المقطع الخامس:
وهو آيتان أيضًا، قول الله - تعالى -: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحديد: 18، 19].
وهاتان الآيتان هما غرض السورة السابقِ ذِكرُه، وكأنه أُعيد تأكيدًا لأهميته، والذي يظهر أن وراء التأكيد تأسيسًا مهمًّا؛ وذلك أن الأمر بالإيمان والإنفاق ذُكر في أول السورة، ثم ورد التعقيب عليه ببيان حال الصنف المخالف، صنف المنافقين، الذين يُظهِرون تمسُّكَهم بهذين الأمرين، وهم منهما براء، وكل ذلك - كما أسلفنا - تأكيد لأهمية الإيمان والإنفاق، أما هنا فهو يبين حال المؤمنين المتصدقين، ولكنه يظهر حالهم أمام صنفٍ آخرَ خاسرٍ، هو صنف الكافرين[1]، وكأن الشأن قد اتضح، فهو إما إيمان وإنفاق، وإما كفر ونفاق.
وقد ورد هنا قراءتان في قوله – تعالى -: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ}، فقد قرأ "ابن كثير وأبو بكر بتخفيف الصاد فيهما، من التصديق؛ أي: صدَّقوا الرسول؛ أي: آمنوا بما جاء به، ووافقهما ابن محيصن، والباقون بالتشديد فيهما، من تصدَّق؛ أعني: الصدقة، والأصل المتصدقين والمتصدقات، أدغم التاء في الصاد"[2].
والقراءتان بمنزلة آيتين، وهذا التوجيه المذكور آنفًا توجيهٌ سليم لا غبار عليه، ولكن يَرِد هنا سؤال مهم جدًّا، وهو: لماذا وردت هاتان القراءتان في هذا الموضع؟
والجواب على هذا السؤال، يتعدى مرحلة التوجيه لكل قراءة بمفردها ببيان وجهها من العربية، إلى وجه آخر أعمق، وهو الوجه الذي يبينه السياق، وأظنه القمة في توجيه القراءات؛ لأنه خطوة تتبع الخطوة السابقة، وهي الخطوة الثمرة.
وهنا فإننا إذا تأملنا في سياق سورة الحديد الذي قررناه، فإننا نجد أن القراءتين تتوافقان مع هذا السياق؛ بل قل - وبكلام أدق -: إنهما تُحددان السياق، فهما دليل ومدلول عليه.
ووجه ذلك: أن القراءتين تفيدان معنيين، فإحداهما تفيد المدح، والحث على الإيمان، وهي قراءة التخفيف، وهذا غرض الإيمان المعروف.
وأما القراءة الثانية، وهي قراءة التشديد، فإنها تفيد المدح والثناء للمتصدقين المنفقين، وهذا هو غرض الإنفاق المعروف.
وهذه الآية على وَجازتها فيها الحثُّ على النفقة بمؤكدات عديدة، كلها يبين عظمة القرآن، وتمام بلاغته وبيانه:
المؤكد الأول: التأكيد بحرف التوكيد (إن) في تقرير فضل المتصدقين والمتصدقات.
المؤكد الثاني: العطف بالفعل الماضي على اسم الفاعل: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}.
قال الرازي - رحمه الله -: في الآية إشكال، وهو أن عطف الفعل على الاسم قبيح، فما الفائدة في التزامه ها هنا؟ قال صاحب "الكشاف": قوله {وَأَقْرَضُوا} معطوف على معنى الفعل في {الْمُصَّدِّقِينَ}؛ لأن اللام بمعنى الذين، واسم الفاعل بمعنى صدقوا، كأنه قيل: إن الذين صدقوا وأقرضوا، واعلم أن هذا لا يزيل الإشكال، فإنه ليس فيه بيان أنه لِمَ عدل عن ذلك اللفظ إلى هذا اللفظ؟ والذي عندي فيه أن الألف واللام في المصدقين والمصدقات للمعهود، فكأنه ذكر جماعة معينين بهذا الوصف، ثم قبل ذكر الخبر أخبر عنهم بأنهم أتوا بأحسن أنواع الصدقة، وهو الإتيان بالقرض الحسن، ثم ذكر الخبر بعد ذلك وهو قوله {يُضَاعَفُ لَهُمْ} [3].
