عبادَ اللهِ:
إنَّ مِن أعظمِ الرَّوابطِ بينَ النَّاسِ رابطةً خصَّها الإسلامُ بمزيدٍ من العناية والذِّكرِ، فحضَّ عليها أكثرَ مِن غيرِها، وأمرَ بوصلِها والإحسانِ إليها في أحلكِ الظروفِ وأشدِّ المواقف، وحذَّرَ من المساسِ بأصحابِها، ولو بأدنى الألفاظِ وأقلِّ الكلمات، تِلْكُم الرابطةُ - عبادَ الله - هي رابطةُ الوالدَينِ.
عبادَ اللهِ:
أيُّها المسلمونَ، هذانِ الأبوانِ جاءتِ الوصيةُ الإلهيَّةُ بالإحسانِ إليِهما في قوله - سبحانه -: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8]، ولمكانتِهما قرنَ اللهُ حقَّه بحقِّهما، وشُكرَه بشكرِهما، وأمر بالإحسان إليهما بعدَ الأمرِ بعبادِته؛ فقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، ولما سأل ابنُ مسعود - رضي الله عنه - النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله تعالى؟ قال: ((الصَّلاة على وقتها))، قلت: ثم أيُّ؟ قال: ((بِرُّ الوالدين))، قلت: ثم أيُّ؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))؛ متفق عليه.
عبادَ الله:
"الأمُّ هي قرينةُ الأب"، وهي تُمِّثلُ نِصفَ المجتمع، ويخرجُ مِن بين تَرائبِها النِّصفُ الآخرُ، فأضحتْ - بحقٍّ - تَلِدُ الأُمَّةَ بكاملها، ومع هذه المكانة الرَّفيعة لِمَن جُعِلت الجنَّةُ تحت قدميها، إلاَّ أنَّا أضحيْنا بين الفَينةِ والأخرى نَحتاجُ إلى التَّذكيرِ بحقِّ الأمَّهاتِ وواجبنا تُجاهَهنَّ، فيا تُرى مَن هي الأمُّ التي جاءتْ نصوصُ الشَّرعِ بطاعتِها وبرِّها، والتحذير من التهاون بشأنها، أو التقصيرِ في حقِّها؟
أيُّها المسلمونَ:
ليسَ هناكَ أبلغُ من كتابِ اللهِ - تعالى - وهو يَصِفُ لنا جزءًا من معاناةِ أُمَّهاتنا حالَ حملِهنَّ بنا، وإرضاعِهنَّ لنا؛ يقولُ الله - تعالى - في كتابِه الكريمِ: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، فتأمَّلْ - رعاكَ اللهُ - وصيةَ الربِّ الرحيم، وهو يُذكِّر بحالةِ العَنتِ والمشقَّةِ، والألمِ والنَّصَب، التي قاستها الأمُّ الحنونُ وهي تَحمِلُ جَنينَها في أحشائِها تسعةَ أشهرٍ، ذلك الحملُ الذي أقضَّ مضاجعَها، وأسهرَ ليلَها، وأوهنَ قُواها، تسعة أشهرٍ وهي تقاسي ثِقَلَ الحملِ وشِدِّتَه وعُسرَه، تسعة أشهر كأنَّها الدَّهرُ كلُّه، وهي ما بَينَ إعياءٍ وإغماءٍ، وكَربٍ وبلاء.
ثم بعدَ ذلكَ الجهدِ الجَهيدِ، والعناءِ الرَّهيبِ، تأتي أشدُّ ساعاتِ الكرْبِ والألم، ساعةُ وضعِ الأمِّ لجنِينها وفَلذَةِ كَبدِها، تلك الساعةُ التي ترى فيها الأمُّ الموتَ بعينيِها، وتكاد تُسْلِم الرُّوحَ لبارئِها، فما أعظمَ معاناتِها! وما أشدَّ صرخاتِها! فإذا فرَّجَ اللهُ كُربَة الأمِّ بخروجِ طِفلِها الذي كادَ يقتُلها، تبدأ بعدَ ذلكَ مشوارَها الطويلَ لإرضاعِ صبيِّها عامين كاملين، وهو يَمتصُّ عُصارةَ غِذائِها وخُلاصةَ صحتها، حتَّى أنهكَ بدنَها، وأتعبَ رُوحَها.
وهكذا تَظلُّ الأمُّ العُمُرَ كلَّه، وهي تُشفقُ على وليدِها، تَرعاهُ وتُغدق عليه من عطفِها، وتُحيطه بحَنانِها، تَسهر لسَهَرِه، وتَبكي لبكائِه، وتنقطعُ لألمِه ومرضِه، ولا يزالُ هذا دأبَها مع ابنِها، مهما كَبِرَ سِنُّه واشتدَّ عُودُه، يَظلُّ شجرةَ فؤادها، وقِطعةَ كبدِها.
تقول أمُّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنهما -: جاءتْني مسكينةٌ تحمل ابنتينِ لها فأطعمتُها ثلاثَ تمراتٍ، فأعطتْ كلَّ واحدة منهما تمرةً، ورفعتْ إلى فِيها تمرةً؛ لتأكلَها، فاستطعمتْها ابنتاها، فشقَّتِ التمرة التي كانت تريد أن تأكلَها بينهما، فأعجبني شأنُها، فذكرتُ الذي صنعتْ لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((إنَّ الله قد أوجب لها بها الجَنَّة، أو أعتقها من النَّار))؛ رواه مسلم.
