّماءُ والزِّيادةُ، وفسَّرها حبرُ الأمة ابنُ عباس بأنها: الكثرةُ في كلِّ خير، هذه البَرَكةُ المنشودة تُكْتَسَبُ اكتسابًا، ومَن رامها فليلزمْ أعمالها وأسبابها.
فيا :
أصغِ لنا السمع، وأحضرْ معنا القلب لأبوابٍ ثمانية من أبواب حُصُول البركات؛ علَّنا نتوشح وإياك هذه الحلَّةَ الغالية، فنلحقُ بسلك عباد الله المبارَكين.
وأولُ تلك الأبوابِ التي تُستجلب معها وبها البركات:
تحقيق تقوى الله تعالى، ومراقبته في السرِّ والعلانية، أن تخشى الله - يا عبدالله - مُسْتَشْعرًا رُؤْياه لك، وإحاطته بك، فيستقيم حينها لسانُك، ويصلحُ بعدها عملُك.
عندها أبشرْ بشمسِ البركةِ تشرق عليك في حياتِك وأمورِك، وبقدر تحقيق كلمة التقوى تصاحبُك مَعِيَّةُ البَرَكة.
واسمعْ إلى وعدِ ربِّك - ومَن أوفَى بعهْدِه منَ الله؟! -: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 96].
لن تضيقَ أرضٌ على عبدٍ اتَّقى الله، ولن يضيقَ عيشٌ على عبْدٍ عرفَ مَوْلاه؛ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].
يا مَن يرجو نوالَ البركات، أمامك بابُ الاستغفار، فرطِّبْ لسانَك به في الخلوات والجلوات.
اصْدُق مع الله في استغفارِك وإنابتك، وحرِّك قلبك نَدَمًا مع كلِّ استغفارةٍ تخرج مِن لسانك، وسترى حينَها وبعدَها بركةَ اللهِ عليك.
واقرأْ - إن شئتَ - قول المولى - جلَّ جلالُه -: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12].
معاشر المؤمنين:
كتابُ اللهِ هو حبلُ اللهِ المتين، ونورُه المبين، أَنْزَلَه اللهُ رحمةً وهدى، وشفاءً ونورًا؛ {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 155].
واللهِ، إنَّ العبدَ ليرى بركة هذا الكتاب ظاهرةً في حياته، في انشراحِ صدره، ولَمِّ شَمْلِه، وتوفيقِه في عمله، وتيسيرِ أموره، وذلك شيءٌ مِن بركاتِ القرآنِ في هذه الدنيا، وما عند اللهِ خيرٌ وأبقى؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((اقرؤوا القرآنَ، فإنه يأتِي يومَ القيامِة شفيعًا لأصحابه))، وقال أيضًا: ((اقرؤوا البقرة؛ فإنَّ أخْذها بركة، وتَرْكها حسْرة، ولا تستطيعها البَطَلة - أي: السحرة)).
عباد الله:
ومِن أبوابِ الطاعات التي تُسْتمطر معها البركاتُ:
صلةُ الأرحام؛ قال مَن لا ينطق عنِ الهوى: ((مَن أحبَّ أن يُبسطَ له في رِزْقِه، ويُنسأ له في أثرهِ، فلْيصلْ رَحِمه))؛ متَّفق عليه. وقال أيضًا: ((تعلَّموا مِن أنسابِكم ما تصلون به أرحامَكم؛ فإنَّ صلَة الرَّحِم محبَّةٌ في الأهل، مثراةٌ في المال، منسأةٌ في الأثر))؛ رواه الإمام أحمد، وغيرُه، وهو حديثٌ حَسَن.
فيا مَن يرجو نوالَ الدنيا، وعطاء الآخرة، تحسسْ أقاربك بزيارتهم، والتودُّد إليهم، غُضَّ الطَّرف عن جفاءِ مَن جافاك، وقابلْ إساءَةَ مَن أساء بالعفْو والإحسان، وكنْ أنت المُبادرَ بالوَصْل، إذا قُطِعتْ منك الرَّحِمُ، واعلمْ وتيقَّن أنك على خيرٍ وإلى خير؛ {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35].
يا مَن يرجو بركةَ المال، ويَتطلَّع لنماء وثراء، كُن مع البُطُون الجائعة، والأبدان السَّقيمة، وكن مع الأراملِ والأيتام، يَكُنِ اللهُ معك، ويُباركْ لك في مالك، واسمعْ إلى مقال نبيِّك: ((ما نقصتْ صدقة مِن مال))؛ رواه مسلم، وأخبرنا نبيُّنا عن ربِّنا، أنه قال: ((أنفِق يا ابن آدم، أُنفِق عليك))؛ متفق عليه.
إخوة الإيمان:
ومن أسبابِ حصولِ البركةِ في المال:
السعيُّ في الأرض بالتكسُّب الحلال، والعمل المباح ليبنيَ المرءُ بعد ذلك نفسه ومستقبله من مالٍ مُبَاركٍ حلال؛ يُسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الكسْب أطيب؟ قال: ((عملُ الرجلِ بيده، وكلُّ بيعٍ مبرور))؛ رواه الإمام أحمد، والبَزَّار وغيرهما، وهو حديث حَسَن.
