بوش الجد.. والمسيحية الصهيونية
تطويع الدين للسياسة
"رَمَتْني بدائها وانسَلَّتْ!": مَثلٌ عربي يجسّد باختصار موقف "الغرْب" من "الشرق"، خاصَّة فيما يتَّصل بالثَّقافة الإسلامية، والصورة التي عمِل الاستشراق على ترْويجها في الوعْي الجمعي عند الشُّعوب الغربيَّة عن الإسلام والمسلمين.
فالغرْب الذي ما فَتِئَ يتساءَل بعد أحداث الحادي عشر مِن سبتمبر: لماذا يكرهوننا؟ غفل - عامدًا متعمدًا - عن تراثِه الذي ينضح بالكراهية والازْدِراء والأوصاف البذيئة بحقِّ الإسلام والمسلمين، وتَجاهل حقيقة أنَّ مُعظم الدراسات الاستِشْراقية تنطلق في دراستِها للإسلام من أنَّه (هرطقة) وحركة خارجة عن النَّصرانية، وأنَّ الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَم يكن نبيًّا موحى إليه، وإنَّما كان على حدِّ أحسن تعبيراتِهم - وهو ما يقوله (مونتجمري وات) في كتابيه: "محمد في مكة، محمد في المدينة": "إنَّ محمَّدًا صادق؛ لأنَّه يُخيَّل إليه أنه بُعث نبيًّا، وأنَّه يحمل رسالة، وأنَّه يوحى إليه"!
وفي هذا السياق تبرز أهمية الرسالة العلميَّة التي نوقِشت مؤخَّرًا في كلية الدَّعوة الإسلاميَّة بالقاهرة؛ لنيل درجة (الماجستير)، من الباحث محمود محمَّد بغدادي يوسف، وجاءت تحت عنوان: (كتاب "محمَّد مؤسس الدين الإسلامي ومؤسّس إمبراطورية المسلمين" للقسّ الأمريكي "جورج بوش" 1796 - 1859م. عرض ونقد).
وقد سعى الباحث من خلال تتبُّعه لما ورد في الكتاب، ونقْضه للأسس التي قام عليها، إلى بيان تهافُت المنهج الذي اتَّبعه "بوش الجَدّ"، وإلى كشْف مصادره المزيفة، وقراءته المبتسرة للسّيرة النبويَّة خصوصًا؛ لتأْكيد أنَّ مناهج المستَشْرقين - رغْم ما قد يوجَد بينها من تَمايُز - تظلُّ متقارِبة في مجملها عند دراسة ما يتعلَّق بالإسلام؛ لأنَّهم يدَّعون الموضوعيَّة لكن لا يلتزِمون بها، بل يتَّسمون بالانتقائيَّة في التَّعامُل مع النصوص الإسلاميَّة لإثبات ما يقتنِعون به مسبقًا.
كما سعى الباحث إلى بيان الصّلة الوثيقة بين أفكار "بوش الجَد" وبين المسيحيَّة الصهْيونية، أو الأصولية المسيحيَّة، وكيفيَّة تطْويع الدين للسياسة، فتطرَّق إلى مفْهوم الأصوليَّة المسيحيَّة وتاريخها، والعوامل التي أحاطت بنشأتها، وأهم الأسُس التي أقامت عليها رؤيَتَها وأطروحاتها للعلاقة مع الإسلام، ومع الآخر بصفة عامَّة.
ومؤلِّف الكتاب محلّ الدراسة هو "جورج بوش" الجَدّ الأكبر للرَّئيس الأمريكي السَّابق، كان واعظًا بارعًا في الجدال والمناظرة، وراعيًا لإحدى الكنائس في (إندانيا بولس)، وأستاذًا في اللغة العبريَّة والآداب الشرقيَّة في جامعة نيويورك، وله مؤلَّفات وشروح في أسفار العهْد القديم، ومن أهمِّها هذا الكتاب الذي يتناول فيه حياة النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وقيام الدَّولة الإسلامية، وهو ينطوِي على بذاءات وادِّعاءات تصِف العرب والمسلمين ونبيَّهم بما هو الأشْنع ممَّا كُتب عنهم في الغرْب على الإطلاق، وقد ظهرت ترجمتُه باللغة العربيَّة في قرابة 700 صفحة بعد عام تقريبًا من غزْو "الولايات المتَّحدة الأمريكية" لـ "العراق".
جديرٌ بالذكر - كما ذكر الباحث - أنَّ إدارة "البحوث والترجمة" بِمجمع البحوث الإسلامية - وهي الجهة المختصَّة بالنَّظر في الكتب المُقدَّمة للمجمع للحصول على الموافقة بالنشر والتداول - أوْصت من قبل بمنْع نشر الكتاب، كما أنَّ السفارة الأمريكية ذاتها اعترفتْ بأنَّ الكتاب يحمل إساءة بالغة للإسلام، وذلك في بيان أصدرتْه السفارة حينما نشرت وكالة "رويترز" تقريرًا عن تداوُل الكتاب في الأوَّل من ديسمبر عام (2004م)، مؤكّدة أنَّه: "شوَّهَ سمعةَ العرب والمسلمين، ويصفُهم بأنَّهم أعراق منحطَّة وحشرات وجرذان وأفاعٍ"، ومع ذلك تمَّ السَّماح لاحقًا بنشْر ترجمة الكتاب بزعْم أنَّه - كما جاء في تقرير الدكتور محمد الشحَّات الجندي عضو مجمع البحوث الإسلاميَّة - ليس فيه مساس بالعقيدة، أو إنْكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة!
مفهوم الأصولية:
يؤكّد الباحث أنَّ مفهوم "الأصوليَّة" يختلف في التّراث اليهودي والنَّصراني اختلافًا جذريًّا عنه في التراث الإسلامي؛ فبينما يعني في الإسلام: الاجتِهاد في إطار الأصول الثَّابتة من الكتاب والسنَّة ونهج السلف الصالح، فإنَّه في التراث اليهودي والنَّصراني يعني: الحرفيَّة في تفسير الكتاب المقدَّس.