عبادَ الله:
لهذه الآلامِ الشَّديدة والأعمالِ المجهدة، من حملٍ وولادةٍ ورَضاعٍ وغيرِها؛ خَصَّ اللهُ - تعالى - الأمَّ بمزيدٍ من الوصيةِ ببرِّها؛ فقد جاءَ في الصَّحيحينِ عن أبي هريرةَ - رضيَ اللهُ عنه -: أنَّ رجلاً جاء إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالَ: يا رسولَ الله، مَن أحقُّ النَّاسِ بِحُسنِ صَحابتِي؟ قالَ: ((أُمُّكَ))، قالَ: ثم مَن؟ قال: ((ثُمَّ أُمُّك))، قالَ: ثم مَن؟ قال: ((ثُمَّ أُمُّك))، قالَ: ثم مَن؟ قالَ: ((ثُمَّ أَبُوكَ)).
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ - رحمه الله تعالى -: "جاءَ ما يَدلُّ على تَقدِيمِ الأمِّ في البرِّ مُطلقًا، وهو ما أَخرَجه الإمامُ أحمدُ والنَّسائي؛ وصحَّحه الحاكمُ من حديثِ عائشةَ - رضي الله عنها -: أنَّها سألتِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّمَ -: أيُّ النَّاسِ أعظمُ حقًّا على المرأةِ؟ قال: ((زوجُها))، قالتْ: فقلتُ على الرَّجلِ؟ قالَ: ((أُمُّه))".
أيُّها المسلمون:
لا يُعجبنَّ أحدٌ ببرِّه بأمِّه، ولا يَتعاظمِ امرؤٌ ما يُسديه لها، فواللهِ الذي لا إلهَ غيرُه، لا يُساوي ما نُقدِّمُه لأمَّهاتِنا طلقةً من طَلقاتِ وضعِها، أو زفرةً من زفراتها، أو صرخةً من صرخاتها؛ جاءََ رجلٌ إلى عمرَ بنَ الخطَّاب - رضي الله عنه - فقال: إنِّ لي أُمًّا بَلغ بها الكِبَر، وإنَّها لا تَقضي حوائجَها إلاَّ وظَهري مطيَّةٌ لها، وأُوضِّئُها وأصرِفُ وجهي عنها، فَهل أَدَّيتُ حَقَّها؟ قال: لا، قال: ألَيسَ قد حَمَلتُها على ظَهرِي، وَحَبستُ نفسِي عليها؟ فقالَ عمرُ: إِنَّها كانتْ تَصنعُ ذلكَ بِكَ وهي تتمنَّى بقاءَك، وأنت تَصنعُه وأنت تتمنَّى فِراقَها؛ ولكنَّك مُحسنٌ، والله يُثيبُ الكثيرَ على القليل.
وأخرج البخاري في "الأدب المفرد": أنَّ ابنَ عمرَ - رضي الله عنهما - شهدَ رجلاً يمانيًّا يطوفُ بالبيت، حملَ أُمَّه وراءَ ظهرِه يقول: إنِّي لها بعيرُها المذَلَّل، إن أُذْعِرَتْ رِكابُها لم أُذعَر، الله ربِّي ذو الجلال الأكبر، حمْلتُها أكثرَ ممَّا حَمَلتْني، فهل ترى جازيتُها يا ابنَ عمر؟ قال ابنُ عمرَ: لا، ولا بزفرةٍ واحدةٍ.
عبادَ الله:
لَمَّا كان بِرُّ الوالدين عمومًا، والوالدةِ خصوصًا، من القُرباتِ العظيمةِ، تسابقَ إليها الأتقياءُ من عبادِ الله؛ من الأنبياءِ وأتباعهم، فها هو يحيى - عليه السَّلام - يقول عنه مولاه: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم: 14]، وعن عيسى - عليه السَّلام - قال - تعالى -: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 32].
ومن مدرسةِ النُّبوةِ يَبرزُ لنا حارثةُ بنُ النعمان - رضي الله عنه - نموذجًا يَشهدُ له النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بحسنِ المُكافأة، ويَراهُ في الجنَّة على بِرِّه، وهو بَعدُ في الدنيا؛ يقولُ عليه - الصَّلاة والسَّلام -: ((نِمْتُ فرأيتُني في الجنَّة، فسمعتُ صوتَ قارئٍ يَقرأُ، فقلتُ: مَن هذا؟ قالوا: هذا حارثةُ بنُ النعمان، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: كذلك البِر، كذلكَ البر، وكانَ أَبرَّ النَّاس بأمِّه))؛ رواه أحمد، وصحَّحه الألباني.
ولقد طَلبتْ أمُّ ابنِ مسعودٍ - رضي اللهُ عنها - من ابنها عبدِاللهِ ماءً في بعضِ اللَّيالي، فذهبَ فجاءَها بِشربةٍ فوجدَها قد ذهبَ بها النَّوم، فثَبتَ بالشرْبة عندَ رأسِها حتَّى أََصبحَ، وها هو ابنُ عباس - رضي الله عنه - يقولُ: "إنِّي لا أعلمُ عملاً أقربَ إلى اللهِ - عز وجلَّ - من بِرِّ الوالدةِ"؛ أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وصحَّحه الألباني.
أيُّها المسلمون:
لقد كان السَّلفُ الصالحُ يجتهدون في الإحسانِ إلى والدِيهم، وخصوصًا أمَّهاتِهم، حتَّى وإن كانوا علماء، ولذلك باركَ الله في حياتِهم، وباركَ في علمِهم بعدَ مماتِهم، بسببِ رضا والدِيهم عَنهم.
