أنا وأنت - أخي الداعيةَ - كلانا يتشوَّف لمعرفة حقيقة الإيمان، الذي به يَطهُر القلبُ، وتزكو النفسُ، ويَرشُد العقلُ، وتستقيم الجوارحُ.
كلانا يحب أن يضفي الإيمانُ على حياته نوعًا من السكينة، والطمأنينةِ، وسعادةِ النفس، وراحةِ البال والضمير.
كلانا يبحث عن صلاح قلبه، وانشراح صدره، وقَبول دعوته، في زمن أصبح الناس فيه يتسارعون وراء المنفعة والمادة لاهثين.
فلتسمح لي أن آخذك - أخي الداعية - في جولة سريعة، أطوِّف بك وأسعى مع كلام رب العالمين، وأحاديثِ الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم - وأخبارِ الصحابة والتابعين، وأقوالِ العلماء الربانيين؛ لأقف أنا وأنت على معنى هذا الإيمان، الذي غرسه نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - في قلوب أصحابه، فعمرتْ بالتقوى، وحقَّقوا التوازن في حياتهم بصورة لا نظير لها، مجتهدين أن نتمثَّله في حياتنا وسلوكنا.
الإيمان قول وعمل ونية:
يعرِّف علماءُ السُّنة الإيمانَ، فيقولون: هو تصديق بالجَنَان[1]، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
وهذه هي حقيقة الإيمان؛ إذ لا بد من اجتماع هذه الركائز الثلاث (التصديق، والقول، والعمل) ليتحقق الإيمان، فلو سقط أحدها بطَل الإيمان من أصله، وقد حكى إجماعَ الصحابة والتابعين على ذلك الإمامُ الشافعي حين صرح فقال:
"وكان الإجماع من الصحابة، والتابعين مِن بعدهم ممن أدركنا: أن الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة عن الآخر"[2].
وقال ابن أبي العز الحنفي: "ذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه، وسائر أهل الحديث وأهل المدينة - رحمهم الله - وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين، إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان"[3].
وقال ابن القيم في نونيته:
واعلم أيها الداعية المربِّي أن معنى قولهم: (تصديق بالجنان): إقرار القلب واعترافه بأن كلَّ ما أخبر به الله - عز وجل - أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما كان، وما هو كائن، وما سيكون - حقٌّ لاشك فيه ولا ريب، وأن تقوم بما أوجبه الله عليك من أعمال القلوب، كحبِّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وحبِّ أصحابه، وبُغضِ الكفر وأهله، والخوفِ من الله ورجائه، والتوكُّلِ عليه، والاستعانة به، وغير ذلك مما يدخل في أعمال القلوب، فهو داخل في مسمى الإيمان.
و(قول اللسان): هو الإقرار بالشهادتين، ليس مجرد النطق بهما؛ بل التصديق بمعانيهما، والإقرار بهما ظاهرا وباطنًا، فهذه الشهادة هي التي تنفع صاحبَها عند الله - عز وجل.
وأما (عمل الجوارح)، فالمراد به فعل أوامر الله، وترك نواهيه.
وأدلة دخول الأعمال في مسمى الإيمان أكثر من أن تُحصى، فنذكر بعض ما يحصل به المقصود:
فمن ذلك قوله - تعالى -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، فقد وصَفَهم الله بصدق الإيمان؛ لإتيانهم بالأعمال الصالحة، التي هي لازِمُ عمل القلب وثمرتُه.
ومنه أيضًا قوله - تعالى -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2 - 4]، فتأمل كيف وصفهم الله بأنهم المؤمنون حقًّا لما أتوا بالأعمال الصالحة، فدلَّ على دخولها في الإيمان، وأنها جزء منه.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((آمُرُكُمْ بِالإيمَانِ بِاللَّهِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَتُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ الْخُمُسَ))[4]، فقد فسَّر - صلى الله عليه وسلم - الإيمانَ في الحديث بالعمل الصالح.
إشكال وجواب حول معنى الإيمان:
ولكن يشكل على هذا المعنى حديثُ جبريلَ المشهورُ في الصحيح، عن عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه - قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يومٍ، إذ طلع علينا رجلٌ شديدُ بياضِ الثِّياب، شديدُ سواد الشعر، لا يُرى عليه أثرُ السفر، ولا يعرفه منا أحدٌ، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتَيْه إلى ركبتيه، ووضع كفَّيْه على فَخِذَيْه، وقال: يا محمدُ، أخبرْني عن الإسلام؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقيمَ الصلاة، وتؤتيَ الزكاة، وتصومَ رمضان، وتحجَّ البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً))، قال: صدقتَ، قال: فعجبنا له؛ يسأله ويصدِّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمنَ بالقدر خيره وشره))، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ((ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل))، قال: فأخبرني عن أَمَارتِها؟ قال: ((أن تلد الأمَةُ ربَّتَها، وأن تَرى الحُفاةَ العُراةَ العالةَ رِعاءَ الشاءِ، يتطاولون في البنيان))، قال: ثم انطلق، فلبثتُ مليًّا، ثم قال لي: ((يا عمرُ، أتدري من السائل؟))، قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه جبريلُ، أتاكم يعلِّمكم دينَكم))[5] .
