* د. حليم بركات
نعرف جيداً مدى أهمية الإتصال والتواصل بين العرب في بلدانهم المختلفة للتغلب على التجزئة والتباعد في سبيل تجاوز المسافات النفسية الإجتماعية الفاصلة بينهم، وللمحافظة على الهوية وتثبيتها وعلى بث روح إحترام التعدّد وحق الإختلاف. غير أن ما نجده في واقع الأمر واطراداً بتقدم الزمن أن الحدود والفواصل المصطنعة بين البلدان العربية تزداد رسوخاً وكثافة كما لو أنها ستار حديدي في الوقت الذي تتعمّق العلاقات مع أوروبا وأمريكا في زمن العولمة والثورة الإعلامية. لقد أصبحت العلاقات بين العرب في آخر القرن العشرين هزيلة للغاية، الأمر الذي يحدّ من إمكانيات تجاوز المسافات النفسية والإجتماعية.
التي تفصل بينهم في أقطارهم المختلفة التي تدور كل منها في فلكها الخاص متأثرة بمركز الجاذبية في مجتمعات الغرب. أصبح لكل قطر عربي حصونه المغلقة ومؤسساته وفضائياته الإعلامية الخاصة، ونظامه التربوي، وتوجهاته، ومنشوراته، وارتباطاته، وبل التزاماته، منفردة مع الخارج. ولا تقتصر الأنظمة العربية على ممارسة الرقابة والمصادرة في الداخل بل تضاعف منها بين الأقطار العربية حتى أصبح التبادل الثقافي محدوداً لدرجة شبه الإنقطاع والعزلة.
يشكو المفكرون العرب في كل بلد عربي بصورة عامة عدم وجود اهتمام بإنتاجهم، ويشكون الحصار الداخلي والخارجي. فالمفكر في المغرب يشكو عدم اهتمام المشرق بإنتاجه، والعكس صحيح أيضاً، ويشكوان معاً قلة إهتمام مصر بما هو إنتاج غير مصري. بذلك نلمس ميلاً متعاظماً نحو عزلة ثقافية رغم محاولات عابرة. ومن مظاهر ذلك أننا أصبحنا نتكلم على أدب قطري على حساب القول بالأدب العربي، فتكثر الإشارات ليس إلى الأدب المصري فحسب، بل إلى الأدب الأردني واللبناني والكويتي والعماني والسعودي والبحريني والقطري واليمني والتونسي... إلخ. ولابد أن نحترم ذلك، ولكن هذه الظاهرة تعبير عن الجفاء والتباعد العربيين.
ولا تقتصر المشكلة على الثقافة والمثقفين، بل تتعدّى ذلك إلى التبادل الإقتصادي والسياحي ومجالات السفر والإقامة والعمل. وحيث تتوفّر فرص العمل كما يتجلى ذلك من خلال هجرة العمال من مصر ولبنان وسورية والأردن وفلسطين واليمن إلى البلدان العربية المنتجة للنفط، نجد أن مزيداً من الحواجز تمنع من ذلك لوجود سياسة لإستبدال العمال العرب بالأجانب من بلدان آسيوية. وحين تتمّ هذه الفرص نجد أن اللقاءات قد تؤدي بسبب ظروف العمل إلى مزيد من التباعد بدلاً من التقارب، وبل إلى تثبيت الصور السلبية المتبادلة المسبقة في الأذهان. وقد أصبح السفر بين البلدان العربية أصعب من السفر إلى بلدان أجنبية، ومن المظاهر المقلقة والمذلّة أن بعض العرب اكتشفوا أن سفرهم بجوازات أجنبية إلى بلدان عربية أخرى يجنّبهم التأخير وإساءة المعاملة على الحدود وفي المطارات. بل إن السفر بجوازات أجنبية (كالجوازات الأمريكية والأوروبية) يؤمّن لهم الإحترام والتكريم.
وعلى العكس من ذلك، عندما يلتقي العرب خارج هذه الأطر الرسمية، كثيراً ما يكون اللقاء ودياً وحاراً كأنما يكتشف كل واحد منهم في الآخر جذوره وانتماءه الأوسع، مما يثبّت من شعورهم بانتمائهم العربي. وبين أهم ما يتم اكتشافه في مثل هذه اللقاءات أن المعاناة واحدة في الكثير من مضامينها وأشكالها ومسبّباتها. وهذا ما يحدث أيضاً في اللقاءات التي تتمّ بين العرب في أوروبا وأمريكا. وبالفعل، هناك تشوّق من قبل العرب كشعب وجماعات وأفراد للتعرف بعضهم إلى بعض ولمواصلة التفاعل والتبادل والحوار، غير أن الأنظمة والأوضاع السائدة تصرّ على الحدّ من ذلك. إن وسائل الإتصال بين العرب في عصر العولمة والثورة الإعلامية محدودة والرقابة راسخة، والحواجز عديدة بتعدّد الأقطار والأنظمة. لذلك تهزل معرفة العرب بعضهم ببعض وتتباعد المسافات النفسية والإجتماعية فيما بينهم، على عكس ما يتمنّون لأنفسهم وغيرهم.
