إنَّ الجهاد في سبيل الله نتائجُه لاحِبة ومُبصَرة في الحياة الدنيا، منتظرَة في الدار الآخرة، وسُنَّة الله - عزَّ وجلَّ - في تمييز الخبيث من الطيِّب "فرْز في الدنيا للدنيا، وفرْز في الآخرة للآخرة، جزاء الخبثاء في الدنيا الخِزي، وفي الآخرة هم رُكام جهنَّم، وللطيِّبين إحدى الحسنيَيْن، أو الحسنيان معًا، دنيا وآخرة، عزَّة في الدنيا، وكرامة في الجنة"[1].
ولذلك فإنَّ الجهاد في سبيل الله - تعالى -: "باب من أبواب الجنَّة، فَتَحه الله لخاصَّة أوليائه، وهو لِباس التقوى، ودِرْع الله الحصينة، وجُنُّته الوثيقة، فمَن تركه رغبةً عنه ألبسَه الله ثوبَ الذُّل، وشملةَ البلاء، ودُيِّث[2] بالصَّغَار والقَمَاءة[3]، وضُرِب على قلبه بالأسدادِ[4]، وأُديل[5] الحق منه بتضييع الجِهاد"[6].
والجهادُ في سبيل الله - تعالى - "هو العطاء الذي لا يَنقطِع للثمن الذي بايعَنا اللهُ على أدائه نظيرَ ما يَدَّخرُه لنا في دار الجزاء"[7].
ومِن ثَمَّ فلن "نصبح مستحقِّين لخِلافة الله ورسوله في الأرض، إلاَّ إنْ أصبحت غايةُ كلِّ مجاهد من أهل الإيمان أن يموتَ في سبيل الله، وإلاَّ إن نهضْنا للجهاد المستميت في صفٍّ منتظم مرصوص، يحبُّ الله مَن يرصُّه، وينصر إلى جنابه الكريم مَن يقاتل فيه، ويبذل فيه المال والنفس، ذلك المؤمِن المجاهد لن يكونَ إلاَّ نِتاجَ تربية، وذلك الصف لن ينتظمَ إلاَّ إن كان المنهاجُ المنظِّم نبويًّا، وهمَّة رجاله ربانيَّة"[8]، فالتربية والربانيَّة هي مقدِّمة الجهاد، وشرطه ودعامته، وقوامه ورُوحه.
ومِلاك الأمر في الجهاد أنَّه فريضة من الله - جلَّ جلاله - على كلِّ مسلِم، فريضة لازمة حازمة "لا مناصَ منها، ولا مفرَّ معها، ورغَّب فيه أعظمَ الترغيب، وأجزل ثوابَ المجاهدين والشهداء[9]، فلم يلحقْهم في مثوبتهم إلاَّ مَن عَمِل بمثل عملهم، ومَن اقتدى بهم في جهادهم، ومنَحَهم من الامتيازات الرُّوحيَّة والعملية في الدنيا والآخرة ما لم يمنحْ سواهم، وجعل دماءهم الطاهرةَ الزكية عربونَ النَّصْر في الدنيا، وعنوان الفوز والفلاح في العُقبَى، وتوعَّد المخلَّفين القاعدين بأفظعِ العقوبات، ورماهم بأبشعِ النعوت والصفات، ووبَّخهم على الجُبن والقعود، ونعى عليهم الضعفَ والتخلُّف، وأعدَّ لهم في الدنيا خزيًا لا يرفع إلاَّ إن جاهدوا، وفي الآخرة عذابًا لا يَفلِتون منه ولو كان لهم مِثْلُ أُحُدٍ ذهبًا، واعتبر القعودَ والفرار كبيرةً من أعظم الكبائر، وإحدى السبعِ الموبِقات المهلِكات.
ولستَ تجد نظامًا قديمًا أو حديثًا، دينيًّا أو مدنيًّا، عُنِي بشأن الجهاد والجنديَّة واستنفار الأمَّة، وحشْدِها كلِّها صفًّا واحدًا للدِّفاع بكلِّ قواها عن الحق - كما تجد ذلك في دين الإسلام وتعاليمه، وآياتُ القرآن الكريم، وأحاديثُ الرسول العظيم - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيَّاضة بكلِّ المعاني السامية، داعية بأفصحِ عبارة، وأوضح أسلوب إلى الجِهاد والقتال، والجُنديَّة وتقوية وسائل الدِّفاع والكِفاح بكلِّ أنواعها، مِن بَريَّة وبَحريَّة، وغيرها على كلِّ الأحوال والمناسبات"[10].