والذي يظهر - والله أعلم - هو أن كلام الفخر لا يستقيم؛ لثلاثة أوجه:
الوجه الأول: هو أن الألف واللام في "المصدقين والمصدقات" لا تكون لمعهود، إلا بدليل نقلي، ولم يذكر الفخر دليلاً نقليًّا على ذلك.
الوجه الثاني: هل يقال: إن القرض هو أحسن أنواع الصدقة؟ فإن القرض مال مسترد، والصدقة مال ذاهب نافق، وفرق بينهما.
الوجه الثالث: ما المراد بالقرض الحسن في هذه الآية؟ هل المراد به السلف المسترد، أو أن المراد به مطلق الإنفاق؟ وبتحرير هذا يتبين التوجيه، والفخر – رحمه الله - لم يحرر المراد بالقرض هنا.
وعليه؛ فالذي يظهر - والله أعلم - هو أن الألف واللام للجنس، ويبقى السؤال: ما التوجيه إذًا لهذا العدول في التعبير؟
والجواب - والله أعلم -: هو أن المراد بالقرض في الآية هو مطلق النفقة، وليس المراد به خصوص مسمى القرض، الذي هو السلف؛ لأنه قرضٌ أضيف إلى الكريم، وإنما سمي قرضًا؛ ليبين أن العبد مجازى عليه، وإذا كان الأمر على ذلك، فإن معنى الآية يكون كما يلي:
1- على قراءة التشديد في {المصَّدقين والمصدقات}، فالمعنى: إن المتصدقين بأموالهم والمتصدقات إذا فعلوا ذلك؛ ابتغاء وجه الله، ورغبة في الجزاء المضاعف من الكريم، فإنه يضاعف لهم، فقوله: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} كالجملة المعترضة بين الاسم وخبره، فهي قيد في المتصدقين والمتصدقات، أنه إذا كان صنيعهم هذا نفقة في سبيل الله، فإنه يضاعف لهم، وهذا هو السر في العدول عن اسم الفاعل، فلم يقل: والمقرضين الله؛ لأنه لو قال ذلك لكان كأنه صنف آخر من المنفقين غير المتصدقين.
2- أما على قراءة التخفيف، فإن المراد بـ{المصَدقين والمصدقات}: هم المؤمنون والمؤمنات، وعطف بالفعل ولم يعطف باسم الفاعل؛ لأنه أراد مجموع الأمرين - الإيمان، والنفقة في سبيله - حتى تحصل المضاعفة من الكريم، ولو عطف باسم الفاعل لأوهم أنهما صنفان يحصل لهما التضعيف، وقد علمت أن غرض السورة الأساس هو تحقيق الدعوة إلى هذين الأمرين: الإيمان والإنفاق، والله أعلم.
قال ابن جرير - رحمه الله -: "فتأويل الكلام إذًا على قراءة مَن قرأ ذلك بالتشديد في الحرفين - أعني في الصاد والدال -: أن المتصدِّقين من أموالهم والمتصدِّقات، {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}؛ يعني: بالنفقة في سبيله، وفيما أمر بالنفقة فيه، أو فيما ندب إليه"[4].
وقال ابن كثير - رحمه الله -: "يخبر - تعالى - عما يثيب به المُصَّدقين والمُصَّدقات بأموالهم على أهل الحاجة والفقر والمسكنة، {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}؛ أي: دفعوه بنية خالصة ابتغاء وجه الله، لا يريدون جزاء ممن أعطوه ولا شكورًا"[5].
المؤكد الثالث: أنه سمى النفقة في سبيل الله قرضًا، ومعلومٌ أن القرض سبيله الرد، والمعنى: أنك لا بد مجازى على هذه النفقة.
المؤكد الرابع: أنه أضاف هذا القرض إلى الله، والله هو أهل الوفاء، وأهل الثناء والمجد، وفي هذا من تعظيم هذه النفقة ما هو ظاهر.
المؤكد الخامس: أنه نكَّر القرض؛ ليدل على الإطلاق، فإن النكرة في سياق الإثبات تدل على الإطلاق، فلا يتقيد بنوع معين من النفقة؛ بل كل ما جادت به نفس الإنسان فهو مقبول عند الكريم - سبحانه.