وهنا يدْعو الباحث إلى الحذَر عند استخدامِنا لمصطلح "الأصولية"، وبخاصَّة عندما يكونُ خطابُنا موجَّهًا إلى الغرب؛ فهم يفهمون هذا المصْطلح بشكلٍ يُخالف تمامًا ما نقصده نحنُ من استعمالِه، الأمر الذي يجعل من هذا المصطلح نموذجًا من نماذج الخلْط الفكري، النَّاشئ عن عدم التَّمييز بين المفاهيم المختلفة.
أمَّا مصطلح "الأصولية المسيحيَّة" أو "اليمين المسيحي" أو "المحافظون الجدد"، فهو يطلق - كما يقول الباحث - على الاتجاهات الدينيَّة المتشدّدة في مسائل العقيدة والأخلاق، والمؤمنة بالعصْمة الحرفيَّة للكتاب المقدَّس، سواء العهد القديم أم العهد الجديد، والمقتنعة بأنَّه يتضمَّن توجيهات لمجمل الحياة بما في ذلك الشؤون السياسيَّة، وبخاصَّة النبوءات التي تشير إلى أحداث مستقبليَّة تعود إلى استعادة إسرائيل والعودة الثانية للمسيح.
ويشير الباحث إلى أنَّ "الأصوليَّة المسيحيَّة" حركة بروتستنتية التوجُّه، أمريكيَّة النشأة، انطلقت في القرْن التَّاسع عشر الميلادي من صفوف حركة أوْسع هي "الحركة الألفية"، التي كانت تؤمن بالعوْدة المادّيَّة والجسديَّة للمسيح ثانية إلى هذا العالم ليحكمه ألْف عام تسبق يوم القيامة.
الجذور والنشأة:
وعن نشأة "الأصوليَّة المسيحيَّة"، والظروف التي أحاطتْ بها، يشير الباحث إلى أنَّ جذور هذا الفِكْر ترجع إلى فترة زمنيَّة متقدّمة في تاريخ المسيحيَّة، وقد أرْجعها بعض الباحثين إلى القرْن الأوَّل الميلادي؛ حيث إنَّ جذورهم تتَّصل بتيَّار ديني يعود إلى القرْن الأوَّل للمسيحية، ويسمَّى بتيار "الألفيَّة"، الذي نشأ منذ بداية المسيحيَّة، في أوساط المسيحيّين من أصل يهودي.
ويؤكد الباحث أنَّ المهاجرين الجدُد من المسيحيّين المتصهينين، بما يحملونه من أفكار ومفاهيم - قد ساهموا بشكل مباشر في تكوين ثقافة الشخصيَّة الأمريكيَّة في ضوء هذه المفاهيم والأفكار، التي تمثل لقاءً حيًّا بين المسيحيَّة والصهيونيَّة الأصوليَّة.
ثمَّ يرصُد الباحث تنامِي الفكر الأصولي؛ فيذكر أنَّه تنامَى مع بدايات القرْن العشرين بعد صدور كتُب بعنوان "سلسلة الأصول" في أمريكا، واستمرَّ في ازديادِه حتَّى أصبح في دائرة التأثير السياسي وصناعة القرار، ويدلّل على تأثيره في صناعة القرار باعتِناق كبار الساسة الأمريكان لهذا الفكر، ويذكر من أبْرزهم رؤساء أمريكا في النِّصْف الأخير من القرن العشرين، أمثال: رونالد ريجان، وجورج بوش الأب والابن، وجيمي كارتر، الذي أعْلن صراحةً في خطابٍ له أمام الكنيست سنة 1979م أنَّ العلاقة بين أمريكا وإسرائيل هي علاقة دينيَّة في الأساس، وكان ممَّا قاله: "إنَّ علاقة أمريكا بإسرائيل أكثرُ من علاقة خاصَّة، لقد كانت ولا تزال علاقة فريدة، وهي علاقة لا يُمكن تقويضها؛ لأنَّها متأصَّلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشَّعب الأمريكي".
وكانت النتيجة الطبيعيَّة لكلّ هذه الوقائع - كما يخلص الباحث - أنَّ كلَّ مرشَّح للرئاسة الأمريكيَّة أو الكونجرس أو مجلس النوَّاب يتنافس في إرْضاء هذا اللوبي الصهيوني الَّذي عقد قرانه مع المسيحيّين الصهيونيّين الأصوليّين؛ ولهذا لا نستغرب هذا الدَّعم العضوي للإسرائيليّين من كل اتّجاه حكومي أو شعبي أو رسْمي في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة.
مرتكزات أصوليَّة "بوش الجد":
ارتكزت أصوليَّة "بوش الجد" على أُسُس عدَّة؛ يُجمل الباحث أهمَّها في النقاط التَّالية:
أوَّلاً: عصمة الكتاب المقدَّس من الخطأ والتَّفسير الحرفي له:
يذكر الباحث أنَّ عصمة الكتاب المقدَّس لدى الأصوليّين، تجعله مصدرَ المعرفة الأوَّل والأصْدق عمَّا سواه، حتَّى وإنْ خالف حادثة تاريخيَّة موثَّقة أو حقيقة علميَّة مؤكَّدة، وأنَّ الشطر المكمل لهذا المعتقد هو: "التفسير الحرفي" للنّصوص الدينيَّة التي يعتقِدون عصْمتها، فلا يقبلون تأويلها أو حَمْلها على المجاز، بل يأخذونها على ظاهرها.
ويُشير الباحث إلى أنَّ هذا المعتقَد بدا واضحًا في فكر "بوش الجَدّ" عندما تحدَّث عمَّا سمَّاه: "موثوقية الكتاب المقدس"، وعندما تحدَّث أيضًا عن بعض الأحداث التاريخيَّة معتبرًا أنَّ "أسفار الكتاب المقدَّس مستندات جازمة لإقرار الحقائق التاريخيَّة".
ثانيًا: تضخيم مسألة النبوءات والرُّؤى وربْط مستقبل العالَم بها:
يقرِّر الباحث أنَّ النُّبوءات والرُّؤى تعتبَر من العناصر البارزة والمؤثِّرة لدى اليهود والنَّصارى؛ ويستدلُّ على ذلك بكثْرة نصوصِهما التي احتوتْها أسْفار الكتاب المقدَّس بعهديْه القديم والجديد بصورة ملفِتة، كان لها أكبر الأثر في بروز التيَّار الأصولي المسيحي من بعد.
ويذكر الباحث أنَّه بالعودة إلى أفكار "بوش الجد" نجِده قد تحدَّث عمَّا سمَّاه: "الجوانب النبوئية في الكتاب المقدس المسيحي".
