من الأمثال القرآنية التي ضربها الله - تعالى - للناس في كتابه العظيم: قولُه - تعالى -: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 92].
مَثَلٌ يضربه الله - تعالى - لمن ينقض العهدَ، بامرأةٍ حمقاء ملتاثة، ضعيفة العزم والرأي، تفتل غزْلها ثم تنقضه، وتتركه مرة أخرى قطعًا منكوثة ومحلولة!
إننا نستشفُّ من هذا المثل إنكارًا صارخًا وواضحًا لمن يجهد نفسَه في بناء عمل - أيّ عملٍ - حتى إذا تكامَلَ ما بناه، أتى بما يدمِّره ويقضي عليه، ولعل هذه الحال هي التي تصدق على من خرج من شهر رمضان بأعمالٍ جليلة، وطاعات عظيمة كأمثال الجبال، فإن استقام بعد رمضان، دام له الأمر، واستقامتْ له الحال، وإن خالف ما كان عليه، صارتْ تلك الجبال كثيبًا مهيلاً، وذهبت تلك الأعمالُ الجليلة أدراجَ الرياح، وصارت هباءً منثورًا.
والاستقامة والثبات يثبِّتانِ العمل ويمتِّنانه، ويسيران به في طريق الديمومة والاستمرار؛ ولذلك كان من جملة دعائه - عليه الصلاة والسلام -: ((اللهم إني أسألُك الثباتَ في الأمر، وأسألك عزيمة على الرشد))؛ (الترمذي، برقم 3407)، وعن شهر بن حوشب قال: قلتُ لأم سلمة: يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان عندكِ؟ قالت: كان أكثر دعائه: ((يا مقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك)) قالتْ: قلتُ: يا رسول الله، ما أكثرَ دعاءَك: يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك! قال: ((يا أم سلمة، إنه ليس آدميٌّ إلا وقلبُه بين إصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ))، فتلا معاذٌ - أحد رواة الحديث -: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]؛ (الترمذي، برقم 3522).
يقول الإمام ابن القيم: إن الدين مدارُه على أصلين: العزم، والثبات، وهما الأصلان المذكوران في الحديث الذي رواه أحمد والنسائي عن النبي: ((اللهم إني أسألك الثباتَ في الأمر، والعزيمة على الرشد))؛ ("عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" 1/90).
وقد ازدحمتِ الأمثلةُ في فكري عن الثبات، فما أدري أيها أسوق: أَخَبَرَ ثبات بلال بن رباح الحبشي - رضي الله عنه - حينما كان يُلقى به فوق رمال مكة الملتهبة، وتُرمى فوق صدره العاري الصخرةُ العظيمة؛ حتى يرجع عن دينه، فما يزيده ذلك إلا ثباتًا، وأن يقول: أحدٌ أحدٌ؟
أم خبر الإمام أحمد بن حنبل حينما ابتُلي بمسألة خلْق القرآن، فأظهر في ذلك شجاعة لا متناهية، وثباتًا تنهار أمامه رواسي الجبال وهممُ الرجال؟
قال صالحٌ - ابن الإمام أحمد -: قال أبي: ولما جيء بالسياط، نظر إليها المعتصم، فقال: ائتوني بغيرها، ثم قال للجلاَّدين: تقدَّموا، فجعل يتقدم إليَّ الرجلُ منهم، فيضربني سوطين، فيقول له: شدَّ، قطع الله يدك! ثم يتنحَّى ويتقدم آخر، فيضربني سوطين، وهو يقول في كل ذلك: شدَّ، قطع الله يدك! فلما ضُربتُ سبعةَ عشرَ سوطًا، قام إليَّ - يعني: المعتصم - فقال: يا أحمد، علامَ تقتلُ نفسك؟ إني - والله - عليك لشفيقٌ.
وجعل عجيفٌ - أحد الجلادين - ينخسني بقائمة سيفه، وقال: أتريد أن تغلب هؤلاءِ كلَّهم؟ وجعل بعضهم يقول: ويلك! إمامُك على رأسك قائمٌ، وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين، دمُه في عنقي، اقتلْه.
وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين، أنت صائمٌ، وأنت في الشمس قائمٌ! فقال لي: ويحك يا أحمد، ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله، أو سنة رسول الله، أقول به، فرجع وجلس، وقال للجلاد: تقدَّم وأوجع، قطع الله يدك، ثم قام الثانية، وجعل يقول: ويحك يا أحمد، أجبني، فجعلوا يُقبلون عليَّ، ويقولون: يا أحمد، إمامك على رأسك قائمٌ، وجعل عبدالرحمن يقول: من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟ والمعتصم يقول: أجبني إلى شيءٍ لك فيه أدنى فرجٍ؛ حتى أطلق عنك بيدي، ثم رجع وقال للجلاد: تقدم، فجعل يضربني سوطين ويتنحى، وهو في خلال ذلك يقول: شدَّ، قطع الله يدك!
فذهب عقلي، ثم أفقتُ بعدُ، فإذا الأقياد قد أُطلقت عني.
قال صالحٌ: ثم خُلِّيَ عنه، فصار إلى منزله، وكان مكثه في السجن منذ أُخذ إلى أن ضُرب وخلي عنه ثمانيةً وعشرين شهرًا.
قال أبو الفضل عبيد الله الزهري: قال المروذي: قلت لأبي عبدالله: يا أستاذ، قال الله - تعالى -: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]؟
قال: يا مروذي، اخرج وانظر، فخرجتُ إلى رحبة دار الخلافة، فرأيت خلقًا لا يحصيهم إلا اللهُ، والصحف في أيديهم، والأقلام والمحابر، فقال لهم المروذي: ماذا تعملون؟ قالوا: ننظر ما يقول أحمد، فنكتبه.
فدخل، فأخبره، فقال: يا مروذي، أُضل هؤلاء كلهم؟! ("مناقب الإمام أحمد"، ص: 329، 330، للإمام ابن الجوزي).
ففي هؤلاء لنا أحسنُ القدوة في الثبات على الحق، وألا نزيح عنه مهما كلَّفنا ذلك من تبعات.
واللهَ نسأل الثبات على دينه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ياسر مصطفى يوسف
مآآآآآجده
مَثَلٌ يضربه الله - تعالى - لمن ينقض العهدَ، بامرأةٍ حمقاء ملتاثة، ضعيفة العزم والرأي، تفتل غزْلها ثم تنقضه، وتتركه مرة أخرى قطعًا منكوثة ومحلولة!
إننا نستشفُّ من هذا المثل إنكارًا صارخًا وواضحًا لمن يجهد نفسَه في بناء عمل - أيّ عملٍ - حتى إذا تكامَلَ ما بناه، أتى بما يدمِّره ويقضي عليه، ولعل هذه الحال هي التي تصدق على من خرج من شهر رمضان بأعمالٍ جليلة، وطاعات عظيمة كأمثال الجبال، فإن استقام بعد رمضان، دام له الأمر، واستقامتْ له الحال، وإن خالف ما كان عليه، صارتْ تلك الجبال كثيبًا مهيلاً، وذهبت تلك الأعمالُ الجليلة أدراجَ الرياح، وصارت هباءً منثورًا.
والاستقامة والثبات يثبِّتانِ العمل ويمتِّنانه، ويسيران به في طريق الديمومة والاستمرار؛ ولذلك كان من جملة دعائه - عليه الصلاة والسلام -: ((اللهم إني أسألُك الثباتَ في الأمر، وأسألك عزيمة على الرشد))؛ (الترمذي، برقم 3407)، وعن شهر بن حوشب قال: قلتُ لأم سلمة: يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان عندكِ؟ قالت: كان أكثر دعائه: ((يا مقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك)) قالتْ: قلتُ: يا رسول الله، ما أكثرَ دعاءَك: يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك! قال: ((يا أم سلمة، إنه ليس آدميٌّ إلا وقلبُه بين إصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ))، فتلا معاذٌ - أحد رواة الحديث -: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]؛ (الترمذي، برقم 3522).