وفي فضل الجهاد والاستشهاد أذْكُر مجموعةً من الآيات الكريمة، التي تُبيِّن لنا ما أعدَّه الله - تعالى - للمجاهِدين في سبيله بأموالهم وأنفسهم:
• الجهاد في سبيل الله - تعالى - مِفتاحُ الخير، وبابُ الفلاح؛ قال الحق - جلَّ وعلا -: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التوبة: 88].
• الجهادُ في سبيل الله - تعالى - سبيل الهداية؛ قال الخالق - جلَّت حِكمتُه -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
• الجهادُ في سبيل الله بابُ الشهادة، والشهادة ثوابُها الجنَّة، والشهيدُ حيٌّ عندَ ربه؛ وقال الله - تبارك وتعالى -: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
• المجاهدُ في سبيل الله أفضلُ من القاعد المتقاعِس، له درجاتٌ عندَ الله، وفضلٌ عظيم؛ فالله - تبارك وتعالى - جعَل الجهادَ ذِروةَ سَنام الإسلام؛ تشريفًا له وإعظامًا، وفضَّل المجاهدين على القاعدين من المؤمنين، ولو كانوا سُجَّدًا وقيامًا؛ يقول ربُّنا العزيز: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95].
ولله درُّ القائل:
• الجهادُ مدرسة لفرْز الصادق من المدَّعِي؛ قال الحق - جلَّ في علاه -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
وقال مولانا - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218].
وقال - عزَّ اسمُه -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15].
• المجاهِد في سبيل الله - تعالى - كَمُل إيمانُه، وغُفِرت له ذنوبه، وله عندَ ربه منزلة عظيمة؛ قال - عزَّت عظمتُه -: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74].
وقال - تقدَّستْ كلماتُه -: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 20].
• الجهاد بَيْعةٌ معقودة مع الله، ثمنُها النجاة من عذاب الله ودخول الجنَّة؛ يقول الله - تبارك وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 10-11].
ويقول الحقُّ - جلَّ وعلا -: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
يُسلِّط الشيخ سيِّد قطب بعضَ الأضواء على هذه الآية الكريمة، أنقل نصَّه على طوله؛ لِمَا يحويه من العِبر، وكنوز الحِكم، يقول - رحمه الله -: "إنَّه نصٌّ رهيب! إنَّه يكشف عن حقيقةِ العَلاقة التي تربط المؤمنين بالله، وعن حقيقة البَيْعة التي أعطوها بإسلامهم طوالَ الحياة، فمَن بايع هذه البيعةَ، ووفَّى بها فهو المؤمِن الحق، الذي ينطبق عليه وصف (المؤمِن)، وتتمثَّل فيه حقيقةُ الإيمان، وإلاَّ فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق.
حقيقةُ هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سمَّاها الله كرمًا منه، وفضلاً وسماحة -: أنَّ الله - سبحانه - قد استخلصَ لنفسه أنفُسَ المؤمنين وأموالَهم؛ فلم يَعُدْ لهم منها شيء، لم يعد لهم أن يَسْتَبْقوا منها بقيَّة لا يُنفقونها في سبيله، لم يعدْ لهم خيار في أن يبذلوا أو يُمسِكوا، كلا، إنَّها صفقةٌ مشتراة، لشاريها أن يتصرَّف بها كما يشاء، وَفْقَ ما يفرض، ووفق ما يُحدِّد، وليس للبائع فيها مِن شيءٍ سوى أن يمضيَ في الطريق المرسوم، لا يتلفَّت ولا يتخيَّر، ولا يُناقش ولا يجادل، ولا يقول إلاَّ الطاعة، والعمل والاستسلام، والثمن: هو الجنَّة، والطريق: هو الجِهاد والقتل والقتال، والنهاية: هي النصر أو الاستشهاد.