فموطنُ الإشكال في هذا الحديث: هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسَّر الإيمان بالأعمال الباطنة فقط، وفسَّر الإسلام بالأعمال الظاهرة، مع أن مذهب أهل السنة، وإجماع الصحابة والتابعين - كما تقدم - والذي تؤيده النصوصُ الشرعية الأخرى، أن الإيمان قول وعمل ونية؛ أي: إنه شامل للأعمال الباطنة والظاهرة، فكيف يُحلُّ هذا الإشكالُ؟
قبل الإجابة، ينبغي أن يُعلَم أثرُ هذا الإشكال، فقد بُني عليه مسألةٌ عند أهل العلم، وهي: هل الإسلام والإيمان شيء واحد؟ أو هما شيئان مختلفان؟ خلاف بين أهل العلم.
وليس من غاية مقالنا هذا الخوضُ في هذا الخلاف وتفاصيله؛ بل نكتفي بذِكر الراجح الذي تؤيده الأدلة من الكتاب والسنة، والذي عليه جماهير أهل العلم.
فحلُّ الإشكال:
التفصيل في المسألة، وهو أن الإسلام والإيمان شيء واحد، وشيئان مختلفان في ذات الوقت؛ بمعنى: أنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فإذا جاء ذِكرُهما في موطن مشترك، وسياق واحد، انصرَفَ معنى الإسلام إلى الأعمال الظاهرة، وانصرف معنى الإيمان إلى الأعمال الباطنة؛ كما في حديث جبريل، أما إذا ورد ذكر أحدهما دون الآخر، فُسِّر بالمعنيين جميعًا، ولا فرق بينهما حينئذٍ.
وقد أبان عن هذه القاعدةِ ابنُ تيمية في "مجموع الفتاوى"، حين قال: "لكن التحقيق ابتداء هو ما بيَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سُئل عن الإسلام والإيمان، ففسَّر الإسلامَ بالأعمال الظاهرة، والإيمانَ بالأصول الخمسة، فليس لنا إذا جمعنا بين الإسلام والإيمان أن نجيب بغير ما أجاب به النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمَّا إذا أُفرد اسمُ الإيمان، فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد الإسلام، فقد يكون مع الإسلام مؤمنًا بلا نزاع، وهذا هو الواجب"[6].
وزيادةً في التوضيح والبيان:
"إن من الأسماء ما يكون شاملاً لمسمَّيات متعددةٍ عند إفراده وإطلاقه، فإذا قُرن ذلك الاسمُ بغيره، صار دالاًّ على بعض تلك المسميات، والاسم المقرون به دالٌّ على باقيها، وهذا كاسم الفقير والمسكين، فإذا أُفرد أحدهما دخل فيه كلُّ مَن هو محتاج، فإذا قرن أحدهما بالآخر دلَّ أحدُ الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات، والآخر على باقيها، فهكذا اسم الإسلام والإيمان إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، ودلَّ بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، فإذا قورن بينهما دلَّ أحدهما على بعض ما يدل عليه بانفراده، ودل الآخر على الباقي"[7].
القلب أولاً:
والقلب تلك المضغة الصغيرة التي أودعها الله في ذلك الجسد الإنساني، لها أهمية كبرى في العملية التربوية الإيمانية؛ فهي أساس الإيمان ومادته، جعلها الله محلاًّ لعبوديته، وموقع نظر الحقِّ إليها؛ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن اللهَ لا ينظُرُ إلى صُورِكُم وأموالِكُم، ولكن ينظُرُ إلى قُلُوبِكُم وأعمالِكُم))[8]، "فلا عبرةَ بحُسن الظاهر، وزُخرف اللسان، مع خُبث الجَنَان"[9].
