إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدًا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أيها الناس:
قول الله - تبارك وتعالى - في كتابه الكريم: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32]، ويقول - تعالى -: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
من هذه الآيات نستنبط أن الإسلام حضَّ على حُسن اختيار الزوج أو الزوجة، من ذوي الأخلاق والصلاح والدين والعفة؛ ففي هذه الآيات لم يشترط من أمْر الكفاءة في الزوج إلا الصلاحَ، وهو الدِّين وحسن الخلق والقدرة على النكاح، ولم يشترط الغنى؛ بل وَعَدَ الله فيها بأنه يُغنِي الفقراءَ من الأزواج، ومن أصدقُ من الله قيلاً؟!
وأما كفاءة النسب والمال، فليس لها وزن في الإسلام، فقد زوَّج رسول - صلى الله عليه وسلم - ابنةَ عمَّته من زيد بن حارثة، وزوَّج عبدُالرحمن بن عوف أخته من بلال الحبشي، وزوَّج أبو حذيفة سالمًا من هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار.
فقد روى البخاري والنسائي عن عائشة - رضي الله عنها -: أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبدشمس، وكان شهد بدرًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تبنى سالمًا، وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيدًا، وكان مَن تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس لأبيه، فورث من ميراثه، حتى أنزل الله - عز وجل - في ذلك: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]، فمن لم يُعلَم له أبٌ كان مولى وأخًا في الدين.
والشاهد منه:
زواج سالم من هند بنت الوليد، وأما زيد بن حارثة، فزواجه من زينب بنت جحش - رضي الله عنها - مذكور في القرآن الكريم، وهي التي تزوَّجها الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - بعده، وأما هند بنت الوليد، فقد تزوجها سالم، ففي بعض الروايات: كانت هند بنت الوليد بن عتبة من المهاجرات الأُول، وهي يومئذٍ أفضل أيامى قريش، فلم يمنع هذا من زواج سالم بها، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - زوَّج أسامة بن زيد - وهو ابن مولاه - من فاطمة بنت قيس القرشية؛ رواه مسلم.
وفي الحديث الذي رواه أبو داود بإسناد جيد عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن أبا هند حجم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في يافوخه – يعني: وسط رأسه - فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يا بني بياضة، أنكِحوا أبا هند، وانكحوا إليه))، ثم قال: ((وإن كان في شيء مما تَدَاوَوْن به خيرٌ، فالحجامةُ)).
فها هو - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتزويج الحجَّام، لكن الناس لقصر فهمهم لا يذهبون إلا إلى المال وشبهه من زخارف الدنيا، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد جعل المقياس لهذا هو الدِّين؛ كما جاء في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا جاءكم من ترضَون دينه وخُلُقه، فأنكحوه، إلاَّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد))، قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه - يعني شيئًا من قلة المال أو عدم الكفاءة؟ قال: ((من ترضون دينه وخلقه، فأنكحوه - ثلاث مرات)).
إن الواجب علينا أن نختار للمرأة في النكاح مَن اختاره الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنه نِعْمَ الاختيارُ؛ لأن في اتِّصال المرأة به خيرًا وفلاحًا؛ إن أمسكها أمسكها بمعروف، وإن فارقها فارقها بمعروف؛ لأن عنده من الدين والتقوى ما يمنعه من ظلْم المرأة والمطل بحقِّها.
إن المظاهر خداعة، وبعض الناس يهتمُّ بهذه المظاهر، ولا يفتش عن المخابئ، وقد أخبر الله عن بعض المظاهر الخداعة، فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: 4]؛ لكن الحكم الصحيح على هؤلاء: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4].
روى البخاري في صحيحه: أنه مرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ، فقال: ((ما تقولون في هذا؟))، قالوا: هذا حريٌّ إنْ خطب أن يُنكَح، وإن شفع أن يُشفَّع، وإن قال أن يُسمَع، ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما تقولون في هذا؟))، قالوا: هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع، فقال رسول الله: ((هذا خير من ملْء الأرض من مثل هذا))، فجعل الفقير خيرًا من ملء الأرض من ذاك العظيم في أعيُن الناس.
