مراحل تأثير الشّيطان على النفس الإنسانية
سعيد الأعرجي
إن التأثير الشّيطاني يمر على النفس الإنسانية بعدّة مراحل قسمها بعض العلماء إلى ست مراحل، كلما تتحقق مرحلة يطمع الشّيطان في التي تليها، وفائدة معرفة هذه المراحل تكمن في إطلاع القارئ الكريم على عدوه بشكل سافر ومباشر حتّى يتجنب شرورهُ وآثامه ويعرف نفسه بأيّة رتبة أو بأيّة مرحلة من هذه الرّتب أو المراحل.
المرحلة الأولى: الوسوسة
وهي رتبة الوسوسة وعرض الضلالة، وقد تحدثت عن هذه الرّتبة آيات كثيرة في القرآن الكريم منها قوله تعالى: (فوسوس إليه الشّيطان قال يا آدمُ هل أدُلُّكَ على شجرةِ الخلْدِ ومُلْكٍ لا يبلى) [طه: 20/ 120].
وقال تعالى: (فوسوس لهما الشّيطان ليُبدي لَهُما ما وُري عنهما من سوءاتهما....) [الأعراف: 7/ 20].
وقال تعالى: (من شر الوسواس الخناس* الّذي يوسوس في صدور النّاس) [النّاس: 114/ 4- 5].
في البدء يعرض الشّيطان بضاعته عرضاً خفيفاً ليناً لطيفاً مؤدباً سائغاً، يقول للجميع اعملوا هذا، افعلوا هكذا، اتركوا هذا الشّيء لا تقتربوا من هذا المطلب وهكذا يطلب منهم فعل أشياء أو ينهاهم عن فعل أشياء أخرى، كلّ ذلك بأن يعرض لهم بعض الصّور الخيالية عرضاً سلساً، يورد الإنسان بعض الأوهام بمقدار مساحة عمله (وهي مساحة الهم والخيال) ليس إلا، قوة تأثيره فقط في مجال العرض على قوة الوهم والخيال حيث يحتل جانباً من النفس الإنسانية حيث ان القوى العقلية المجردة (العقل) خارجة عن تخصص الشّيطان ولا يستطيع أن يسيطر عليها في حين ان الشيطان مخلوق مثالي وعالمه عالم برزخي لا يقوى في الوصول إلى رتبة التجرد العقلي التي لدى الإنسان، فالوسوسة مجرد عرض، إذا انبسط الإنسان واستجاب لهذا العرض ولانَ وما تباعد عن الإستجابة إذا ارتخى واقتنع ولو بدرجة من درجات القناعة، إذا تحقق هذا التململ أو هذا الإنبساط يكون بذلك قد استجاب وتحققت الرّتبة الأولى عنده وانتقل في استجابته إلى رتبة أخرى اشد وأكثر خطراً وهي الرتبة أو المرحلة الثانية.
المرحلة الثانية (النزغ)
والنزغ لغةً الإغراء، نزغ: اي أغرى وأفسد وحمل بعضهم على بعض، النزغُ: الكلام الّذي يُغري بين الناس، ونَزَغَ الشيطان بينهم يَنْزَغُ ويَنْزغُ نَزْغاً أي أفسد ويفسد فساداً.
قال تعالى: (وإما يَنزغنَّكَ من الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إنّه سميع عليم) [الأعراف: 7/ 200].
والنزغ شبه الوخز والطّعن، طعنه بيد أو برمح وقد ذكر القرآن الكريم في العديد من الآيات المباركة هذه المرحلة، منها قوله تعالى: (.... من بعد ان نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي...) [يوسف 12/ 100].
وقال تعالى: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسنُ أنَّ الشيطانَ ينَزغُ بينهم أنَّ الشيطان كان للإنسانِ عدوّا مبيناً) [الأسراء: 17/ 53].
وقال تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغٌ فاستعذ بالله إنّهُ هو السميع العليم) [فصلت: 41/ 36].
