نقصد بالجهاد القتالي[2] بذْل الجهد عن طريق المدافعة، أو القتال في حماية دار الإسلام ودعوة الإسلام، ودين الله - عزَّ وجلَّ - وإزالة الحواجز والعقبات من طريق الدَّعوة الإسلاميَّة حتَّى تبلغ كلمتها إلى العالم، وردْع المعتدين ومنْعهم عن الأذى والفساد.
هذا، ومن المعلوم أنَّ الحرب في الإسلام ليستْ عدوانيَّة، ولا استِفْزازيَّة، ولا همجيَّة، ولكنَّها للدِّفاع عن الدِّين والبلاد، وإنقاذ المستضعفين من المسلمين في أيِّ دولةٍ كانت؛ وذلك أنَّ الإسلام يعتبر بلاد المسلمين كلَّها دارًا واحدةً وبلدًا واحدًا، يَجب حمايتُه والجهاد دونه إن كان دارَ عدْل بيد المسلمين، ويجب استِرْداده إن كان مسلوبًا، كما يَعتبر المسلمين جميعًا أمَّة واحدة يَجب الدِّفاع عنْهم لاستِنقاذ المستضعفين وحمايتهم في أيِّ بلد أو دولة[3].
والحاصل:
أنَّ الجهاد القتالي كان من أجْل شيء واحد وواحدٍ وفقط، وهو حَمل الدَّعوة الإسلاميَّة وإنقاذ شعوب العالم من حياة الشَّقاء والتَّعاسة، وإخراجهم من ذلك كلِّه، إلى نور الإسلام، وضياء القرآن، وإلى العبادة الكاملة والطُّمأنينة الحقَّة، من تطبيق نظام الإسلام، ونشْر عقيدته الصَّافية النقيَّة[4].
ولذلك؛ فإنَّ الجهاد القتالي الَّذي حبَّذه الإسلام إنَّما هو قتال الَّذين يفتنون المسلِم عن دينِه ويصدُّون عن سبيل الله، ويبغونَها عوجًا.
إنَّ الجهاد الَّذي باركه الإسلام، وندَب إليه، ورغَّب فيه - إنَّما هو الجهاد في سبيل حريَّة الدَّعوة إلى الله، وإلى دينه، وإلى إقْرار العدالة الاجتماعيَّة، والعمل على إمتاع الإنسانيَّة ورفاهيتِها[5].
إنَّ الجهاد القتالي في حقيقته، الحصْن الَّذي لا بدَّ منه لحفظ هويَّة الأمَّة وكيانِها، لا مندوحة عنه لنجاح مسعاها الَّذي كلَّفها به الله - عزَّ وجلَّ - نحو إنشاء حضارة إنسانيَّة عادلة، تكلأُ الإنسان من ظلم أخيه الإنسان، وتقيه من الوقوع في مغبَّات منجزاته العلميَّة والحضاريَّة، تلك المغبَّات الَّتي من شأنِها أن تفسِد وتُشْقي بدلاً من أن تُصلح وتُسعد[6].
ولا يَخفى أنَّ الإسلام أجاز الجِهاد القتالي في حالتين اثْنتَين فقط، حالة الدِّفاع عن النَّفس وعن الدِّين وعن حريَّة العقيدة؛ قال الحق - سبحانه وتعالى -: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[7].
وحالة دفْع العدْوان وردّ اعتِداء المعتَدين[8]، ورفْع الظُّلْم عن المستضعفين، وإقامة العدْل في الأرض؛ قال الله - جلَّ ذِكْرُه -: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[9]، وقال - جلَّ وعلا -: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[10].
ولنا في سيّدنا رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أسوة وقدوة في جهادِه القتالي؛ حيث لم يكن - صلوات ربّي وسلامُه عليْه - في جَميع غزواتِه وسراياه بادئًا بالقتال، أو طالبًا لدنيا، أو جامعًا لمال، أو راغبًا في زعامة، أو موسعًا لحدود دولة أو مملكة، بل كلّ ذلك كان هداية للنَّاس، وتحريرًا للعقول، ورفعًا للظُّلم، وربطًا للنَّاس بربِّ العالمين، بأعْلى أساليب العفَّة والشَّرف والنُّبل، ممَّا جعل هذه الغزوات أُنموذجًا للتَّعامُل الدَّولي في الحروب والأسارى[11].
ومَن تأمَّل في جهادِه - صلَّى الله عليْه وسلَّم – القِتالي، يجد أنَّه لم يرفع سيفَه إلاَّ إذا اضطرَّ إليْه نصرةً لكلمة الله ودفاعًا عن دين الله وعنِ المستضْعفين؛ وخير دليلٍ على هذا أنَّه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لم يقتُل بيده الشَّريفة إلاَّ رجُلا واحدًا وهو أُبي بن خلف يوم أُحُد، فما بُعث - عليْه صلوات ربّي وسلامه - للقتال، ولكن بُعث لتبْليغ الرِّسالة وهداية النَّاس أجْمعين، وما القِتال إلاَّ للدِّفاع عن الدَّعوة الإسلاميَّة وردّ الَّذين يقفون في وجهِها بالعداء والكيد، وصدق ربُّنا - تبارك وتعالى - الَّذي خاطب نبيَّه وصفوة خلقه بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[12].
وقد أُريق في جَميع الغزوات والسَّرايا والبعوث التي بعثها النبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - الَّتي استغرقت تِسْعَ سنوات - أقلُّ دمٍ عُرِف في تاريخ الحروب والغزوات، فلم يتجاوزْ قتلى كلِّها 1018 قتيلاً من الفريقين[13]، وكانت حاقنة لدماء الكثير من النَّاس، عاصمة للنُّفوس البشرية[14]، باسطة الأمْن والسَّلام والسَّكينة والطُّمأنينة في أرْجاء الجزيرة العربية، فاتِحة عهد السَّعادة في العالم.
