أن الذي يتدبر القرآن الكريم، يرى جانبا كبيرا من آياته وسوره، قد اشتمل على قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعلى قصص غيرهم من الأخيار والأشرار. يرى ذلك بصورة أكثر تفصيلا في السور المكية، التي كان نزولها قبل الهجرة، لأنها في الأعم والأغلب اهتمت بإقامة الأدلة على وحدانية الله تعالى وعلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، وعلى أن هذا القرآن من عند الله تعالى وعلى أن البعث وما يترتب عليه من ثواب أو عقاب حق وصدق. وهذه الأدلة ساقتها السور المكية تارة عن طريق قصص الأنبياء مع أقوامهم، وتارة عن غير ذلك من الطرق الأخرى، كالنظر في ملكوت السماوات والأرض، وفي خلق الإنسان وغيره من سائر المخلوقات. أما السور المدنية وهي التي كان نزولها بعد الهجرة، فهي في الأعم والأغلب اهتمت بعد أن رسخت العقيدة السليمة في قلوب المؤمنين، بتفصيل أحكام الشريعة العملية، كالعبادات، والمعاملات، والحدود، والعلاقات الاجتماعية، وتنظيم شئون الدولة الإسلامية داخليا وخارجيا.. فمثلا من السور المكية التي اشتمل معظمها، أو جانب كبير منها، على قصص الأنبياء، سور: الأعراف، ويونس، وهود، ويوسف، والشعراء، والقصص، والصافات .. الخ. والقصة في كل زمان ومكان لها أثرها العميق في النفوس، لما فيها من عنصر التشويق، وجوانب الاعتبار والاتعاظ .. ولا تزال على رأس الوسائل التي يدخل منها الهداة والمصلحون والقادة، إلى قلوب الناس وعقولهم، لكي يسلكوا الطريق القويم، ويعتنقوا الفضائل، ويجتنبوا الرذائل، ويسلموا وجوههم لله الواحد القهار ومن هنا ساق ما ساق من قصص يمتاز بسمو الغاية، وشريف المقصد، وصدق الكلمة والموضوع، وتحري الحقيقة بحيث لا تشوبها شائبة من الوهم أو الخيال أو مخالفة الواقع. كما أن من مميزات قصص القرآن: اشتماله عن طرق شتى في التربية والتهذيب، تارة عن طريق الحوار، وأحيانا عن طريق سلوك طريق الحكمة والاعتبار، وطورا عن طريق التخويف والإنذار نرى ذلك على سبيل المثال في قوله تعالى: [{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ "100" وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ "101" وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ "102" إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ "103" } (سورة هود: 100 ـ 103)] وللقصة في القرآن الكريم أهداف سامية، ومقاصد عالية، وحكم متعددة من أهمها: أ. بيان أن الرسل جميعا قد أرسلهم الله تعالى برسالة واحدة في أصولها ألا وهي إخلاص العبادة لله الواحد القهار، وأداء التكاليف التي كلف سبحانه خلقه بها وقد وردت آيات كثيرة تدل على أن أول كلمة قالها كل رسول لقومه، هي أمرهم بعبادة الله تعالى، ونهيهم عن عبادة أحد سواه. فهذا نوح عليه السلام يقول لقومه كما حكى القرآن عنه: [{يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ } (سورة الأعراف: 59)] وهذا هود عليه السلام يقول لقومه: [{يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ } (سورة الأعراف: 65)] وهذا صالح عليه السلام يقول لقومه: [{يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ } (سورة الأعراف: 73)] وهذا شعيب عليه السلام يقول لقومه: [{يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ } (سورة الأعراف: 85)] فهذه الجملة الكريمة حكاية لما وجهه هؤلاء الأنبياء لقومهم من إرشادات وهدايات. أي: قالوا لهم بكل لطف وأدب: اعبدوا الله وحده لا شريك له، فإنه هو المستحق للعبادة، أما سواه فلا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا. ويحكي القرآن الكريم هذا المعنى على لسان كل نبي فيقول: [{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (سورة الأنبياء: 25)] أي: وما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول آخر، إلا وأفهمناه عن طريق وحينا، أنه لا إله يستحق العبادة والطاعة آلا أنا، فعليه أن يأمر قومه بذلك، وأن ينهاهم عن عبادة غيري. ب. بيان أن هذا القرآن عند الله تعالى وأن ما اشتمل عليه هذا القرآن من قصص للسابقين، لا علم للرسول صلى الله عليه وسلم بها، وإنما علمها بعد أن أوحاها الله تعالى إليه، وأنه صادق فيما يبلغه عن ربه. استمع إلى القرآن وهو يقرر ذلك في مواطن متعددة، فيقول في أعقاب حديث طويل عن قصة نوح عليه السلام مع قومه: [{تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } (سورة هود: 49)] أي: تلك القصة التي قصصناها عليك عن نوح وقومه من أخبار الغيب الماضية، التي لا يعلم دقائقها وتفاصيلها أحد سوانا، ونحن "نوحيها إليك" ونعرفك بها عن طريق وحينا الصادق الأمين. وهذه القصة وأمثالها "ما كنت تعلمها" أنت يا محمد، وما كان يعلمها "قومك" أيضا بهذه الصورة الصادقة الحكيمة "من قبل" هذا الذي الوقت أوحيناها إليك فيه. ومادام الأمر كذلك "فاصبر" صبرا جميلا على تبليغ ما أمرك الله بتبليغه، كما صبر أخوك نوح من قبلك، واعلم أن العاقبة الحسنة للمتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل ما لا يرضي الله تعالى. فالآية الكريمة تعقيب حكيم عن قصة نوح عليه السلام، قصد به الامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم كما قصد به الموعظة