والنزغ حالة استفزاز الشيطان للإنسان، قال تعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك....) [الأسراء: 17/ 64].
والنزغ أوله وسوسة وآخره مس أي الإصابة والإضرار بالبدن قال تعالى:
(واذكر عبدنا أيوب اذ نادى ربّه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب) [ص: 38/ 41].
والقرآن الكريم لم يتحدث كثيراً عن خلق الشيطان ولم يذكر سوى مطلبين أو أمرين هما أنه كان من الجن وأنه خرج عن طاعة الله سبحانه ولكنه تحدث كثيراً عن أفعاله وتأثيراته وطرقه وهذا هو المهم والمطلوب والذي فيه الفائدة. نجدهُ أحياناً يوسوس وأحياناً يستفز وأخرى ينزغ ثم نراه يهجم بخيله ورجله أي رجاله وعساكره قال تعالى: (... وأجلب عليهم بخيلك ورجلك....) [الأسراء: 17/ 64].
ثم شاركهم في أموالهم وأولادهم (... وشاركهم في الأموال والأولاد.....) [الأسراء: 17/ 64].
أما كيفية مشاركته في أموال الناس وأولادهم فهي أن يدعهم يأكلونها بالباطل يأخذونها من غير حلٍ ظلماً وغصباً وعدواناً، وكذلك يشاركهم في أولادهم! ينشأون من تلك الأموال الباطلة يتغذون على السّحت وهو المال الحرام بل يتعدى الأمر قبل هذا، إبتداء من مهور أمهاتهم من صداق الأزواج اللاتي أتين بهم إلى الحياة الدّنيا ومروراً بانعقاد النطفة من المال الحرام.
الشيطان يستفز من يستطيع استفزازه، يمر بقوم جالسين فيصرخ بهم يستنهضهم إلى إرتكاب المعاصي، يطلب منهم الخفّة والسّرعة، ويطلب منهم طاعته بهذه الطّريقة.
الإستعاذة:
لذا ينبغي لنا إذا أصابنا النزغ أن نستعيذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم قال تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغٌ فاستعذ بالله إنّه هو السّميع العليم) [فصلت: 41/ 36].
فما معنى الإستعاذة؟
الإستعاذة جاءت من العوذ والعياذ (بكسر العين) والمعاذ والإستعاذة طلب العوذ والتوكل على الله والتوكل صدق العبودية لله تعالى والإستعاذة بمعنى الإلتجاء أي فالتجىء بالله من نزغ الشيطان أنه السميع لمسألتك العليم بحالك ويشترط في الإستعاذة أمران هما:-
الأمر الأول: الفورية، أي عدم التباطؤ والتراخي، لأنه بمجرد أن يتراخى الإنسان من الإستعاذة سوف يُنسيه الشيطان ما ارتكب من الذنوب وهكذا تتراكم عليه الخطايا والذنوب وبالتالي يصعب عليه التخلص منها.
الأمر الثاني: أن تكون الإستعاذة عملية وليست لفظية فقط، ينبغي أن تكون الإستعاذة قولاً وعملاً، فإذا كانت لفظاً مجرداً عن العمل، اللسان يتعوذ والقلب مصرُّ على الذنب ومستمر في ارتكابه، معنى ذلك ان تلك الإستعاذة لم تأخذ أثرها ولا فائدة عملية فيها ويكون المذنب باقياً على ذنبه مصراً ومزاولاً له.
المرحلة الثالثة مرحلة تتبع خطوات الشيطان أو تلقي الأوامر الشيطانية:-
وهذه المرحلة تتجسد أو تظهر في العديد من الآيات القرآنية الكريمة، منها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتّبعْ خطوات الشيطان فأنه يأمُرُ بالفحشاء والمنكر....) [النور: 24/ 21].