وفي ذِكْر بعضِ آثارِهم شحذٌ لهممِ الشَّباب خاصَّةً، وغَيرِهم عامَّة:
كان أبو حنيفةَ - رحمه الله تعالى - بارًّا بوالدِيه، وكان يدعو لهما مع شيخِه حمَّاد، وكان يَتصدَّقُ كلَّ شهرٍ بعشرين دينارًا عن والديه.
وقالَ محمَّد بنُ بشرٍ الأسلميُّ: لم يكنْ أحدٌ بالكوفة أبرَّ بأمِّه من منصورِ بن المعتمر، وأبي حنيفة، وكانَ منصورٌ يَفْلِي رأسَ أُمِّه، ويقول محمد بنُ المنكدر: باتَ أخي عمر يُصلِّي، وبِتُّ أغمِزُ رِجلَ أمِّي، وما أحبُّ أنَّ ليلتي بليلته.
وعن رِفاعةَ بن إياسٍ قال: رأيتُ الحارثَ العُكليَّ في جنازة أُمِّه يبكي، فقيل له: تَبْكي؟! قال: ولِمَ لا أبكي، وقد أُغْلِقَ عنِّي بابٌ من أَبواب الجَنَّة؟!
عبادَ الله:
قارنوا بينَ حالِ هؤلاءِ السَّلف والصالحينَ، وحالِ كثيرٍ منَ الأبناءِ اليوم، فقدِ انقلبتِ الموازين، واختلتِ المعاييرُ، فكمْ سمِعَ الناسُ وقَرؤُوا، وشاهدُوا مِن مَظاهرِ العُقوقِ القوليَّة والعمليَّة ما يَندى له الجبينُ، ويَتفطَّر له القلبُ كَمدًا، فهذه أمٌ تُهان، وذاك والدٌ يُضرب، وآخَرُ يُلقي والديه في دُورِ العَجزةِ والمُسنِّينَ، تأففٌ وتضجر، وإظهارٌ للسَّخَطِ وعدَم الرِّضا، حتى غَدتْ منزِلةُ الصَّدِيق عندَ الكثير من شَباب اليوم أعلى قدرًا، وأجلَّ مكانةً من الوالدَين، بلْ وُجد - والعِياذُ باللهِ - من يَتعامل بحُسنِ خُلقٍ ولِين جانبٍ مع الكفَّارِ؛ من عِمالةٍ وخَدمٍ وغيرِهم، وهو سيِّئُ الطَّبع والخُلقِ مع أَقربِ النَّاسِ إليه؛ والديه وأهله.
ألاَ وإنَّ مِن صُورِ العُقوقِ - أيُّها المسلمون - التي تَفشَّت في هذه الأزمانِ: ما يكونُ مِن بعضِ الأبناءِ من تَفضيلِ زوَجتِه على والديه، فيُقدِّمُ طاعتَها على طاعتِهما، ويُؤْثِر راحتَها على راحتِهما، بل قد يَتسبَّب في إسخاطِهما؛ إرضاءً لزوجته، ويَزدادُ الأمرُ شرًّا وسوءًا إذا كانتِ الزوجةُ دنيئةَ الخُلقِ تُعينُ الشَّيطانَ على زوجِها تُجاهَ والديه، فكم تحدَّث النَّاس عن زوجةِ سوءٍ فَرَّقت بينَ المرءِ ووالدِيه، أو أحدِهما!
يَخرجُ أحدُهم بزوجته يَضربانِ في الأرضِ دروبًا كثيرةً، دونَ ضجرٍ أو مللٍ، ولو طَلبَ منه والداه أو أحدُهما قضاءَ حاجةٍ لهما من السَّفر بهما أو التَّرويح عنهما، لقدَّم الولد عُذرَه واعتذارَه، وإذا أجابَ تَجدُه - وللأسف - كارهًا صحبتهما، ومتثاقلاً مرافقتِهما له في حِلِّه وترحاله، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة، حلَّ بها البلاء وذكر منها: وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وبرَّ صديقه، وجفا أباه))؛ رواه الترمذي وغيره.
عبدَ الله:
أهكذا ينتهي الحال بأُمِّك التي حملتْك كُرهًا، ووضعتْك كُرهًا، ورأتَ الموتَ بعينيها حينَ وِلادتِك؟! أهذا جزاء والدتك التي أرضعتْكَ طعامَها، ورَبتْك في حِجرِها، وأزالتْ عنكَ الأذى بيمينيها؟!
مسكينٌ أنتَ أيُّها العاقُّ، تَنامُ مِلءَ جَفنيكَ وقد تَركتَ والِدَينِ ضعيفَينِ يَتجرَّعان من العقوق غُصصًا، ونسيت أو تناسيت أنَّكَ مُمهَلٌ لا مُهمَل، فعاقبةُ العُقوقِ مُعجَّلةٌ لصاحبِها في الدُّنيا قبلَ الآخرة؛ يقولُ - صلَّى الله عليه وسلَّمَ - فيما يُروى عنه عند الحاكم وصحَّحه: ((كلُّ الذُّنوب يؤخِّر الله منها ما شاءَ إلاَّ عقوق الوالدين؛ فإنَّه يعجِّل لصاحبه العقوبةَ قبلَ الممات)).