ولما كان القلب محلَّ الإيمان، والعبودية، ونظرِ الربِّ إليه، لم يكن ادِّعاء رسوخ الإيمان فيه سهلاً؛ بل لا بد من المجاهدة، وتعاهده بالتزكية والتربية الروحية؛ حتى يستقرَّ فيه الإيمان ويرسخ، ولذلك بيَّن الله - سبحانه وتعالى - في كتابِه انتفاءَ رسوخ الإيمان في قلوب الأعراب، الذين ادَّعَوا مقام الإيمان لما دَخلوا في الإسلام، فردَّ الله عليهم بكونه لم يدخل في قلوبهم بعدُ، وأثبت لهم المشاركة في أعمال الإسلام الظاهرة، مع نوع إيمان يصحح لهم العمل[10]؛ قال - تعالى -: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
وليس المعنى أن هؤلاء الأعراب كانوا منافقين، فنفى الله عنهم الإيمان؛ بل كانوا مسلمين لم يستحكم الإيمانُ في قلوبهم، ولم يصلوا إلى حقيقته بعدُ، فأنكر الله عليهم؛ لادِّعائهم لأنفسهم مقامًا أعلى مما وصلوا إليه.
وكان الأولى بهم أن يجاهدوا في طاعة ربِّهم، حتى يتمكَّنَ الإيمان من قلوبهم؛ لأن الإيمان أخصُّ من الإسلام، ويدلُّ على ذلك حديثُ جبريلَ السابقُ ذِكرُه حين سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، فترقَّى من الأعمِّ إلى الأخص، ثم للأخص منه[11].
فكان لزامًا عليك - أيها الداعيةُ - أن تولي قلبَك اهتمامًا كبيرًا بالتربية والتزكية له؛ فالله - عز وجل - قد جعله مَلِكًا على بقية الجوارح، فما من حركةٍ إرادية يقوم بها عضوٌ من الأعضاء إلا وتأتي استجابةً طبيعية لإرادة القلب وأوامره، فبصلاحه صلاحُ الجسد والأعمال، وبفساده فسادُ الجسد والأعمال؛ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَلا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ القَلْبُ))[12].
وتأمّل قوله - تعالى -: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22]، فلما كانت محبة من قام بالإيمان وموالاته، وبغض من لم يقم به ومعاداته - مبدؤها من القلب، جعله الله موطنَ الإيمان ومحلَّه، فقال: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ}.
ويعلِّق السعدي على هذه الآية، فيقول: "وأهل هذا الوصف هم الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان؛ أي: رسمه وثبَّته، وغرسه غرسًا، لا يتزلزل، ولا تؤثِّر فيه الشُّبهُ والشكوك، وهم الذين قوَّاهم الله بروحٍ منه؛ أي: بوحيه ومعرفته ومدده الإلهي، وإحسانه الرباني، وهم الذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار، ولهم جنات النعيم في دار القرار، التي فيها كل ما تشتهيه الأنفس، وتَلذُّ الأعين وتختار، ولهم أفضل النعيم وأكبره، وهو أن الله يُحِلُّ عليهم رضوانَه فلا يسخط عليهم أبدًا، ويرضون عن ربِّهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات، ووافرِ المثوبات، وجزيلِ الهبات، ورفيعِ الدرجات، بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية، ولا وراءه نهاية"[13].
وجاء في سورة النحل قوله - تعالى -: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].
وهذه الآية نزلت في عمار بن ياسر - رضي الله عنه - وقصةُ نزولها رواها ابنُه محمدٌ، فقال: أخذ المشركون عمَّارَ بنَ ياسرٍ فلم يترُكوه حتى سبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وذكر آلهتَهم بخيرٍ، ثم تركوه، فلما أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما وراءك؟))، قال: شرٌّ يا رسول الله، ما تُرِكتُ حتى نلتُ منك، وذكرتُ آلهتَهم بخيرٍ، قال: ((كيف تجد قلبك؟))، قال: مطمئنّ بالإيمان، قال: ((إن عادُوا فعُدْ))[14].
فلما كان قلب عمار يفيض بالإيمان، مطمئنًّا به، لم يضرَّه ما تلفَّظ به من كلمة الكفر، وسبِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حالَ الإكراه؛ لأن القلب أساس الإيمان، فإذا كان أساس البنيان راسخًا صلبًا، ذا قواعد متينة، لم تؤثِّر فيه العوارضُ والحوادث الطارئة؛ ولهذا فإن أول ما سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قلبه، ولم يسأله عن قوله، فلما أجاب عمار إجابةَ المؤمنِ المطمئن بإيمانه، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن عادوا فعد))؛ أي: لا يضرك ما تقول حال الإكراه، ولو كانت كلمة الكفر، ما دام أن قلبك يفيض إيمانًا وحبًّا لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم.