المؤكد السادس: أنه زاد - سبحانه - في الوفاء على رد القرض بالمضاعفة، وهو أمرٌ غير معهود في شأن القرض، والزيادة هي الأجر الكريم، فما ظنك بها من الكريم الوهاب؟!
ثم إنه: لما ذكر فضل المتصدقين، وكان من المؤمنين من لا مال له ليتصدق منه، أعقب ذكر المتصدقين ببيان فضل المؤمنين مطلقًا، وهو شامل لمن يستطيع أن يتصدق ومن لا يستطيع، على نحو التذكير المتقدم آنفًا في قوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].
وفي الحديث: "إن قومًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدُّثور بالأجور، يصلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، ولا أموال لنا"، فقال: ((أَوَليس قد جعل الله لكم ما تصدَّقون به، إن لكم في كل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة))"[6].
قال ابن القيم - رحمه الله -: "فأما مراتب الكمال فأربع: النبوة، والصِّديقيَّة، والشهادة، والولاية، وقد ذكرها الله - سبحانه - في قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}" [النساء: 69، 70].
وذكر - تعالى - هؤلاء الأربع في سورة الحديد، فذكر - تعالى - الإيمان به وبرسوله، ثم ندب المؤمنين إلى أن تخشع قلوبهم لكتابه ووحيه، ثم ذكر مراتب الخلائق، شَقِيِّهم وسعيدهم، فقال: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحديد: 18، 19]، وذكر المنافقين قبل ذلك، فاستوعبت هذه الآية أقسامَ العباد شقيهم وسعيدهم.
والمقصود: أنه ذكر فيها المراتب الأربع: الرسالة، والصِّديقيَّة، والشهادة، والولاية، فأعلى هذه المراتبِ النبوةُ والرسالة، ويليها الصِّديقيَّةُ؛ فالصِّديقون هم أئمة أتباع الرسل، ودرجتهم أعلى الدرجات بعد النبوة، فإن جرى قلم العالم بالصِّديقيَّة، وسال مداده بها، كان أفضل من دم الشهيد الذي لم يلحقه في رتبة الصِّديقيَّة، وإن سال دم الشهيد بالصِّديقيَّة، وقطر عليها، كان أفضل من مداد العالم الذي قصر عنها، فأفضلُهما صدِّيقُهما، فإن استويا في الصِّديقيَّة، استويا في المرتبة، والله أعلم.
والصِّديقيَّة: هي كمال الإيمان بما جاء به الرسول علمًا، وتصديقًا، وقيامًا، فهي راجعة إلى نفس العلم، فكل مَن كان أعلم بما جاء به الرسول، وأكمل تصديقًا له، كان أتم صدِّيقيَّة، فالصِّديقيَّة شجرة أصولها العلم، وفروعها التصديق، وثمرتها العمل[7].
والحقيقة أن الآيات في هذا التتابع الفريد، إنما تقطع العوائق التي تعوق النفس المؤمنة عن طلب الإيمان، وعن بذل الإنفاق، وكأنها إلى هذا الحد الذي وصلنا إليه قد نفَّرت هذه النفس عن خلق الكافرين والمنافقين، ولكن قد بقي أن هذه النفس لها عوائق دنيوية تجذبها إليها، فتعوقها عن تحقيق الكمال في الإيمان والإنفاق، فكان المقطع السادس يعالج ذلك.
يتبع ..
--------------------
[1] انظر: "التفسير الكبير" 29/ 202.
[2] "إتحاف فضلاء البشر" ص 534، وانظر: "التيسير" ص 208، و"السبعة في القراءات" ص 626، وانظر في توجيه القراءات: "الحجة في القراءات السبع" ص 342، "حجة القراءات"؛ لابن زنجلة ص 701.
[3] "التفسير الكبير" 29/ 201.
[4] "جامع البيان" 22/ 412.
[5] "تفسير ابن كثير" 8/ 22.
[6] "التحرير والتنوير" 27/ 396، والحديث أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة، برقم: (6329)، ومسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، برقم: (595).
[7] "مفتاح دار السعادة" 1/ 298، 299.