أمَّا بالنسبة لإمكانيَّة الاعتماد على نبوءات الكتاب المقدَّس، فيؤكِّد الباحث أنَّه لا أحدَ يستطيعُ الجزْمَ بأنَّ هذه النّبوءة أو تلك تُعَبِّر عِن حدَثٍ بعينِه؛ لأنَّ هذه النّبوءات تَخضع للتَّأويل والاجتِهاد، من حيث إنَّ نُصوصَها ظنّيَّةٌ في دلالتها على المعاني ولا تُفِيدُ القطْع؛ ولذلك فإنَّ اعتبار هذه النّبوءات مصادرَ يُعْتمد عليْها في تفسير الأحْداث - خاصَّة أحداث المستقبل- أمرٌ غيرُ مسلَّمٍ به؛ إذ كيف يَعْتقد عاقلٌ أنَّ مصيرَ البشريَّةِ مرهونٌ بنصوصٍ أقلُّ ما يُقالُ فيها: أنَّها نصوص ظنّيَّة في دلالتها، فضلاً عن عدَم التَّسليم ابتداءً بصحَّتها أو نسبتِها إلى الوحْي المعصوم؟!
ثُمَّ يضيف الباحث أنَّ الكُتبَ المقدَّسة عمومًا، في أصلِها ومقصودِها هيَ كُتُبُ هدايةٍ ودلالةٍ وإعانةٍ للإنسان على معرفة ربِّه - سبحانه وتعالى - وإنْ وردتْ فيها بعض الإشارات التَّاريخيَّة والمستقبليَّة على وجه الإجمال لا التَّفصيل.
ثالثًا: مبدأُ العنايةِ الإلهيَّة:
يبيِّن الباحث أنَّ من المعتقدات البارزة لدى الأصوليِّين: الاعتقاد بأنَّ العناية والرعاية الإلهية إنَّما تَختصَّان باليهود دون غيرهم من الأمم، وأنَّ اليهود هم: "الشعب المختار".
ثمَّ أكَّد أنَّ ذلك يتناقض تمامًا مع موقف النَّصرانيَّة من اليهود، مستدلاًّ بما قاله نبي الله عيسى - عليه السلام - حينما وَبَّخَ اليهودَ على تَعَاليهم وتكبُّرِهم على غيرهم دون وجه حقٍّ سوى أنَّهم أبناء إبراهيم - عليه السلام - وقال لهم: "يا أوْلادَ الأفَاعِي، مَنْ أرَاكُمْ أنْ تَهْرُبُوا مِنَ الغَضَب الآتِي؟ فَاصْنَعُوا أثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ، وَلا تَفْتَكِرُوا أنْ تَقُولُوا فِي أنْفُسِكُمْ: لَنَا إبْراهِيمُ أبًا؛ لأنِّي أقُولُ لَكُمْ: إنَّ اللهَ قَادِرٌ أنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الحِجَارَةِ أوْلادًا لإبْراهِيمَ".
كما أنَّه - عليه السلام - حذَّرهم من اعتمادِهم على هذا التَّفضيل الذي لم يعْملوا بمقتضاه، وأخبرهم بأنَّه سيُنزَع منهم ويُعطى لأمَّةٍ أُخْرى، فقال: "لِذلِكَ أقُولُ لَكُمْ: إنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ ويُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أثْمَارَهُ".
ويفسِّر الباحث هذا التَّناقُض بين موقف النَّصرانيَّة من اليهود وبين ما يعتقِده الأصوليُّون، بأنَّه قد يرجع إلى أنَّ الأصوليِّين أرادوا أن يُدخِلوا أنفُسَهم في دائرة الخصوصيَّة اليهوديَّة فيصيروا معًا (اليهود والأصوليّون): "شعبًا مختارًا".
وهذه الرَّغبة بدت واضحةً - كما يذْكر الباحث - لدى كثيرٍ من المهاجرين إلى أمريكا بعد اكتِشافها في القرْن السَّابع عشَر الميلادي، فقد صوَّر لهم القساوسةُ الَّذين خرجوا معهم، أنَّ خروجهم يشبه خروجَ بني إسرائيل من مصْر، وأنَّ الأرض التي سينزلونَها تُشْبِه أرْض فلسْطين التي نزَلَها بنو إسرائيل، ومِن هنا نَشَأ لدى هؤلاء المهاجرين إحساسٌ بالتَّشابُه مع اليهود، والَّذين كانوا يَعتبرون أنفُسَهم شعبًا مختارًا من قِبَلِ الله - سبحانه وتعالى - حتَّى إنَّ الأمريكيّين أطلقوا على أنفُسهم بعد ذلك: "شعب الله المختار" الذي اختاره الله لهداية البشريَّة إلى الديمقراطية والحكم الصحيح، وفي مرحلة لاحقة لهدايته إلى الدّين الصحيح.
ويوضح الباحث أنَّ أصحاب الفكر الأصولي لم يكتفُوا بهذه الخصوصيَّة التي ميَّزوا أنفُسَهم بها دون بقية البشر، بل أطلقوا لألسنتهم العنان في النَّيْل من غيرهم، وإلْصاق النقائص بهم بغير حقّ، وبخاصَّة المسلمون.
ويدلّل الباحث على ذلك بقوله: "نَستطيع بغير عناء أن نرصُد كثيرًا من الإساءات المباشرة والصَّريحة التي وجَّهها "بوش الجد" للإسلام ورسولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمَّته وحضارته؛ فالإسلام وفْق زعمِه: ادِّعاء محمَّدي بغيض، وبلاء كئيب، وتضْليل، وبعْثة مزيَّفة، والرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مدَّع كذَّاب، أمَّا أمَّته فهم اللصوص".
ويعلّق الباحث على ذلك بقولِه: وبالرَّغم من كلّ ذلك يدَّعي البَعْض أنَّ الكتاب في صالح الإسلام!