يقول الإمام ابن القيم: إن الدين مدارُه على أصلين: العزم، والثبات، وهما الأصلان المذكوران في الحديث الذي رواه أحمد والنسائي عن النبي: ((اللهم إني أسألك الثباتَ في الأمر، والعزيمة على الرشد))؛ ("عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" 1/90).
وقد ازدحمتِ الأمثلةُ في فكري عن الثبات، فما أدري أيها أسوق: أَخَبَرَ ثبات بلال بن رباح الحبشي - رضي الله عنه - حينما كان يُلقى به فوق رمال مكة الملتهبة، وتُرمى فوق صدره العاري الصخرةُ العظيمة؛ حتى يرجع عن دينه، فما يزيده ذلك إلا ثباتًا، وأن يقول: أحدٌ أحدٌ؟
أم خبر الإمام أحمد بن حنبل حينما ابتُلي بمسألة خلْق القرآن، فأظهر في ذلك شجاعة لا متناهية، وثباتًا تنهار أمامه رواسي الجبال وهممُ الرجال؟
قال صالحٌ - ابن الإمام أحمد -: قال أبي: ولما جيء بالسياط، نظر إليها المعتصم، فقال: ائتوني بغيرها، ثم قال للجلاَّدين: تقدَّموا، فجعل يتقدم إليَّ الرجلُ منهم، فيضربني سوطين، فيقول له: شدَّ، قطع الله يدك! ثم يتنحَّى ويتقدم آخر، فيضربني سوطين، وهو يقول في كل ذلك: شدَّ، قطع الله يدك! فلما ضُربتُ سبعةَ عشرَ سوطًا، قام إليَّ - يعني: المعتصم - فقال: يا أحمد، علامَ تقتلُ نفسك؟ إني - والله - عليك لشفيقٌ.
وجعل عجيفٌ - أحد الجلادين - ينخسني بقائمة سيفه، وقال: أتريد أن تغلب هؤلاءِ كلَّهم؟ وجعل بعضهم يقول: ويلك! إمامُك على رأسك قائمٌ، وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين، دمُه في عنقي، اقتلْه.
وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين، أنت صائمٌ، وأنت في الشمس قائمٌ! فقال لي: ويحك يا أحمد، ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله، أو سنة رسول الله، أقول به، فرجع وجلس، وقال للجلاد: تقدَّم وأوجع، قطع الله يدك، ثم قام الثانية، وجعل يقول: ويحك يا أحمد، أجبني، فجعلوا يُقبلون عليَّ، ويقولون: يا أحمد، إمامك على رأسك قائمٌ، وجعل عبدالرحمن يقول: من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟ والمعتصم يقول: أجبني إلى شيءٍ لك فيه أدنى فرجٍ؛ حتى أطلق عنك بيدي، ثم رجع وقال للجلاد: تقدم، فجعل يضربني سوطين ويتنحى، وهو في خلال ذلك يقول: شدَّ، قطع الله يدك!
فذهب عقلي، ثم أفقتُ بعدُ، فإذا الأقياد قد أُطلقت عني.
قال صالحٌ: ثم خُلِّيَ عنه، فصار إلى منزله، وكان مكثه في السجن منذ أُخذ إلى أن ضُرب وخلي عنه ثمانيةً وعشرين شهرًا.
قال أبو الفضل عبيد الله الزهري: قال المروذي: قلت لأبي عبدالله: يا أستاذ، قال الله - تعالى -: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]؟
قال: يا مروذي، اخرج وانظر، فخرجتُ إلى رحبة دار الخلافة، فرأيت خلقًا لا يحصيهم إلا اللهُ، والصحف في أيديهم، والأقلام والمحابر، فقال لهم المروذي: ماذا تعملون؟ قالوا: ننظر ما يقول أحمد، فنكتبه.
فدخل، فأخبره، فقال: يا مروذي، أُضل هؤلاء كلهم؟! ("مناقب الإمام أحمد"، ص: 329، 330، للإمام ابن الجوزي).
ففي هؤلاء لنا أحسنُ القدوة في الثبات على الحق، وألا نزيح عنه مهما كلَّفنا ذلك من تبعات.
واللهَ نسأل الثبات على دينه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ياسر مصطفى يوسف
مآآآآآجده