فهد الشتوي
مـــ مآجده ـلآك الروح
وهو آيتان أيضًا، قول الله - تعالى -: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحديد: 18، 19].
وهاتان الآيتان هما غرض السورة السابقِ ذِكرُه، وكأنه أُعيد تأكيدًا لأهميته، والذي يظهر أن وراء التأكيد تأسيسًا مهمًّا؛ وذلك أن الأمر بالإيمان والإنفاق ذُكر في أول السورة، ثم ورد التعقيب عليه ببيان حال الصنف المخالف، صنف المنافقين، الذين يُظهِرون تمسُّكَهم بهذين الأمرين، وهم منهما براء، وكل ذلك - كما أسلفنا - تأكيد لأهمية الإيمان والإنفاق، أما هنا فهو يبين حال المؤمنين المتصدقين، ولكنه يظهر حالهم أمام صنفٍ آخرَ خاسرٍ، هو صنف الكافرين[1]، وكأن الشأن قد اتضح، فهو إما إيمان وإنفاق، وإما كفر ونفاق.
وقد ورد هنا قراءتان في قوله – تعالى -: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ}، فقد قرأ "ابن كثير وأبو بكر بتخفيف الصاد فيهما، من التصديق؛ أي: صدَّقوا الرسول؛ أي: آمنوا بما جاء به، ووافقهما ابن محيصن، والباقون بالتشديد فيهما، من تصدَّق؛ أعني: الصدقة، والأصل المتصدقين والمتصدقات، أدغم التاء في الصاد"[2].
والقراءتان بمنزلة آيتين، وهذا التوجيه المذكور آنفًا توجيهٌ سليم لا غبار عليه، ولكن يَرِد هنا سؤال مهم جدًّا، وهو: لماذا وردت هاتان القراءتان في هذا الموضع؟
والجواب على هذا السؤال، يتعدى مرحلة التوجيه لكل قراءة بمفردها ببيان وجهها من العربية، إلى وجه آخر أعمق، وهو الوجه الذي يبينه السياق، وأظنه القمة في توجيه القراءات؛ لأنه خطوة تتبع الخطوة السابقة، وهي الخطوة الثمرة.
وهنا فإننا إذا تأملنا في سياق سورة الحديد الذي قررناه، فإننا نجد أن القراءتين تتوافقان مع هذا السياق؛ بل قل - وبكلام أدق -: إنهما تُحددان السياق، فهما دليل ومدلول عليه.
ووجه ذلك: أن القراءتين تفيدان معنيين، فإحداهما تفيد المدح، والحث على الإيمان، وهي قراءة التخفيف، وهذا غرض الإيمان المعروف.
وأما القراءة الثانية، وهي قراءة التشديد، فإنها تفيد المدح والثناء للمتصدقين المنفقين، وهذا هو غرض الإنفاق المعروف.
وهذه الآية على وَجازتها فيها الحثُّ على النفقة بمؤكدات عديدة، كلها يبين عظمة القرآن، وتمام بلاغته وبيانه:
المؤكد الأول: التأكيد بحرف التوكيد (إن) في تقرير فضل المتصدقين والمتصدقات.
المؤكد الثاني: العطف بالفعل الماضي على اسم الفاعل: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}.
قال الرازي - رحمه الله -: في الآية إشكال، وهو أن عطف الفعل على الاسم قبيح، فما الفائدة في التزامه ها هنا؟ قال صاحب "الكشاف": قوله {وَأَقْرَضُوا} معطوف على معنى الفعل في {الْمُصَّدِّقِينَ}؛ لأن اللام بمعنى الذين، واسم الفاعل بمعنى صدقوا، كأنه قيل: إن الذين صدقوا وأقرضوا، واعلم أن هذا لا يزيل الإشكال، فإنه ليس فيه بيان أنه لِمَ عدل عن ذلك اللفظ إلى هذا اللفظ؟ والذي عندي فيه أن الألف واللام في المصدقين والمصدقات للمعهود، فكأنه ذكر جماعة معينين بهذا الوصف، ثم قبل ذكر الخبر أخبر عنهم بأنهم أتوا بأحسن أنواع الصدقة، وهو الإتيان بالقرض الحسن، ثم ذكر الخبر بعد ذلك وهو قوله {يُضَاعَفُ لَهُمْ} [3].