إن الله قد حمَّلنا أمانة، وعلينا أن نؤدي الأمانة كما أُمرنا وألاَّ نفرط فيها، وهذه الأمانة هي هذه المسكينة الضعيفة التي نملك زمامها، فلا نضعها إلا عند إنسانٍ تبرأ ذمتُنا بوضعها عنده، حيث إن هناك بعضَ الرجال في الوقت الحاضر لا يصلحون لأن يزوَّجوا؛ لأنهم بسبب تفريطهم في أوامر دينهم قد ابتلاهم الله ببعض الأمراض، فمن ذلك أن الناس اليوم انهمكوا في السفر للخارج، وهناك ينزعون رداء الحياء، ويبيحون لأنفسهم ما حرَّم الله عليهم، فيزنون ويلوطون ويشربون المسكرات، وما إلى ذلك مما نهى الله عنه.
لذا؛ فقد انتشرتْ فيهم كثيرٌ من الأمراض التناسلية والنفسية وغيرها، فكثرتْ الإصابة بمرض الإيدز، والسيلان، والزهري، وغيرها من الأمراض الجنسية؛ وكثرت لهذا السبب الأمراضُ النفسية، والمقصود هنا التنبيه في أخْذ الاحتياط من هؤلاء الشباب الذين يذهبون للخارج، فإن كثيرًا منهم مصابون بهذه الأمراض.
وليس كل الشباب على هذه الشاكلة، وإنما هذا حاصل في البعض، والبعض منهم يوجد فيهم مَن هو ملتزم بأمور دينه، ومما ينبغي لنا معرفتُه أن المسلمة لا يجوز لها أن تتزوج زانيًا، ولا يجوز للمسلم أن يتزوج زانية؛ قال - تعالى -: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "أي: حرم تعاطي الزنا والتزويج بالبغايا، أو تزويج العفائف بالرجال الفجار"، ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الحسن الذي رواه أبو داود: ((لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله))؛ أي: زانية مثله.
والمرأة التي تتزوج برجل فاسق سيصبح مستقبلها مهددًا بالكوارث؛ فهي إما أن تفقد دينها بارتكاب المحرَّمات، وإما أن تعيش بائسة شقيَّة إذا كانت متدينة، وقد ذكر الشيخ محمود التانبولي: أنه علم أن فتاة تزوجتْ شابًّا يشرب الخمر، فسافر بها لقضاء شهر العسل في بلدة عربية إباحية، فأجبرها زوجها على الشرب معه في الليلة الأولى قبل الدخول بها، فسكرت وسكر، ثم خرجت من غرفتها لقضاء حاجتها، ولما رجعتْ دخلت غرفة غير غرفتها بسبب السكر، وكان فيها رجل، فافترسها وبقيت عنده إلى الصباح، وكان زوجها قد استسلم للنوم نتيجة السكر، فكان ما كان، فظن شرًّا، ولا تسأل عن الخبر.
أستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدًا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أيها الناس:
وكما أنه ينبغي لنا أن نحرص على اختيار الشاب المستقيم في الزواج ممن ملَّكنا اللهُ أمرَها، فإن الرجل الذي يريد الزواج لا بد أن يختار المرأة المستقيمة الحصينة العفيفة؛ ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تُنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربتْ يداك))، وروى مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الدنيا متاع، وخيرُ متاعها المرأةُ الصالحة)).
فالمرأة ذات الدين لا تنخدع لهواها، ولا ترخص نفسها، ولا تهمل شأن بيتها، ولا تغفل عن تربية أبنائها وتأديبهم وإصلاح شأنهم، ولا تهمل حقوق زوجها؛ فالدِّين يحدُّ من قوتي الغضب والشهوة، ويكفي أنه علاج ناجع لشقاء النفوس، وواقٍ لها من فساد الخُلُق والتردي في هاوية الرذائل، ورغباتُ الرجال في النساء تختلف من شخص لآخر، وعلى كل شيء يقع شكله، ويميل إليه مثله، والأرواح جنود مجنَّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف.
