بيان معنى كلمة ( لا إله إلا الله )
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
أيها الإخوة في الله لقد رأت اللجنة التي وكل إليها توزيع الندوات والمحاضرات في هذا البلد أن يكون عنوان الكلمة هذه الليلة (بيان معنى لا إله إلا الله) فوافقت على ذلك؛ لأن هذه الكلمة هي أصل الدين وأساس الملة، وهي التي فرق الله بها بين الكافر والمسلم، وهي التي دعت إليها الرسل جميعا، وأنزلت من أجلها الكتب، وخلق من أجلها الثقلان الجن والإنس، دعا إليها آدم أبونا عليه الصلاة والسلام وسار عليها هو وذريته إلى عهد نوح، ثم وقع الشرك في قوم نوح فأرسل الله إليهم نوحا عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى توحيد الله ويقول لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}[1] وهكذا هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وغيرهم من الرسل كلهم دعوا أممهم إلى هذه الكلمة، إلى توحيد الله والإخلاص له وترك عبادة ما سواه وآخرهم وخاتمهم وأفضلهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، بعثه الله إلى قومه بهذه الكلمة، وقال لهم يا قوم: ((قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)) وأمرهم بإخلاص العبادة لله وحده وأن يدعوا ما عليه آباؤهم وأسلافهم من الشرك بالله وعبادة الأصنام والأوثان والأشجار والأحجار وغير ذلك، فاستنكرها المشركون وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}[2] لأنهم قد اعتادوا عبادة الأصنام والأوثان والأولياء والأشجار وغير ذلك والذبح لهم والنذر لهم وطلبهم قضاء الحاجات وتفريج الكروب فاستنكروا هذه الكلمة؛ لأنها تبطل آلهتهم ومعبوداتهم من دون الله.
وقال سبحانه في سورة الصافات: {إنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}[3] سموا النبي عليه الصلاة والسلام شاعرا مجنونا بجهلهم وضلالهم وعنادهم وهم يعلمون أنه أصدق الناس وأنه الأمين، وأنه أعقل الناس، وأنه ليس بشاعر، ولكنه الجهل والظلم والعدوان والمغالطة والتكذيب والتشبيه على الناس، فكل من لم يحقق هذه الكلمة ويعرف معناها ويعمل بها فليس بمسلم، فالمسلم هو الذي يوحد الله ويخصه بالعبادة دون كل ما سواه، فيصلي له ويصوم له ويدعوه وحده ويستغيث به وينذر ويذبح له إلى غير ذلك من أنواع العبادات، ويعلم يقينا أن الله سبحانه هو المستحق للعبادة وأن ما سواه لا يستحقها سواء كان نبيا أو ملكا أو وليا أو صنما أو شجرا أو جنيا أو غير ذلك كلهم لا يستحقون العبادة بل هي حق لله وحده، ولهذا قال الله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ}[4] يعني أمر وأوصى ألا تعبدوا إلا إياه، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، وهو أنه لا معبود حق إلا الله، فهي نفي وإثبات. نفي للإلهية عن غير الله وإثبات لها بحق لله وحده سبحانه وتعالى، فالإلهية التي يوصف بها غير الله باطلة وهي لله وحده بحق ثابتة له سبحانه وتعالى كما قال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}[5]، فالعبادة لله وحده دون كل ما سواه، وأما صرف الكفار لها لغيره سبحانه فذلك باطل ووضع لها في غير محلها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[6]، وقال سبحانه في سورة الفاتحة وهي أعظم سورة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[7] أمر الله المؤمنين أن يقولوا هكذا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يعني نعبدك وحدك وإياك نستعين وحدك، وقال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً}[8]، وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}[9]، وقال عز وجل: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[10]، وقال سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[11] إلى غير ذلك من آيات كثيرات كلها تدل على أنه سبحانه هو المستحق للعبادة وأن المخلوقين لا حظ لهم فيها، وهذا هو معنى لا إله إلا الله وتفسيرها وحقيقتها تخص العبادة بحق الله وحده وتنفيها بحق عما سواه.