ومِن عَجيب ما ذُكِر في جَزاءِ العاقِّ: ما ذَكره ابنُ القيم - رحمه الله - في كتاب "الرُّوح" قال: قال أبو قَزعَةَ: مررْنا في بعض المياهِ التي بيننا وبينَ البصرةِ، فسمعنا نَهيِقَ حِمارٍ، فقلنا لهم: ما هذا النَّهيق؟ قالوا: هذا رجلٌ كانَ عندنا، كانتْ أمُّه تُكلِّمه بالشيءِ، فيقول لها: انهقي، فلمَّا مات سُمِعَ هذا النَّهيقُ من قبرِه كلَّ ليلة.
عبدَ الله:
اللهمَّ يا حيُّ يا قيوم، اجعلنا ممَّن بَرَّ والدَيه، فبرَّه أبناؤُهُ، يا ذا الجلال والإكرام.
أقولُ ما تسمعون عباد الله، وأستغفر اللهَ العظيمَ الجليل لي ولكم، فاستغفِرُوه، إنَّه كان غفورًا رحيمًا.
الخُطبة الثانية
عبادَ الله:
إنَّ برَّ الوالدة والإحسان إليها لا يَعني خرقَ حدود الشَّريعة، أو تجاوزها لأجْلِها، فلا تُطاع الأمُّ في معصية الله - تعالى - ولا يقدَّم قولُها على قول الله ورسوله، ولا يجوز لنا أن نتشبَّه بأهل الكُفر في طقوسهم تُجاهَ أُمَّهاتهم، حيثُ يخصِّصون لها يومًا في السَّنة؛ للبرِّ بها، والإحسان إليها، يُسمُّونه يومَ الأُم، ولا يَخفى أنَّ هذه البدع المُحدَثة ليست من نهج الإسلام في شيء، وفيها تقليدٌ لأهل الكفر الذين نُهينا عن التَّشبُّه بهم، وأُمرنا بمخالفتهم، ومَن أَبَى فقد قال النبي - صلَّى الله عليه وسلم -: ((مَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم)).
عبدَ الله:
إنَّ من حَقِّ الوالدينِ البرَّ بهما والإحسانَ إليهما، والإنفاقَ عليهما، والتَّوخي لشهواتهما، والمبالغة في خِدمتهما، واستعمال الأدب والهَيبة لهما، فلا يرفع الولدُ صوتَه عليهما، ولا يُحِد نظرَه إليهما، ولا يدعوهما باسميهما، ويمشي وراءهما، ويصبر على ما يَكره مِمَّا يصدر منهما إذا أَقبلاَ على الكِبَر والشَّيخوخة، وسوفَ تَبلغُ – عبدَالله - مِن الكِبَر عندَ أبنائِكَ - إذا قَدَّر اللهُ لكَ البقاء - كما بَلغَاهُ عِندَك، وسوفَ تَحتاجُ إلى بِرِّ أبنائِكَ كما احتاجَا إلى بِرِّكَ، والجزاءُ من جنسِ العَملِ؛ {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 - 24].
أيُّها المسلمون:
إنَّ مِن تمام البرِّ للوالدَينِ بعدَ وفاتهما: التَّرحُّمَ عليهما، والصَّدقةَ عنهما، وصِلةَ الرَّحم التي كانَا يَصلانِها؛ جاء رجلٌ إلى النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: هل بقيَ عليَّ مِن بِرِّ أبويَّ شيءٌ أَبرُّهُما به بعدَ وَفاتِهما؟ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((نعم، الصَّلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدِهما من بعدِهما، وصِلة الرَّحمِ التي لا توصلُ إلاَّ بهما، وإكرامُ صدِيقِهما))؛ أخرجه أحمدُ وغيرُه.
ألاَ فاتَّقوا اللهَ عبادَ الله، وامتثلوا أمرَه، واجتنبوا نهيَه، وبَرُّوا أباءكم وأمَّهاتِكم تَبَرَّكم أبناؤُكم، وأحسنوا إنَّ الله يحبُّ المحسنين.
ثم صَلُّوا - رحمكم الله - على الهادي البشير.
اللهمَّ يا ذا الأسماء الحسنى والصِّفات العُلى، اغفرْ لآبائِنا وأمَّهاتِنا، جازِهم بالإحسانِ إحسانًا، وبالسيِّئاتِ عفوًا منكَ وغُفرانًا.
اللهمَّ يا حيُّ يا قيوم، ارزقنا برَّ والدِينا أحياءً وأمواتًا، واجعلْنا لهم قُرَّةَ أعين، وتوفَّنا وإيَّاهُم وأنتَ راضٍ عنَّا غيرَ غضبان.
اللهمَّ باركْ لنا في أعمارنا وأولادنا وأموالنا، واجعلنا للمتقين إمامًا.
اللهمَّ اهدِ شبابَ المسلمين، حبِّب إليهم الإيمانَ وزيِّنه في قُلوبِهم، وكرِّه إليهم الكفرَ والفسوقَ والعِصيان، واجعلهم من الراشدين.
إنَّ مِن أعظمِ الرَّوابطِ بينَ النَّاسِ رابطةً خصَّها الإسلامُ بمزيدٍ من العناية والذِّكرِ، فحضَّ عليها أكثرَ مِن غيرِها، وأمرَ بوصلِها والإحسانِ إليها في أحلكِ الظروفِ وأشدِّ المواقف، وحذَّرَ من المساسِ بأصحابِها، ولو بأدنى الألفاظِ وأقلِّ الكلمات، تِلْكُم الرابطةُ - عبادَ الله - هي رابطةُ الوالدَينِ.