رابعًا: عودة كل الأمم إلى المسيحيَّة:
يؤكّد الباحث أنَّ الأصوليِّين لا يؤمنون ابتداءً بفكرة التعدُّدية في الأديان والمذاهب؛ فهم لا يروْن الأشياء إلاَّ بأعيُنهم، ويعتقدون أنَّ مسيحيَّتهم هي الدّين الحقّ ولا حقَّ غيرها، سواء داخل الطَّوائف المسيحيَّة أم بالنسبة للأدْيان الأخرى، كما يعتقدون أنَّه يجب أنْ يُحْمَل الجميعُ على الدخول في مذهبِهم بأيَّة وسيلة من الوسائل، شاؤوا أم أبَوا، مُتستّرين خَلفَ نصوص زعموا أنَّها مقدَّسة، وفسَّروها وفق أهوائهم وأهدافهم.
ويستدلّ الباحث على ذلك بما ذكره "بوش الجد" من أنَّ الفقرةَ السابعةَ من الإصحاح الستين من سفر أشعياء والتي جاء فيها: "كُلُّ غَنَمِ قِيدَارَ تَجْتَمِعُ إِلَيْكِ، كِبَاشُ نَبَايُوتَ تَخْدمُكِ، تَصْعَدُ مَقْبُولَةً عَلَى مَذْبَحِي" تعني: الإشارة إلى تحوّل الأمم الإسلامية في المستقبل إلى المسيحيَّة لتنضمَّ جميعًا إلى الكنيسة المسيحيَّة.
كما أنَّ "بوش الجد" عندما تحدَّث عن الألفيَّة أكَّد أنَّه: "في الحقبة التي تبدأ فيها الألفيَّة، سيبدأ التَّبشير بالإنجيل بنجاح في العالم كلّه، وسينضمّ كلّ "الأغيار" إلى حظيرة الكنيسة المسيحيَّة، خلال هذه الفترة سيترك المسلِمون دينهم ليدخلوا في العقيدة الحقَّة".
بل إنَّ اليهود أيضًا - كما يرى "بوش الجد" - سينضمُّون للكنيسة المسيحيَّة قبل عودتِهم إلى أرض الميعاد؛ حيث يقرّر في كتابه الآخر "وادي الرؤيا" بشأْن عودة اليهود أنَّه: "لا يمكن أن يكون ذلك، قبل تحوّل اليهود للمسيحيَّة".
خامسًا: المجيء الثاني للمسيح:
يشدّد الباحث على أنَّ الحركة الأصوليَّة المسيحيَّة تُعَوِّلُ كثيرًا على عودة المسيح، وتعتبرها من أهمّ معتقداتها، وتُرَتِّبُ عليْها كثيرًا من معتقداتِها الأخرى مثل: معركة "هرمجدون"، والملك الألفي السَّعيد، وذكر في هذا الصَّدد أنَّهم يعتقدون أنَّه لا بدَّ أنْ يَسبقَ هذا المَجِيءَ الثانيَ للمسيح، ما يُعرف بالعقيدة الاسترجاعيَّة، والتي تعني إرجاع اليهود إلى فلسطين أوَّلاً.
ويَخلص الباحث من خلال عرضه لأهم مرتكزات أصوليَّة "بوش الجد"، إلى أنَّ "الفكر الأصولي المسيحي" يبدو من أخْطر صور الفكر المتطرِّف؛ لأنَّهم يعتقدون بضرورة صبِّ العالم كله في قالب فكري وعقَدي واحد، وهو ما يتصادم ابتداءً مع سنَّة من سنن الله - سبحانه وتعالى - الكونية، وهي سنَّة التعدُّد والتنوُّع في المذاهب والعقائد والأفكار؛ ولذلِك فهم يؤمنون بالقوَّة والصراع كوسيلة لحلّ الخلافات بين الدول والحضارات.
استجداء الإنصاف من المستشرقين:
في خاتمة الرِّسالة يشدِّد الباحث على أنَّ كلَّ مبرّرات السَّماح بنشْر وتداوُل الكتاب - التي استُنِدَ إليْها - ليس فيها مبرّرٌ واحدٌ صحيح؛ فقد أنكر "بوش الجد" نبوَّة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - واعتبره كذَّابًا ومُدَّعيًا، ووصفه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بما يَعَفُّ اللسانُ عن ذكره، واعتبر أنَّ القرآنَ الكريم من تأليفه، انتحلَه من الكتاب المقدس وليس بكلام الله.
وهنا يحذِّر الباحث ممَّا يسمّيه بـ "استجداء الإنصاف من المستشرقين"، وذلك عن طريق بتْر نصوصهم أو اجتزائِها لتعبّر عن معنى لم يقصِدْه المستشرق، بل قد يكون المقصود عكسه؛ فمعظم الذين ذكروا أنَّ "بوش الجد" اعترف بنبوَّة النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاتَهم أنَّه أكَّد أنَّ الكتاب المقدَّس ذكر نبوَّته - صلَّى الله عليه وسلَّم - باعتِباره مدَّعيًا ومحتالاً، وباعتِباره أيضًا (إنسان الخطيئة) المشار إليه في نبوءات كتُبهم المقدَّسة وهو (المسيح الدجَّال)، ولذلك فـ "بوش الجد" يعتبر أنَّ "الارتداد" الَّذي يسبق المجيء الثَّاني للمسيح هو انتشار الإسلام، ولم يقصِد أبدًا الاعتراف بنبوَّته - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالمفهوم الإسلامي.
لكن المشكلة الحقيقيَّة - كما يؤكد الباحث - ليستْ في أنَّ هذا الكتاب اشتمل على بعض الإساءات، بل في أنْ يصدر عن "مجمع البحوث الإسلامية" التَّابع لـ "الأزهر الشَّريف" أنَّ الكتاب: "ليس فيه إساءة أو إنكار لمعلوم من الدّين بالضرورة!، وأنَّ ما ذُكِرَ فيه كان: مجرَّدَ حكي وسرْد"، و "مجرد تساؤلاتٍ بريئة، بل إنَّه في الحقيقة في صالح الإسلام وليْس ضدَّه"! وأن تكون تلك الكلِمات هي مبرّرات السَّماح بنشره وتداوله بين المسلمين!
ولذلك يطالب الباحث بألاَّ يعتمد مجمع البحوث الإسلامية في السَّماح بنشر وتداوُل الكتُب - خاصَّة التي يثور جدلٌ حوْلَها - على رأْي الفرد مهما بلغ قدْرُه وعلمه؛ لأنَّه بات من الضَّروري - في واقعنا الذي تشعَّبت فيه المعرفة - الاعتماد على الاجتهاد الجماعي لا الآراء الفرديَّة.