والذي يظهر - والله أعلم - هو أن كلام الفخر لا يستقيم؛ لثلاثة أوجه:
الوجه الأول: هو أن الألف واللام في "المصدقين والمصدقات" لا تكون لمعهود، إلا بدليل نقلي، ولم يذكر الفخر دليلاً نقليًّا على ذلك.
الوجه الثاني: هل يقال: إن القرض هو أحسن أنواع الصدقة؟ فإن القرض مال مسترد، والصدقة مال ذاهب نافق، وفرق بينهما.
الوجه الثالث: ما المراد بالقرض الحسن في هذه الآية؟ هل المراد به السلف المسترد، أو أن المراد به مطلق الإنفاق؟ وبتحرير هذا يتبين التوجيه، والفخر – رحمه الله - لم يحرر المراد بالقرض هنا.
وعليه؛ فالذي يظهر - والله أعلم - هو أن الألف واللام للجنس، ويبقى السؤال: ما التوجيه إذًا لهذا العدول في التعبير؟
والجواب - والله أعلم -: هو أن المراد بالقرض في الآية هو مطلق النفقة، وليس المراد به خصوص مسمى القرض، الذي هو السلف؛ لأنه قرضٌ أضيف إلى الكريم، وإنما سمي قرضًا؛ ليبين أن العبد مجازى عليه، وإذا كان الأمر على ذلك، فإن معنى الآية يكون كما يلي:
1- على قراءة التشديد في {المصَّدقين والمصدقات}، فالمعنى: إن المتصدقين بأموالهم والمتصدقات إذا فعلوا ذلك؛ ابتغاء وجه الله، ورغبة في الجزاء المضاعف من الكريم، فإنه يضاعف لهم، فقوله: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} كالجملة المعترضة بين الاسم وخبره، فهي قيد في المتصدقين والمتصدقات، أنه إذا كان صنيعهم هذا نفقة في سبيل الله، فإنه يضاعف لهم، وهذا هو السر في العدول عن اسم الفاعل، فلم يقل: والمقرضين الله؛ لأنه لو قال ذلك لكان كأنه صنف آخر من المنفقين غير المتصدقين.
2- أما على قراءة التخفيف، فإن المراد بـ{المصَدقين والمصدقات}: هم المؤمنون والمؤمنات، وعطف بالفعل ولم يعطف باسم الفاعل؛ لأنه أراد مجموع الأمرين - الإيمان، والنفقة في سبيله - حتى تحصل المضاعفة من الكريم، ولو عطف باسم الفاعل لأوهم أنهما صنفان يحصل لهما التضعيف، وقد علمت أن غرض السورة الأساس هو تحقيق الدعوة إلى هذين الأمرين: الإيمان والإنفاق، والله أعلم.
قال ابن جرير - رحمه الله -: "فتأويل الكلام إذًا على قراءة مَن قرأ ذلك بالتشديد في الحرفين - أعني في الصاد والدال -: أن المتصدِّقين من أموالهم والمتصدِّقات، {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}؛ يعني: بالنفقة في سبيله، وفيما أمر بالنفقة فيه، أو فيما ندب إليه"[4].
وقال ابن كثير - رحمه الله -: "يخبر - تعالى - عما يثيب به المُصَّدقين والمُصَّدقات بأموالهم على أهل الحاجة والفقر والمسكنة، {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}؛ أي: دفعوه بنية خالصة ابتغاء وجه الله، لا يريدون جزاء ممن أعطوه ولا شكورًا"[5].
المؤكد الثالث: أنه سمى النفقة في سبيل الله قرضًا، ومعلومٌ أن القرض سبيله الرد، والمعنى: أنك لا بد مجازى على هذه النفقة.
المؤكد الرابع: أنه أضاف هذا القرض إلى الله، والله هو أهل الوفاء، وأهل الثناء والمجد، وفي هذا من تعظيم هذه النفقة ما هو ظاهر.
المؤكد الخامس: أنه نكَّر القرض؛ ليدل على الإطلاق، فإن النكرة في سياق الإثبات تدل على الإطلاق، فلا يتقيد بنوع معين من النفقة؛ بل كل ما جادت به نفس الإنسان فهو مقبول عند الكريم - سبحانه.