وإذا قارنَّا هذه النَّتائج - مثلاً - بقتلى الحربَين العالميتين: الأولى (1914 - 1918م)، والثَّانية الكبرى (1939 - 1945م)، نجِد أنَّ في الأولى بلغ عدد المصابين 21.000.000[15] عدد المقتولين 6.400.000 نفس[16]، وفي الثَّانية بين 35.000.000 و 60.000.000 نفس[17].
وقد كلَّف قتل رجل واحد في الحرب الأولى 10.000 جنيه، أمَّا مجموع نفقاتِها فيبلغ 37.000.000.000 جنيه، أمَّا نفقات الحرْب الثَّانية لساعة واحدة فمليون من الجنيهات1.000.000 [18].
ولم تخدم هاتان الحربان - كما يعلم الجميع - مصلحةً إنسانيَّة، ولم يستفِد منهما العالم البشَري في قليلٍ أو كثير.
وقد بلغ عدد ضحايا مَحاكم التَّفتيش في أوربَّا في القرون الوسطى، والاضطِهاد الكنسي إلى 12.000.000 نفس[19].
ولهذا؛ فإنَّ كلمة الحرب إذا أُطلقت في عصورنا ذُكِر معها الخرابُ والدَّمار، واستِباحة الحرمات، ونشْر الفساد والانْحلال والانطِلاق من كلِّ الرَّوابط الإنسانيَّة، حتَّى إنَّه ليؤْخَذ بجرائرها الآمنُ في سرْبِه والحامل لسيفه، ولكن حروب النَّبيِّين والصدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين كانت حروبًا فاضِلة تظلُّها التقوى، فلا يقتل إلاَّ مَن يقاتل بنفسه أو بتدْبيره، أمَّا الزّرَّاع والعمَّال فلا تمتد إليهم يدٌ بأذى[20].
وممَّا يزيد الأمر وضوحًا: أنَّ معارك النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لم تكن للاستِيلاء على الأراضي وقتْل الأبرياء وسفْك الدماء، بل كانت حروبًا دفاعيَّة أو وقائيَّة لمنْع هجوم عليْه أو على الإسلام، فلا خلافَ أنَّ مكَّة بدأت بمعاداتِه واضطهاده ومحاولة استِئْصاله، وتبعَتْها قبائلُ الجزيرة العربية، وعادوا ذلك[21].
ومن أجل ذلك؛ كان النبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إذا بعث جيشًا أوْصاه بتقوى الله وعدم الاعتداء؛ فعنْ سُليمانَ بْنِ بُريدةَ عَن أبيه - رضي الله عنهما - قالَ: كانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إذا بَعَثَ أميرًا على جَيْشٍ أوْصَاهُ في خاصَّةِ نَفْسِه بِتَقْوَى اللَّه، ومَنْ مَعهُ مِنَ المُسْلمينَ خَيْرًا، وقالَ: ((اغْزوا بِاسمِ اللَّهِ، وفي سَبِيلِ اللَّهِ قاتِلُوا مَنْ كَفَرَ باللَّه، ولا تَغُلُّوا ولا تَغْدِرُوا ولا تُمَثِّلُوا، ولا تَقْتُلوا وَليدًا، فإذا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْركِينَ فادْعُهُمْ إلى إحْدى ثَلاثِ خِصالٍ - أو خِلالٍ - أيَّتَها أجابُوكَ فاقْبَلْ مِنْهُم وكُفَّ عنهُم: ادْعُهُم إلى الإسْلامِ والتَّحَوُّلِ مِن دارِهِم إلى دارِ المُهاجِرِين، وأخْبِرْهُم إنْ فعَلُوا ذلك فإنَّ لَهُم ما للمُهاجِرِينَ وعَليْهم ما على المُهاجِرينَ، وإنْ أبوا أنْ يتحوَّلوا فأخْبِرْهُم أنَّهُم يَكونوا كأعْرابِ المُسْلمينَ يَجْري عليْهم ما يَجْري على الأعْرابِ، لَيْسَ لَهُم في الغنِيمَة والفَيْءِ شَيْءٌ إلاَّ أنْ يُجاهِدُوا، فإنْ أبَوْا فاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَيْهِم وقاتِلْهُم، وإذا حَاصَرْتَ حِصْنًا فأرادوكَ أنْ تَجْعَلَ لَهُم ذِمَّةَ اللَّهِ وذِمَّةَ نَبِيِّه، فلا تَجْعَل لهُم ذِمَّةَ اللَّهِ وَلا ذِمَّةَ نَبِيِّه واجْعَلْ لَهُم ذِمَّتَك وذِمَمَ أصْحَابِك؛ لأنَّكُمْ إنْ تُخْفِروا ذِمَّتَكُم وذِمَمَ أصْحَابِكُمْ خَيْرٌ مِنْ أنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وذِمَّةَ رَسُولِه، وإذَا حَاصَرْتَ أهْلَ حِصْنٍ فأرادُوكَ أنْ تُنْزِلَهُمْ على حُكْمِ اللَّهِ فلا تُنْزِلُوهُمْ ولكِنْ أنْزِلْهُم على حُكْمِكَ؛ فإنَّكَ لا تَدْري أتُصِيبُ حُكْم اللَّه فِيهِم أمْ لا؟ أو نحو هذا))[22].