المصدر: كتاب المجتمع العربي المعاصر (بحث في تغيّر الأحوال والعلاقات)
مجووووووده
نعرف جيداً مدى أهمية الإتصال والتواصل بين العرب في بلدانهم المختلفة للتغلب على التجزئة والتباعد في سبيل تجاوز المسافات النفسية الإجتماعية الفاصلة بينهم، وللمحافظة على الهوية وتثبيتها وعلى بث روح إحترام التعدّد وحق الإختلاف. غير أن ما نجده في واقع الأمر واطراداً بتقدم الزمن أن الحدود والفواصل المصطنعة بين البلدان العربية تزداد رسوخاً وكثافة كما لو أنها ستار حديدي في الوقت الذي تتعمّق العلاقات مع أوروبا وأمريكا في زمن العولمة والثورة الإعلامية. لقد أصبحت العلاقات بين العرب في آخر القرن العشرين هزيلة للغاية، الأمر الذي يحدّ من إمكانيات تجاوز المسافات النفسية والإجتماعية.
التي تفصل بينهم في أقطارهم المختلفة التي تدور كل منها في فلكها الخاص متأثرة بمركز الجاذبية في مجتمعات الغرب. أصبح لكل قطر عربي حصونه المغلقة ومؤسساته وفضائياته الإعلامية الخاصة، ونظامه التربوي، وتوجهاته، ومنشوراته، وارتباطاته، وبل التزاماته، منفردة مع الخارج. ولا تقتصر الأنظمة العربية على ممارسة الرقابة والمصادرة في الداخل بل تضاعف منها بين الأقطار العربية حتى أصبح التبادل الثقافي محدوداً لدرجة شبه الإنقطاع والعزلة.
يشكو المفكرون العرب في كل بلد عربي بصورة عامة عدم وجود اهتمام بإنتاجهم، ويشكون الحصار الداخلي والخارجي. فالمفكر في المغرب يشكو عدم اهتمام المشرق بإنتاجه، والعكس صحيح أيضاً، ويشكوان معاً قلة إهتمام مصر بما هو إنتاج غير مصري. بذلك نلمس ميلاً متعاظماً نحو عزلة ثقافية رغم محاولات عابرة. ومن مظاهر ذلك أننا أصبحنا نتكلم على أدب قطري على حساب القول بالأدب العربي، فتكثر الإشارات ليس إلى الأدب المصري فحسب، بل إلى الأدب الأردني واللبناني والكويتي والعماني والسعودي والبحريني والقطري واليمني والتونسي... إلخ. ولابد أن نحترم ذلك، ولكن هذه الظاهرة تعبير عن الجفاء والتباعد العربيين.
ولا تقتصر المشكلة على الثقافة والمثقفين، بل تتعدّى ذلك إلى التبادل الإقتصادي والسياحي ومجالات السفر والإقامة والعمل. وحيث تتوفّر فرص العمل كما يتجلى ذلك من خلال هجرة العمال من مصر ولبنان وسورية والأردن وفلسطين واليمن إلى البلدان العربية المنتجة للنفط، نجد أن مزيداً من الحواجز تمنع من ذلك لوجود سياسة لإستبدال العمال العرب بالأجانب من بلدان آسيوية. وحين تتمّ هذه الفرص نجد أن اللقاءات قد تؤدي بسبب ظروف العمل إلى مزيد من التباعد بدلاً من التقارب، وبل إلى تثبيت الصور السلبية المتبادلة المسبقة في الأذهان. وقد أصبح السفر بين البلدان العربية أصعب من السفر إلى بلدان أجنبية، ومن المظاهر المقلقة والمذلّة أن بعض العرب اكتشفوا أن سفرهم بجوازات أجنبية إلى بلدان عربية أخرى يجنّبهم التأخير وإساءة المعاملة على الحدود وفي المطارات. بل إن السفر بجوازات أجنبية (كالجوازات الأمريكية والأوروبية) يؤمّن لهم الإحترام والتكريم.
وعلى العكس من ذلك، عندما يلتقي العرب خارج هذه الأطر الرسمية، كثيراً ما يكون اللقاء ودياً وحاراً كأنما يكتشف كل واحد منهم في الآخر جذوره وانتماءه الأوسع، مما يثبّت من شعورهم بانتمائهم العربي. وبين أهم ما يتم اكتشافه في مثل هذه اللقاءات أن المعاناة واحدة في الكثير من مضامينها وأشكالها ومسبّباتها. وهذا ما يحدث أيضاً في اللقاءات التي تتمّ بين العرب في أوروبا وأمريكا. وبالفعل، هناك تشوّق من قبل العرب كشعب وجماعات وأفراد للتعرف بعضهم إلى بعض ولمواصلة التفاعل والتبادل والحوار، غير أن الأنظمة والأوضاع السائدة تصرّ على الحدّ من ذلك. إن وسائل الإتصال بين العرب في عصر العولمة والثورة الإعلامية محدودة والرقابة راسخة، والحواجز عديدة بتعدّد الأقطار والأنظمة. لذلك تهزل معرفة العرب بعضهم ببعض وتتباعد المسافات النفسية والإجتماعية فيما بينهم، على عكس ما يتمنّون لأنفسهم وغيرهم.
المصدر: كتاب المجتمع العربي المعاصر (بحث في تغيّر الأحوال والعلاقات)
مجووووووده