وقوله تعالى: (الشيطان يَعِدُكُمْ الفَقْرَ ويأْمرُكُم بالفحشاء....) [البقرة: 2/ 268].
وقوله تعالى: (ولأضِلَّنَهُمْ ولأمنينهُمْ ولأمرنهُم فَلَيبتِكُنَّ آذان الانعامِ ولأمُرنَّهُمْ فَلَيغيرنَّ خَلْق الله....) [النساء: 4/ 119].
يصبح الإنسان في هذه المرحلة أمام الهاوية والهلاك حيث يمتثل لأوامر الشيطان ومعنى ذلك أنّه يحتجب عن طاعة الله عز وجلّ بل يعمل على معصية الله جلّ شأنه فيصبح مأموراً للشيطان، والشيطان هو الآمر بالفحشاء والمنكر، ولكن لا يعني ذلك أن الإنسان الذي بلغ به الشيطان هذه الرّتبة يمتلكه القنوط واليأس وليس كلّ من حلّ في هذه المرحلة أصبح فريسة الشيطان دائماً، وقد انقطع به الطريقِ حيث لا عودة للحق والصواب والخير والمغفرة والفضل الواسع، قال تعالى: (الشيطان يَعدُكُمُ الفَقْرَ ويأمُرُكُمْ بالفحشاء والله يَعِدُكُم مغفرةً مِنهُ وفضلاً والله واسعٌ عليمٌ) [البقرة: 2/ 268].
إذن طريق العودة إلى الله عزّ وجلّ مفتوح، وإنه تعالى شأنه وعد عباده الخاطئين مغفرة منه وفضلاً وهو الرّؤوف الرّحيم بعبادِهِ الذين أضلهم الشيطان وأمرهم بالفحشاء والمنكر. أحياناً يكون الإنسان مأموراً للشيطان وتارة أخرى نفس ذلك الإنسان المأمور للشيطان يتمرد على أوامره ويرفضها ويعود إلى الطريق القويم المستقيم حيث يكون قريباً للصلاح والإصلاح أما إذا استجاب للشيطان في تنفيذ أوامره وانقاد إليه ولم يرفض له أمراً ولم يرد له طلباً، في حينها سوف يتحول ذلك الإنسان- رجلاً كان أو إمرأة- إلى صاحب مَلَكَة فتصبح نفسه نفساً امّارة بالسوء، وهذه أشد إبتلاء من المرحلة التي سبقتها.
المرحلة الرابعة: مرحلة إطاعة الشيطان وتنفيذ اوامره
وهذه المرحلة أشد خطراً من التي سبقتها حيث تكون مهمة الشيطان ناجحة، حيث نجد في هذه المرحلة ان نفس الإنسان أمارة بالسوء، أي تكثر من إطاعة الشيطان وتنفيذ أوامره الصّادرة إلى ذلك البائس التائه المسكين قال تعالى: (وما أبرئُ نفسي إنّ النفس لأمارةٌ بالسوء إلا ما رحم ربي إنّ ربّي غفور رحيم) [يوسف: 12/ 53].
حيث أورد صاحب تفسير مجمع البيان قوله تعالى: (ان النفس لامارةٌ بالسوء....) أي كثرة الأمر بالسوء, والشهوة قد تدعو الإنسان إلى المعصية والألف واللام للجنس فيكون المعنى "ان كلّ النفوس كذلك" ويجوز ان يكون للعهد فيكون المعنى: ان نفسي بهذه الصّفة (إلا ما رحم ربّي) أي إلا من رحمهُ الله تعالى فَعَصمه بأن لطف له فيكون (ما) بمعنى مَنْ أي (إلا من رحم ربّي كقوله (ما طاب لكم). ويجوز ان يكون معناه إلا مدة ما عصم ربّي، ومن قال انه من كلام يوسف قال أنه أراد الدعاء والمنازعة والشهوة ولم يرد العزم على المعصية، أي لا اُبرّي نفسي مما لا تعرى منه طباع البشر وإنما امتنعت عن الفاحشة بحول الله ولطفه وهدايته لا بنفسي، قال الحسن: إنما قال وما اُبرىء نفسي لأنّه كره أن يكون قد زكّى نفسه.