عبادَ اللهِ:
أيُّها المسلمونَ، هذانِ الأبوانِ جاءتِ الوصيةُ الإلهيَّةُ بالإحسانِ إليِهما في قوله - سبحانه -: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8]، ولمكانتِهما قرنَ اللهُ حقَّه بحقِّهما، وشُكرَه بشكرِهما، وأمر بالإحسان إليهما بعدَ الأمرِ بعبادِته؛ فقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، ولما سأل ابنُ مسعود - رضي الله عنه - النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله تعالى؟ قال: ((الصَّلاة على وقتها))، قلت: ثم أيُّ؟ قال: ((بِرُّ الوالدين))، قلت: ثم أيُّ؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))؛ متفق عليه.
عبادَ الله:
"الأمُّ هي قرينةُ الأب"، وهي تُمِّثلُ نِصفَ المجتمع، ويخرجُ مِن بين تَرائبِها النِّصفُ الآخرُ، فأضحتْ - بحقٍّ - تَلِدُ الأُمَّةَ بكاملها، ومع هذه المكانة الرَّفيعة لِمَن جُعِلت الجنَّةُ تحت قدميها، إلاَّ أنَّا أضحيْنا بين الفَينةِ والأخرى نَحتاجُ إلى التَّذكيرِ بحقِّ الأمَّهاتِ وواجبنا تُجاهَهنَّ، فيا تُرى مَن هي الأمُّ التي جاءتْ نصوصُ الشَّرعِ بطاعتِها وبرِّها، والتحذير من التهاون بشأنها، أو التقصيرِ في حقِّها؟
أيُّها المسلمونَ:
ليسَ هناكَ أبلغُ من كتابِ اللهِ - تعالى - وهو يَصِفُ لنا جزءًا من معاناةِ أُمَّهاتنا حالَ حملِهنَّ بنا، وإرضاعِهنَّ لنا؛ يقولُ الله - تعالى - في كتابِه الكريمِ: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، فتأمَّلْ - رعاكَ اللهُ - وصيةَ الربِّ الرحيم، وهو يُذكِّر بحالةِ العَنتِ والمشقَّةِ، والألمِ والنَّصَب، التي قاستها الأمُّ الحنونُ وهي تَحمِلُ جَنينَها في أحشائِها تسعةَ أشهرٍ، ذلك الحملُ الذي أقضَّ مضاجعَها، وأسهرَ ليلَها، وأوهنَ قُواها، تسعة أشهرٍ وهي تقاسي ثِقَلَ الحملِ وشِدِّتَه وعُسرَه، تسعة أشهر كأنَّها الدَّهرُ كلُّه، وهي ما بَينَ إعياءٍ وإغماءٍ، وكَربٍ وبلاء.
ثم بعدَ ذلكَ الجهدِ الجَهيدِ، والعناءِ الرَّهيبِ، تأتي أشدُّ ساعاتِ الكرْبِ والألم، ساعةُ وضعِ الأمِّ لجنِينها وفَلذَةِ كَبدِها، تلك الساعةُ التي ترى فيها الأمُّ الموتَ بعينيِها، وتكاد تُسْلِم الرُّوحَ لبارئِها، فما أعظمَ معاناتِها! وما أشدَّ صرخاتِها! فإذا فرَّجَ اللهُ كُربَة الأمِّ بخروجِ طِفلِها الذي كادَ يقتُلها، تبدأ بعدَ ذلكَ مشوارَها الطويلَ لإرضاعِ صبيِّها عامين كاملين، وهو يَمتصُّ عُصارةَ غِذائِها وخُلاصةَ صحتها، حتَّى أنهكَ بدنَها، وأتعبَ رُوحَها.
وهكذا تَظلُّ الأمُّ العُمُرَ كلَّه، وهي تُشفقُ على وليدِها، تَرعاهُ وتُغدق عليه من عطفِها، وتُحيطه بحَنانِها، تَسهر لسَهَرِه، وتَبكي لبكائِه، وتنقطعُ لألمِه ومرضِه، ولا يزالُ هذا دأبَها مع ابنِها، مهما كَبِرَ سِنُّه واشتدَّ عُودُه، يَظلُّ شجرةَ فؤادها، وقِطعةَ كبدِها.
تقول أمُّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنهما -: جاءتْني مسكينةٌ تحمل ابنتينِ لها فأطعمتُها ثلاثَ تمراتٍ، فأعطتْ كلَّ واحدة منهما تمرةً، ورفعتْ إلى فِيها تمرةً؛ لتأكلَها، فاستطعمتْها ابنتاها، فشقَّتِ التمرة التي كانت تريد أن تأكلَها بينهما، فأعجبني شأنُها، فذكرتُ الذي صنعتْ لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((إنَّ الله قد أوجب لها بها الجَنَّة، أو أعتقها من النَّار))؛ رواه مسلم.
عبادَ الله:
لهذه الآلامِ الشَّديدة والأعمالِ المجهدة، من حملٍ وولادةٍ ورَضاعٍ وغيرِها؛ خَصَّ اللهُ - تعالى - الأمَّ بمزيدٍ من الوصيةِ ببرِّها؛ فقد جاءَ في الصَّحيحينِ عن أبي هريرةَ - رضيَ اللهُ عنه -: أنَّ رجلاً جاء إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالَ: يا رسولَ الله، مَن أحقُّ النَّاسِ بِحُسنِ صَحابتِي؟ قالَ: ((أُمُّكَ))، قالَ: ثم مَن؟ قال: ((ثُمَّ أُمُّك))، قالَ: ثم مَن؟ قال: ((ثُمَّ أُمُّك))، قالَ: ثم مَن؟ قالَ: ((ثُمَّ أَبُوكَ)).