نعم أيها الداعية المربي، سؤال يجب أن تكون صريحًا في الإجابة عليه: كيف تجد قلبك تجاه ربِّك ونبيِّك؟
كيف تجد قلبك؟ هل يمتلئ حبًّا لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وينبض شوقًا لهما؟ هل حبك لهما مقدَّم على حبِّ من سواهما؟ إن من لوازم تقديم حبِّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على كل شيء: طاعتَهما فيما أمرا، واجتناب ما عنه نهيا، ولو خالف ذلك هواك، فهل أنت تفعل ذلك في أمرك كلِّه؟ ثِقْ تمامًا أنك لن تجد حلاوةَ الإيمان في قلبك حتى يكون اللهُ ورسوله أحبَّ إليك مما سواهما.
اسأل نفسك: ما هو مقدار توكُّلِك على ربك، واستعانتِك به، ورجائِك فيه، وخوفِك منه، ومحبَّتِك له، وإنابتِك إليه، وتفويضِ جميع أمورك إليه؟
إذ ليس الإيمان بالتحلِّي ولا بالتمنِّي، ولكن بما وقر في قلبِك، وهذا ما يفسر لنا سبْقَ أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: "ما سبقَكُم أبو بكرٍ بكثرة صلاةٍ ولا صيامٍ، ولكن بشيءٍ وقر في صدره"[15]، وقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "لو وُزن إيمانُ أبي بكرٍ بإيمان أهل الأرض، لرجح بهم"[16].
وقد أفاض حُجَّة الإسلام أبو حامد الغزالي في "إحيائه" الكلام عن أهمية القلب، وتربيته وتزكيته بعلوم الآخرة، وأن الصحابة الذين تخرَّجوا في مدرسة محمد - صلى الله عليه وسلم - ممَّن لا يُدرَك في الدِّين شأوُهم، ولا يُشقُّ غبارُهم، لم يَسبقوا الناس، ولم يفضلوا عليهم بالفقه والكلام؛ وإنما بعلم الآخرة وسلوك طريقها، فأذكر قبسًا من ذلك:
قال - رحمه الله -: "لا تَغفُل عن الصحابة وعلوِّ منصبهم، فقد أجمع الذين عرضت بذكرهم على تقدُّمهم، وأنهم لا يدرك في الدين شأوهم، ولا يشق غبارهم، ولم يكن تقدمهم بالكلام والفقه؛ بل بعلم الآخرة وسلوك طريقها، وما فضل أبو بكر - رضي الله عنه - الناسَ بكثرة صيام ولا صلاة، ولا بكثرة رواية ولا فتوى ولا كلام؛ ولكن بشيء وقر في صدره.
فليكن حرصك في طلب ذلك السر؛ فهو الجوهر النفيس، والدر المكنون، ودع عنك ما تطابق أكثرُ الناس عليه، وعلى تفخيمه وتعظيمه لأسباب ودواعٍ يطول تفصيلها، فلقد قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن آلاف من الصحابة - رضي الله عنهم - كلهم علماء بالله، أثنى عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن فيهم أحد يحسن صنعة الكلام، ولا نصب نفسه للفتيا منهم أحد إلا بضعة عشر رجلاً، ولقد كان ابن عمر - رضي الله عنهما - منهم، وكان إذا سئل عن الفتيا يقول للسائل: اذهب إلى فلان الأمير الذي تقلد أمور الناس، وضعها في عنقه، إشارة إلى أن الفتيا في القضايا والأحكام من توابع الولاية والسلطنة.
ولما مات عمر - رضي الله عنه - قال ابن مسعود: مات تسعة أعشار العلم، فقيل له: أتقول ذلك وفينا جلة الصحابة؟ فقال: لم أُرِدْ علم الفتيا والأحكام؛ إنما أريد العلم بالله - تعالى.
أفترى أنه أراد صنعة الكلام والجدل؟! فما بالك لا تحرص على معرفة ذلك العلم الذي مات بموت عمر تسعةُ أعشاره؟! وهو الذي سد باب الكلام والجدل، وضرب صبيعًا بالدرّة لما أورد عليه سؤالاً في تعارض آيتين في كتاب الله وهجره، وأمر الناس بهجره.
واعلم أن ما يُنال به الفضل عند الله شيءٌ، وما ينال به الشهرة عند الناس شيء آخر، فلقد كان شهرة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - بالخلافة، وكان فضله بالسر الذي وقر في قلبه، وكان شهرة عمر - رضي الله عنه - بالسياسة، وكان فضله بالعلم بالله الذي مات تسعة أعشاره بموته، وبقصده التقرب إلى الله - عز وجل - في ولايته، وعدله وشفقته على خلقه، وهو أمر باطن في سره"[17].