المؤكد السادس: أنه زاد - سبحانه - في الوفاء على رد القرض بالمضاعفة، وهو أمرٌ غير معهود في شأن القرض، والزيادة هي الأجر الكريم، فما ظنك بها من الكريم الوهاب؟!
ثم إنه: لما ذكر فضل المتصدقين، وكان من المؤمنين من لا مال له ليتصدق منه، أعقب ذكر المتصدقين ببيان فضل المؤمنين مطلقًا، وهو شامل لمن يستطيع أن يتصدق ومن لا يستطيع، على نحو التذكير المتقدم آنفًا في قوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].
وفي الحديث: "إن قومًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدُّثور بالأجور، يصلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، ولا أموال لنا"، فقال: ((أَوَليس قد جعل الله لكم ما تصدَّقون به، إن لكم في كل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة))"[6].
قال ابن القيم - رحمه الله -: "فأما مراتب الكمال فأربع: النبوة، والصِّديقيَّة، والشهادة، والولاية، وقد ذكرها الله - سبحانه - في قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}" [النساء: 69، 70].
وذكر - تعالى - هؤلاء الأربع في سورة الحديد، فذكر - تعالى - الإيمان به وبرسوله، ثم ندب المؤمنين إلى أن تخشع قلوبهم لكتابه ووحيه، ثم ذكر مراتب الخلائق، شَقِيِّهم وسعيدهم، فقال: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحديد: 18، 19]، وذكر المنافقين قبل ذلك، فاستوعبت هذه الآية أقسامَ العباد شقيهم وسعيدهم.
والمقصود: أنه ذكر فيها المراتب الأربع: الرسالة، والصِّديقيَّة، والشهادة، والولاية، فأعلى هذه المراتبِ النبوةُ والرسالة، ويليها الصِّديقيَّةُ؛ فالصِّديقون هم أئمة أتباع الرسل، ودرجتهم أعلى الدرجات بعد النبوة، فإن جرى قلم العالم بالصِّديقيَّة، وسال مداده بها، كان أفضل من دم الشهيد الذي لم يلحقه في رتبة الصِّديقيَّة، وإن سال دم الشهيد بالصِّديقيَّة، وقطر عليها، كان أفضل من مداد العالم الذي قصر عنها، فأفضلُهما صدِّيقُهما، فإن استويا في الصِّديقيَّة، استويا في المرتبة، والله أعلم.
والصِّديقيَّة: هي كمال الإيمان بما جاء به الرسول علمًا، وتصديقًا، وقيامًا، فهي راجعة إلى نفس العلم، فكل مَن كان أعلم بما جاء به الرسول، وأكمل تصديقًا له، كان أتم صدِّيقيَّة، فالصِّديقيَّة شجرة أصولها العلم، وفروعها التصديق، وثمرتها العمل[7].
والحقيقة أن الآيات في هذا التتابع الفريد، إنما تقطع العوائق التي تعوق النفس المؤمنة عن طلب الإيمان، وعن بذل الإنفاق، وكأنها إلى هذا الحد الذي وصلنا إليه قد نفَّرت هذه النفس عن خلق الكافرين والمنافقين، ولكن قد بقي أن هذه النفس لها عوائق دنيوية تجذبها إليها، فتعوقها عن تحقيق الكمال في الإيمان والإنفاق، فكان المقطع السادس يعالج ذلك.
يتبع ..
--------------------
[1] انظر: "التفسير الكبير" 29/ 202.
[2] "إتحاف فضلاء البشر" ص 534، وانظر: "التيسير" ص 208، و"السبعة في القراءات" ص 626، وانظر في توجيه القراءات: "الحجة في القراءات السبع" ص 342، "حجة القراءات"؛ لابن زنجلة ص 701.
[3] "التفسير الكبير" 29/ 201.
[4] "جامع البيان" 22/ 412.
[5] "تفسير ابن كثير" 8/ 22.
[6] "التحرير والتنوير" 27/ 396، والحديث أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة، برقم: (6329)، ومسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، برقم: (595).
[7] "مفتاح دار السعادة" 1/ 298، 299.
فهد الشتوي
مـــ مآجده ـلآك الروح