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ - رحمه الله تعالى -: "جاءَ ما يَدلُّ على تَقدِيمِ الأمِّ في البرِّ مُطلقًا، وهو ما أَخرَجه الإمامُ أحمدُ والنَّسائي؛ وصحَّحه الحاكمُ من حديثِ عائشةَ - رضي الله عنها -: أنَّها سألتِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّمَ -: أيُّ النَّاسِ أعظمُ حقًّا على المرأةِ؟ قال: ((زوجُها))، قالتْ: فقلتُ على الرَّجلِ؟ قالَ: ((أُمُّه))".
أيُّها المسلمون:
لا يُعجبنَّ أحدٌ ببرِّه بأمِّه، ولا يَتعاظمِ امرؤٌ ما يُسديه لها، فواللهِ الذي لا إلهَ غيرُه، لا يُساوي ما نُقدِّمُه لأمَّهاتِنا طلقةً من طَلقاتِ وضعِها، أو زفرةً من زفراتها، أو صرخةً من صرخاتها؛ جاءََ رجلٌ إلى عمرَ بنَ الخطَّاب - رضي الله عنه - فقال: إنِّ لي أُمًّا بَلغ بها الكِبَر، وإنَّها لا تَقضي حوائجَها إلاَّ وظَهري مطيَّةٌ لها، وأُوضِّئُها وأصرِفُ وجهي عنها، فَهل أَدَّيتُ حَقَّها؟ قال: لا، قال: ألَيسَ قد حَمَلتُها على ظَهرِي، وَحَبستُ نفسِي عليها؟ فقالَ عمرُ: إِنَّها كانتْ تَصنعُ ذلكَ بِكَ وهي تتمنَّى بقاءَك، وأنت تَصنعُه وأنت تتمنَّى فِراقَها؛ ولكنَّك مُحسنٌ، والله يُثيبُ الكثيرَ على القليل.
وأخرج البخاري في "الأدب المفرد": أنَّ ابنَ عمرَ - رضي الله عنهما - شهدَ رجلاً يمانيًّا يطوفُ بالبيت، حملَ أُمَّه وراءَ ظهرِه يقول: إنِّي لها بعيرُها المذَلَّل، إن أُذْعِرَتْ رِكابُها لم أُذعَر، الله ربِّي ذو الجلال الأكبر، حمْلتُها أكثرَ ممَّا حَمَلتْني، فهل ترى جازيتُها يا ابنَ عمر؟ قال ابنُ عمرَ: لا، ولا بزفرةٍ واحدةٍ.
عبادَ الله:
لَمَّا كان بِرُّ الوالدين عمومًا، والوالدةِ خصوصًا، من القُرباتِ العظيمةِ، تسابقَ إليها الأتقياءُ من عبادِ الله؛ من الأنبياءِ وأتباعهم، فها هو يحيى - عليه السَّلام - يقول عنه مولاه: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم: 14]، وعن عيسى - عليه السَّلام - قال - تعالى -: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 32].
ومن مدرسةِ النُّبوةِ يَبرزُ لنا حارثةُ بنُ النعمان - رضي الله عنه - نموذجًا يَشهدُ له النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بحسنِ المُكافأة، ويَراهُ في الجنَّة على بِرِّه، وهو بَعدُ في الدنيا؛ يقولُ عليه - الصَّلاة والسَّلام -: ((نِمْتُ فرأيتُني في الجنَّة، فسمعتُ صوتَ قارئٍ يَقرأُ، فقلتُ: مَن هذا؟ قالوا: هذا حارثةُ بنُ النعمان، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: كذلك البِر، كذلكَ البر، وكانَ أَبرَّ النَّاس بأمِّه))؛ رواه أحمد، وصحَّحه الألباني.
ولقد طَلبتْ أمُّ ابنِ مسعودٍ - رضي اللهُ عنها - من ابنها عبدِاللهِ ماءً في بعضِ اللَّيالي، فذهبَ فجاءَها بِشربةٍ فوجدَها قد ذهبَ بها النَّوم، فثَبتَ بالشرْبة عندَ رأسِها حتَّى أََصبحَ، وها هو ابنُ عباس - رضي الله عنه - يقولُ: "إنِّي لا أعلمُ عملاً أقربَ إلى اللهِ - عز وجلَّ - من بِرِّ الوالدةِ"؛ أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وصحَّحه الألباني.
أيُّها المسلمون:
لقد كان السَّلفُ الصالحُ يجتهدون في الإحسانِ إلى والدِيهم، وخصوصًا أمَّهاتِهم، حتَّى وإن كانوا علماء، ولذلك باركَ الله في حياتِهم، وباركَ في علمِهم بعدَ مماتِهم، بسببِ رضا والدِيهم عَنهم.
وفي ذِكْر بعضِ آثارِهم شحذٌ لهممِ الشَّباب خاصَّةً، وغَيرِهم عامَّة:
كان أبو حنيفةَ - رحمه الله تعالى - بارًّا بوالدِيه، وكان يدعو لهما مع شيخِه حمَّاد، وكان يَتصدَّقُ كلَّ شهرٍ بعشرين دينارًا عن والديه.
وقالَ محمَّد بنُ بشرٍ الأسلميُّ: لم يكنْ أحدٌ بالكوفة أبرَّ بأمِّه من منصورِ بن المعتمر، وأبي حنيفة، وكانَ منصورٌ يَفْلِي رأسَ أُمِّه، ويقول محمد بنُ المنكدر: باتَ أخي عمر يُصلِّي، وبِتُّ أغمِزُ رِجلَ أمِّي، وما أحبُّ أنَّ ليلتي بليلته.