مَن بايع على هذا، مَن أمضَى عقدَ الصفقة، من ارتضى الثمنَ ووفَّى، فهو المؤمِن، فالمؤمنون هم الذين اشترى الله منهم فباعوا، ومِن رحمة الله أن جعَل للصفقة ثمنًا، وإلاَّ فهو واهب الأنفُسِ والأموال، وهو مالك الأنفس والأموال، ولكنَّه كرَّم هذا الإنسانَ فجعله مريدًا؛ وكرَّمه فجعل له أن يعقدَ العقود ويُمضيَها - حتى مع الله - وكرَّمه فقيَّده بعقوده وعهوده، وجعل وفاءَه بها مقياسَ إنسانيته الكريمة؛ ونقضه لها هو مقياس ارتكاسِه إلى عالَم البهيمة: شر البهيمة {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} [الأنفال: 55-56]، كما جَعَل مناطَ الحساب والجزاء هو النقض أو الوفاء.
وإنَّها لَبَيْعة رهيبة - بلا شكٍّ - ولكنَّها في عنق كلِّ مؤمن قادر عليها، لا تسقط عنه إلاَّ بسقوط إيمانه، ومن هنا تلك الرَّهْبة التي أستشعرها اللحظة وأنا أخطُّ هذه الكلمات: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111]، عونَك اللهمّ، فإنَّ العقد رهيب، وهؤلاء الذين يزعمون أنفسهم "مسلمين" في مشارِق الأرض ومغاربها، قاعدون لا يُجاهدون لتقريرِ ألوهيةِ الله في الأرْض، وطرْد الطواغيت الغاصبة لحقوقِ الربوبيَّة وخصائصها في حياة العباد، ولا يَقتلون، ولا يُقتلون، ولا يُجاهدون جهادًا ما دون القَتْل والقِتال.
إنَّ الجهادَ في سبيل الله بيْعةٌ معقودة بعُنق كلِّ مؤمن، كل مؤمِن على الإطلاق منذُ كانتِ الرسل، ومنذ كان دِين الله، إنَّها السُّنَّة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها، ولا تصلح الحياة بتَرْكها.
{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]: استبشروا بإخلاص أنفسِكم وأموالكم لله، وأخْذِ الجنة عوضًا وثمنًا، كما وعَد الله، وما الذي فات؟ ما الذي فاتَ المؤمنَ الذي يُسلِم لله نفسَه وماله، ويستعيض الجنَّة؟! واللهِ ما فاته شيء، فالنفس إلى مَوْت، والمال إلى فَوْت، سواء أنفقهما صاحبُهما في سبيل الله، أم في سبيل سواه، والجنة كسب، كسب بلا مقابِل في حقيقة الأمر ولا بضاعة، فالمقابِل زائلٌ في هذه الطريق أو ذاك.
ودَعْ عنك رفعة الإنسان وهو يعيش لله، ينتصر - إذا انتصر - لإعلاء كلمتِه، وتقرير دِينه، وتحرير عباده من العبودية المذلَّة لسواه، ويُستَشهد - إذا استشهد - في سبيله؛ ليؤديَ لدِينه شهادةً بأنه خيرٌ عنده من الحياة، ويستشعر في كلِّ حركة وفي كل خُطوة أنَّه أقوى من قيود الأرض، وأنَّه أرفع من ثقلة الأرض، والإيمان ينتصر فيه على الألَم، والعقيدة تنتصر فيه على الحياة.
إنَّ هذا وحده كسب، كسبٌ بتحقيق إنسانية الإنسان التي لا تتأكَّد كما تتأكَّد بانطلاقه من أوهام الضرورة؛ وانتصار الإيمان فيه على الألَم، وانتصار العقيدة فيه على الحياة، فإذا أُضِيفتْ إلى ذلك كلِّه الجنة، فهو بيع يدعو إلى الاستبشار؛ وهو فوزٌ لا ريب فيه ولا جدال؛ {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}"[12].
وقال الحق - جلَّ ذِكْرُه -: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
فالله - جلَّ وعلا - بهذا يُخبر بأنَّ وعده للمجاهدين في سبيله وعدٌ ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن، فإن قيل: ما الحِكمة في أنَّ الله - تعالى - جعل وثيقةَ هذا الشِّراء في كتبه الثلاثة، فقال: في التوراة والإنجيل والقرآن، والشراءُ واحد؟ قيل له: إنَّ المشترَى ثلاثة أشياء، هي النفس والمال والرُّوح، فهم مجاهدون بالأنفس، وينفقون الأموال، ويبذلون الأرواح، فلأجْل هذا جعل الوثائق ثلاثًا في ثلاثة كتب؛ فبذْلُ النفس يُورِث الجنَّة؛ قال الله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111].