إنَّ هذه الوصيَّة الغالية تُكتب بِمدادٍ من ذهَب، وهي من مميزات وخصائِص هذا الدين العظيم، الَّذي لا يقاتل ولا يغزو من أجْل الدنيا، أو الاستِكْثار من النَّاس، أو توْسيع مناطق نفوذِه، وإنَّما يغْزو ويُجاهد من أجْل الدَّعوة الإسلاميَّة، وإنقاذ النَّاس من عبادة النَّاس إلى عبادة ربّ النَّاس، ومن ظُلُمات المعاصي إلى نور الطَّاعة، واستجابة لأمر الله تعالى الَّذي أمر بِحماية الدَّعوة ونشْرها والدّفاع عنها؛ قال رسولُ عمرِو بن العاص عبادة بن الصامت للمقوقس - في إحْدى المعارك التي فاوض فيها المقوقس -: "وذلك إنَّما رغبتنا وهمَّتنا الجهاد في الله واتّباع رضوانه، وليس غزْونا عدوًّا ممَّن حارب الله لرغْبة في الدُّنيا ولا حاجةٍ للاستِكْثار منها، إلاَّ أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - قد أحلَّ ذلك لنا، وجعل ما غنِمنا من ذلك حلالاً، وما يُبالي أحدُنا أكان له قناطير من ذهَب أم كان لا يملك إلاَّ درهمًا؛ لأنَّ غاية أحدِنا من الدنيا أكلة يأكلُها يسد بها جوعته ليلَتَه ونهاره، وشملة[23] يلتحفها؛ وإن كان أحدُنا لا يملك إلاَّ ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله تعالى، واقْتصر على هذه بيدِه، ويبلغه ما كان في الدُّنيا؛ لأنَّ نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءَها ليس برخاء، إنَّما النعيم والرَّخاء في الآخرة، بذلك أمرنا الله وأمرنا به نبيُّنا، وعهد إليْنا ألاَّ تكون همَّة أحدِنا في الدُّنيا إلاَّ ما يُمسك جوعته ويستر عوْرته، وتكون همَّته وشغله في رضاء ربِّه وجهاد عدوه[24].
فالقتال في الإسلام له أهداف سامية، وضوابط راقية، ليست كأيّ هدف آخر من الأهداف التي عرفتْها البشريَّة في حروبها على مرّ التَّاريخ الطَّويل، القتال في سبيل الله لا في سبيل الأمْجاد والاستعلاء في الأرْض، ولا في سبيل المغانم والمكاسب، ولا في سبيل الأسْواق والخامات، ولا في سبيل تسْويد طبقة على طبقة أو جنس على جنس، إنَّما هو القتال لتلك الأهداف المحدَّدة الَّتي من أجلها شُرِع الجهاد في الإسلام، القتال لإعلاء كلِمة الله في الأرض، وإقرار منهجه في الحياة، وحماية المؤمنين به أن يُفْتَنوا عن دينهم، أو أن يجرفَهم الضلال والفساد، وما عدا هذه فهي حربٌ غير مشروعة في حكم الإسلام، وليس لِمن يخوضها أجرٌ عند الله ولا مقام[25].
وبهذا يتَّضح أنَّه لا جهاد، ولا شهادة، ولا جنَّة، إلاَّ حين يكون الجهاد في سبيل الله وحده، والموت في سبيلِه وحْده، والنصرة له وحده، في ذات النَّفس وفي منهج الحياة.
لا جهاد ولا شهادة ولا جنَّة إلاَّ حين يكون الهدف هو أن تكون كلِمة الله هي العليا، وأن تهيمن شريعتُه ومنهاجه في ضمائر النَّاس وأخلاقهم وسلوكهم، وفي أوْضاعهم وتشْريعهم ونظامهم على السَّواء.
وليس هنالك من رايةٍ أُخرى، أو هدفٍ آخَر، يُجاهد في سبيلِه مَن يجاهد، ويستشهد دونه من يستشهد، فيحقّ له وعْد الله بالجنَّة، إلاَّ تلك الرَّاية وإلاَّ هذا الهدف، من كل ما يروج في الأجيال المنحرفة التصوّر من رايات وأسماء وغايات.
ويحسن أن يدرك أصحاب الدَّعوة هذه اللَّفتة البديهيَّة، وأن يخلصوها في نفوسِهم من الشَّوائب التي تعلق بها من منطق البيئة وتصوّر الأجيال المنحرفة، وألا يلبسوا برايتهم راية، ولا يَخلطوا بتصوُّرهم تصورًا غريبًا على طبيعة العقيدة.
لا جهاد إلاَّ لتكون كلِمة الله هي العليا؛ العليا في النفس والضَّمير، والعليا في الخلق والسلوك، والعليا في الأوْضاع والنظم، والعليا في العلاقات والارتِباطات في كلِّ أنْحاء الحياة، وما عدا هذا فليس لله، ولكن للشيطان، وفيما عدا هذا ليْست هناك شهادة ولا استِشْهاد[26].
فعَن أبي مُوسى الأشعري - رضِي الله عنه - قال: سُئِلَ رَسولُ اللَّه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عنِ الرَّجُلِ يُقاتِلُ شَجاعةً، ويُقاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقاتِلُ رِياءً، أيُّ ذَلِكَ في سَبيلِ اللَّه؟ فقالَ رَسولُ اللَّه - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((مَنْ قاتلَ لِتَكونَ كَلِمةُ اللَّهِ هي العُلْيا فهُوَ في سَبيلِ اللَّه))[27].
وللإشارة فكلمة "في سبيل الله" وردت مرتبطة "بالجهاد" في القرآن الكريم أكثَر من ثلاثين مرَّة.