تطويع الدين للسياسة
"رَمَتْني بدائها وانسَلَّتْ!": مَثلٌ عربي يجسّد باختصار موقف "الغرْب" من "الشرق"، خاصَّة فيما يتَّصل بالثَّقافة الإسلامية، والصورة التي عمِل الاستشراق على ترْويجها في الوعْي الجمعي عند الشُّعوب الغربيَّة عن الإسلام والمسلمين.
فالغرْب الذي ما فَتِئَ يتساءَل بعد أحداث الحادي عشر مِن سبتمبر: لماذا يكرهوننا؟ غفل - عامدًا متعمدًا - عن تراثِه الذي ينضح بالكراهية والازْدِراء والأوصاف البذيئة بحقِّ الإسلام والمسلمين، وتَجاهل حقيقة أنَّ مُعظم الدراسات الاستِشْراقية تنطلق في دراستِها للإسلام من أنَّه (هرطقة) وحركة خارجة عن النَّصرانية، وأنَّ الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَم يكن نبيًّا موحى إليه، وإنَّما كان على حدِّ أحسن تعبيراتِهم - وهو ما يقوله (مونتجمري وات) في كتابيه: "محمد في مكة، محمد في المدينة": "إنَّ محمَّدًا صادق؛ لأنَّه يُخيَّل إليه أنه بُعث نبيًّا، وأنَّه يحمل رسالة، وأنَّه يوحى إليه"!
وفي هذا السياق تبرز أهمية الرسالة العلميَّة التي نوقِشت مؤخَّرًا في كلية الدَّعوة الإسلاميَّة بالقاهرة؛ لنيل درجة (الماجستير)، من الباحث محمود محمَّد بغدادي يوسف، وجاءت تحت عنوان: (كتاب "محمَّد مؤسس الدين الإسلامي ومؤسّس إمبراطورية المسلمين" للقسّ الأمريكي "جورج بوش" 1796 - 1859م. عرض ونقد).
وقد سعى الباحث من خلال تتبُّعه لما ورد في الكتاب، ونقْضه للأسس التي قام عليها، إلى بيان تهافُت المنهج الذي اتَّبعه "بوش الجَدّ"، وإلى كشْف مصادره المزيفة، وقراءته المبتسرة للسّيرة النبويَّة خصوصًا؛ لتأْكيد أنَّ مناهج المستَشْرقين - رغْم ما قد يوجَد بينها من تَمايُز - تظلُّ متقارِبة في مجملها عند دراسة ما يتعلَّق بالإسلام؛ لأنَّهم يدَّعون الموضوعيَّة لكن لا يلتزِمون بها، بل يتَّسمون بالانتقائيَّة في التَّعامُل مع النصوص الإسلاميَّة لإثبات ما يقتنِعون به مسبقًا.
كما سعى الباحث إلى بيان الصّلة الوثيقة بين أفكار "بوش الجَد" وبين المسيحيَّة الصهْيونية، أو الأصولية المسيحيَّة، وكيفيَّة تطْويع الدين للسياسة، فتطرَّق إلى مفْهوم الأصوليَّة المسيحيَّة وتاريخها، والعوامل التي أحاطت بنشأتها، وأهم الأسُس التي أقامت عليها رؤيَتَها وأطروحاتها للعلاقة مع الإسلام، ومع الآخر بصفة عامَّة.
ومؤلِّف الكتاب محلّ الدراسة هو "جورج بوش" الجَدّ الأكبر للرَّئيس الأمريكي السَّابق، كان واعظًا بارعًا في الجدال والمناظرة، وراعيًا لإحدى الكنائس في (إندانيا بولس)، وأستاذًا في اللغة العبريَّة والآداب الشرقيَّة في جامعة نيويورك، وله مؤلَّفات وشروح في أسفار العهْد القديم، ومن أهمِّها هذا الكتاب الذي يتناول فيه حياة النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وقيام الدَّولة الإسلامية، وهو ينطوِي على بذاءات وادِّعاءات تصِف العرب والمسلمين ونبيَّهم بما هو الأشْنع ممَّا كُتب عنهم في الغرْب على الإطلاق، وقد ظهرت ترجمتُه باللغة العربيَّة في قرابة 700 صفحة بعد عام تقريبًا من غزْو "الولايات المتَّحدة الأمريكية" لـ "العراق".
جديرٌ بالذكر - كما ذكر الباحث - أنَّ إدارة "البحوث والترجمة" بِمجمع البحوث الإسلامية - وهي الجهة المختصَّة بالنَّظر في الكتب المُقدَّمة للمجمع للحصول على الموافقة بالنشر والتداول - أوْصت من قبل بمنْع نشر الكتاب، كما أنَّ السفارة الأمريكية ذاتها اعترفتْ بأنَّ الكتاب يحمل إساءة بالغة للإسلام، وذلك في بيان أصدرتْه السفارة حينما نشرت وكالة "رويترز" تقريرًا عن تداوُل الكتاب في الأوَّل من ديسمبر عام (2004م)، مؤكّدة أنَّه: "شوَّهَ سمعةَ العرب والمسلمين، ويصفُهم بأنَّهم أعراق منحطَّة وحشرات وجرذان وأفاعٍ"، ومع ذلك تمَّ السَّماح لاحقًا بنشْر ترجمة الكتاب بزعْم أنَّه - كما جاء في تقرير الدكتور محمد الشحَّات الجندي عضو مجمع البحوث الإسلاميَّة - ليس فيه مساس بالعقيدة، أو إنْكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة!
مفهوم الأصولية:
يؤكّد الباحث أنَّ مفهوم "الأصوليَّة" يختلف في التّراث اليهودي والنَّصراني اختلافًا جذريًّا عنه في التراث الإسلامي؛ فبينما يعني في الإسلام: الاجتِهاد في إطار الأصول الثَّابتة من الكتاب والسنَّة ونهج السلف الصالح، فإنَّه في التراث اليهودي والنَّصراني يعني: الحرفيَّة في تفسير الكتاب المقدَّس.
وهنا يدْعو الباحث إلى الحذَر عند استخدامِنا لمصطلح "الأصولية"، وبخاصَّة عندما يكونُ خطابُنا موجَّهًا إلى الغرب؛ فهم يفهمون هذا المصْطلح بشكلٍ يُخالف تمامًا ما نقصده نحنُ من استعمالِه، الأمر الذي يجعل من هذا المصطلح نموذجًا من نماذج الخلْط الفكري، النَّاشئ عن عدم التَّمييز بين المفاهيم المختلفة.