وبذْلُ المال يورِث النصر والفتح؛ قال الله – تعالى -: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: من الآية13].
وبذل الرُّوح يورِث الحياة الباقية؛ قال الله – تعالى -: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]"[13].
وفي هذا المضمار أسوق باقةً عطرة من الأحاديث النبويَّة الشريفة، التي تُبيِّن لنا فضائلَ الجهاد والاستشهاد في سبيل الله؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قِيلَ للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: « ما يَعْدِلُ الجِهادَ في سَبيلِ الله - عَزَّ وَجَلَّ؟ قالَ: ((لاَ تَسْتَطِيعُونَهُ))، قالَ: فأَعادُوا عليه مرَّتَين أو ثلاثًا، كلَّ ذلك يقول: ((لا تستطيعونَه))، وقال في الثالثة: ((مَثَلُ المجاهِد في سبيل الله كمَثَل الصائم القائم، القانت بآياتِ الله، لا يَفتُر من صيام ولا صلاة،حتى يرجعَ المجاهد في سبيل الله – تعالى)) [14].
وعن أبي هريرة - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ في الجنَّة مائةَ درجة، أعدَّها الله للمجاهِدِين في سبيل الله، ما بين الدَّرجتَينِ كما بين السماء والأرض، فإذا سألتُم الله فاسألوه الفِردوس، فإنَّه أوسطُ الجنة، وأعلى الجَنَّة، أراه فوقه عرشَ الرحمن، ومنه تفجَّر أنهار الجنة))[15].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تضمَّن اللهُ لِمَن خرج في سبيله، لا يُخرِجه إلاَّ جهادًا في سبيلي، وإيمانًا بي، وتصديقًا برسلي، فهو علي ضامنٌ أن أُدخِلَه الجنَّة، أو أُرجِعَه إلى مسكنِه الذي خرج منه، نائلاً ما نال من أجْر أو غنيمة، والذي نفسُ محمَّد بيده، ما مِن كَلْم يُكلَم في سبيل الله، إلاَّ جاء يومَ القيامة كهيئتِه حين كُلِم، لونُه لونُ دم، ورِيحه مسك، والذي نفسُ محمد بيده، لولا أن يشقَّ على المسلمين ما قعدتُ خلافَ سرية تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجِدُ سعةً فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشقُّ عليهم أن يتخلَّفوا عنِّي، والذي نفس محمد بيده، لوددتُ أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل)) [16].
إنَّ الله - تبارك وتعالى - ضمِن الرَّجعةَ والرِّضوان والغُفران لِمَن جاهد في سبيله ابتغاءَ مرضاته، ونُضرةً لدِينه، فإنَّ الله لا يَقبلُ مِن الأعمالِ إلاَّ ما أُريدَ به وجهُه [17].
وعن مسروق، قال: سألْنا عبدَالله - رضي الله عنه - عن هذه الآية: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، قال: أمَا إنَّا قد سألْنا عن ذلك، فقال: ((أرواحُهم في جَوْف طَيْر خضر، لها قناديلُ معلَّقة بالعرش، تسرحُ من الجنة حيث شاءتْ، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطَّلع إليهم ربُّهم اطلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرحُ من الجنة حيثُ شِئْنا؟! ففعل ذلك بهم ثلاثَ مرَّات، فلمَّا رأَوْا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا يا ربِّ، نريد أن تَرُدَّ أرواحنا في أجسادنا، حتى نُقتَل في سبيلك مرَّة أخرى، فلمَّا رأى أن ليس لهم حاجةٌ تُرِكوا)) [18].
وعن المِقدام بن مَعْدِ يْكَربَ - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لِلشهيدِ عند الله ستُّ خصال: يُغفر له في أوَّل دفعةٍ من دَمِه، ويَرى مقعدَه من الجنة، ويُجار من عذاب القبر، ويأمن مِن الفزع الأكبر، ويُحلَّى حلَّة الإيمان، ويُزوَّج من الحُور العِين، ويُشفَّع في سبعين إنسانًا من أقاربه))[19].