ومعلوم أن عبادة غير الله موجودة وقد عبدت أصنام وأوثان من دون الله وعبد فرعون من دون الله وعبدت الملائكة من دون الله وعبدت الرسل من دون الله وعبد الصالحون من دون الله كل ذلك قد وقع ولكنه باطل وهو خلاف الحق والمعبود بالحق هو الله وحده سبحانه وتعالى.
وكلمة لا إله إلا الله نفي وإثبات كما سبق، نفي للعبادة بحق عن غير الله كائنا من كان وإثبات العبادة لله وحده بالحق كما قال جل وعلا عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه قال لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عقبه}[12]، وقال سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[13]، وهذا قول الرسل جميعا لأن قوله سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} يعني به الرسل جميعا وهم الذين معه من أولهم إلى آخرهم ودعوتهم دعوته وكلمتهم هي البراءة من عبادة غير الله ومن المعبودين من دون الله الذين رضوا بالعبادة لهم ودعوا إليها، فالمؤمن يتبرأ منهم وينكر عبادتهم ويؤمن بالله وحده المعبود بالحق سبحانه وتعالى، ولهذا قال سبحانه في الآية السابقة عن إبراهيم أنه قال لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} وهو الله سبحانه وتعالى الذي فطره وفطر غيره فإنه لا يتبرأ من عبادته وإنما يتبرأ من عبادة غيره، فالبراءة تكون من عبادة غيره سبحانه، أما هو الذي فطر العباد وخلقهم وأوجدهم من العدم وغذاهم بالنعم فهو المستحق العبادة سبحانه وتعالى، فهذا هو مدلول هذه الكلمة ومعناها ومفهومها، وحقيقتها البراءة من عبادة غير الله وإنكارها واعتقاد بطلانها والإيمان بأن العبادة بحق لله وحده سبحانه وتعالى وهذا معنى قوله جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[14] ومعنى يكفر بالطاغوت ينكر عبادة الطاغوت ويتبرأ منها، والطاغوت: اسم لكل ما عبد من دون الله فكل معبود من دون الله يسمى طاغوتاً فالأصنام والأشجار والأحجار والكواكب المعبودة من دون الله كلها طواغيت وهكذا من عبد وهو راض كفرعون ونمرود وأشباههما يقال له طاغوت، وهكذا الشياطين طواغيت؛ لأنهم يدعون إلى الشرك.
وأما من عبد من دون الله ولم يرض بذلك كالأنبياء والصالحين والملائكة فهؤلاء ليسوا طواغيت وإنما الطاغوت الشيطان الذي دعا إلى عبادتهم من جن وإنس، أما الرسل والأنبياء والصالحون والملائكة فهم براء من ذلك وليسوا طواغيت؛ لأنهم أنكروا عبادتهم وحذروا منها وبينوا أن العبادة حق الله وحده سبحانه وتعالى كما قال جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ}[15] يعني ينكر عبادة غير الله ويتبرأ منها ويجحدها ويبين أنها باطلة {وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} يعني يؤمن بأن الله هو المعبود بالحق وأنه هو المستحق للعبادة وأنه رب العالمين وأنه الخلاق العليم رب كل شيء ومليكه، العالم بكل شيء والقاهر فوق عباده وهو فوق العرش فوق السموات سبحانه وتعالى وعلمه في كل مكان، وهو المستحق العبادة جل وعلا، فلا يتم الإيمان ولا يصح إلا بالبراءة من عبادة غير الله وإنكارها واعتقاد بطلانها، والإيمان بأن الله هو المستحق للعبادة سبحانه وتعالى، وهذا هو معنى قوله سبحانه في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دونه هو الباطل}[16]، وفي سورة لقمان: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ}[17]، وهو معنى الآيات السابقات وهي قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}[18]، وقوله جل وعلا: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً}[19]، وقوله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}[20] إلى غير ذلك من الآيات.