والمرأة لا تُحَبُّ ولا تُخطَب إلا لخصلة من أربع خصال، هن جماع الشرف، وملتقى العز، ومنتهى الكرامة؛ وهي: المال، والجمال، والحسب، والدين، وكم من فتاة نُكحتْ لا تصلح أن تكون زوجة، ولا يستعان بها على خير! وإنما هي ذات مال تملك به نفس اللئيم، وتتَّخذه ذلولاً يثير الأرض ويسقي الحرث، وتحسبه خادمًا وزوجًا في آن واحد، وقد يكون له مال يغنيه، ويستطيع به أن يتزوج من تسرُّه إذا حضر، وتعجبه إذا نظر، ولكنه يترفع عن التزوج بالفقيرة، ويرى في ذلك منقصة عليه، ويتَّقي قول من ينسبه إلى البخل، ويعيِّره بمصاهرة الفقراء، فكم من فتاة لا تملك شيئًا تزوجت، فكانتْ سببًا في سعادة الرجل، ومِفتاحًا لباب رزقه!
وذات الجمال التي ترى نفسها قطعت من الشمس، أو صِيغتْ من القمر، تفرض إرادتَها على الرجال، وتنتعل وجوه خطَّابها، وتهزأ بعشَّاقها، وإذا تزوجتْ فهي الحاكم المطلَق، وهي الآمرة الناهية، تقول: أريد ولا أريد، فيقول: أنت السيدة المالكة ونحن كلنا عبيد، تتدلَّل عليه بجمالها وتقول له: سبحان من أعطاك ما لا تستحقه، ومثلك في الرجال كثير، ومثلي في النساء قليل! فلا يملأ عينَها.
والحسيبة المفتخرة بآبائها، والمعتزة بقومها وعشيرتها، تحتقر من لا يدانيها، وتفتخر على من لا يضاهيها، وأقل ما يسمع منها التعاظم، وفَعَلَ أبي وصَنَعَ جدِّي، وإذا غضبت عليه قالت:
وذات الدين هي الزوجة الصالحة، والتجارة الرابحة، تعرف ما لها، فتطلبه بالمعروف، لا تتجاوزه ولا تتعدَّاه؛ بل قد تُسامح زوجَها إذا قعد فيما عليه لها، وتغضُّ طرْفها عن تتبُّع هفواته وزلاَّته، ولا تحاسبه على كل شيء يقع منه، وتعرف حقَّه عليها، فلا تسوءه إذا حضر، ولا تخونه إذا غاب، وهي قرة عينه، تقوم بتربية أولاده والعناية بشأنهم، فهي أم شفيقة، وزوجة صالحة، وأستاذ حكيم، وراعٍ يقوم بحق الرعاية، ومن هي هذه الزوجة غير التي يحثُّ الشارع الحكيم على تحصيلها، ويدعو على من أراد غيرها وطلب سواها؟! هي ذات الدين، لا بارك الله لمن يزهد فيها، ويرغب عنها، ويراها غير صالحة.
وليس معنى ذلك أن مطلب الجمال ليس مقصودًا، وإنما المراد ألا يقتصر عليه الزوج في طلب الزواج، أو أن يجعله أكبر همه، وإلا فإن للجمال اعتبارَه كما يتضح من حديث: ((انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)).
وختامًا:
صلوا وسلموا على خير الورى، محمد المصطفى، اللهم صلِّ على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأميّ، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، وارضَ اللهم عن سادتنا: أبي بكر وعمرَ وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الناس:
إن الله يأمركم بثلاثٍ، فاتَّبعوها، وينهاكم عن ثلاث، فاجتنبوها، إن الله يأمركم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهاكم عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل، يذكركم، واشكروه على نعمه، يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
أيها الناس:
قول الله - تبارك وتعالى - في كتابه الكريم: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32]، ويقول - تعالى -: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
من هذه الآيات نستنبط أن الإسلام حضَّ على حُسن اختيار الزوج أو الزوجة، من ذوي الأخلاق والصلاح والدين والعفة؛ ففي هذه الآيات لم يشترط من أمْر الكفاءة في الزوج إلا الصلاحَ، وهو الدِّين وحسن الخلق والقدرة على النكاح، ولم يشترط الغنى؛ بل وَعَدَ الله فيها بأنه يُغنِي الفقراءَ من الأزواج، ومن أصدقُ من الله قيلاً؟!