.
كلانا يحب أن يضفي الإيمانُ على حياته نوعًا من السكينة، والطمأنينةِ، وسعادةِ النفس، وراحةِ البال والضمير.
كلانا يبحث عن صلاح قلبه، وانشراح صدره، وقَبول دعوته، في زمن أصبح الناس فيه يتسارعون وراء المنفعة والمادة لاهثين.
فلتسمح لي أن آخذك - أخي الداعية - في جولة سريعة، أطوِّف بك وأسعى مع كلام رب العالمين، وأحاديثِ الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم - وأخبارِ الصحابة والتابعين، وأقوالِ العلماء الربانيين؛ لأقف أنا وأنت على معنى هذا الإيمان، الذي غرسه نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - في قلوب أصحابه، فعمرتْ بالتقوى، وحقَّقوا التوازن في حياتهم بصورة لا نظير لها، مجتهدين أن نتمثَّله في حياتنا وسلوكنا.
الإيمان قول وعمل ونية:
يعرِّف علماءُ السُّنة الإيمانَ، فيقولون: هو تصديق بالجَنَان[1]، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
وهذه هي حقيقة الإيمان؛ إذ لا بد من اجتماع هذه الركائز الثلاث (التصديق، والقول، والعمل) ليتحقق الإيمان، فلو سقط أحدها بطَل الإيمان من أصله، وقد حكى إجماعَ الصحابة والتابعين على ذلك الإمامُ الشافعي حين صرح فقال:
"وكان الإجماع من الصحابة، والتابعين مِن بعدهم ممن أدركنا: أن الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة عن الآخر"[2].
وقال ابن أبي العز الحنفي: "ذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه، وسائر أهل الحديث وأهل المدينة - رحمهم الله - وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين، إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان"[3].
وقال ابن القيم في نونيته:
وَاشْهَدْ عَلَيْهِمْ أَنَّ إِيمَانَ الوَرَى قَوْلٌ وَفِعْلٌ ثُمَّ عَقْدُ جَنَانِ |
واعلم أيها الداعية المربِّي أن معنى قولهم: (تصديق بالجنان): إقرار القلب واعترافه بأن كلَّ ما أخبر به الله - عز وجل - أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما كان، وما هو كائن، وما سيكون - حقٌّ لاشك فيه ولا ريب، وأن تقوم بما أوجبه الله عليك من أعمال القلوب، كحبِّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وحبِّ أصحابه، وبُغضِ الكفر وأهله، والخوفِ من الله ورجائه، والتوكُّلِ عليه، والاستعانة به، وغير ذلك مما يدخل في أعمال القلوب، فهو داخل في مسمى الإيمان.
و(قول اللسان): هو الإقرار بالشهادتين، ليس مجرد النطق بهما؛ بل التصديق بمعانيهما، والإقرار بهما ظاهرا وباطنًا، فهذه الشهادة هي التي تنفع صاحبَها عند الله - عز وجل.
وأما (عمل الجوارح)، فالمراد به فعل أوامر الله، وترك نواهيه.
وأدلة دخول الأعمال في مسمى الإيمان أكثر من أن تُحصى، فنذكر بعض ما يحصل به المقصود:
فمن ذلك قوله - تعالى -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، فقد وصَفَهم الله بصدق الإيمان؛ لإتيانهم بالأعمال الصالحة، التي هي لازِمُ عمل القلب وثمرتُه.
ومنه أيضًا قوله - تعالى -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2 - 4]، فتأمل كيف وصفهم الله بأنهم المؤمنون حقًّا لما أتوا بالأعمال الصالحة، فدلَّ على دخولها في الإيمان، وأنها جزء منه.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((آمُرُكُمْ بِالإيمَانِ بِاللَّهِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَتُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ الْخُمُسَ))[4]، فقد فسَّر - صلى الله عليه وسلم - الإيمانَ في الحديث بالعمل الصالح.
إشكال وجواب حول معنى الإيمان:
ولكن يشكل على هذا المعنى حديثُ جبريلَ المشهورُ في الصحيح، عن عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه - قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يومٍ، إذ طلع علينا رجلٌ شديدُ بياضِ الثِّياب، شديدُ سواد الشعر، لا يُرى عليه أثرُ السفر، ولا يعرفه منا أحدٌ، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتَيْه إلى ركبتيه، ووضع كفَّيْه على فَخِذَيْه، وقال: يا محمدُ، أخبرْني عن الإسلام؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقيمَ الصلاة، وتؤتيَ الزكاة، وتصومَ رمضان، وتحجَّ البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً))، قال: صدقتَ، قال: فعجبنا له؛ يسأله ويصدِّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمنَ بالقدر خيره وشره))، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ((ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل))، قال: فأخبرني عن أَمَارتِها؟ قال: ((أن تلد الأمَةُ ربَّتَها، وأن تَرى الحُفاةَ العُراةَ العالةَ رِعاءَ الشاءِ، يتطاولون في البنيان))، قال: ثم انطلق، فلبثتُ مليًّا، ثم قال لي: ((يا عمرُ، أتدري من السائل؟))، قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه جبريلُ، أتاكم يعلِّمكم دينَكم))[5] .