وكان الناس في عهد آدم وبعده إلى عشرة قرون كلهم على توحيد الله كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، ثم وقع الشرك في قوم نوح فعبدوا مع الله ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا كما ذكر الله ذلك في سورة نوح، فأرسل الله إليهم نوحا عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى توحيد الله وينذرهم نقمة الله وعقابه، فاستمروا في طغيانهم وكفرهم وضلالهم ولم يؤمن به منهم إلا القليل، فأكثرهم ومعظمهم استكبروا عن ذلك كما بين الله ذلك في كتابه العظيم، فماذا فعل الله بهم؟ فعل بهم ما بينه لنا في كتابه العظيم من إهلاكهم بالطوفان وهو الماء العام الذي ملأ الأرض وعلا فوق الجبال وأغرق الله به من كفر بالله وعصى رسوله نوح ولم ينج إلا من كان مع نوح في السفينة كما قال سبحانه: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}[21] وهذا عقابهم في العاجل في الدنيا، ولهم عقاب آخر في الآخرة وهو العذاب في النار يوم القيامة نسأل الله العافية.
ثم جاءت عاد بعد ذلك وأرسل الله إليهم هودا بعد نوح، فسلكوا مسلك من قبلهم من قوم نوح في العناد والكفر بالله والضلال، فأرسل الله عليهم الريح العقيم فأهلكوا عن آخرهم ولم ينج منهم إلا من آمن بهود وهم القليل.
ثم جاء بعدهم قوم صالح وهم ثمود فسلكوا مسلك من قبلهم من الأمتين أمة نوح وأمة هود فعصوا الرسل واستكبروا عن الحق فأخذهم الله بعقاب الصيحة والرجفة حتى هلكوا عن آخرهم ولم ينج إلا من آمن بنبيه صالح عليه الصلاة والسلام.
ثم جاء بعدهم الأمم الأخرى أمة إبراهيم وأمه لوط وشعيب وأمة يعقوب وإسحاق ويوسف، ثم جاء بعدهم موسى وهارون وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء كلهم دعوا الناس إلى توحيد الله كما أمروا، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[22]، وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[23] وكلهم أدوا ما عليهم من البلاغ والبيان عليهم الصلاة والسلام، بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة ونصحوا الأمة وبينوا لهم معنى هذه الكلمة: " لا إله إلا الله " وبينوا أن الواجب إخلاص العبادة لله وحده وأنه هو الذي يستحق العبادة دون كل ما سواه، وأن الأشجار والأحجار والأصنام والكواكب والجن والإنس وغيرهم من المخلوقات كلهم لا يصلحون للعبادة؛ لأن العبادة يجب أن تصرف لله وحده. وفرعون لما بغى وطغى وعاند موسى وخرج لقتله ساقه الله جل وعلا للبحر وأغرقه ومن معه فيه في لحظة واحدة، وهذا عذاب معجل وهو الغرق وبعده عذاب النار، نسأل الله العافية والسلامة.
ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام دعا الناس إلى عبادة الله وبشر بالجنة من آمن وحذر بالنار من كفر، فآمن من آمن وهم القليل في مكة، ثم بسبب الأذى له ولأصحابه أمره الله بالهجرة إلى المدينة، فهاجر إليها ومن آمن معه ممن استطاع الهجرة، فصارت المدينة دار الهجرة، والعاصمة الأولى للمسلمين، وانتشر فيها دين الله، وقامت فيها سوق الجهاد بعد تعب عظيم، وإيذاء شديد من قريش وغيرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه في مكة.
