إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]. أمَّا بعد: فالدَّيْنُ أمرُه عظيمٌ؛ لتعلُّق حق الغير بذمة المدين، ولو لم يَرِدْ في ذلك إلا قولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يُغفَر للشهيد كلُّ ذنب؛ إلا الدَّين))؛ رواه مسلم (1886) - لكفى ذلك زاجرًا عن إشغال الذمة من غير حاجة، فمِن الخطأ الاستدانة لبعض الكماليات، أو للبحث عن الثراء، وربما حصل للمستدين نقيض قصده. ومهما يكن المدين على دِين وخُلق، فقد تُلجئه الحاجةُ، وعدم القدرة على السداد، إلى الكذب في الحديث، والخلف في الوعد؛ فعن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في الصلاة: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم))، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم! فقال: ((إن الرجل إذا غرِم، حدَّث فكذَب، ووعد فأخلف))؛ رواه البخاري (833). هذا مع ما يلحق المدين من استطالة الدائن عليه، وإهانته وتجريحه بالكلام. لكن من احتاج لأمرٍ لا بد له منه، من مطعم وملبس، ومركب ومسكن، فيجوز له من غير كراهة؛ فالنبي مات مدينًا، وبعض صالحي الأمة من الصحابة ومَن بعدهم مات مدينًا. ومن استدان وفي نيته الردُّ، فقد تكفل الله بقضاء هذا الدَّين في الدنيا أو الآخرة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدَّى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها، أتلفه الله))؛ رواه البخاري (2387). فالواجب على المدين أن يقضي الدائنَ حقَّه في وقته، ويحرم عليه تأخير القضاء من غير عذر، فمَطلُه والحالة هذه من الظلم المحرَّم، الذي يستحق عليه العقوبة الدنيوية والأخروية؛ فعن أبي هريرة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَطْل الغني ظلم))؛ رواه البخاري (2288)، ومسلم (1564). لكن إذا ثبت عند الدائن إعسار المدين، وأنه لا يجد ما يقضي به الدين، وجب عليه إنظاره، ويحرم عليه مطالبته بالدين والتسبب في سجنه؛ لأمر الله بإنظاره حتى يوسر؛ {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]. ويُستحب للدائن أن يضع من الدَّين، إذا كان المدين فقيرًا، فيُحسِن كما أحسن اللهُ إليه، ويُسَن للمسلمين أن يسعَوْا في التخفيف من الديون التي على الفقراء؛ فعن كعب بن مالك: أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا كان له عليه، في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فارتفعتْ أصواتُهما، حتى سمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كشف سجف حجرته، ونادى كعبَ بن مالك، فقال: ((يا كعب))، فقال: لبيك يا رسول الله، فأشار إليه بيده أنْ ضعِ الشطر من دَينك، قال كعب: قد فعلتُ يا رسول الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قم فاقضه))؛ رواه البخاري (457)، ومسلم (1558). بعض الناس يكون له دين مؤجَّل، فيطلب الدائن أو المدين تعجيل الدين قبل أوانه، مقابل إسقاط بعض الدين، فينتفع الدائنُ بتعجيل حقه، والمدينُ ببراءة ذمته، كحال بعض البنوك، وليس في ذلك محذور الربا؛ بل هذه المعاملة عكس الربا، وقد أفتى بجوازها حبرُ الأمة ابن عباس، فقد سئل ابن عباس "عن الرجل يكون له الحق على الرجل إلى أجل، فيقول: عجِّل لي، وأضع عنك، فقال: لا بأس بذلك"؛ رواه عبد الرزاق (14360) بإسناد صحيح. يجوز للمدين - سواء كان الدين بسبب بيع، أم بسبب قرض حسن - أن يردَّ - حين القضاء، أو بعده - أكثرَ أو أفضلَ من الدين الذي في ذمته، إذا كان هذا إحسانًا منه، واعترافًا بالجميل، من غير شرط؛ فعن أبي رافع - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بَكْرًا، فقدمتْ عليه إبلٌ من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع - رضي الله عنه - أن يقضي الرجل بَكْرَهُ، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خِيَارًا رَبَاعِيًّا، فقال: ((أعطه إياه، إنَّ خيار الناس أحسنُهم قضاء))؛ رواه مسلم (1600)، فردَّ النبي سنًّا أفضل من السن التي اقترضها. لكن قبل الوفاء يحرم على المقرض قبولُ هدية المقترض؛ لأنَّ المقصود بالهدية أن يؤخَّر الاقتضاء، وإن كان لم يشرط ذلك ولم يتكلَّم به، فيصير بمنزلة أن يأخذ مثلاً الألف، بهدية ناجزة وألف مؤخرة، وهذا ربا؛ فعن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، قال: أتيت المدينة فلقيت عبدالله بن سلام - رضي الله عنه – فقال: ألا تجيء فأطعمَك سويقًا وتمرًا، ثم قال: إنَّك بأرضٍ الربا بها فاشٍ، إذا كان لك على رجل حق، فأهدى إليك حِمْل تِبْنٍ، أو حمل شعير، أو حمل قَتٍّ - فلا تأخذه؛ فإنَّه ربا))؛ رواه البخاري (3814). لكن إن كانت الهدية ليست بسبب القرض؛ لقرابة بينهما مثلاً، أو كان التهادي بينهما قبل القرض - فهي جائزة. يجوز أن يأخذ المدين الزكاةَ لقضاء دينه، إذا كان الدين حالاًّ، وليس عنده مال زائد عن حاجته يقضي به الدين، فهو من الغارمين، فتتناوله الآية، ولا يُطالَب ببيع ما يحتاجه من بيت، وسيارة، ونحو ذلك لقضاء الدين، أما إذا كان الدين مؤجَّلاً، وحينما يحل الأجل يجد ما يسدِّد به الدين، فلا يجوز أن يأخذ من الزكاة، كحال أكثر ديون الناس التي تسدد عن طريق الأقساط الشهرية، فإذا كان آخر الشهر حل قسط، يسدده المدين من الراتب، ويبقى للمدين ما يكفيه حتى الشهر الآخر، وهكذا. ولا يجوز للدائن إذا كان له دين على فقير، أن يسقط هذا الدين ويحسبه من الزكاة؛ قال الشيخ محمد العثيمين في "مجموع الفتاوى" (17/382): لو كان عند الإنسان مال موجود في يده، وفي هذا المال ألف ريال زكاة المال، وله على فقير دين بمقدار ألف ريال، فقال: أريد أن أسقط هذا الدين عن الفقير، وهو ألف ريال عن الزكاة التي عليَّ، نقول: هذا لا يجوز، ولا تبرأ به الذمة... دليل هذه المسألة من قول الله - تعالى -: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267]، فإن الدين بالنسبة للعين خبيث، والخبيث في الآية المراد به الرديء، فلا يجوز للإنسان أن يسقط الدين ويحتسبه من الزكاة التي عليه. اهـ. بعض الناس يتعامل بالبيع بالتقسيط، فيأخذ من مدين، ويشتري سلعة، ويقسطها على شخص آخر، وهكذا، فحولُ هذه الأقساط ليس من بيعه على الأخير، إنما حولها يبدأ من حول المدين الأول الذي أخذتْ منه. الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: فالأموال التي في ذمم الناس من ديون وغيرها نوعان: النوع الأول: ما لا قدرة لصاحبه عليه؛ لكون المدين معسرًا، أو كان غنيًّا لكنه مماطل، يعد ولا يفي، أو يقضي قسطًا ويترك أقساطًا لا يقضيها، فلا تجب الزكاة في هذا المال، فالزكاة شرعت في الأموال النامية المقدور عليها، وهذا الدين غير مقدور عليه، ولا هو نامٍ، وأيضًا يجب إنظار المعسر وإمهاله إلى ميسرة، وإيجاب الزكاة على الدائن في هذه الحالة يخالف هذا المقصود، ويدفع الدائنَ ليضيق على المعسر، ولو أنَّ إنسانًا ليس له مال إلا هذه الديون التي يتعذر أخذها، لم يعدَّه الناس غنيًّا؛ لأنَّ الغني هو الذي استغنى بماله عن الناس، ولجاز له الأخذ من الزكاة؛ لكن إذا قبض الدائن الدين، وحال عليه الحول، ففيه الزكاة. النوع الثاني: المال الذي يتمكَّن صاحبُه من قبضه إذا طلبه، أو حان أجله؛ لغنى من هو عليه وبذله - ففيه الزكاة، فهو