وأما كفاءة النسب والمال، فليس لها وزن في الإسلام، فقد زوَّج رسول - صلى الله عليه وسلم - ابنةَ عمَّته من زيد بن حارثة، وزوَّج عبدُالرحمن بن عوف أخته من بلال الحبشي، وزوَّج أبو حذيفة سالمًا من هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار.
فقد روى البخاري والنسائي عن عائشة - رضي الله عنها -: أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبدشمس، وكان شهد بدرًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تبنى سالمًا، وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيدًا، وكان مَن تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس لأبيه، فورث من ميراثه، حتى أنزل الله - عز وجل - في ذلك: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]، فمن لم يُعلَم له أبٌ كان مولى وأخًا في الدين.
والشاهد منه:
زواج سالم من هند بنت الوليد، وأما زيد بن حارثة، فزواجه من زينب بنت جحش - رضي الله عنها - مذكور في القرآن الكريم، وهي التي تزوَّجها الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - بعده، وأما هند بنت الوليد، فقد تزوجها سالم، ففي بعض الروايات: كانت هند بنت الوليد بن عتبة من المهاجرات الأُول، وهي يومئذٍ أفضل أيامى قريش، فلم يمنع هذا من زواج سالم بها، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - زوَّج أسامة بن زيد - وهو ابن مولاه - من فاطمة بنت قيس القرشية؛ رواه مسلم.
وفي الحديث الذي رواه أبو داود بإسناد جيد عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن أبا هند حجم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في يافوخه – يعني: وسط رأسه - فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يا بني بياضة، أنكِحوا أبا هند، وانكحوا إليه))، ثم قال: ((وإن كان في شيء مما تَدَاوَوْن به خيرٌ، فالحجامةُ)).
فها هو - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتزويج الحجَّام، لكن الناس لقصر فهمهم لا يذهبون إلا إلى المال وشبهه من زخارف الدنيا، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد جعل المقياس لهذا هو الدِّين؛ كما جاء في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا جاءكم من ترضَون دينه وخُلُقه، فأنكحوه، إلاَّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد))، قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه - يعني شيئًا من قلة المال أو عدم الكفاءة؟ قال: ((من ترضون دينه وخلقه، فأنكحوه - ثلاث مرات)).
إن الواجب علينا أن نختار للمرأة في النكاح مَن اختاره الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنه نِعْمَ الاختيارُ؛ لأن في اتِّصال المرأة به خيرًا وفلاحًا؛ إن أمسكها أمسكها بمعروف، وإن فارقها فارقها بمعروف؛ لأن عنده من الدين والتقوى ما يمنعه من ظلْم المرأة والمطل بحقِّها.
إن المظاهر خداعة، وبعض الناس يهتمُّ بهذه المظاهر، ولا يفتش عن المخابئ، وقد أخبر الله عن بعض المظاهر الخداعة، فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: 4]؛ لكن الحكم الصحيح على هؤلاء: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4].
روى البخاري في صحيحه: أنه مرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ، فقال: ((ما تقولون في هذا؟))، قالوا: هذا حريٌّ إنْ خطب أن يُنكَح، وإن شفع أن يُشفَّع، وإن قال أن يُسمَع، ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما تقولون في هذا؟))، قالوا: هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع، فقال رسول الله: ((هذا خير من ملْء الأرض من مثل هذا))، فجعل الفقير خيرًا من ملء الأرض من ذاك العظيم في أعيُن الناس.
إن الله قد حمَّلنا أمانة، وعلينا أن نؤدي الأمانة كما أُمرنا وألاَّ نفرط فيها، وهذه الأمانة هي هذه المسكينة الضعيفة التي نملك زمامها، فلا نضعها إلا عند إنسانٍ تبرأ ذمتُنا بوضعها عنده، حيث إن هناك بعضَ الرجال في الوقت الحاضر لا يصلحون لأن يزوَّجوا؛ لأنهم بسبب تفريطهم في أوامر دينهم قد ابتلاهم الله ببعض الأمراض، فمن ذلك أن الناس اليوم انهمكوا في السفر للخارج، وهناك ينزعون رداء الحياء، ويبيحون لأنفسهم ما حرَّم الله عليهم، فيزنون ويلوطون ويشربون المسكرات، وما إلى ذلك مما نهى الله عنه.
لذا؛ فقد انتشرتْ فيهم كثيرٌ من الأمراض التناسلية والنفسية وغيرها، فكثرتْ الإصابة بمرض الإيدز، والسيلان، والزهري، وغيرها من الأمراض الجنسية؛ وكثرت لهذا السبب الأمراضُ النفسية، والمقصود هنا التنبيه في أخْذ الاحتياط من هؤلاء الشباب الذين يذهبون للخارج، فإن كثيرًا منهم مصابون بهذه الأمراض.
وليس كل الشباب على هذه الشاكلة، وإنما هذا حاصل في البعض، والبعض منهم يوجد فيهم مَن هو ملتزم بأمور دينه، ومما ينبغي لنا معرفتُه أن المسلمة لا يجوز لها أن تتزوج زانيًا، ولا يجوز للمسلم أن يتزوج زانية؛ قال - تعالى -: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "أي: حرم تعاطي الزنا والتزويج بالبغايا، أو تزويج العفائف بالرجال الفجار"، ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الحسن الذي رواه أبو داود: ((لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله))؛ أي: زانية مثله.
والمرأة التي تتزوج برجل فاسق سيصبح مستقبلها مهددًا بالكوارث؛ فهي إما أن تفقد دينها بارتكاب المحرَّمات، وإما أن تعيش بائسة شقيَّة إذا كانت متدينة، وقد ذكر الشيخ محمود التانبولي: أنه علم أن فتاة تزوجتْ شابًّا يشرب الخمر، فسافر بها لقضاء شهر العسل في بلدة عربية إباحية، فأجبرها زوجها على الشرب معه في الليلة الأولى قبل الدخول بها، فسكرت وسكر، ثم خرجت من غرفتها لقضاء حاجتها، ولما رجعتْ دخلت غرفة غير غرفتها بسبب السكر، وكان فيها رجل، فافترسها وبقيت عنده إلى الصباح، وكان زوجها قد استسلم للنوم نتيجة السكر، فكان ما كان، فظن شرًّا، ولا تسأل عن الخبر.
أستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدًا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أيها الناس:
وكما أنه ينبغي لنا أن نحرص على اختيار الشاب المستقيم في الزواج ممن ملَّكنا اللهُ أمرَها، فإن الرجل الذي يريد الزواج لا بد أن يختار المرأة المستقيمة الحصينة العفيفة؛ ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تُنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربتْ يداك))، وروى مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الدنيا متاع، وخيرُ متاعها المرأةُ الصالحة)).
فالمرأة ذات الدين لا تنخدع لهواها، ولا ترخص نفسها، ولا تهمل شأن بيتها، ولا تغفل عن تربية أبنائها وتأديبهم وإصلاح شأنهم، ولا تهمل حقوق زوجها؛ فالدِّين يحدُّ من قوتي الغضب والشهوة، ويكفي أنه علاج ناجع لشقاء النفوس، وواقٍ لها من فساد الخُلُق والتردي في هاوية الرذائل، ورغباتُ الرجال في النساء تختلف من شخص لآخر، وعلى كل شيء يقع شكله، ويميل إليه مثله، والأرواح جنود مجنَّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف.