أما صاحب الميزان في تفسير القرآن فيقول: ان يوسف الصّديق قد بادر إلى نفي الحول والقوة عن نفسه ونسبه ما ظهر منه من عمل صالح أو صفة جميلة إلى رحمة ربّه وتسوية نفسه بسائر النفوس التي هي بحسب الطّبع مائلة إلى الأهواء أمارة بالسوء فقال: (ما ابرئ نفسي أن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي كقول شعيب (ع) (... إن أريدُ إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله....) [هود: 11/ 88].
ومن هنا يظهر أن قوله تعالى: (... إلا ما رحم ربّي....) يفيد فائدتين:-
احداهما: تقييد إطلاق قوله: (.... ان النفس لأمارة بالسوء....) يفيد ان اقتراف الحسنات الذي هو برحمة من ألله سبحانه وليس يقع عن إلجاء واجبار من جانبه تعالى.
وثانيهما:- الإشارة إلى تجنبه الخيانة كان برحمة من رّبه.
وخلاصة ما توصلت إليه المباحث الدّقيقة أن النفس الأمارة بالسوء (أية نفس أمارة بالسوء كانت) تمتلك جانبين أو طرفين: الأول إدراكي والثاني تنفيذي، قوة مدركة مخططة والثانية الأخرى منفذة ويحيط بهم من الأعلى الوهم والخيال ومن الأسفل الشهوة والغضب حيث يكون الوهم والخيال في خدمة القوة الأمارة بالسوء ولكن فقط في حدود التخطيط ولفائدة القوة الأمارة بالسوء ولصالحها، والإنسان يدرك الأشياء في الخارج بقوة الخيال على قولين هما:-
1- الصورة تأتي من الخارج وتدخل في ذهن الإنسان، فحين تغيب تلك الصورة عن الخارج (حين تغمض عينيك مثلاً) تبقى في الذهن تتصورها كما كانت عليه في الخارج.
2- ان الخيال بنفسه يخلق صورة، هذه الصّورة تحاكي الصورة الموجودة في الخارج (وهذا هو الصّحيح) فالقوة الخيالية عملها أخذ صور الأشياء الموجودة في الخارج، والعقل دوره إدراك الأشياء الكلية أما الوهم فهو رابط بين المدرك العقلي وبين ما لدى الإنسان من صور خيالية.
المرحلة الخامسة: مرحلة التسلط والسّلطان
وهذه الرّتبة اشد فتكاً بالإنسان من التي سبقتها وأقرب إلى الهلاك والإنصياع التام للشيطان قال تعالى: (فإذا قرأتَ القرآنَ فاستعذ بالله من الشّيطان الرّجيم* إنه ليس له سلطانٌ على الذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكلون* إنما سلطانُهُ على الذين يتولونَهُ والذين هم به مُشرِكُون) [النحل: 16/ 98- 99- 100].
والإستعاذة كما جرى الحديث عنها طلب المعاذ، والمعنى إذا قرأت القرآن فاطلب منه جل شأنه أن يعيذك من الشيطان الرجيم أن يغويك، أي توكل على الله تعالى فأن المتوكل على الله ليس للشيطان سلطان عليه، حيث الإيمان والتوكل صدق العبودية لله تعالى، كقوله تعالى شأنه لا بليس: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ إلا من اتبعكَ من الغاوين) [الحجر: 15/ 42].