هذا المالُ يُبارَك لصاحِبه إذا أَخَذَه، وهو صادق في تجارته، واضحٌ في تكسُّبه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: ((البَيِّعانِ بالخيار ما لم يَتَفَرَّقا؛ فإن صدقا وبيَّنا، بورِكَ لهما في بيعهما، وإن كَذَبا وكتما، مُحِقَتْ بركة بيعهما))؛ متفق عليه، وعند ابن حبَّان، وأصلُه في مسلم: ((اليمينُ الكاذبة منفقة للسلعة، مَمْحَقَةٌ للكسْب)).
عباد الله:
ومِن أعظمِ وأهمِّ ما نستجلب به البركاتِ:
دُعاءُ اللهِ - عز وجل - وسؤاله البركة؛ فابتهلْ إلى رَبِّك بنداء خفيٍّ أن يُباركَ لك في عمركَ وعملكَ ومالكَ، وأن يوفقكَ للبركة أينما حللت وارتحلت؛ فقد كان من دعاء قُدوتنا - صلى الله عليه وسلم - في وترِه: ((وباركْ لي فيما أعطيتَ)).
ومن كلماتِه – عليه الصلاة السلام - في دعاءِ الاستخارة: ((ثمَّ بارِك لي فيه)).
وعَلَّمَنَا أن ندعوَ بالبركة في أمورٍ كثيرة؛ منها:
الدعاءُ للمتزوِّج، والدُّعاءُ لِمن أطعَم الطعام، وعند الطعام، وكان يؤتَى إليه بالأطفال فيحنِّكهم، ويدعو لهم بالبركة.
إخوة الإيمان:
وربنا - تبارك وتعالى - طيبٌ، ويُحب كلَّ طيب، وقد وضع البركةَ في أزمان وأماكن مبارَكة، ومخلوقات وموجودات مباركة، فحريٌّ بنا أن نَعِيَها ونَطْلُبَها:
- فمكة أرضٌ مبارَكة؛ {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96].
- وطِيبة بقعةٌ مبارَكة، دعا لها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالبركةِ في صاعِها، وبرِّها، وثمرها.
- والمسجد الأقصى بيتٌ مبارك؛ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1].
- وليلةُ القدر ليلةٌ مبارَكة؛ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدُخان: 3].
- وعشر ذي الحجة، ويومُ الجمعة أيامٌ بارَكَهَا الله بخصائصَ لا توجَدُ في غيرها.
- والسحور أكلةٌ طَيبةٌ مباركة؛ ((تسحَّروا؛ فإنَّ في السحور بركة)).
- وزمزم ماء مبارك.
- وشجرة الزيتون وُصِفتْ في القرآن بالبَركة؛ {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35].
- وماءُ المطر ماء مبارك؛ {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9].
- وأولُ النهار وقتٌ مبارك؛ ((بورك لأمتي في بكورها)).
- الزواجُ يكون مباركًا إذا قُرن باليُسرِ والسهولِة في المؤونة؛ ((أعظم النساء بركة أيسرُهن مؤونة)).
- والسلام تحيةٌ مبارَكة تزرعُ المودَّة، وتُلمْلِمُ الشَّمل؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنس بن مالك: ((يا بني، إذا دَخَلْتَ على أهلك، فسلِّم، تكنْ بركةً عليك، وعلى أهل بيتك))؛ رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
تلك - عبادَ الله - بعضُ أبوابِ البَرَكات، وشيءٌ مِن أخبارها، نَفَعَنِي اللهُ وإياكم بهدي كتابه، وجعلنا من أهْلِ حزبِه ورضْوَانه.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروا وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية
فيا إخوة الإيمان:
البركةُ كلُّها منَ الله؛ فهو - سبحانه - بِيَدِه الخير، ومنه الخير، تبارك اسمُه، وتباركتْ صفاتُه، لا تنقص خزائنُه من كثرة عطائه، وكل نعمةٍ وخيرٍ في الدُّنيا والآخرة، فهي مِن فضلِه وجودِه وكرمِه؛ {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2].
فمَن أراد البركة، فليلزمْ سبيلها وطريقها، ولا يغلق بابها بالمعاصي، والغفلة، والتبذير، يا مَن يشكو عدم البركة أو قلَّتها في المالِ أو الوقت، تيقَّنْ أنَّ الخللَ منكَ وفيكَ، فحاسِبْ نفسَك، واصْدُقْ مع ذاتِك.
ما حالُك في الطاعات الواجبة؟ وكيف هي نفسُك أمام المُغْرياتِ والمُحَرَّمات؟ سَلْ نفَسَك بصِدْق عنْ إخلاصك في أداءِ وظيفتك، وعن تَحَرِّيكَ للحلال، وصدقك في التكسُّب والتجارة، فايمُ الله، ما مُحقَتْ بركةٌ إلاَّ بذنبٍ، وما تنزلتْ إلا بتوبَة وأَوْبة، وإصلاح نفس، وتصحيح مسار.
فاتَّقوا الله - أيُّها المؤمنون - وتلمَّسوا أبواب الخير والهبات، وتحسَّسوا أسبابَ نزْع البركات لتحذروها وتتَّقوها، وصلُّوا بعد ذلك على الرَّحمة المُهْدَاة.
الشيخ إبراهيم بن صالح العجلان
مـــ ماجده ـلآك الروح