والمرأة لا تُحَبُّ ولا تُخطَب إلا لخصلة من أربع خصال، هن جماع الشرف، وملتقى العز، ومنتهى الكرامة؛ وهي: المال، والجمال، والحسب، والدين، وكم من فتاة نُكحتْ لا تصلح أن تكون زوجة، ولا يستعان بها على خير! وإنما هي ذات مال تملك به نفس اللئيم، وتتَّخذه ذلولاً يثير الأرض ويسقي الحرث، وتحسبه خادمًا وزوجًا في آن واحد، وقد يكون له مال يغنيه، ويستطيع به أن يتزوج من تسرُّه إذا حضر، وتعجبه إذا نظر، ولكنه يترفع عن التزوج بالفقيرة، ويرى في ذلك منقصة عليه، ويتَّقي قول من ينسبه إلى البخل، ويعيِّره بمصاهرة الفقراء، فكم من فتاة لا تملك شيئًا تزوجت، فكانتْ سببًا في سعادة الرجل، ومِفتاحًا لباب رزقه!
وذات الجمال التي ترى نفسها قطعت من الشمس، أو صِيغتْ من القمر، تفرض إرادتَها على الرجال، وتنتعل وجوه خطَّابها، وتهزأ بعشَّاقها، وإذا تزوجتْ فهي الحاكم المطلَق، وهي الآمرة الناهية، تقول: أريد ولا أريد، فيقول: أنت السيدة المالكة ونحن كلنا عبيد، تتدلَّل عليه بجمالها وتقول له: سبحان من أعطاك ما لا تستحقه، ومثلك في الرجال كثير، ومثلي في النساء قليل! فلا يملأ عينَها.
والحسيبة المفتخرة بآبائها، والمعتزة بقومها وعشيرتها، تحتقر من لا يدانيها، وتفتخر على من لا يضاهيها، وأقل ما يسمع منها التعاظم، وفَعَلَ أبي وصَنَعَ جدِّي، وإذا غضبت عليه قالت:
وَمَا هِنْدُ إِلاَّ مُهْرَةٌ عَرَبِيَّةٌ سَلِيلَةُ أَفْرَاسٍ تَحَلَّلَهَا بَغْلُ فَإِنْ وَلَدَتْ فَحْلاً فَمِنْ طِيبِ أَصْلِهَا وَإِنْ وَلَدَتْ بَغْلاً فَمِنْ ذَلِكَ البَغْلُ |
وذات الدين هي الزوجة الصالحة، والتجارة الرابحة، تعرف ما لها، فتطلبه بالمعروف، لا تتجاوزه ولا تتعدَّاه؛ بل قد تُسامح زوجَها إذا قعد فيما عليه لها، وتغضُّ طرْفها عن تتبُّع هفواته وزلاَّته، ولا تحاسبه على كل شيء يقع منه، وتعرف حقَّه عليها، فلا تسوءه إذا حضر، ولا تخونه إذا غاب، وهي قرة عينه، تقوم بتربية أولاده والعناية بشأنهم، فهي أم شفيقة، وزوجة صالحة، وأستاذ حكيم، وراعٍ يقوم بحق الرعاية، ومن هي هذه الزوجة غير التي يحثُّ الشارع الحكيم على تحصيلها، ويدعو على من أراد غيرها وطلب سواها؟! هي ذات الدين، لا بارك الله لمن يزهد فيها، ويرغب عنها، ويراها غير صالحة.
وليس معنى ذلك أن مطلب الجمال ليس مقصودًا، وإنما المراد ألا يقتصر عليه الزوج في طلب الزواج، أو أن يجعله أكبر همه، وإلا فإن للجمال اعتبارَه كما يتضح من حديث: ((انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)).
وختامًا:
صلوا وسلموا على خير الورى، محمد المصطفى، اللهم صلِّ على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأميّ، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، وارضَ اللهم عن سادتنا: أبي بكر وعمرَ وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الناس:
إن الله يأمركم بثلاثٍ، فاتَّبعوها، وينهاكم عن ثلاث، فاجتنبوها، إن الله يأمركم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهاكم عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل، يذكركم، واشكروه على نعمه، يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
د.سعد بن عبد الله الحميد
مآآآآآآآجده
مآآآآآآآجده