وعليه؛ فإنَّ القتال في الإسلام يحقّق إلى جانب حريَّة الدَّعوة وحريَّة العقيدة العدالة المطلقة لجميع النَّاس، فإذا هي لم تحمل هذه المقدمات معها لأهلِها وللبلاد المفتوحة لم تكن حربًا إسلامية[28] ولا جهادًا إسلاميًّا.
والقتال لحماية الدَّعوة الإسلاميَّة، وإزاحة العقبات من طريقِها، هو ما تؤكِّده الغزوات والسَّرايا والبعوث النبويَّة بطرائِق مُختلفة من دوريَّات القتال، إلى التعقُّب إلى التمويه، حتَّى قامت قواعد الإسلام بعد فتْح مكَّة المشرَّفة، فانتقلت إلى مرحلة أُخرى لإزالة كل ما يمتُّ للوثنية بصلة، فبعث النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - سراياه وبعوثه من مكَّة لهدْم ما تبقَّى من أنقاض الوثنيَّة، فانطلقت كتائب الحقّ لهدْم مناة والعزَّى، واللات وسواع، وذا الخَلَصَة، وغيرها من الطَّواغيت الوثنيَّة والأصنام التي عبدت من دون الله - جل وعلا.
ثمَّ انطلقت هذه السَّرايا والبعوث النبويَّة إلى ربوع الأرْض في كافَّة أرْجاء الجزيرة العربيَّة، تبلغ رسالة الإسلام للناس وتُزيل العقبات من طريق الدَّعوة الإسلاميَّة.
ولا يفوتُنا ونحن نتحدَّث عن الجهاد القتالي أن نُشير إلى أمر مهمّ؛ وهو أنَّ الجهاد القتالي، إن تعيَّن، لا يقيل من الجهاد السياسي قبله وبعده، ولربَّما كان الجهاد السياسي التَّربوي البنائي أصعبَ منالا وأشْقى طريقًا، وأحْوج إلى خصال الصَّبر الطَّويل والمرابطة المستمرَّة والرِّفْق من القِتال الذي تهوِّنُ ريح الشَّهادة وكرامات التَّأْيِيد الإلهي فيه صبر ساعة وصبر الإصابة.
كلا الجهادين مِرْقاة إحسانيَّة ومدرسة تربويَّة، وامتحان يوشِّح القرآن وتوشح السنَّة صدور مستحقِّيه بأوسمة الفلاح الأبدي، وقد أصبح العالم كلُّه يُبصر ويسمع تميُّز الجهاد الإسلامي بالمضاء والعزيمة والقوَّة[29].
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] شرع الجهاد القتالي في أوائِل السنة الثَّانية للهجرة، السيرة النبويَّة، محمَّد بن محمد أبو شهبة، 1 /75 - 76.
[2] لقد بيَّن علماؤنا وفقهاؤنا حكْمَ هذا النَّوع من الجهاد، فمن المتَّفق عليه بين الأئمَّة أنَّه فرض كفاية، أمَّا إذا نزل الأعداء الثُّغور واعتَدَت أيديهم إلى أواسط المعمور، وجاذبونا طرق الرِّفْعة، وانتزعوا من أيدينا الوطَن والبقعة، فلا يُمترى في تعْيين فرضه، ووجوب القيام لله تعالى في أرضِه، والخطاب بذلك يعم الأمَّة، ويخصّ بالتَّعْيين الأئمَّة.
انظر حكم الجهاد القتالي الذي يدور حكمه بين فرض الكفاية وفرض عين في هذه الكتب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد: 1 /380، المحلَّى بالآثار، لابن حزم الأندلسي: 7 /291، أحكام القرآن، للشَّافعي: 2/30، الفتاوى الفقهيَّة في أهم القضايا من عهد السَّعديين إلى ما قبل الحماية، دراسة وتحليل لحسن اليوبي، ص 182 - 189، تحفة الطلاب بشرْح تحرير اللباب، زكريا الأنصاري الشَّافعي، ص371، التلقين في الفقه المالكي، القاضي عبدالوهاب البغدادي، ص180، فقه السنة، سيد سابق، ص754، إرشاد السالك إلى أشرف المسالك في فقه الإمام مالك، شهاب الدين عبدالرحمن المالكي البغدادي، ص64، الهداية في فروع الفقه الحنبلي، للكَلْوَذاني، 1 /134، مسالك الدلالة في شرح مسائل الرسالة في فقْه الإمام مالك لابن أبي زيد القيرواني، ص201، القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكيَّة والتَّنبيه على مذهب الشافعيَّة والحنفيَّة والحنبليَّة، لابن جزي الغرناطي، ص167، المعونة على مذاهب عالم المدينة الإمام مالك بن أنس، عبدالوهاب البغدادي: 1 /443، جامع الأمهات مختصر ابن الحاجب الفرعي، لابن الحاجب المالكي، ص134، المغني (ومعه الشَّرح الكبير على متْن المقْنِع) على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لابن قدامة: 10/359، الأم، للشافعي: 4 /176.
[3] منهج الإسلام في الحرب والسلم، عثمان جمعة ضميرية، ص129.
[4] الإسلام بين العلماء والحكام، عبدالعزيز البدري، ص 226 - 227.
[5] فلسفة الجهاد في الإسلام، السيد عبدالحافظ عبد ربه، ص200.
[6] الجهاد في الإسلام، محمد سعيد رمضان البوطي، ص225.
[7] سورة الحج: 40 - 41.
[8] على الرغم من أنَّ الإسلام قد أباح القتال إلاَّ أنَّه قد ردَّ الاعتداء بالقدر اللازم دون مجازاة أو تنكيل؛ انظر: الإستراتيجيَّة العسكرية الإسلاميَّة، النظريَّة والتَّطبيق، محمد فرج، ص31.
[9] سورة البقرة: من الآية 194.
