الذكر أفضل عبادات المسلم، وهو رأس الأعمال الصالحة، وهو جلاء القلوب من الصدأ الذي يصيبها من الغفلة، والله مع الذاكرين حين يذكرونه، يذكرهم سبحانه كما يذكرونه، (فاذكروني أذكركم..)، وهو جل في علاه يذكر الذاكرين على الهيئة التي يذكرونه عليها، فإذا ذكر العبد ربه في نفسه، ذكره تعالى في نفسه، وإن ذكر العبد ربه في ملأ، ذكره العلي المتعالى في ملأ خيراً منه.
ونبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الذاكرين الله، وهو الحائز على قصب السبق والتفرد في ذكر الله، فكان أول وأفضل المفردين، وهو صلى الله عليه وسلم القائل “سَبَقَ المُفرِّدونَ، قالُوا ومَا المُفَرِّدونَ يا رَسُولَ اللّه؟ قالَ الذَّاكِرُونَ اللّه كَثِيراً وَالذَّاكرَاتُ”. (رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه).
فضل الذكر
وكان صلى الله عليه وسلم “ذِكرَاً” يتحرك على الأرض، فكان له ما يقولُه إذا استيقظَ مِن مَنامه، وما يَقُول إذا لبسَ ثوبَه، وما يقولُ إذا لبسَ نعلاً جديدا وما يقولُ لصاحبه إذا رأى عليه ثوباً جديداً، وما يقولُ إذا خلعَ ثوبَه، وما يقول حال خروجِهِ من بيتِه، وما يقولُ إذا دخلَ بيتَه، وما يقول إذا استيقظ من الليل وخرج من بيته، وما يقولُ إذا دخل أو خَرَجَ من الخَلاَء، وما يقولُ إذا أراد صَبَّ ماء الوضوءِ أو استقاءه، وما يَقولُ على وضُوئه، وما يقولُ على اغْتسالِه، وما يقولُ على تَيَمُّمِه، وما يقولُ إذا توجَّهَ إلى المسجدِ، وما يقولُه عندَ دخول المسجد والخروج منه، وهو في كل أحواله يذكر الله، في صحوه وفي منامه، في المنشط وفي المكره، في الفرح وعند الحزن، في السعة وعند الغضب، فكان حاله كله ذكراً لله رب العالمين.
ودلنا صلى الله عليه وسلم على فضل الذكر والذاكرين، وأنبأنا صلى الله عليه وسلم أن الذاكرين هم الأحياء حقاً، وأن الغافلين موتى، وإن كانوا يتحركون أمامنا، فقال “مَثَلُ الَّذي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذي لا يَذْكُرُهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ”. (رواه البخاري في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه)، وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: “والله إني لأحبك، فلا تنس أن تقول دُبر كل صلاة اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك”.
ويوصي نبينا صلى الله عليه وسلم الرجل الذي قال له إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ، فأخبرني بشيء أتشبث به، فيقول صلى الله عليه وسلم له: “لا يزال فوك رطبا من ذكر الله”، وروى الترمذي وأحمد والحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: “ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق (الفضة)، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: ذكر الله”.
تطهير القلوب
والذكر كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سبيل النجاة من عذاب الله، فعن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما عمل آدمي قط أنجى له من عذاب الله، من ذكر الله عز وجل” (رواه أحمد).
والذكر هو ما يجري على اللسان، من تسبيح الله تعالى، وتنزيهه، وحمده، والثناء عليه، ووصفه بصفات الكمال، ونعوت الجلال والجمال، ولكنه لا ينحصر في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوها، بل كلُّ طاعةٍ هي ذكرٌ للّه تعالى كما قال العلماء.
ويكون الذكر بالقلب، كما يكون باللسان، والأفضلُ منه ما كانَ بالقلب واللسان جميعاً، فإن اقتصرَ على أحدهما فالقلبُ أفضل، فالمرادُ من الذكر حضور القلب، وينبغي أن يكون هو هدف الذاكر الذي يحرص على تحصيله، والمطلوب أن يتدبر الذاكر ما يذكر، ويتعقل معناه، فالتدبُر في الذكر مطلوبٌ كما هو مطلوبٌ في قراءة القرآن لاشتراك كل منهما في الهدف المطلوب.
والمقصود من الذكر تزكية الأنفس وتطهير القلوب، وإيقاظ الضمائر، وإلى هذا تشير الآية الكريمة: (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر)، أي أن ذكر الله في النهي عن الفحشاء والمنكر أكبر من الصلاة، وذلك أن الذاكر حين يلهج بذكر الله لسانه يمده الله بنوره فيزداد إيمانا إلى إيمانه، ويقينا إلى يقينه، فيسكن قلبه للحق ويطمئن به: “الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب”، ومن غير المعقول أن يتصور أحد أن الأنفس يمكن أن تتزكى وأن القلوب يمكن أن تطمئن بمجرد لفظ يلفظه اللسان، ومن البديهي أن حركة اللسان لا جدوى منها ترتجى ما لم تكن موافقة للقلب.