كل ذلك من أجل هذه الكلمة " لا إله إلا الله " الرسل تدعو إليها ومحمد خاتمهم عليه الصلاة والسلام يدعو إلى ذلك، يدعو إلى الإيمان بها، واعتقاد معناها، وتعطيل الآلهة التي عبدوها من دون الله وإنكارها وإخلاص العبادة لله وحده، والمشركون يأبون ذلك، ويقولون إنهم سائرون على طريقة أسلافهم، ويقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[24].
فأمة العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، سلكوا مسلك من قبلهم في العناد والكفر والضلال والتكذيب، ونبينا عليه الصلاة والسلام طيلة ثلاثة عشر سنة في مكة، يدعوهم إلى توحيد الله، وإلى ترك الشرك بالله، فلم يؤمن به إلا القليل، وهذا بعد الهجرة إلى المدينة، استمروا في طغيانهم، وقاتلوه يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب عناداً وكفراً وضلالاً، وساعدهم من ساعدهم من كفار العرب، ولكن الله جلت قدرته أيد نبيه والمؤمنين وأعانهم، وجرى ما جرى يوم بدر من الهزيمة على أعداء الله، والنصر لأولياء الله، ثم جرى ما جرى يوم أحد من الامتحان الذي كتبه الله على عباده، وحصل ما حصل من الجراح والقتل على المسلمين بأسباب بينها في كتابه العظيم سبحانه وتعالى، ثم جاءت وقعة الأحزاب بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أهل الكفر، فأعز الله جنده ونصر عبده وأنزل بأسه بالكفار، فرجعوا خائبين لم ينالوا خيراً، ونصر الله المسلمين ضد أعدائهم، ثم جاءت بعد ذلك غزوة الحديبية عام ست من الهجرة، وحصل فيها ما حصل من الصلح بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل مكة، والمهادنة عشر سنين حتى يأمن الناس، وحتى يتصل بعضهم ببعض، وحتى يتأملوا دعوته عليه الصلاة والسلام وما جاء به من الهدى، ثم نقضت قريش العهد فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم عام ثمان من الهجرة في رمضان، وفتح الله عليه مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً والحمد لله.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
أيها الإخوة في الله لقد رأت اللجنة التي وكل إليها توزيع الندوات والمحاضرات في هذا البلد أن يكون عنوان الكلمة هذه الليلة (بيان معنى لا إله إلا الله) فوافقت على ذلك؛ لأن هذه الكلمة هي أصل الدين وأساس الملة، وهي التي فرق الله بها بين الكافر والمسلم، وهي التي دعت إليها الرسل جميعا، وأنزلت من أجلها الكتب، وخلق من أجلها الثقلان الجن والإنس، دعا إليها آدم أبونا عليه الصلاة والسلام وسار عليها هو وذريته إلى عهد نوح، ثم وقع الشرك في قوم نوح فأرسل الله إليهم نوحا عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى توحيد الله ويقول لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}[1] وهكذا هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وغيرهم من الرسل كلهم دعوا أممهم إلى هذه الكلمة، إلى توحيد الله والإخلاص له وترك عبادة ما سواه وآخرهم وخاتمهم وأفضلهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، بعثه الله إلى قومه بهذه الكلمة، وقال لهم يا قوم: ((قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)) وأمرهم بإخلاص العبادة لله وحده وأن يدعوا ما عليه آباؤهم وأسلافهم من الشرك بالله وعبادة الأصنام والأوثان والأشجار والأحجار وغير ذلك، فاستنكرها المشركون وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}[2] لأنهم قد اعتادوا عبادة الأصنام والأوثان والأولياء والأشجار وغير ذلك والذبح لهم والنذر لهم وطلبهم قضاء الحاجات وتفريج الكروب فاستنكروا هذه الكلمة؛ لأنها تبطل آلهتهم ومعبوداتهم من دون الله.