وعن رِفاعةَ بن إياسٍ قال: رأيتُ الحارثَ العُكليَّ في جنازة أُمِّه يبكي، فقيل له: تَبْكي؟! قال: ولِمَ لا أبكي، وقد أُغْلِقَ عنِّي بابٌ من أَبواب الجَنَّة؟!
عبادَ الله:
قارنوا بينَ حالِ هؤلاءِ السَّلف والصالحينَ، وحالِ كثيرٍ منَ الأبناءِ اليوم، فقدِ انقلبتِ الموازين، واختلتِ المعاييرُ، فكمْ سمِعَ الناسُ وقَرؤُوا، وشاهدُوا مِن مَظاهرِ العُقوقِ القوليَّة والعمليَّة ما يَندى له الجبينُ، ويَتفطَّر له القلبُ كَمدًا، فهذه أمٌ تُهان، وذاك والدٌ يُضرب، وآخَرُ يُلقي والديه في دُورِ العَجزةِ والمُسنِّينَ، تأففٌ وتضجر، وإظهارٌ للسَّخَطِ وعدَم الرِّضا، حتى غَدتْ منزِلةُ الصَّدِيق عندَ الكثير من شَباب اليوم أعلى قدرًا، وأجلَّ مكانةً من الوالدَين، بلْ وُجد - والعِياذُ باللهِ - من يَتعامل بحُسنِ خُلقٍ ولِين جانبٍ مع الكفَّارِ؛ من عِمالةٍ وخَدمٍ وغيرِهم، وهو سيِّئُ الطَّبع والخُلقِ مع أَقربِ النَّاسِ إليه؛ والديه وأهله.
ألاَ وإنَّ مِن صُورِ العُقوقِ - أيُّها المسلمون - التي تَفشَّت في هذه الأزمانِ: ما يكونُ مِن بعضِ الأبناءِ من تَفضيلِ زوَجتِه على والديه، فيُقدِّمُ طاعتَها على طاعتِهما، ويُؤْثِر راحتَها على راحتِهما، بل قد يَتسبَّب في إسخاطِهما؛ إرضاءً لزوجته، ويَزدادُ الأمرُ شرًّا وسوءًا إذا كانتِ الزوجةُ دنيئةَ الخُلقِ تُعينُ الشَّيطانَ على زوجِها تُجاهَ والديه، فكم تحدَّث النَّاس عن زوجةِ سوءٍ فَرَّقت بينَ المرءِ ووالدِيه، أو أحدِهما!
يَخرجُ أحدُهم بزوجته يَضربانِ في الأرضِ دروبًا كثيرةً، دونَ ضجرٍ أو مللٍ، ولو طَلبَ منه والداه أو أحدُهما قضاءَ حاجةٍ لهما من السَّفر بهما أو التَّرويح عنهما، لقدَّم الولد عُذرَه واعتذارَه، وإذا أجابَ تَجدُه - وللأسف - كارهًا صحبتهما، ومتثاقلاً مرافقتِهما له في حِلِّه وترحاله، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة، حلَّ بها البلاء وذكر منها: وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وبرَّ صديقه، وجفا أباه))؛ رواه الترمذي وغيره.
عبدَ الله:
أهكذا ينتهي الحال بأُمِّك التي حملتْك كُرهًا، ووضعتْك كُرهًا، ورأتَ الموتَ بعينيها حينَ وِلادتِك؟! أهذا جزاء والدتك التي أرضعتْكَ طعامَها، ورَبتْك في حِجرِها، وأزالتْ عنكَ الأذى بيمينيها؟!
مسكينٌ أنتَ أيُّها العاقُّ، تَنامُ مِلءَ جَفنيكَ وقد تَركتَ والِدَينِ ضعيفَينِ يَتجرَّعان من العقوق غُصصًا، ونسيت أو تناسيت أنَّكَ مُمهَلٌ لا مُهمَل، فعاقبةُ العُقوقِ مُعجَّلةٌ لصاحبِها في الدُّنيا قبلَ الآخرة؛ يقولُ - صلَّى الله عليه وسلَّمَ - فيما يُروى عنه عند الحاكم وصحَّحه: ((كلُّ الذُّنوب يؤخِّر الله منها ما شاءَ إلاَّ عقوق الوالدين؛ فإنَّه يعجِّل لصاحبه العقوبةَ قبلَ الممات)).
ومِن عَجيب ما ذُكِر في جَزاءِ العاقِّ: ما ذَكره ابنُ القيم - رحمه الله - في كتاب "الرُّوح" قال: قال أبو قَزعَةَ: مررْنا في بعض المياهِ التي بيننا وبينَ البصرةِ، فسمعنا نَهيِقَ حِمارٍ، فقلنا لهم: ما هذا النَّهيق؟ قالوا: هذا رجلٌ كانَ عندنا، كانتْ أمُّه تُكلِّمه بالشيءِ، فيقول لها: انهقي، فلمَّا مات سُمِعَ هذا النَّهيقُ من قبرِه كلَّ ليلة.