فموطنُ الإشكال في هذا الحديث: هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسَّر الإيمان بالأعمال الباطنة فقط، وفسَّر الإسلام بالأعمال الظاهرة، مع أن مذهب أهل السنة، وإجماع الصحابة والتابعين - كما تقدم - والذي تؤيده النصوصُ الشرعية الأخرى، أن الإيمان قول وعمل ونية؛ أي: إنه شامل للأعمال الباطنة والظاهرة، فكيف يُحلُّ هذا الإشكالُ؟
قبل الإجابة، ينبغي أن يُعلَم أثرُ هذا الإشكال، فقد بُني عليه مسألةٌ عند أهل العلم، وهي: هل الإسلام والإيمان شيء واحد؟ أو هما شيئان مختلفان؟ خلاف بين أهل العلم.
وليس من غاية مقالنا هذا الخوضُ في هذا الخلاف وتفاصيله؛ بل نكتفي بذِكر الراجح الذي تؤيده الأدلة من الكتاب والسنة، والذي عليه جماهير أهل العلم.
فحلُّ الإشكال:
التفصيل في المسألة، وهو أن الإسلام والإيمان شيء واحد، وشيئان مختلفان في ذات الوقت؛ بمعنى: أنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فإذا جاء ذِكرُهما في موطن مشترك، وسياق واحد، انصرَفَ معنى الإسلام إلى الأعمال الظاهرة، وانصرف معنى الإيمان إلى الأعمال الباطنة؛ كما في حديث جبريل، أما إذا ورد ذكر أحدهما دون الآخر، فُسِّر بالمعنيين جميعًا، ولا فرق بينهما حينئذٍ.
وقد أبان عن هذه القاعدةِ ابنُ تيمية في "مجموع الفتاوى"، حين قال: "لكن التحقيق ابتداء هو ما بيَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سُئل عن الإسلام والإيمان، ففسَّر الإسلامَ بالأعمال الظاهرة، والإيمانَ بالأصول الخمسة، فليس لنا إذا جمعنا بين الإسلام والإيمان أن نجيب بغير ما أجاب به النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمَّا إذا أُفرد اسمُ الإيمان، فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد الإسلام، فقد يكون مع الإسلام مؤمنًا بلا نزاع، وهذا هو الواجب"[6].
وزيادةً في التوضيح والبيان:
"إن من الأسماء ما يكون شاملاً لمسمَّيات متعددةٍ عند إفراده وإطلاقه، فإذا قُرن ذلك الاسمُ بغيره، صار دالاًّ على بعض تلك المسميات، والاسم المقرون به دالٌّ على باقيها، وهذا كاسم الفقير والمسكين، فإذا أُفرد أحدهما دخل فيه كلُّ مَن هو محتاج، فإذا قرن أحدهما بالآخر دلَّ أحدُ الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات، والآخر على باقيها، فهكذا اسم الإسلام والإيمان إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، ودلَّ بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، فإذا قورن بينهما دلَّ أحدهما على بعض ما يدل عليه بانفراده، ودل الآخر على الباقي"[7].
القلب أولاً:
والقلب تلك المضغة الصغيرة التي أودعها الله في ذلك الجسد الإنساني، لها أهمية كبرى في العملية التربوية الإيمانية؛ فهي أساس الإيمان ومادته، جعلها الله محلاًّ لعبوديته، وموقع نظر الحقِّ إليها؛ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن اللهَ لا ينظُرُ إلى صُورِكُم وأموالِكُم، ولكن ينظُرُ إلى قُلُوبِكُم وأعمالِكُم))[8]، "فلا عبرةَ بحُسن الظاهر، وزُخرف اللسان، مع خُبث الجَنَان"[9].