وقال سبحانه في سورة الصافات: {إنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}[3] سموا النبي عليه الصلاة والسلام شاعرا مجنونا بجهلهم وضلالهم وعنادهم وهم يعلمون أنه أصدق الناس وأنه الأمين، وأنه أعقل الناس، وأنه ليس بشاعر، ولكنه الجهل والظلم والعدوان والمغالطة والتكذيب والتشبيه على الناس، فكل من لم يحقق هذه الكلمة ويعرف معناها ويعمل بها فليس بمسلم، فالمسلم هو الذي يوحد الله ويخصه بالعبادة دون كل ما سواه، فيصلي له ويصوم له ويدعوه وحده ويستغيث به وينذر ويذبح له إلى غير ذلك من أنواع العبادات، ويعلم يقينا أن الله سبحانه هو المستحق للعبادة وأن ما سواه لا يستحقها سواء كان نبيا أو ملكا أو وليا أو صنما أو شجرا أو جنيا أو غير ذلك كلهم لا يستحقون العبادة بل هي حق لله وحده، ولهذا قال الله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ}[4] يعني أمر وأوصى ألا تعبدوا إلا إياه، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، وهو أنه لا معبود حق إلا الله، فهي نفي وإثبات. نفي للإلهية عن غير الله وإثبات لها بحق لله وحده سبحانه وتعالى، فالإلهية التي يوصف بها غير الله باطلة وهي لله وحده بحق ثابتة له سبحانه وتعالى كما قال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}[5]، فالعبادة لله وحده دون كل ما سواه، وأما صرف الكفار لها لغيره سبحانه فذلك باطل ووضع لها في غير محلها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[6]، وقال سبحانه في سورة الفاتحة وهي أعظم سورة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[7] أمر الله المؤمنين أن يقولوا هكذا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يعني نعبدك وحدك وإياك نستعين وحدك، وقال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً}[8]، وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}[9]، وقال عز وجل: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[10]، وقال سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[11] إلى غير ذلك من آيات كثيرات كلها تدل على أنه سبحانه هو المستحق للعبادة وأن المخلوقين لا حظ لهم فيها، وهذا هو معنى لا إله إلا الله وتفسيرها وحقيقتها تخص العبادة بحق الله وحده وتنفيها بحق عما سواه.
ومعلوم أن عبادة غير الله موجودة وقد عبدت أصنام وأوثان من دون الله وعبد فرعون من دون الله وعبدت الملائكة من دون الله وعبدت الرسل من دون الله وعبد الصالحون من دون الله كل ذلك قد وقع ولكنه باطل وهو خلاف الحق والمعبود بالحق هو الله وحده سبحانه وتعالى.
وكلمة لا إله إلا الله نفي وإثبات كما سبق، نفي للعبادة بحق عن غير الله كائنا من كان وإثبات العبادة لله وحده بالحق كما قال جل وعلا عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه قال لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عقبه}[12]، وقال سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[13]، وهذا قول الرسل جميعا لأن قوله سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} يعني به الرسل جميعا وهم الذين معه من أولهم إلى آخرهم ودعوتهم دعوته وكلمتهم هي البراءة من عبادة غير الله ومن المعبودين من دون الله الذين رضوا بالعبادة لهم ودعوا إليها، فالمؤمن يتبرأ منهم وينكر عبادتهم ويؤمن بالله وحده المعبود بالحق سبحانه وتعالى، ولهذا قال سبحانه في الآية السابقة عن إبراهيم أنه قال لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} وهو الله سبحانه وتعالى الذي فطره وفطر غيره فإنه لا يتبرأ من عبادته وإنما يتبرأ من عبادة غيره، فالبراءة تكون من عبادة غيره سبحانه، أما هو الذي فطر العباد وخلقهم وأوجدهم من العدم وغذاهم بالنعم فهو المستحق العبادة سبحانه وتعالى، فهذا هو مدلول هذه الكلمة ومعناها ومفهومها، وحقيقتها البراءة من عبادة غير الله وإنكارها واعتقاد بطلانها والإيمان بأن العبادة بحق لله وحده سبحانه وتعالى وهذا معنى قوله جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[14] ومعنى يكفر بالطاغوت ينكر عبادة الطاغوت ويتبرأ منها، والطاغوت: اسم لكل ما عبد من دون الله فكل معبود من دون الله يسمى طاغوتاً فالأصنام والأشجار والأحجار والكواكب المعبودة من دون الله كلها طواغيت وهكذا من عبد وهو راض كفرعون ونمرود وأشباههما يقال له طاغوت، وهكذا الشياطين طواغيت؛ لأنهم يدعون إلى الشرك.