عبدَ الله:
لِأُمِّكَ حَقٌّ لَوْ عَلِمْتَ كَثِيرُ كَثيِرُكَ يَا هَذَا لَدَيْهِ يَسِيرُ فَكَمْ لَيْلَةٍ بَاتَتْ بِثُقْلِكَ تَشْتَكِي لَهَا مِنْ جَوَاهَا أَنَّةٌ وَزَفِيرُ وَفِي الْوَضْعِ لَوْ تَدْرِي عَلَيْهَا مَشَقَّةٌ فَمِنْ غُصَصٍ مِنْهَا الْفُؤَادُ يَطِيرُ وَكَمْ غَسَلَتْ عَنْكَ الْأَذَى بِيَمِينِيهَا وَمَا حِجْرُهَا إِلاَّ لَدَيْكَ سَرِيرُ وَتَفْدِيكَ مِمَّا تَشْتِكِيِهِ بِنَفْسِهَا وَمِنْ ثَدْيِهَا شِرْبٌ لَدَيْكَ نَمِيرُ وَكَمْ مَرَّةٍ جَاعَتْ وَأَعْطَتْكَ قُوتَهَا حَنَانًا وَإِشْفَاقًا وَأَنْتَ صَغِيرُ فَآهٍ لِذِي عَقْلٍ وَيَتَّبِعُ الْهَوَى وَآهٍ لِأَعْمَى الْقَلْبِ وَهْوَ بَصِيرُ فَدُونَكَ فَارْغَبْ فِي عَمِيمِ دُعَائِهَا فَأَنْتَ لِمَا تَدْعُو إِلَيْهِ فَقِيرُ |
اللهمَّ يا حيُّ يا قيوم، اجعلنا ممَّن بَرَّ والدَيه، فبرَّه أبناؤُهُ، يا ذا الجلال والإكرام.
أقولُ ما تسمعون عباد الله، وأستغفر اللهَ العظيمَ الجليل لي ولكم، فاستغفِرُوه، إنَّه كان غفورًا رحيمًا.
الخُطبة الثانية
عبادَ الله:
إنَّ برَّ الوالدة والإحسان إليها لا يَعني خرقَ حدود الشَّريعة، أو تجاوزها لأجْلِها، فلا تُطاع الأمُّ في معصية الله - تعالى - ولا يقدَّم قولُها على قول الله ورسوله، ولا يجوز لنا أن نتشبَّه بأهل الكُفر في طقوسهم تُجاهَ أُمَّهاتهم، حيثُ يخصِّصون لها يومًا في السَّنة؛ للبرِّ بها، والإحسان إليها، يُسمُّونه يومَ الأُم، ولا يَخفى أنَّ هذه البدع المُحدَثة ليست من نهج الإسلام في شيء، وفيها تقليدٌ لأهل الكفر الذين نُهينا عن التَّشبُّه بهم، وأُمرنا بمخالفتهم، ومَن أَبَى فقد قال النبي - صلَّى الله عليه وسلم -: ((مَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم)).
عبدَ الله:
إنَّ من حَقِّ الوالدينِ البرَّ بهما والإحسانَ إليهما، والإنفاقَ عليهما، والتَّوخي لشهواتهما، والمبالغة في خِدمتهما، واستعمال الأدب والهَيبة لهما، فلا يرفع الولدُ صوتَه عليهما، ولا يُحِد نظرَه إليهما، ولا يدعوهما باسميهما، ويمشي وراءهما، ويصبر على ما يَكره مِمَّا يصدر منهما إذا أَقبلاَ على الكِبَر والشَّيخوخة، وسوفَ تَبلغُ – عبدَالله - مِن الكِبَر عندَ أبنائِكَ - إذا قَدَّر اللهُ لكَ البقاء - كما بَلغَاهُ عِندَك، وسوفَ تَحتاجُ إلى بِرِّ أبنائِكَ كما احتاجَا إلى بِرِّكَ، والجزاءُ من جنسِ العَملِ؛ {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 - 24].
أيُّها المسلمون:
إنَّ مِن تمام البرِّ للوالدَينِ بعدَ وفاتهما: التَّرحُّمَ عليهما، والصَّدقةَ عنهما، وصِلةَ الرَّحم التي كانَا يَصلانِها؛ جاء رجلٌ إلى النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: هل بقيَ عليَّ مِن بِرِّ أبويَّ شيءٌ أَبرُّهُما به بعدَ وَفاتِهما؟ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((نعم، الصَّلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدِهما من بعدِهما، وصِلة الرَّحمِ التي لا توصلُ إلاَّ بهما، وإكرامُ صدِيقِهما))؛ أخرجه أحمدُ وغيرُه.
ألاَ فاتَّقوا اللهَ عبادَ الله، وامتثلوا أمرَه، واجتنبوا نهيَه، وبَرُّوا أباءكم وأمَّهاتِكم تَبَرَّكم أبناؤُكم، وأحسنوا إنَّ الله يحبُّ المحسنين.
ثم صَلُّوا - رحمكم الله - على الهادي البشير.
اللهمَّ يا ذا الأسماء الحسنى والصِّفات العُلى، اغفرْ لآبائِنا وأمَّهاتِنا، جازِهم بالإحسانِ إحسانًا، وبالسيِّئاتِ عفوًا منكَ وغُفرانًا.
اللهمَّ يا حيُّ يا قيوم، ارزقنا برَّ والدِينا أحياءً وأمواتًا، واجعلْنا لهم قُرَّةَ أعين، وتوفَّنا وإيَّاهُم وأنتَ راضٍ عنَّا غيرَ غضبان.
اللهمَّ باركْ لنا في أعمارنا وأولادنا وأموالنا، واجعلنا للمتقين إمامًا.
اللهمَّ اهدِ شبابَ المسلمين، حبِّب إليهم الإيمانَ وزيِّنه في قُلوبِهم، وكرِّه إليهم الكفرَ والفسوقَ والعِصيان، واجعلهم من الراشدين.
الشيخ أحمد الفقيهي
مآآآآآجده
مآآآآآجده