[10] سورة البقرة: 190.
[11] العِلاقات الإسلاميَّة النصرانيَّة في العهْد النبوي، فاروق حمادة، ص172.
[12] سورة المائدة: 67.
[13] من المسلمين 259 ومن الكفار 759.
[14] السيرة النبوية، أبو الحسن علي الحسن الندوي، ص427.
[15] هذه الزيادة من كتاب: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص291.
[16] السيرة النبوية، أبو الحسن علي الحسن الندوي، نقلاً عن دائرة المعارف البريطانية، ط /1974م، 19 /966.
[17] السيرة النبوية، أبو الحسن علي الحسن الندوي، نقلاً عن دائرة المعارف البريطانية، 19 /1013.
[18] هذه الزيادة من كتاب: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص291، نقلا عن مقالة ل: E.H.Tawansend، نشرتها صحيفة هندو الإنكليزية اليومية (31 يناير 1943م).
[19] السيرة النبوية، الندوي، ص429، نقلا عن: John Davenport: Apology For Muhammad and Quran.
[20] تنظيم الإسلام للمجتمع، محمد أبو زهرة، ص48.
[21] الإسلام كبديل، مراد هوفمان، تعريب: عادل المعَلّم، ص149.
[22] سنن الترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في وصية النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في القتال، ح1618، وقال أبو عيسى: هذا حديث صحيح.
[23] شملة: الشَّمْلة كِساءٌ يُشْتَمَلُ به؛ مختار الصحاح، باب الشين مادة شمل، ص156.
[24] النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، للأتابكي، 1/18.
[25] في ظلال القرآن، سيد قطب، م1/ج2/187.
[26] في ظلال القرآن، سيد قطب، م6/ج26/3288.
[27] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، ح1904.
[28] دراسات إسلامية، سيد قطب، ص44.
[29] الإحسان، عبدالسلام ياسين، 2 /488 - 489.
هذا، ومن المعلوم أنَّ الحرب في الإسلام ليستْ عدوانيَّة، ولا استِفْزازيَّة، ولا همجيَّة، ولكنَّها للدِّفاع عن الدِّين والبلاد، وإنقاذ المستضعفين من المسلمين في أيِّ دولةٍ كانت؛ وذلك أنَّ الإسلام يعتبر بلاد المسلمين كلَّها دارًا واحدةً وبلدًا واحدًا، يَجب حمايتُه والجهاد دونه إن كان دارَ عدْل بيد المسلمين، ويجب استِرْداده إن كان مسلوبًا، كما يَعتبر المسلمين جميعًا أمَّة واحدة يَجب الدِّفاع عنْهم لاستِنقاذ المستضعفين وحمايتهم في أيِّ بلد أو دولة[3].
والحاصل:
أنَّ الجهاد القتالي كان من أجْل شيء واحد وواحدٍ وفقط، وهو حَمل الدَّعوة الإسلاميَّة وإنقاذ شعوب العالم من حياة الشَّقاء والتَّعاسة، وإخراجهم من ذلك كلِّه، إلى نور الإسلام، وضياء القرآن، وإلى العبادة الكاملة والطُّمأنينة الحقَّة، من تطبيق نظام الإسلام، ونشْر عقيدته الصَّافية النقيَّة[4].
ولذلك؛ فإنَّ الجهاد القتالي الَّذي حبَّذه الإسلام إنَّما هو قتال الَّذين يفتنون المسلِم عن دينِه ويصدُّون عن سبيل الله، ويبغونَها عوجًا.
إنَّ الجهاد الَّذي باركه الإسلام، وندَب إليه، ورغَّب فيه - إنَّما هو الجهاد في سبيل حريَّة الدَّعوة إلى الله، وإلى دينه، وإلى إقْرار العدالة الاجتماعيَّة، والعمل على إمتاع الإنسانيَّة ورفاهيتِها[5].
إنَّ الجهاد القتالي في حقيقته، الحصْن الَّذي لا بدَّ منه لحفظ هويَّة الأمَّة وكيانِها، لا مندوحة عنه لنجاح مسعاها الَّذي كلَّفها به الله - عزَّ وجلَّ - نحو إنشاء حضارة إنسانيَّة عادلة، تكلأُ الإنسان من ظلم أخيه الإنسان، وتقيه من الوقوع في مغبَّات منجزاته العلميَّة والحضاريَّة، تلك المغبَّات الَّتي من شأنِها أن تفسِد وتُشْقي بدلاً من أن تُصلح وتُسعد[6].
ولا يَخفى أنَّ الإسلام أجاز الجِهاد القتالي في حالتين اثْنتَين فقط، حالة الدِّفاع عن النَّفس وعن الدِّين وعن حريَّة العقيدة؛ قال الحق - سبحانه وتعالى -: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[7].
وحالة دفْع العدْوان وردّ اعتِداء المعتَدين[8]، ورفْع الظُّلْم عن المستضعفين، وإقامة العدْل في الأرض؛ قال الله - جلَّ ذِكْرُه -: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[9]، وقال - جلَّ وعلا -: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[10].
ولنا في سيّدنا رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أسوة وقدوة في جهادِه القتالي؛ حيث لم يكن - صلوات ربّي وسلامُه عليْه - في جَميع غزواتِه وسراياه بادئًا بالقتال، أو طالبًا لدنيا، أو جامعًا لمال، أو راغبًا في زعامة، أو موسعًا لحدود دولة أو مملكة، بل كلّ ذلك كان هداية للنَّاس، وتحريرًا للعقول، ورفعًا للظُّلم، وربطًا للنَّاس بربِّ العالمين، بأعْلى أساليب العفَّة والشَّرف والنُّبل، ممَّا جعل هذه الغزوات أُنموذجًا للتَّعامُل الدَّولي في الحروب والأسارى[11].