نفى سلطانه عن عباده وقد بدّل العباد في هذه الآية في الذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكلون، فإن التوكل هو إلقاء زمام التصرف في أمور نفسه إلى غيره والتسليم لما يؤثره له منها أخص آثار العبودية وقوله تعالى: (انما سلطانُهُ على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) وردت ثلاثة ضمائر أفراد للشيطان في الكلمات (سلطانه، يتولونه، به) أي ينحصر سلطان الشيطان في الذين يتخذونه ولياً لهم يدبّر أمورهم كما يريد، وهم يطيعونه، وفي الذين يشركون به إذ يتخذونه ولياً من دون الله وربّاً مطاعاً غيره، فإن الطاعة عبادة كما يشير إليه قوله تعالى: (ألم أعْهَد إليكم يا بني آدم ان لا تعبدوا الشيطان إنّه لكم عدو مبين* وإن اعبدوني هذا صراطٌ مستقيمٌ) [يس: 36/ 60- 61].
وبالتالي سلطان الشيطان على طائفتين هما:-
المشركون والذين يتولونه من الموحدين.
يصل الشيطان في هذه المرحلة في هذه الرّتبة إلى مقام وإلى قدرة يكون له فيها سلطان على نفوس هؤلاء المساكين البائسين حيث أنه يكون آمراً لهم متسلطاً عليهم، وفي المثالين التاليين إيضاح ذلك:
المثال الأول:- نضربه للرتبة أو المرحلة السّابقة في الأمر الشيطاني (أي الرتبة الرابعة) الإبن البالغ عشرون عاماً المطيعُ لله تعالى ومن طاعته لله تعالى طاعة الوالدين، لو فرضنا ان الأب قال لذلك الإبن تزوج من فلانة، وامتثل الإبن لأبيه في هذا الأمر أو الطّلب وتزوج من هذه الفتاة، هل نستطيع أن نقول أن ذلك الإبن تزوج بإختياره وبإرادته وبرغبته ولا ينافي انّه لاحظ في زواجه من فلانة أمر أبيه أم لا نستطيع؟.
وبعبارة أخرى هل أن الفعل بتمامه للإبن وأمر أبيه خارج عن دائرة الفعل أم لا؟ الجواب يكون نعم أن الفعل فعله وأن لاحظ إمتثال أمر أبيه وذلك لأن الزوجة لو فرضنا أنها كانت غير صالحة فإن العقلاء سوف يلومون الإبن (يعودون بالتأنيب لذلك الشّاب) ويقولون له لم تزوجتها؟ لم اخترتها؟ ولا يملك الإبن رداً لهم بأنِّي تزوجتها إمتثالاً لأمر أبي، حيث يجيبونه بأن أباه أصدر أمراً أو طلباً فحسب ولم يكن مكرهاً أو قاهراً لذلك الإبن في تزويجه من فلانة.
المثال الثاني: نضربه لهذه المرحلة (المرحلة الخامسة)، مرحلة السلطان ومثلها مثل الأب مع الولد الصّغير جداً، مع الإبن الصّغير جداً الأب يقوم بالباس الولد الصغير ملابسه، لأنه لا يقوى على أن يرتديها بنفسه، ولو سألنا ذلك إلإبن الصّغير: هل أن أباك ألبسك ملابسك؟ فيجيبنا نعم، ونسأله مرة أخرى: هل أنت ارتديت ملابسك بنفسك؟ فيجبنا: نعم.
لأن الجهة الغالبة للفعل على إلباس الصغير الملابس يعود للأب، وبنحو من الفعل وبنوع من النسبة يعود إلى الإبن الصغير في إرتداء ملابسه.
فالأب أو الأم يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة تتعلق في شؤون الإبن الصغير (سيما إذا كان رضيعاً) في مأكله وملبسه ومشربه ومنامه وكلّ شؤونه الأخرى لا يقوى على القيام بها بنفسه وأدائها بالشكل المطلوب، كذلك الشيطان في هذه المرحلة فإنه يدخل في كلّ مناحي حياته، وان كان ينسب الفعل إلى الإنسان بنحو من النسبة، ولكن المؤثر الحقيقي هو الشيطان ودوره الرّيادي هو الأساس. ويصبح الإنسان خاضعاً منفذاً.