إنَّها جوائزُ عظيمة، كلُّ جائزة خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، مكافأة مِن أرحم الراحمين، وأعدل العادلين لِمَن بذَلَ رُوحَه في سبيل الله.
يتبع
ولذلك فإنَّ الجهاد في سبيل الله - تعالى -: "باب من أبواب الجنَّة، فَتَحه الله لخاصَّة أوليائه، وهو لِباس التقوى، ودِرْع الله الحصينة، وجُنُّته الوثيقة، فمَن تركه رغبةً عنه ألبسَه الله ثوبَ الذُّل، وشملةَ البلاء، ودُيِّث[2] بالصَّغَار والقَمَاءة[3]، وضُرِب على قلبه بالأسدادِ[4]، وأُديل[5] الحق منه بتضييع الجِهاد"[6].
والجهادُ في سبيل الله - تعالى - "هو العطاء الذي لا يَنقطِع للثمن الذي بايعَنا اللهُ على أدائه نظيرَ ما يَدَّخرُه لنا في دار الجزاء"[7].
ومِن ثَمَّ فلن "نصبح مستحقِّين لخِلافة الله ورسوله في الأرض، إلاَّ إنْ أصبحت غايةُ كلِّ مجاهد من أهل الإيمان أن يموتَ في سبيل الله، وإلاَّ إن نهضْنا للجهاد المستميت في صفٍّ منتظم مرصوص، يحبُّ الله مَن يرصُّه، وينصر إلى جنابه الكريم مَن يقاتل فيه، ويبذل فيه المال والنفس، ذلك المؤمِن المجاهد لن يكونَ إلاَّ نِتاجَ تربية، وذلك الصف لن ينتظمَ إلاَّ إن كان المنهاجُ المنظِّم نبويًّا، وهمَّة رجاله ربانيَّة"[8]، فالتربية والربانيَّة هي مقدِّمة الجهاد، وشرطه ودعامته، وقوامه ورُوحه.
ومِلاك الأمر في الجهاد أنَّه فريضة من الله - جلَّ جلاله - على كلِّ مسلِم، فريضة لازمة حازمة "لا مناصَ منها، ولا مفرَّ معها، ورغَّب فيه أعظمَ الترغيب، وأجزل ثوابَ المجاهدين والشهداء[9]، فلم يلحقْهم في مثوبتهم إلاَّ مَن عَمِل بمثل عملهم، ومَن اقتدى بهم في جهادهم، ومنَحَهم من الامتيازات الرُّوحيَّة والعملية في الدنيا والآخرة ما لم يمنحْ سواهم، وجعل دماءهم الطاهرةَ الزكية عربونَ النَّصْر في الدنيا، وعنوان الفوز والفلاح في العُقبَى، وتوعَّد المخلَّفين القاعدين بأفظعِ العقوبات، ورماهم بأبشعِ النعوت والصفات، ووبَّخهم على الجُبن والقعود، ونعى عليهم الضعفَ والتخلُّف، وأعدَّ لهم في الدنيا خزيًا لا يرفع إلاَّ إن جاهدوا، وفي الآخرة عذابًا لا يَفلِتون منه ولو كان لهم مِثْلُ أُحُدٍ ذهبًا، واعتبر القعودَ والفرار كبيرةً من أعظم الكبائر، وإحدى السبعِ الموبِقات المهلِكات.
ولستَ تجد نظامًا قديمًا أو حديثًا، دينيًّا أو مدنيًّا، عُنِي بشأن الجهاد والجنديَّة واستنفار الأمَّة، وحشْدِها كلِّها صفًّا واحدًا للدِّفاع بكلِّ قواها عن الحق - كما تجد ذلك في دين الإسلام وتعاليمه، وآياتُ القرآن الكريم، وأحاديثُ الرسول العظيم - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيَّاضة بكلِّ المعاني السامية، داعية بأفصحِ عبارة، وأوضح أسلوب إلى الجِهاد والقتال، والجُنديَّة وتقوية وسائل الدِّفاع والكِفاح بكلِّ أنواعها، مِن بَريَّة وبَحريَّة، وغيرها على كلِّ الأحوال والمناسبات"[10].