والتسلية. أما الامتنان فنراه في قوله سبحانه: "ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا" وأما الموعظة فنراها في قوله تعالى: "فاصبر". أما التسلية فنراها في قوله عز وجل: "أن العاقبة للمتقين". وشبيه بذلك ما قاله سبحانه في أعقاب الحديث الطويل عن قصة يوسف عليه السلام مع أخوته مع غيرهم قال تعالى: [{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ } (سورة يوسف: 102)] أي: ذلك الذي قصصناه عليك يا محمد من قصة أخيك يوسف، من الأخبار الغيبية التي لا يعلمها علما تاما شاملا إلا الله تعالى وحده، ونحن "نوحيه إليك" ونخبرك به لما فيه من العظات والعبر. وأنت يا محمد ما كنت حاضرا مع أخوة يوسف، وقت أن أجمعوا أمرهم للمكر به، وللاعتداء عليه، وقد أخبرناك بذلك للاعتبار والاتعاظ. ونرى مثل هذا المعنى أيضا وهو الدلالة على أن هذا القرآن من عند الله تعالى وحده ما قصه سبحانه علينا بعد حديث طويل عن جانب من قصة موسى عليه السلام، وعن جانب من قصة مريم. أما بالنسبة لقصة موسى عليه السلام فقد قال سبحانه: [{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ "44" وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ "45" وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا .. "46"} (سورة القصص: الآيات 44 ـ46)] أي: لم تكن يا محمد حاضرا وقت أن كلفنا أخاك موسى بحمل رسالتنا، وكان ذلك عند الجانب الغربي لجبل الطور، ولم تكن أيضا من المشاهدين لما أوحيناه إليه، ولكنا أخبرناك بذلك بعد أن خلت بينك وبين موسى أزمان طويلة. ولم تكن إيضا مقيما في أهل مدين، وقت أن حدث ما حدث بين موسى عليه السلام وبين الشيخ الكبير وابنتيه من محاورات .. ولم تكن كذلك بجانب جبل الطور وقت أن نادينا أخاك موسى، وأنزلنا إليه التوراة لتكون هداية ونورا لقومه. فالمقصود بهذه الآيات الكريمة بيان أن هذا القرآن من عند الله تعالى، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن عالما بتلك الأحداث السابقة، وإنما أخبره الله تعالى بها عن طريق قرآنه الكريم، ووحيه الصادق الأمين. وأما بالنسبة لقصة مريم، فقد قال سبحانه خلالها: [{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } (سورة آل عمران: الآية 44)] أي: ذلك القصص الحكيم الذي قصصناه عليك يا محمد فيما يتعلق بما قالته امرأة عمران، وما قاله زكريا، وما قالته الملائكة لمريم. ذلك كله من أخبار الغيب التي ما كنت تعلمها أنت ولا قومك، وإنما يعلمها الله وحده وأنت ما كنت حاضرا مع زكريا عليه السلام ومع الذين نافسوه في كفالة مريم، واقترعوا على ذلك فكانت كفالتها من نصيب زكريا عليه السلام، ومن الواضح أن المقصود بهذه الآية الكريمة، وما يشبهها من آيات كثيرة، إقامة الأدلة على أن هذا القرآن من عند الله تعالى، وأن ما اشتمل عليه من قصص السابقين لم يكن للرسول صلى الله عليه وسلم علم به، ولم يكن أيضا لغيره علم صحيح به. فجاء القرآن الكريم بهذه القصص، وحكاها بالحق والصدق، لتكون عبرة وعظة للناس .. قال تعالى: [{إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (سورة آل عمران: الآية 62)] وقال سبحانه: [{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } (سورة الكهف: الآية 13)] وقال عز وجل: [{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } (سورة الأعراف: الآية 7)] جـ. كذلك من أهداف القصة في القرآن الكريم: تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، وتسليته عما أصابه من قومه وتبشيره صلى الله عليه وسلم بأن العاقبة الطيبة ستكون له ولأصحابه .. أما تثبيت فؤاده عن طريق قصص الأنبياء السابقين، فنراه في آيات كثيرة: منها قوله تعالى: [{وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } (سورة هود: الآية 120)] وقد جاءت هذه الآية الكريمة في أواخر سورة من سور القرآن الكريم الزاخرة بقصص الأنبياء مع أقوامهم وهي سورة هود عليه السلام. فقد اشتملت هذه السورة على قصة نوح مع قومه، وقصة هود مع قومه، وقصة صالح ولوط وشعيب مع أقوامهم، وقصة إبراهيم مع الملائكة الذين جاءوا يبشرونه بابنه إسحاق، كما اشتملت على جانب من قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه. والمعنى: وكل نبأ من أنباء الرسل الكرام السابقين نقصه عليك أيها الرسول الكريم ونخبرك عنه: المقصود به تثبيت قلبك، وتقوية يقينك، وتسلية نفسك ونفوس أصحابك، عما لحقكم من أذى في سبيل تبليغ دعوة الحق إلى الناس .. ولقد جاءك يا محمد في هذه السورة الكريمة وغيرها من سور القرآن، الحق الثابت المطابق للواقع، والذكرى النافعة للمؤمنين بما جئت به. وأما التسلية عن طريق قصص الأنبياء السابقين، والتسرية عن قلبه صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى الاقتداء بهم في صبرهم .. فكل ذلك نراه في آيات كثيرة منها قوله سبحانه: [{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ "52" أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ "53" فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ "54" وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ "55"} (سورة الذاريات: الآيات من 52: 55)]
التتمة
.
التتمة
.