ومَن تأمَّل في جهادِه - صلَّى الله عليْه وسلَّم – القِتالي، يجد أنَّه لم يرفع سيفَه إلاَّ إذا اضطرَّ إليْه نصرةً لكلمة الله ودفاعًا عن دين الله وعنِ المستضْعفين؛ وخير دليلٍ على هذا أنَّه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لم يقتُل بيده الشَّريفة إلاَّ رجُلا واحدًا وهو أُبي بن خلف يوم أُحُد، فما بُعث - عليْه صلوات ربّي وسلامه - للقتال، ولكن بُعث لتبْليغ الرِّسالة وهداية النَّاس أجْمعين، وما القِتال إلاَّ للدِّفاع عن الدَّعوة الإسلاميَّة وردّ الَّذين يقفون في وجهِها بالعداء والكيد، وصدق ربُّنا - تبارك وتعالى - الَّذي خاطب نبيَّه وصفوة خلقه بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[12].
وقد أُريق في جَميع الغزوات والسَّرايا والبعوث التي بعثها النبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - الَّتي استغرقت تِسْعَ سنوات - أقلُّ دمٍ عُرِف في تاريخ الحروب والغزوات، فلم يتجاوزْ قتلى كلِّها 1018 قتيلاً من الفريقين[13]، وكانت حاقنة لدماء الكثير من النَّاس، عاصمة للنُّفوس البشرية[14]، باسطة الأمْن والسَّلام والسَّكينة والطُّمأنينة في أرْجاء الجزيرة العربية، فاتِحة عهد السَّعادة في العالم.
وإذا قارنَّا هذه النَّتائج - مثلاً - بقتلى الحربَين العالميتين: الأولى (1914 - 1918م)، والثَّانية الكبرى (1939 - 1945م)، نجِد أنَّ في الأولى بلغ عدد المصابين 21.000.000[15] عدد المقتولين 6.400.000 نفس[16]، وفي الثَّانية بين 35.000.000 و 60.000.000 نفس[17].
وقد كلَّف قتل رجل واحد في الحرب الأولى 10.000 جنيه، أمَّا مجموع نفقاتِها فيبلغ 37.000.000.000 جنيه، أمَّا نفقات الحرْب الثَّانية لساعة واحدة فمليون من الجنيهات1.000.000 [18].
ولم تخدم هاتان الحربان - كما يعلم الجميع - مصلحةً إنسانيَّة، ولم يستفِد منهما العالم البشَري في قليلٍ أو كثير.
وقد بلغ عدد ضحايا مَحاكم التَّفتيش في أوربَّا في القرون الوسطى، والاضطِهاد الكنسي إلى 12.000.000 نفس[19].
ولهذا؛ فإنَّ كلمة الحرب إذا أُطلقت في عصورنا ذُكِر معها الخرابُ والدَّمار، واستِباحة الحرمات، ونشْر الفساد والانْحلال والانطِلاق من كلِّ الرَّوابط الإنسانيَّة، حتَّى إنَّه ليؤْخَذ بجرائرها الآمنُ في سرْبِه والحامل لسيفه، ولكن حروب النَّبيِّين والصدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين كانت حروبًا فاضِلة تظلُّها التقوى، فلا يقتل إلاَّ مَن يقاتل بنفسه أو بتدْبيره، أمَّا الزّرَّاع والعمَّال فلا تمتد إليهم يدٌ بأذى[20].
وممَّا يزيد الأمر وضوحًا: أنَّ معارك النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لم تكن للاستِيلاء على الأراضي وقتْل الأبرياء وسفْك الدماء، بل كانت حروبًا دفاعيَّة أو وقائيَّة لمنْع هجوم عليْه أو على الإسلام، فلا خلافَ أنَّ مكَّة بدأت بمعاداتِه واضطهاده ومحاولة استِئْصاله، وتبعَتْها قبائلُ الجزيرة العربية، وعادوا ذلك[21].
ومن أجل ذلك؛ كان النبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إذا بعث جيشًا أوْصاه بتقوى الله وعدم الاعتداء؛ فعنْ سُليمانَ بْنِ بُريدةَ عَن أبيه - رضي الله عنهما - قالَ: كانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إذا بَعَثَ أميرًا على جَيْشٍ أوْصَاهُ في خاصَّةِ نَفْسِه بِتَقْوَى اللَّه، ومَنْ مَعهُ مِنَ المُسْلمينَ خَيْرًا، وقالَ: ((اغْزوا بِاسمِ اللَّهِ، وفي سَبِيلِ اللَّهِ قاتِلُوا مَنْ كَفَرَ باللَّه، ولا تَغُلُّوا ولا تَغْدِرُوا ولا تُمَثِّلُوا، ولا تَقْتُلوا وَليدًا، فإذا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْركِينَ فادْعُهُمْ إلى إحْدى ثَلاثِ خِصالٍ - أو خِلالٍ - أيَّتَها أجابُوكَ فاقْبَلْ مِنْهُم وكُفَّ عنهُم: ادْعُهُم إلى الإسْلامِ والتَّحَوُّلِ مِن دارِهِم إلى دارِ المُهاجِرِين، وأخْبِرْهُم إنْ فعَلُوا ذلك فإنَّ لَهُم ما للمُهاجِرِينَ وعَليْهم ما على المُهاجِرينَ، وإنْ أبوا أنْ يتحوَّلوا فأخْبِرْهُم أنَّهُم يَكونوا كأعْرابِ المُسْلمينَ يَجْري عليْهم ما يَجْري على الأعْرابِ، لَيْسَ لَهُم في الغنِيمَة والفَيْءِ شَيْءٌ إلاَّ أنْ يُجاهِدُوا، فإنْ أبَوْا فاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَيْهِم وقاتِلْهُم، وإذا حَاصَرْتَ حِصْنًا فأرادوكَ أنْ تَجْعَلَ لَهُم ذِمَّةَ اللَّهِ وذِمَّةَ نَبِيِّه، فلا تَجْعَل لهُم ذِمَّةَ اللَّهِ وَلا ذِمَّةَ نَبِيِّه واجْعَلْ لَهُم ذِمَّتَك وذِمَمَ أصْحَابِك؛ لأنَّكُمْ إنْ تُخْفِروا ذِمَّتَكُم وذِمَمَ أصْحَابِكُمْ خَيْرٌ مِنْ أنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وذِمَّةَ رَسُولِه، وإذَا حَاصَرْتَ أهْلَ حِصْنٍ فأرادُوكَ أنْ تُنْزِلَهُمْ على حُكْمِ اللَّهِ فلا تُنْزِلُوهُمْ ولكِنْ أنْزِلْهُم على حُكْمِكَ؛ فإنَّكَ لا تَدْري أتُصِيبُ حُكْم اللَّه فِيهِم أمْ لا؟ أو نحو هذا))[22].