وفي فضل الجهاد والاستشهاد أذْكُر مجموعةً من الآيات الكريمة، التي تُبيِّن لنا ما أعدَّه الله - تعالى - للمجاهِدين في سبيله بأموالهم وأنفسهم:
• الجهاد في سبيل الله - تعالى - مِفتاحُ الخير، وبابُ الفلاح؛ قال الحق - جلَّ وعلا -: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التوبة: 88].
• الجهادُ في سبيل الله - تعالى - سبيل الهداية؛ قال الخالق - جلَّت حِكمتُه -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
• الجهادُ في سبيل الله بابُ الشهادة، والشهادة ثوابُها الجنَّة، والشهيدُ حيٌّ عندَ ربه؛ وقال الله - تبارك وتعالى -: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
• المجاهدُ في سبيل الله أفضلُ من القاعد المتقاعِس، له درجاتٌ عندَ الله، وفضلٌ عظيم؛ فالله - تبارك وتعالى - جعَل الجهادَ ذِروةَ سَنام الإسلام؛ تشريفًا له وإعظامًا، وفضَّل المجاهدين على القاعدين من المؤمنين، ولو كانوا سُجَّدًا وقيامًا؛ يقول ربُّنا العزيز: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95].
ولله درُّ القائل:
مُجَاهِدٌ فَضَّلَهُ رَبُّهُ وَقَاعِدٌ مُسْتَسْلِمٌ جَائِحٌ[11]
• الجهادُ مدرسة لفرْز الصادق من المدَّعِي؛ قال الحق - جلَّ في علاه -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
وقال مولانا - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218].
وقال - عزَّ اسمُه -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15].
• المجاهِد في سبيل الله - تعالى - كَمُل إيمانُه، وغُفِرت له ذنوبه، وله عندَ ربه منزلة عظيمة؛ قال - عزَّت عظمتُه -: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74].
وقال - تقدَّستْ كلماتُه -: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 20].
• الجهاد بَيْعةٌ معقودة مع الله، ثمنُها النجاة من عذاب الله ودخول الجنَّة؛ يقول الله - تبارك وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 10-11].
ويقول الحقُّ - جلَّ وعلا -: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
يُسلِّط الشيخ سيِّد قطب بعضَ الأضواء على هذه الآية الكريمة، أنقل نصَّه على طوله؛ لِمَا يحويه من العِبر، وكنوز الحِكم، يقول - رحمه الله -: "إنَّه نصٌّ رهيب! إنَّه يكشف عن حقيقةِ العَلاقة التي تربط المؤمنين بالله، وعن حقيقة البَيْعة التي أعطوها بإسلامهم طوالَ الحياة، فمَن بايع هذه البيعةَ، ووفَّى بها فهو المؤمِن الحق، الذي ينطبق عليه وصف (المؤمِن)، وتتمثَّل فيه حقيقةُ الإيمان، وإلاَّ فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق.
حقيقةُ هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سمَّاها الله كرمًا منه، وفضلاً وسماحة -: أنَّ الله - سبحانه - قد استخلصَ لنفسه أنفُسَ المؤمنين وأموالَهم؛ فلم يَعُدْ لهم منها شيء، لم يعد لهم أن يَسْتَبْقوا منها بقيَّة لا يُنفقونها في سبيله، لم يعدْ لهم خيار في أن يبذلوا أو يُمسِكوا، كلا، إنَّها صفقةٌ مشتراة، لشاريها أن يتصرَّف بها كما يشاء، وَفْقَ ما يفرض، ووفق ما يُحدِّد، وليس للبائع فيها مِن شيءٍ سوى أن يمضيَ في الطريق المرسوم، لا يتلفَّت ولا يتخيَّر، ولا يُناقش ولا يجادل، ولا يقول إلاَّ الطاعة، والعمل والاستسلام، والثمن: هو الجنَّة، والطريق: هو الجِهاد والقتل والقتال، والنهاية: هي النصر أو الاستشهاد.