وأما من عبد من دون الله ولم يرض بذلك كالأنبياء والصالحين والملائكة فهؤلاء ليسوا طواغيت وإنما الطاغوت الشيطان الذي دعا إلى عبادتهم من جن وإنس، أما الرسل والأنبياء والصالحون والملائكة فهم براء من ذلك وليسوا طواغيت؛ لأنهم أنكروا عبادتهم وحذروا منها وبينوا أن العبادة حق الله وحده سبحانه وتعالى كما قال جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ}[15] يعني ينكر عبادة غير الله ويتبرأ منها ويجحدها ويبين أنها باطلة {وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} يعني يؤمن بأن الله هو المعبود بالحق وأنه هو المستحق للعبادة وأنه رب العالمين وأنه الخلاق العليم رب كل شيء ومليكه، العالم بكل شيء والقاهر فوق عباده وهو فوق العرش فوق السموات سبحانه وتعالى وعلمه في كل مكان، وهو المستحق العبادة جل وعلا، فلا يتم الإيمان ولا يصح إلا بالبراءة من عبادة غير الله وإنكارها واعتقاد بطلانها، والإيمان بأن الله هو المستحق للعبادة سبحانه وتعالى، وهذا هو معنى قوله سبحانه في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دونه هو الباطل}[16]، وفي سورة لقمان: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ}[17]، وهو معنى الآيات السابقات وهي قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}[18]، وقوله جل وعلا: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً}[19]، وقوله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}[20] إلى غير ذلك من الآيات.
وكان الناس في عهد آدم وبعده إلى عشرة قرون كلهم على توحيد الله كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، ثم وقع الشرك في قوم نوح فعبدوا مع الله ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا كما ذكر الله ذلك في سورة نوح، فأرسل الله إليهم نوحا عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى توحيد الله وينذرهم نقمة الله وعقابه، فاستمروا في طغيانهم وكفرهم وضلالهم ولم يؤمن به منهم إلا القليل، فأكثرهم ومعظمهم استكبروا عن ذلك كما بين الله ذلك في كتابه العظيم، فماذا فعل الله بهم؟ فعل بهم ما بينه لنا في كتابه العظيم من إهلاكهم بالطوفان وهو الماء العام الذي ملأ الأرض وعلا فوق الجبال وأغرق الله به من كفر بالله وعصى رسوله نوح ولم ينج إلا من كان مع نوح في السفينة كما قال سبحانه: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}[21] وهذا عقابهم في العاجل في الدنيا، ولهم عقاب آخر في الآخرة وهو العذاب في النار يوم القيامة نسأل الله العافية.
ثم جاءت عاد بعد ذلك وأرسل الله إليهم هودا بعد نوح، فسلكوا مسلك من قبلهم من قوم نوح في العناد والكفر بالله والضلال، فأرسل الله عليهم الريح العقيم فأهلكوا عن آخرهم ولم ينج منهم إلا من آمن بهود وهم القليل.
ثم جاء بعدهم قوم صالح وهم ثمود فسلكوا مسلك من قبلهم من الأمتين أمة نوح وأمة هود فعصوا الرسل واستكبروا عن الحق فأخذهم الله بعقاب الصيحة والرجفة حتى هلكوا عن آخرهم ولم ينج إلا من آمن بنبيه صالح عليه الصلاة والسلام.