ولما كان القلب محلَّ الإيمان، والعبودية، ونظرِ الربِّ إليه، لم يكن ادِّعاء رسوخ الإيمان فيه سهلاً؛ بل لا بد من المجاهدة، وتعاهده بالتزكية والتربية الروحية؛ حتى يستقرَّ فيه الإيمان ويرسخ، ولذلك بيَّن الله - سبحانه وتعالى - في كتابِه انتفاءَ رسوخ الإيمان في قلوب الأعراب، الذين ادَّعَوا مقام الإيمان لما دَخلوا في الإسلام، فردَّ الله عليهم بكونه لم يدخل في قلوبهم بعدُ، وأثبت لهم المشاركة في أعمال الإسلام الظاهرة، مع نوع إيمان يصحح لهم العمل[10]؛ قال - تعالى -: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
وليس المعنى أن هؤلاء الأعراب كانوا منافقين، فنفى الله عنهم الإيمان؛ بل كانوا مسلمين لم يستحكم الإيمانُ في قلوبهم، ولم يصلوا إلى حقيقته بعدُ، فأنكر الله عليهم؛ لادِّعائهم لأنفسهم مقامًا أعلى مما وصلوا إليه.
وكان الأولى بهم أن يجاهدوا في طاعة ربِّهم، حتى يتمكَّنَ الإيمان من قلوبهم؛ لأن الإيمان أخصُّ من الإسلام، ويدلُّ على ذلك حديثُ جبريلَ السابقُ ذِكرُه حين سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، فترقَّى من الأعمِّ إلى الأخص، ثم للأخص منه[11].
فكان لزامًا عليك - أيها الداعيةُ - أن تولي قلبَك اهتمامًا كبيرًا بالتربية والتزكية له؛ فالله - عز وجل - قد جعله مَلِكًا على بقية الجوارح، فما من حركةٍ إرادية يقوم بها عضوٌ من الأعضاء إلا وتأتي استجابةً طبيعية لإرادة القلب وأوامره، فبصلاحه صلاحُ الجسد والأعمال، وبفساده فسادُ الجسد والأعمال؛ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَلا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ القَلْبُ))[12].
وتأمّل قوله - تعالى -: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22]، فلما كانت محبة من قام بالإيمان وموالاته، وبغض من لم يقم به ومعاداته - مبدؤها من القلب، جعله الله موطنَ الإيمان ومحلَّه، فقال: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ}.
ويعلِّق السعدي على هذه الآية، فيقول: "وأهل هذا الوصف هم الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان؛ أي: رسمه وثبَّته، وغرسه غرسًا، لا يتزلزل، ولا تؤثِّر فيه الشُّبهُ والشكوك، وهم الذين قوَّاهم الله بروحٍ منه؛ أي: بوحيه ومعرفته ومدده الإلهي، وإحسانه الرباني، وهم الذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار، ولهم جنات النعيم في دار القرار، التي فيها كل ما تشتهيه الأنفس، وتَلذُّ الأعين وتختار، ولهم أفضل النعيم وأكبره، وهو أن الله يُحِلُّ عليهم رضوانَه فلا يسخط عليهم أبدًا، ويرضون عن ربِّهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات، ووافرِ المثوبات، وجزيلِ الهبات، ورفيعِ الدرجات، بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية، ولا وراءه نهاية"[13].
وجاء في سورة النحل قوله - تعالى -: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].
وهذه الآية نزلت في عمار بن ياسر - رضي الله عنه - وقصةُ نزولها رواها ابنُه محمدٌ، فقال: أخذ المشركون عمَّارَ بنَ ياسرٍ فلم يترُكوه حتى سبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وذكر آلهتَهم بخيرٍ، ثم تركوه، فلما أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما وراءك؟))، قال: شرٌّ يا رسول الله، ما تُرِكتُ حتى نلتُ منك، وذكرتُ آلهتَهم بخيرٍ، قال: ((كيف تجد قلبك؟))، قال: مطمئنّ بالإيمان، قال: ((إن عادُوا فعُدْ))[14].
فلما كان قلب عمار يفيض بالإيمان، مطمئنًّا به، لم يضرَّه ما تلفَّظ به من كلمة الكفر، وسبِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حالَ الإكراه؛ لأن القلب أساس الإيمان، فإذا كان أساس البنيان راسخًا صلبًا، ذا قواعد متينة، لم تؤثِّر فيه العوارضُ والحوادث الطارئة؛ ولهذا فإن أول ما سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قلبه، ولم يسأله عن قوله، فلما أجاب عمار إجابةَ المؤمنِ المطمئن بإيمانه، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن عادوا فعد))؛ أي: لا يضرك ما تقول حال الإكراه، ولو كانت كلمة الكفر، ما دام أن قلبك يفيض إيمانًا وحبًّا لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم.