مَن بايع على هذا، مَن أمضَى عقدَ الصفقة، من ارتضى الثمنَ ووفَّى، فهو المؤمِن، فالمؤمنون هم الذين اشترى الله منهم فباعوا، ومِن رحمة الله أن جعَل للصفقة ثمنًا، وإلاَّ فهو واهب الأنفُسِ والأموال، وهو مالك الأنفس والأموال، ولكنَّه كرَّم هذا الإنسانَ فجعله مريدًا؛ وكرَّمه فجعل له أن يعقدَ العقود ويُمضيَها - حتى مع الله - وكرَّمه فقيَّده بعقوده وعهوده، وجعل وفاءَه بها مقياسَ إنسانيته الكريمة؛ ونقضه لها هو مقياس ارتكاسِه إلى عالَم البهيمة: شر البهيمة {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} [الأنفال: 55-56]، كما جَعَل مناطَ الحساب والجزاء هو النقض أو الوفاء.
وإنَّها لَبَيْعة رهيبة - بلا شكٍّ - ولكنَّها في عنق كلِّ مؤمن قادر عليها، لا تسقط عنه إلاَّ بسقوط إيمانه، ومن هنا تلك الرَّهْبة التي أستشعرها اللحظة وأنا أخطُّ هذه الكلمات: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111]، عونَك اللهمّ، فإنَّ العقد رهيب، وهؤلاء الذين يزعمون أنفسهم "مسلمين" في مشارِق الأرض ومغاربها، قاعدون لا يُجاهدون لتقريرِ ألوهيةِ الله في الأرْض، وطرْد الطواغيت الغاصبة لحقوقِ الربوبيَّة وخصائصها في حياة العباد، ولا يَقتلون، ولا يُقتلون، ولا يُجاهدون جهادًا ما دون القَتْل والقِتال.
إنَّ الجهادَ في سبيل الله بيْعةٌ معقودة بعُنق كلِّ مؤمن، كل مؤمِن على الإطلاق منذُ كانتِ الرسل، ومنذ كان دِين الله، إنَّها السُّنَّة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها، ولا تصلح الحياة بتَرْكها.
{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]: استبشروا بإخلاص أنفسِكم وأموالكم لله، وأخْذِ الجنة عوضًا وثمنًا، كما وعَد الله، وما الذي فات؟ ما الذي فاتَ المؤمنَ الذي يُسلِم لله نفسَه وماله، ويستعيض الجنَّة؟! واللهِ ما فاته شيء، فالنفس إلى مَوْت، والمال إلى فَوْت، سواء أنفقهما صاحبُهما في سبيل الله، أم في سبيل سواه، والجنة كسب، كسب بلا مقابِل في حقيقة الأمر ولا بضاعة، فالمقابِل زائلٌ في هذه الطريق أو ذاك.
ودَعْ عنك رفعة الإنسان وهو يعيش لله، ينتصر - إذا انتصر - لإعلاء كلمتِه، وتقرير دِينه، وتحرير عباده من العبودية المذلَّة لسواه، ويُستَشهد - إذا استشهد - في سبيله؛ ليؤديَ لدِينه شهادةً بأنه خيرٌ عنده من الحياة، ويستشعر في كلِّ حركة وفي كل خُطوة أنَّه أقوى من قيود الأرض، وأنَّه أرفع من ثقلة الأرض، والإيمان ينتصر فيه على الألَم، والعقيدة تنتصر فيه على الحياة.
إنَّ هذا وحده كسب، كسبٌ بتحقيق إنسانية الإنسان التي لا تتأكَّد كما تتأكَّد بانطلاقه من أوهام الضرورة؛ وانتصار الإيمان فيه على الألَم، وانتصار العقيدة فيه على الحياة، فإذا أُضِيفتْ إلى ذلك كلِّه الجنة، فهو بيع يدعو إلى الاستبشار؛ وهو فوزٌ لا ريب فيه ولا جدال؛ {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}"[12].
وقال الحق - جلَّ ذِكْرُه -: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
فالله - جلَّ وعلا - بهذا يُخبر بأنَّ وعده للمجاهدين في سبيله وعدٌ ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن، فإن قيل: ما الحِكمة في أنَّ الله - تعالى - جعل وثيقةَ هذا الشِّراء في كتبه الثلاثة، فقال: في التوراة والإنجيل والقرآن، والشراءُ واحد؟ قيل له: إنَّ المشترَى ثلاثة أشياء، هي النفس والمال والرُّوح، فهم مجاهدون بالأنفس، وينفقون الأموال، ويبذلون الأرواح، فلأجْل هذا جعل الوثائق ثلاثًا في ثلاثة كتب؛ فبذْلُ النفس يُورِث الجنَّة؛ قال الله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111].