إنَّ هذه الوصيَّة الغالية تُكتب بِمدادٍ من ذهَب، وهي من مميزات وخصائِص هذا الدين العظيم، الَّذي لا يقاتل ولا يغزو من أجْل الدنيا، أو الاستِكْثار من النَّاس، أو توْسيع مناطق نفوذِه، وإنَّما يغْزو ويُجاهد من أجْل الدَّعوة الإسلاميَّة، وإنقاذ النَّاس من عبادة النَّاس إلى عبادة ربّ النَّاس، ومن ظُلُمات المعاصي إلى نور الطَّاعة، واستجابة لأمر الله تعالى الَّذي أمر بِحماية الدَّعوة ونشْرها والدّفاع عنها؛ قال رسولُ عمرِو بن العاص عبادة بن الصامت للمقوقس - في إحْدى المعارك التي فاوض فيها المقوقس -: "وذلك إنَّما رغبتنا وهمَّتنا الجهاد في الله واتّباع رضوانه، وليس غزْونا عدوًّا ممَّن حارب الله لرغْبة في الدُّنيا ولا حاجةٍ للاستِكْثار منها، إلاَّ أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - قد أحلَّ ذلك لنا، وجعل ما غنِمنا من ذلك حلالاً، وما يُبالي أحدُنا أكان له قناطير من ذهَب أم كان لا يملك إلاَّ درهمًا؛ لأنَّ غاية أحدِنا من الدنيا أكلة يأكلُها يسد بها جوعته ليلَتَه ونهاره، وشملة[23] يلتحفها؛ وإن كان أحدُنا لا يملك إلاَّ ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله تعالى، واقْتصر على هذه بيدِه، ويبلغه ما كان في الدُّنيا؛ لأنَّ نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءَها ليس برخاء، إنَّما النعيم والرَّخاء في الآخرة، بذلك أمرنا الله وأمرنا به نبيُّنا، وعهد إليْنا ألاَّ تكون همَّة أحدِنا في الدُّنيا إلاَّ ما يُمسك جوعته ويستر عوْرته، وتكون همَّته وشغله في رضاء ربِّه وجهاد عدوه[24].
فالقتال في الإسلام له أهداف سامية، وضوابط راقية، ليست كأيّ هدف آخر من الأهداف التي عرفتْها البشريَّة في حروبها على مرّ التَّاريخ الطَّويل، القتال في سبيل الله لا في سبيل الأمْجاد والاستعلاء في الأرْض، ولا في سبيل المغانم والمكاسب، ولا في سبيل الأسْواق والخامات، ولا في سبيل تسْويد طبقة على طبقة أو جنس على جنس، إنَّما هو القتال لتلك الأهداف المحدَّدة الَّتي من أجلها شُرِع الجهاد في الإسلام، القتال لإعلاء كلِمة الله في الأرض، وإقرار منهجه في الحياة، وحماية المؤمنين به أن يُفْتَنوا عن دينهم، أو أن يجرفَهم الضلال والفساد، وما عدا هذه فهي حربٌ غير مشروعة في حكم الإسلام، وليس لِمن يخوضها أجرٌ عند الله ولا مقام[25].
وبهذا يتَّضح أنَّه لا جهاد، ولا شهادة، ولا جنَّة، إلاَّ حين يكون الجهاد في سبيل الله وحده، والموت في سبيلِه وحْده، والنصرة له وحده، في ذات النَّفس وفي منهج الحياة.
لا جهاد ولا شهادة ولا جنَّة إلاَّ حين يكون الهدف هو أن تكون كلِمة الله هي العليا، وأن تهيمن شريعتُه ومنهاجه في ضمائر النَّاس وأخلاقهم وسلوكهم، وفي أوْضاعهم وتشْريعهم ونظامهم على السَّواء.
وليس هنالك من رايةٍ أُخرى، أو هدفٍ آخَر، يُجاهد في سبيلِه مَن يجاهد، ويستشهد دونه من يستشهد، فيحقّ له وعْد الله بالجنَّة، إلاَّ تلك الرَّاية وإلاَّ هذا الهدف، من كل ما يروج في الأجيال المنحرفة التصوّر من رايات وأسماء وغايات.