رياض الجنة
ولعظم ثواب الذكر وفضله رغبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجلوس في حِلَق أهل الذكر، فقال: “إذا مَرَرْتُمْ بِرِياضِ الجَنَّةِ فارْتَعُوا، قالُوا وَمَا رِياضُ الجَنَّةِ يا رَسُولَ اللّه؟ قالَ حِلَقُ الذّكْرِ، فإنَّ للّه تعالى سَيَّارَاتٍ مِنَ المَلائِكَةِ يَطْلُبُونَ حِلَقَ الذّكْرِ، فإذَا أَتَوْا عَليْهِمْ حَفُّوا بِهِمْ”، وفي صحيح مسلم عن معاوية رضي الله عنه أنه قال خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على حلقة من أصحابه فقال “ما أجْلَسَكُم؟ قالوا: جلسنا نذكُر اللّه تعالى ونحمَدُه على ما هدانا للإسلام ومنّ به علينا، قال اللّه ما أجْلَسَكُمْ إلا ذَاكَ؟ قالوا واللَّهِ، ما أجلسنا إلاّ ذاك، قال أما إني لَمْ أستحلِفكُمْ تُهمةً لكُمْ، ولَكنَّهُ أتاني جبْرِيلُ فأخْبَرَنِي أنَّ اللّه تعالى يُباهي بكُمُ المَلائكَةَ”.
وقال العلماء إن مجالسُ الذِّكر هي مجالسُ الحلال والحرام، وكيف تشتري وتبيعُ وتصلّي وتصومُ وتنكحُ وتطلّق وتحجّ، وكل ما يجعل منك مسلماً ملتزماً بدينه وبهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولا خلاف في أن مجالس الذكر تشمل مجالس العلم التي يذكر فيها كلام الله وسنة رسوله، وأخبار السلف الصالحين، وكلام الأئمة الزهاد المتقدمين المبرأة عن التصنع والبدع والمنزهة عن المقاصد الردية والطمع.
حسرة يوم القيامة
وكما رغبنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في مجالس الذكر حذرنا صلى الله عليه وسلم من أن نجلس مجلسا لا يذكر الله فيه، ولا يصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما قعد قوم مقعداً لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة”، رواه الترمذي وقال حسن، ورواه أحمد بلفظ: “ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم ترة (حسرة)، وما من رجل يمشي طريقا فلم يذكر الله تعالى إلا كان عليه ترة، وما من رجل آوى إلى فراشه فلم يذكر الله عز وجل إلا كان عليه ترة”.
وذكر لنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم كفارة المجلس الذي لم يذكر اسم الله فيه فعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من جلس مجلساً فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا كفر الله له ما كان في مجلسه ذلك”.
ومن الأدب أن يكون الذاكر نظيف الثوب طاهر البدن طيب الرائحة، فإن ذلك مما يزيد النفس نشاطا، ويستقبل القبلة ما أمكن، فإن خير المجالس ما استقبل به القبلة.
وينبغي أن يكون الذاكرُ على أكمل الصفات، فإن كان جالساً في موضع استقبل القبلة وجلس مُتذلِّلاً مُتخشعاً بسكينة ووقار، مُطرقاً رأسه، ولو ذكر على غير هذه الأحوال جاز ولا كراهة في حقه، لكن إن كان بغير عذر كان تاركاً للأفضل.
وينبغي أن يكون الموضعُ الذي يذكرُ فيه خالياً نظيفاً، فإنه أعظمُ في احترام الذكر المذكور، ولهذا مُدح الذكرُ في المساجد والمواضع الشريفة حتى لا يُذكر اللّه تعالى إلاَّ في مكان طيّب، وينبغي للذاكر أن يكون فمه نظيفاً، فإن كان فيه تغيُّر أزاله بالسِّواك، وإن كان فيه نجاسة أزالها بالغسل بالماء، فلو ذكر ولم يغسلها فهو مكروهٌ ولا يَحرمُ، ولو قرأ القرآن وفمُه نجسٌ كُره.
اعلم أن الذكر باللسان محبوبٌ في جميع الأحوال إلا في حالة الجلوس على قضاء الحاجة، وفي حالة الجِماع، وفي حالة الخُطبة لمن يسمعُ صوت الخطيب، وفي القيام في الصلاة، بل المطلوب منه أن يشتغلُ بالقراءة، وفي حالة النعاس، ولا يُكره في الطريق ولا في الحمَّام. وكان للنبي صلى الله عليه وسلم ذكر في كل حال من أحواله
والسلام خير ختام