وبذْلُ المال يورِث النصر والفتح؛ قال الله – تعالى -: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: من الآية13].
وبذل الرُّوح يورِث الحياة الباقية؛ قال الله – تعالى -: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]"[13].
وفي هذا المضمار أسوق باقةً عطرة من الأحاديث النبويَّة الشريفة، التي تُبيِّن لنا فضائلَ الجهاد والاستشهاد في سبيل الله؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قِيلَ للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: « ما يَعْدِلُ الجِهادَ في سَبيلِ الله - عَزَّ وَجَلَّ؟ قالَ: ((لاَ تَسْتَطِيعُونَهُ))، قالَ: فأَعادُوا عليه مرَّتَين أو ثلاثًا، كلَّ ذلك يقول: ((لا تستطيعونَه))، وقال في الثالثة: ((مَثَلُ المجاهِد في سبيل الله كمَثَل الصائم القائم، القانت بآياتِ الله، لا يَفتُر من صيام ولا صلاة،حتى يرجعَ المجاهد في سبيل الله – تعالى)) [14].
وعن أبي هريرة - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ في الجنَّة مائةَ درجة، أعدَّها الله للمجاهِدِين في سبيل الله، ما بين الدَّرجتَينِ كما بين السماء والأرض، فإذا سألتُم الله فاسألوه الفِردوس، فإنَّه أوسطُ الجنة، وأعلى الجَنَّة، أراه فوقه عرشَ الرحمن، ومنه تفجَّر أنهار الجنة))[15].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تضمَّن اللهُ لِمَن خرج في سبيله، لا يُخرِجه إلاَّ جهادًا في سبيلي، وإيمانًا بي، وتصديقًا برسلي، فهو علي ضامنٌ أن أُدخِلَه الجنَّة، أو أُرجِعَه إلى مسكنِه الذي خرج منه، نائلاً ما نال من أجْر أو غنيمة، والذي نفسُ محمَّد بيده، ما مِن كَلْم يُكلَم في سبيل الله، إلاَّ جاء يومَ القيامة كهيئتِه حين كُلِم، لونُه لونُ دم، ورِيحه مسك، والذي نفسُ محمد بيده، لولا أن يشقَّ على المسلمين ما قعدتُ خلافَ سرية تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجِدُ سعةً فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشقُّ عليهم أن يتخلَّفوا عنِّي، والذي نفس محمد بيده، لوددتُ أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل)) [16].
إنَّ الله - تبارك وتعالى - ضمِن الرَّجعةَ والرِّضوان والغُفران لِمَن جاهد في سبيله ابتغاءَ مرضاته، ونُضرةً لدِينه، فإنَّ الله لا يَقبلُ مِن الأعمالِ إلاَّ ما أُريدَ به وجهُه [17].
وعن مسروق، قال: سألْنا عبدَالله - رضي الله عنه - عن هذه الآية: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، قال: أمَا إنَّا قد سألْنا عن ذلك، فقال: ((أرواحُهم في جَوْف طَيْر خضر، لها قناديلُ معلَّقة بالعرش، تسرحُ من الجنة حيث شاءتْ، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطَّلع إليهم ربُّهم اطلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرحُ من الجنة حيثُ شِئْنا؟! ففعل ذلك بهم ثلاثَ مرَّات، فلمَّا رأَوْا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا يا ربِّ، نريد أن تَرُدَّ أرواحنا في أجسادنا، حتى نُقتَل في سبيلك مرَّة أخرى، فلمَّا رأى أن ليس لهم حاجةٌ تُرِكوا)) [18].
وعن المِقدام بن مَعْدِ يْكَربَ - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لِلشهيدِ عند الله ستُّ خصال: يُغفر له في أوَّل دفعةٍ من دَمِه، ويَرى مقعدَه من الجنة، ويُجار من عذاب القبر، ويأمن مِن الفزع الأكبر، ويُحلَّى حلَّة الإيمان، ويُزوَّج من الحُور العِين، ويُشفَّع في سبعين إنسانًا من أقاربه))[19].
إنَّها جوائزُ عظيمة، كلُّ جائزة خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، مكافأة مِن أرحم الراحمين، وأعدل العادلين لِمَن بذَلَ رُوحَه في سبيل الله.
يتبع