أمَّا مصطلح "الأصولية المسيحيَّة" أو "اليمين المسيحي" أو "المحافظون الجدد"، فهو يطلق - كما يقول الباحث - على الاتجاهات الدينيَّة المتشدّدة في مسائل العقيدة والأخلاق، والمؤمنة بالعصْمة الحرفيَّة للكتاب المقدَّس، سواء العهد القديم أم العهد الجديد، والمقتنعة بأنَّه يتضمَّن توجيهات لمجمل الحياة بما في ذلك الشؤون السياسيَّة، وبخاصَّة النبوءات التي تشير إلى أحداث مستقبليَّة تعود إلى استعادة إسرائيل والعودة الثانية للمسيح.
ويشير الباحث إلى أنَّ "الأصوليَّة المسيحيَّة" حركة بروتستنتية التوجُّه، أمريكيَّة النشأة، انطلقت في القرْن التَّاسع عشر الميلادي من صفوف حركة أوْسع هي "الحركة الألفية"، التي كانت تؤمن بالعوْدة المادّيَّة والجسديَّة للمسيح ثانية إلى هذا العالم ليحكمه ألْف عام تسبق يوم القيامة.
الجذور والنشأة:
وعن نشأة "الأصوليَّة المسيحيَّة"، والظروف التي أحاطتْ بها، يشير الباحث إلى أنَّ جذور هذا الفِكْر ترجع إلى فترة زمنيَّة متقدّمة في تاريخ المسيحيَّة، وقد أرْجعها بعض الباحثين إلى القرْن الأوَّل الميلادي؛ حيث إنَّ جذورهم تتَّصل بتيَّار ديني يعود إلى القرْن الأوَّل للمسيحية، ويسمَّى بتيار "الألفيَّة"، الذي نشأ منذ بداية المسيحيَّة، في أوساط المسيحيّين من أصل يهودي.
ويؤكد الباحث أنَّ المهاجرين الجدُد من المسيحيّين المتصهينين، بما يحملونه من أفكار ومفاهيم - قد ساهموا بشكل مباشر في تكوين ثقافة الشخصيَّة الأمريكيَّة في ضوء هذه المفاهيم والأفكار، التي تمثل لقاءً حيًّا بين المسيحيَّة والصهيونيَّة الأصوليَّة.
ثمَّ يرصُد الباحث تنامِي الفكر الأصولي؛ فيذكر أنَّه تنامَى مع بدايات القرْن العشرين بعد صدور كتُب بعنوان "سلسلة الأصول" في أمريكا، واستمرَّ في ازديادِه حتَّى أصبح في دائرة التأثير السياسي وصناعة القرار، ويدلّل على تأثيره في صناعة القرار باعتِناق كبار الساسة الأمريكان لهذا الفكر، ويذكر من أبْرزهم رؤساء أمريكا في النِّصْف الأخير من القرن العشرين، أمثال: رونالد ريجان، وجورج بوش الأب والابن، وجيمي كارتر، الذي أعْلن صراحةً في خطابٍ له أمام الكنيست سنة 1979م أنَّ العلاقة بين أمريكا وإسرائيل هي علاقة دينيَّة في الأساس، وكان ممَّا قاله: "إنَّ علاقة أمريكا بإسرائيل أكثرُ من علاقة خاصَّة، لقد كانت ولا تزال علاقة فريدة، وهي علاقة لا يُمكن تقويضها؛ لأنَّها متأصَّلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشَّعب الأمريكي".
وكانت النتيجة الطبيعيَّة لكلّ هذه الوقائع - كما يخلص الباحث - أنَّ كلَّ مرشَّح للرئاسة الأمريكيَّة أو الكونجرس أو مجلس النوَّاب يتنافس في إرْضاء هذا اللوبي الصهيوني الَّذي عقد قرانه مع المسيحيّين الصهيونيّين الأصوليّين؛ ولهذا لا نستغرب هذا الدَّعم العضوي للإسرائيليّين من كل اتّجاه حكومي أو شعبي أو رسْمي في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة.
مرتكزات أصوليَّة "بوش الجد":
ارتكزت أصوليَّة "بوش الجد" على أُسُس عدَّة؛ يُجمل الباحث أهمَّها في النقاط التَّالية:
أوَّلاً: عصمة الكتاب المقدَّس من الخطأ والتَّفسير الحرفي له:
يذكر الباحث أنَّ عصمة الكتاب المقدَّس لدى الأصوليّين، تجعله مصدرَ المعرفة الأوَّل والأصْدق عمَّا سواه، حتَّى وإنْ خالف حادثة تاريخيَّة موثَّقة أو حقيقة علميَّة مؤكَّدة، وأنَّ الشطر المكمل لهذا المعتقد هو: "التفسير الحرفي" للنّصوص الدينيَّة التي يعتقِدون عصْمتها، فلا يقبلون تأويلها أو حَمْلها على المجاز، بل يأخذونها على ظاهرها.
ويُشير الباحث إلى أنَّ هذا المعتقَد بدا واضحًا في فكر "بوش الجَدّ" عندما تحدَّث عمَّا سمَّاه: "موثوقية الكتاب المقدس"، وعندما تحدَّث أيضًا عن بعض الأحداث التاريخيَّة معتبرًا أنَّ "أسفار الكتاب المقدَّس مستندات جازمة لإقرار الحقائق التاريخيَّة".
ثانيًا: تضخيم مسألة النبوءات والرُّؤى وربْط مستقبل العالَم بها:
يقرِّر الباحث أنَّ النُّبوءات والرُّؤى تعتبَر من العناصر البارزة والمؤثِّرة لدى اليهود والنَّصارى؛ ويستدلُّ على ذلك بكثْرة نصوصِهما التي احتوتْها أسْفار الكتاب المقدَّس بعهديْه القديم والجديد بصورة ملفِتة، كان لها أكبر الأثر في بروز التيَّار الأصولي المسيحي من بعد.
ويذكر الباحث أنَّه بالعودة إلى أفكار "بوش الجد" نجِده قد تحدَّث عمَّا سمَّاه: "الجوانب النبوئية في الكتاب المقدس المسيحي".