ثم جاء بعدهم الأمم الأخرى أمة إبراهيم وأمه لوط وشعيب وأمة يعقوب وإسحاق ويوسف، ثم جاء بعدهم موسى وهارون وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء كلهم دعوا الناس إلى توحيد الله كما أمروا، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[22]، وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[23] وكلهم أدوا ما عليهم من البلاغ والبيان عليهم الصلاة والسلام، بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة ونصحوا الأمة وبينوا لهم معنى هذه الكلمة: " لا إله إلا الله " وبينوا أن الواجب إخلاص العبادة لله وحده وأنه هو الذي يستحق العبادة دون كل ما سواه، وأن الأشجار والأحجار والأصنام والكواكب والجن والإنس وغيرهم من المخلوقات كلهم لا يصلحون للعبادة؛ لأن العبادة يجب أن تصرف لله وحده. وفرعون لما بغى وطغى وعاند موسى وخرج لقتله ساقه الله جل وعلا للبحر وأغرقه ومن معه فيه في لحظة واحدة، وهذا عذاب معجل وهو الغرق وبعده عذاب النار، نسأل الله العافية والسلامة.
ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام دعا الناس إلى عبادة الله وبشر بالجنة من آمن وحذر بالنار من كفر، فآمن من آمن وهم القليل في مكة، ثم بسبب الأذى له ولأصحابه أمره الله بالهجرة إلى المدينة، فهاجر إليها ومن آمن معه ممن استطاع الهجرة، فصارت المدينة دار الهجرة، والعاصمة الأولى للمسلمين، وانتشر فيها دين الله، وقامت فيها سوق الجهاد بعد تعب عظيم، وإيذاء شديد من قريش وغيرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه في مكة.
كل ذلك من أجل هذه الكلمة " لا إله إلا الله " الرسل تدعو إليها ومحمد خاتمهم عليه الصلاة والسلام يدعو إلى ذلك، يدعو إلى الإيمان بها، واعتقاد معناها، وتعطيل الآلهة التي عبدوها من دون الله وإنكارها وإخلاص العبادة لله وحده، والمشركون يأبون ذلك، ويقولون إنهم سائرون على طريقة أسلافهم، ويقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[24].
فأمة العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، سلكوا مسلك من قبلهم في العناد والكفر والضلال والتكذيب، ونبينا عليه الصلاة والسلام طيلة ثلاثة عشر سنة في مكة، يدعوهم إلى توحيد الله، وإلى ترك الشرك بالله، فلم يؤمن به إلا القليل، وهذا بعد الهجرة إلى المدينة، استمروا في طغيانهم، وقاتلوه يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب عناداً وكفراً وضلالاً، وساعدهم من ساعدهم من كفار العرب، ولكن الله جلت قدرته أيد نبيه والمؤمنين وأعانهم، وجرى ما جرى يوم بدر من الهزيمة على أعداء الله، والنصر لأولياء الله، ثم جرى ما جرى يوم أحد من الامتحان الذي كتبه الله على عباده، وحصل ما حصل من الجراح والقتل على المسلمين بأسباب بينها في كتابه العظيم سبحانه وتعالى، ثم جاءت وقعة الأحزاب بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أهل الكفر، فأعز الله جنده ونصر عبده وأنزل بأسه بالكفار، فرجعوا خائبين لم ينالوا خيراً، ونصر الله المسلمين ضد أعدائهم، ثم جاءت بعد ذلك غزوة الحديبية عام ست من الهجرة، وحصل فيها ما حصل من الصلح بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل مكة، والمهادنة عشر سنين حتى يأمن الناس، وحتى يتصل بعضهم ببعض، وحتى يتأملوا دعوته عليه الصلاة والسلام وما جاء به من الهدى، ثم نقضت قريش العهد فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم عام ثمان من الهجرة في رمضان، وفتح الله عليه مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً والحمد لله.