في حكم الموجود بيد مالكه؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنه – قال: "كل دين لك ترجو أخذه، فإنَّ عليك زكاته كلما حال الحول"؛ رواه أبو عبيد في "الأموال" (1214) بإسناد صحيح. فعلى هذا؛ من كان له دين على أقساط لعدة سنوات، وكان المدين منتظمًا في السداد، يجب على الدائن أن يحصي ما تبقى من الأقساط، ويخرج زكاتها كلها لكل عام. والدين يمنع الزكاة، فإذا كان الشخص يملك نصابًا وعليه دين يستغرق المال كله، أو ينقص النصاب - فلا زكاة عليه، سواء كان الدين حالاًّ أو مؤجلاً؛ فالدين على الراجح من أقوال أهل العلم يمنع الزكاة في الأموال الظاهرة، وهي: بهيمة الأنعام، والخارج من الأرض، وفي الأموال الباطنة، وهي: الذهب والفضة، والأوراق النقدية، وعروض التجارة؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - حين بعثه إلى اليمن: ((أخبرهم أنَّ الله قد فرض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فتُرَدُّ على فقرائهم))؛ رواه البخاري (1496)، ومسلم (19). والمدين ليس غنيًّا؛ فلا تجب عليه الزكاة، وكان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يقول: "هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين، فليؤدِّ دينه؛ حتى تحصل أموالكم، فتؤدون منها الزكاة"؛ رواه الإمام مالك (1/253) بإسناد صحيح. فعثمان - رضي الله عنه - يصرح بحضور الصحابة - رضي الله عنهم - أنَّه لا زكاة في المال المقابل للدين، فكذلك لا زكاة في المال كله إذا استغرقه الدين. والزكاة تجب على الدائن على التفصيل السابق، فإذا أوجبناها على المدين أيضًا، نكون أوجبنا الزكاة في مال واحد مرتين؛ لأننا أوجبناها على الدائن والمدين، وهذا لا نظير له في الزكاة، والقول بأنَّ الدين يمنع الزكاة في المال الظاهر والباطن مذهب الإمام أبي حنيفة، وقول للإمام الشافعي، ورواية في مذهب الحنابلة[1]. فعلى القول الراجح أن الدين يمنع الزكاة، فمن عليه دين له أحوال ثلاثة: الأولى: أن يكون الدين أكثر من المال الذي عنده، فلا زكاة عليه؛ كرجل عنده عشرة آلاف ريال، ومدين بعشرين ألف ريال. الثانية: أن يكون الدين مساويًا للمال الذي عنده، فلا زكاة عليه؛ كرجل عنده عشرة آلاف ريال، ومدين بعشرة آلاف ريال. الثالثة: أن يكون الدين أقل من المال الذي عنده، فيخرج ما زاد على الدين إذا بلغ نصابًا؛ كرجل عنده عشرة آلاف ريال، ومدين بخمسة آلاف ريال، فيخرج زكاة خمسة آلاف. ـــــــــــــــــــــ [1] "بدائع الصنائع" (2/6)، و"العزيز شرح الوجيز" (2/547)، و"المغني" (2/545). [size=21]الشيخ أحمد الزومان مآآآآجى |
3 مشترك
أحكام الدَّين!!!
مـــ ماجده ـلاك الروح- الإداري المتميز
- الجنس :
مشاركات : 7979
البلد : المنصورة مصر
نقاط التميز : 17096
السٌّمعَة : 22
- مساهمة رقم 1
أحكام الدَّين!!!
شمس النصر- درع التميز
- الجنس :
مشاركات : 776
العمر : 35
نقاط التميز : 6427
السٌّمعَة : 15
- مساهمة رقم 2
رد: أحكام الدَّين!!!
مـــ ماجده ـلاك الروح- الإداري المتميز
- الجنس :
مشاركات : 7979
البلد : المنصورة مصر
نقاط التميز : 17096
السٌّمعَة : 22
- مساهمة رقم 3
رد: أحكام الدَّين!!!
شكرررررررررررررررررالك شموسة
مدير عام- الجنس :
مشاركات : 6872
البلد : Morocco
نقاط التميز : 8209
السٌّمعَة : 3
- مساهمة رقم 4
رد: أحكام الدَّين!!!
جزاك الله خيرا
مـــ ماجده ـلاك الروح- الإداري المتميز
- الجنس :
مشاركات : 7979
البلد : المنصورة مصر
نقاط التميز : 17096
السٌّمعَة : 22
- مساهمة رقم 5
رد: أحكام الدَّين!!!
شكرررررررررررررررررررررررررررررررا