أمَّا بالنسبة لإمكانيَّة الاعتماد على نبوءات الكتاب المقدَّس، فيؤكِّد الباحث أنَّه لا أحدَ يستطيعُ الجزْمَ بأنَّ هذه النّبوءة أو تلك تُعَبِّر عِن حدَثٍ بعينِه؛ لأنَّ هذه النّبوءات تَخضع للتَّأويل والاجتِهاد، من حيث إنَّ نُصوصَها ظنّيَّةٌ في دلالتها على المعاني ولا تُفِيدُ القطْع؛ ولذلك فإنَّ اعتبار هذه النّبوءات مصادرَ يُعْتمد عليْها في تفسير الأحْداث - خاصَّة أحداث المستقبل- أمرٌ غيرُ مسلَّمٍ به؛ إذ كيف يَعْتقد عاقلٌ أنَّ مصيرَ البشريَّةِ مرهونٌ بنصوصٍ أقلُّ ما يُقالُ فيها: أنَّها نصوص ظنّيَّة في دلالتها، فضلاً عن عدَم التَّسليم ابتداءً بصحَّتها أو نسبتِها إلى الوحْي المعصوم؟!
ثُمَّ يضيف الباحث أنَّ الكُتبَ المقدَّسة عمومًا، في أصلِها ومقصودِها هيَ كُتُبُ هدايةٍ ودلالةٍ وإعانةٍ للإنسان على معرفة ربِّه - سبحانه وتعالى - وإنْ وردتْ فيها بعض الإشارات التَّاريخيَّة والمستقبليَّة على وجه الإجمال لا التَّفصيل.
ثالثًا: مبدأُ العنايةِ الإلهيَّة:
يبيِّن الباحث أنَّ من المعتقدات البارزة لدى الأصوليِّين: الاعتقاد بأنَّ العناية والرعاية الإلهية إنَّما تَختصَّان باليهود دون غيرهم من الأمم، وأنَّ اليهود هم: "الشعب المختار".
ثمَّ أكَّد أنَّ ذلك يتناقض تمامًا مع موقف النَّصرانيَّة من اليهود، مستدلاًّ بما قاله نبي الله عيسى - عليه السلام - حينما وَبَّخَ اليهودَ على تَعَاليهم وتكبُّرِهم على غيرهم دون وجه حقٍّ سوى أنَّهم أبناء إبراهيم - عليه السلام - وقال لهم: "يا أوْلادَ الأفَاعِي، مَنْ أرَاكُمْ أنْ تَهْرُبُوا مِنَ الغَضَب الآتِي؟ فَاصْنَعُوا أثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ، وَلا تَفْتَكِرُوا أنْ تَقُولُوا فِي أنْفُسِكُمْ: لَنَا إبْراهِيمُ أبًا؛ لأنِّي أقُولُ لَكُمْ: إنَّ اللهَ قَادِرٌ أنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الحِجَارَةِ أوْلادًا لإبْراهِيمَ".
كما أنَّه - عليه السلام - حذَّرهم من اعتمادِهم على هذا التَّفضيل الذي لم يعْملوا بمقتضاه، وأخبرهم بأنَّه سيُنزَع منهم ويُعطى لأمَّةٍ أُخْرى، فقال: "لِذلِكَ أقُولُ لَكُمْ: إنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ ويُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أثْمَارَهُ".
ويفسِّر الباحث هذا التَّناقُض بين موقف النَّصرانيَّة من اليهود وبين ما يعتقِده الأصوليُّون، بأنَّه قد يرجع إلى أنَّ الأصوليِّين أرادوا أن يُدخِلوا أنفُسَهم في دائرة الخصوصيَّة اليهوديَّة فيصيروا معًا (اليهود والأصوليّون): "شعبًا مختارًا".
وهذه الرَّغبة بدت واضحةً - كما يذْكر الباحث - لدى كثيرٍ من المهاجرين إلى أمريكا بعد اكتِشافها في القرْن السَّابع عشَر الميلادي، فقد صوَّر لهم القساوسةُ الَّذين خرجوا معهم، أنَّ خروجهم يشبه خروجَ بني إسرائيل من مصْر، وأنَّ الأرض التي سينزلونَها تُشْبِه أرْض فلسْطين التي نزَلَها بنو إسرائيل، ومِن هنا نَشَأ لدى هؤلاء المهاجرين إحساسٌ بالتَّشابُه مع اليهود، والَّذين كانوا يَعتبرون أنفُسَهم شعبًا مختارًا من قِبَلِ الله - سبحانه وتعالى - حتَّى إنَّ الأمريكيّين أطلقوا على أنفُسهم بعد ذلك: "شعب الله المختار" الذي اختاره الله لهداية البشريَّة إلى الديمقراطية والحكم الصحيح، وفي مرحلة لاحقة لهدايته إلى الدّين الصحيح.
ويوضح الباحث أنَّ أصحاب الفكر الأصولي لم يكتفُوا بهذه الخصوصيَّة التي ميَّزوا أنفُسَهم بها دون بقية البشر، بل أطلقوا لألسنتهم العنان في النَّيْل من غيرهم، وإلْصاق النقائص بهم بغير حقّ، وبخاصَّة المسلمون.
ويدلّل الباحث على ذلك بقوله: "نَستطيع بغير عناء أن نرصُد كثيرًا من الإساءات المباشرة والصَّريحة التي وجَّهها "بوش الجد" للإسلام ورسولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمَّته وحضارته؛ فالإسلام وفْق زعمِه: ادِّعاء محمَّدي بغيض، وبلاء كئيب، وتضْليل، وبعْثة مزيَّفة، والرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مدَّع كذَّاب، أمَّا أمَّته فهم اللصوص".
ويعلّق الباحث على ذلك بقولِه: وبالرَّغم من كلّ ذلك يدَّعي البَعْض أنَّ الكتاب في صالح الإسلام!
رابعًا: عودة كل الأمم إلى المسيحيَّة:
يؤكّد الباحث أنَّ الأصوليِّين لا يؤمنون ابتداءً بفكرة التعدُّدية في الأديان والمذاهب؛ فهم لا يروْن الأشياء إلاَّ بأعيُنهم، ويعتقدون أنَّ مسيحيَّتهم هي الدّين الحقّ ولا حقَّ غيرها، سواء داخل الطَّوائف المسيحيَّة أم بالنسبة للأدْيان الأخرى، كما يعتقدون أنَّه يجب أنْ يُحْمَل الجميعُ على الدخول في مذهبِهم بأيَّة وسيلة من الوسائل، شاؤوا أم أبَوا، مُتستّرين خَلفَ نصوص زعموا أنَّها مقدَّسة، وفسَّروها وفق أهوائهم وأهدافهم.