نعم أيها الداعية المربي، سؤال يجب أن تكون صريحًا في الإجابة عليه: كيف تجد قلبك تجاه ربِّك ونبيِّك؟
كيف تجد قلبك؟ هل يمتلئ حبًّا لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وينبض شوقًا لهما؟ هل حبك لهما مقدَّم على حبِّ من سواهما؟ إن من لوازم تقديم حبِّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على كل شيء: طاعتَهما فيما أمرا، واجتناب ما عنه نهيا، ولو خالف ذلك هواك، فهل أنت تفعل ذلك في أمرك كلِّه؟ ثِقْ تمامًا أنك لن تجد حلاوةَ الإيمان في قلبك حتى يكون اللهُ ورسوله أحبَّ إليك مما سواهما.
اسأل نفسك: ما هو مقدار توكُّلِك على ربك، واستعانتِك به، ورجائِك فيه، وخوفِك منه، ومحبَّتِك له، وإنابتِك إليه، وتفويضِ جميع أمورك إليه؟
إذ ليس الإيمان بالتحلِّي ولا بالتمنِّي، ولكن بما وقر في قلبِك، وهذا ما يفسر لنا سبْقَ أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: "ما سبقَكُم أبو بكرٍ بكثرة صلاةٍ ولا صيامٍ، ولكن بشيءٍ وقر في صدره"[15]، وقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "لو وُزن إيمانُ أبي بكرٍ بإيمان أهل الأرض، لرجح بهم"[16].
وقد أفاض حُجَّة الإسلام أبو حامد الغزالي في "إحيائه" الكلام عن أهمية القلب، وتربيته وتزكيته بعلوم الآخرة، وأن الصحابة الذين تخرَّجوا في مدرسة محمد - صلى الله عليه وسلم - ممَّن لا يُدرَك في الدِّين شأوُهم، ولا يُشقُّ غبارُهم، لم يَسبقوا الناس، ولم يفضلوا عليهم بالفقه والكلام؛ وإنما بعلم الآخرة وسلوك طريقها، فأذكر قبسًا من ذلك:
قال - رحمه الله -: "لا تَغفُل عن الصحابة وعلوِّ منصبهم، فقد أجمع الذين عرضت بذكرهم على تقدُّمهم، وأنهم لا يدرك في الدين شأوهم، ولا يشق غبارهم، ولم يكن تقدمهم بالكلام والفقه؛ بل بعلم الآخرة وسلوك طريقها، وما فضل أبو بكر - رضي الله عنه - الناسَ بكثرة صيام ولا صلاة، ولا بكثرة رواية ولا فتوى ولا كلام؛ ولكن بشيء وقر في صدره.
فليكن حرصك في طلب ذلك السر؛ فهو الجوهر النفيس، والدر المكنون، ودع عنك ما تطابق أكثرُ الناس عليه، وعلى تفخيمه وتعظيمه لأسباب ودواعٍ يطول تفصيلها، فلقد قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن آلاف من الصحابة - رضي الله عنهم - كلهم علماء بالله، أثنى عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن فيهم أحد يحسن صنعة الكلام، ولا نصب نفسه للفتيا منهم أحد إلا بضعة عشر رجلاً، ولقد كان ابن عمر - رضي الله عنهما - منهم، وكان إذا سئل عن الفتيا يقول للسائل: اذهب إلى فلان الأمير الذي تقلد أمور الناس، وضعها في عنقه، إشارة إلى أن الفتيا في القضايا والأحكام من توابع الولاية والسلطنة.
ولما مات عمر - رضي الله عنه - قال ابن مسعود: مات تسعة أعشار العلم، فقيل له: أتقول ذلك وفينا جلة الصحابة؟ فقال: لم أُرِدْ علم الفتيا والأحكام؛ إنما أريد العلم بالله - تعالى.
أفترى أنه أراد صنعة الكلام والجدل؟! فما بالك لا تحرص على معرفة ذلك العلم الذي مات بموت عمر تسعةُ أعشاره؟! وهو الذي سد باب الكلام والجدل، وضرب صبيعًا بالدرّة لما أورد عليه سؤالاً في تعارض آيتين في كتاب الله وهجره، وأمر الناس بهجره.
واعلم أن ما يُنال به الفضل عند الله شيءٌ، وما ينال به الشهرة عند الناس شيء آخر، فلقد كان شهرة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - بالخلافة، وكان فضله بالسر الذي وقر في قلبه، وكان شهرة عمر - رضي الله عنه - بالسياسة، وكان فضله بالعلم بالله الذي مات تسعة أعشاره بموته، وبقصده التقرب إلى الله - عز وجل - في ولايته، وعدله وشفقته على خلقه، وهو أمر باطن في سره"[17].
.