المرحلة السادسة: بلوغ مرحلة ولاية الشيطان
وتعتبر هذه المرحلة آخر المراحل ونهاية مطاف عمل الشيطان مع الإنسان، إذ يستسلم الإنسان فيها إلى الشيطان ويدخل ولايته ويكون من أوليائه ومن جنده وحزبه وأزلامه، ولكن بالرغم منها ومن خطورتها يبقى طريق العودة إلى الله عزّ وجلّ سالكاً لمن أراد الرّجوع إليه وتفكير ذنوبه مع الأخذ بنظر الإعتبار إنّ الرجوع أو العودة إلى الله ليست بالأمر الهيّن أو السّهل في هذه المرحلة بل يراد لها عزيمة وشكيمة وإرادة صلبة لإجتياز الحواجز وتحطيم السّدود وعبور الحدود التي صنعها له الشيطان.
وقد أورد القرآن الكريم ذكر هذه المرحلة في العديد من الآيات المباركة، قال تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه....) [آل عمران: 3/ 175].
وقال تعالى: (..... فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) [النساء: 4/ 76].
وقال تعالى: (... فزيّن لهم الشيطانُ أعمالهم فهو وليهُمُ....) [النحل: 16/ 63].
وقال تعالى: (إنما سلطانه على الذين يتولونه....) [النحل: 16/ 100].
وهناك العديد من الآيات الأخرى تتحدث عن أولياء الشيطان قال تعالى: (.... إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله....) [آل عمران: 3/ 175].
هذه هي رتبة الفناء الكامل في الشيطان، فيكون نطقهم نطق شيطان، وفعلهم فعل شيطان، وسمعهم سمع شيطان ونظرهم نظر شيطان وهكذا.... كلّ سلوكهم يكون شيطانياً حيث وصل الشيطان في هذه المرحلة إلى رتبة الولاية الكاملة على ذلك الإنسان، فيكون منقاداً إليه تماماً ولا يتردد عن تنفيذ أي فعل أو قول أو تفكير يطرحه بل يأمره الشيطان، وخير من أوضح وبيّن هذه الرتبة أمير المؤمنين على بن أبي طالب (ع) حيث يقول (اتخذوا الشيطان ملاكاً، واتخذهم له اشراكاً فباض وفرّخ في صدورهم، ودبَّ ودرج في حجورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم، فركب بهم الزّلل، وزين لهم الخطل، فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه ونطق بالباطل على لسانه) أو كما رد أمير المؤمنين (ع) على ابن الكوى قائلاً له (لا تعد لمثلها إنما نفث على لسانك الشيطان) والنفث هو أن يتكلم الشيطان على لسان الإنسان المنقاد له كلياً، حيث لا حول له ولا طول، حيث نجد ان الشيطان يخوّف أولياءه من وقوعهم في الفقر والفاقة وضيق الأمور، ويزّين لهم أعمالهم فيرونها صالحة نافعة، ويدعهم مطيعين مهطعين إليه في كلّ ما يريد يضلهم ويصور لهم بإنهم مهتدون إلى أقوام طريق وأهدى سبيل وأفضل عاقبة وأحمد حياة سيحصلون عليها قال تعالى: (.... إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنَّهم مهتدون). [الأعراف: 7/ 30].
حيث تندك إرادتهم بإرادة الشيطان، ولم تعد لهم أيّة إرادة منفصلة مستقلة عن إرادة الشيطان، وحيث مكّنوه من أنفسهم أقصى درجات التمكين، كرتبة أولياء الله سبحانه وتعالى الذين يصلون إلى رتبة الفناء الكامل في الله عز وجل، حيث ينطق على ألسنتهم وينظر بأعينهم ويسمع بآذانهم.
المصدر: كتاب الشيطانُ (أساليبُهُ... آثارهُ)
مآآآآآآجده