ويستدلّ الباحث على ذلك بما ذكره "بوش الجد" من أنَّ الفقرةَ السابعةَ من الإصحاح الستين من سفر أشعياء والتي جاء فيها: "كُلُّ غَنَمِ قِيدَارَ تَجْتَمِعُ إِلَيْكِ، كِبَاشُ نَبَايُوتَ تَخْدمُكِ، تَصْعَدُ مَقْبُولَةً عَلَى مَذْبَحِي" تعني: الإشارة إلى تحوّل الأمم الإسلامية في المستقبل إلى المسيحيَّة لتنضمَّ جميعًا إلى الكنيسة المسيحيَّة.
كما أنَّ "بوش الجد" عندما تحدَّث عن الألفيَّة أكَّد أنَّه: "في الحقبة التي تبدأ فيها الألفيَّة، سيبدأ التَّبشير بالإنجيل بنجاح في العالم كلّه، وسينضمّ كلّ "الأغيار" إلى حظيرة الكنيسة المسيحيَّة، خلال هذه الفترة سيترك المسلِمون دينهم ليدخلوا في العقيدة الحقَّة".
بل إنَّ اليهود أيضًا - كما يرى "بوش الجد" - سينضمُّون للكنيسة المسيحيَّة قبل عودتِهم إلى أرض الميعاد؛ حيث يقرّر في كتابه الآخر "وادي الرؤيا" بشأْن عودة اليهود أنَّه: "لا يمكن أن يكون ذلك، قبل تحوّل اليهود للمسيحيَّة".
خامسًا: المجيء الثاني للمسيح:
يشدّد الباحث على أنَّ الحركة الأصوليَّة المسيحيَّة تُعَوِّلُ كثيرًا على عودة المسيح، وتعتبرها من أهمّ معتقداتها، وتُرَتِّبُ عليْها كثيرًا من معتقداتِها الأخرى مثل: معركة "هرمجدون"، والملك الألفي السَّعيد، وذكر في هذا الصَّدد أنَّهم يعتقدون أنَّه لا بدَّ أنْ يَسبقَ هذا المَجِيءَ الثانيَ للمسيح، ما يُعرف بالعقيدة الاسترجاعيَّة، والتي تعني إرجاع اليهود إلى فلسطين أوَّلاً.
ويَخلص الباحث من خلال عرضه لأهم مرتكزات أصوليَّة "بوش الجد"، إلى أنَّ "الفكر الأصولي المسيحي" يبدو من أخْطر صور الفكر المتطرِّف؛ لأنَّهم يعتقدون بضرورة صبِّ العالم كله في قالب فكري وعقَدي واحد، وهو ما يتصادم ابتداءً مع سنَّة من سنن الله - سبحانه وتعالى - الكونية، وهي سنَّة التعدُّد والتنوُّع في المذاهب والعقائد والأفكار؛ ولذلِك فهم يؤمنون بالقوَّة والصراع كوسيلة لحلّ الخلافات بين الدول والحضارات.
استجداء الإنصاف من المستشرقين:
في خاتمة الرِّسالة يشدِّد الباحث على أنَّ كلَّ مبرّرات السَّماح بنشْر وتداوُل الكتاب - التي استُنِدَ إليْها - ليس فيها مبرّرٌ واحدٌ صحيح؛ فقد أنكر "بوش الجد" نبوَّة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - واعتبره كذَّابًا ومُدَّعيًا، ووصفه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بما يَعَفُّ اللسانُ عن ذكره، واعتبر أنَّ القرآنَ الكريم من تأليفه، انتحلَه من الكتاب المقدس وليس بكلام الله.
وهنا يحذِّر الباحث ممَّا يسمّيه بـ "استجداء الإنصاف من المستشرقين"، وذلك عن طريق بتْر نصوصهم أو اجتزائِها لتعبّر عن معنى لم يقصِدْه المستشرق، بل قد يكون المقصود عكسه؛ فمعظم الذين ذكروا أنَّ "بوش الجد" اعترف بنبوَّة النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاتَهم أنَّه أكَّد أنَّ الكتاب المقدَّس ذكر نبوَّته - صلَّى الله عليه وسلَّم - باعتِباره مدَّعيًا ومحتالاً، وباعتِباره أيضًا (إنسان الخطيئة) المشار إليه في نبوءات كتُبهم المقدَّسة وهو (المسيح الدجَّال)، ولذلك فـ "بوش الجد" يعتبر أنَّ "الارتداد" الَّذي يسبق المجيء الثَّاني للمسيح هو انتشار الإسلام، ولم يقصِد أبدًا الاعتراف بنبوَّته - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالمفهوم الإسلامي.
لكن المشكلة الحقيقيَّة - كما يؤكد الباحث - ليستْ في أنَّ هذا الكتاب اشتمل على بعض الإساءات، بل في أنْ يصدر عن "مجمع البحوث الإسلامية" التَّابع لـ "الأزهر الشَّريف" أنَّ الكتاب: "ليس فيه إساءة أو إنكار لمعلوم من الدّين بالضرورة!، وأنَّ ما ذُكِرَ فيه كان: مجرَّدَ حكي وسرْد"، و "مجرد تساؤلاتٍ بريئة، بل إنَّه في الحقيقة في صالح الإسلام وليْس ضدَّه"! وأن تكون تلك الكلِمات هي مبرّرات السَّماح بنشره وتداوله بين المسلمين!
ولذلك يطالب الباحث بألاَّ يعتمد مجمع البحوث الإسلامية في السَّماح بنشر وتداوُل الكتُب - خاصَّة التي يثور جدلٌ حوْلَها - على رأْي الفرد مهما بلغ قدْرُه وعلمه؛ لأنَّه بات من الضَّروري - في واقعنا الذي تشعَّبت فيه المعرفة - الاعتماد على الاجتهاد الجماعي لا الآراء الفرديَّة.
السنوسي محمد السنوسي
ALZAHRA
ALZAHRA