ويحسن أن يدرك أصحاب الدَّعوة هذه اللَّفتة البديهيَّة، وأن يخلصوها في نفوسِهم من الشَّوائب التي تعلق بها من منطق البيئة وتصوّر الأجيال المنحرفة، وألا يلبسوا برايتهم راية، ولا يَخلطوا بتصوُّرهم تصورًا غريبًا على طبيعة العقيدة.
لا جهاد إلاَّ لتكون كلِمة الله هي العليا؛ العليا في النفس والضَّمير، والعليا في الخلق والسلوك، والعليا في الأوْضاع والنظم، والعليا في العلاقات والارتِباطات في كلِّ أنْحاء الحياة، وما عدا هذا فليس لله، ولكن للشيطان، وفيما عدا هذا ليْست هناك شهادة ولا استِشْهاد[26].
فعَن أبي مُوسى الأشعري - رضِي الله عنه - قال: سُئِلَ رَسولُ اللَّه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عنِ الرَّجُلِ يُقاتِلُ شَجاعةً، ويُقاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقاتِلُ رِياءً، أيُّ ذَلِكَ في سَبيلِ اللَّه؟ فقالَ رَسولُ اللَّه - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((مَنْ قاتلَ لِتَكونَ كَلِمةُ اللَّهِ هي العُلْيا فهُوَ في سَبيلِ اللَّه))[27].
وللإشارة فكلمة "في سبيل الله" وردت مرتبطة "بالجهاد" في القرآن الكريم أكثَر من ثلاثين مرَّة.
وعليه؛ فإنَّ القتال في الإسلام يحقّق إلى جانب حريَّة الدَّعوة وحريَّة العقيدة العدالة المطلقة لجميع النَّاس، فإذا هي لم تحمل هذه المقدمات معها لأهلِها وللبلاد المفتوحة لم تكن حربًا إسلامية[28] ولا جهادًا إسلاميًّا.
والقتال لحماية الدَّعوة الإسلاميَّة، وإزاحة العقبات من طريقِها، هو ما تؤكِّده الغزوات والسَّرايا والبعوث النبويَّة بطرائِق مُختلفة من دوريَّات القتال، إلى التعقُّب إلى التمويه، حتَّى قامت قواعد الإسلام بعد فتْح مكَّة المشرَّفة، فانتقلت إلى مرحلة أُخرى لإزالة كل ما يمتُّ للوثنية بصلة، فبعث النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - سراياه وبعوثه من مكَّة لهدْم ما تبقَّى من أنقاض الوثنيَّة، فانطلقت كتائب الحقّ لهدْم مناة والعزَّى، واللات وسواع، وذا الخَلَصَة، وغيرها من الطَّواغيت الوثنيَّة والأصنام التي عبدت من دون الله - جل وعلا.
ثمَّ انطلقت هذه السَّرايا والبعوث النبويَّة إلى ربوع الأرْض في كافَّة أرْجاء الجزيرة العربيَّة، تبلغ رسالة الإسلام للناس وتُزيل العقبات من طريق الدَّعوة الإسلاميَّة.
ولا يفوتُنا ونحن نتحدَّث عن الجهاد القتالي أن نُشير إلى أمر مهمّ؛ وهو أنَّ الجهاد القتالي، إن تعيَّن، لا يقيل من الجهاد السياسي قبله وبعده، ولربَّما كان الجهاد السياسي التَّربوي البنائي أصعبَ منالا وأشْقى طريقًا، وأحْوج إلى خصال الصَّبر الطَّويل والمرابطة المستمرَّة والرِّفْق من القِتال الذي تهوِّنُ ريح الشَّهادة وكرامات التَّأْيِيد الإلهي فيه صبر ساعة وصبر الإصابة.
كلا الجهادين مِرْقاة إحسانيَّة ومدرسة تربويَّة، وامتحان يوشِّح القرآن وتوشح السنَّة صدور مستحقِّيه بأوسمة الفلاح الأبدي، وقد أصبح العالم كلُّه يُبصر ويسمع تميُّز الجهاد الإسلامي بالمضاء والعزيمة والقوَّة[29].
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] شرع الجهاد القتالي في أوائِل السنة الثَّانية للهجرة، السيرة النبويَّة، محمَّد بن محمد أبو شهبة، 1 /75 - 76.
[2] لقد بيَّن علماؤنا وفقهاؤنا حكْمَ هذا النَّوع من الجهاد، فمن المتَّفق عليه بين الأئمَّة أنَّه فرض كفاية، أمَّا إذا نزل الأعداء الثُّغور واعتَدَت أيديهم إلى أواسط المعمور، وجاذبونا طرق الرِّفْعة، وانتزعوا من أيدينا الوطَن والبقعة، فلا يُمترى في تعْيين فرضه، ووجوب القيام لله تعالى في أرضِه، والخطاب بذلك يعم الأمَّة، ويخصّ بالتَّعْيين الأئمَّة.
انظر حكم الجهاد القتالي الذي يدور حكمه بين فرض الكفاية وفرض عين في هذه الكتب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد: 1 /380، المحلَّى بالآثار، لابن حزم الأندلسي: 7 /291، أحكام القرآن، للشَّافعي: 2/30، الفتاوى الفقهيَّة في أهم القضايا من عهد السَّعديين إلى ما قبل الحماية، دراسة وتحليل لحسن اليوبي، ص 182 - 189، تحفة الطلاب بشرْح تحرير اللباب، زكريا الأنصاري الشَّافعي، ص371، التلقين في الفقه المالكي، القاضي عبدالوهاب البغدادي، ص180، فقه السنة، سيد سابق، ص754، إرشاد السالك إلى أشرف المسالك في فقه الإمام مالك، شهاب الدين عبدالرحمن المالكي البغدادي، ص64، الهداية في فروع الفقه الحنبلي، للكَلْوَذاني، 1 /134، مسالك الدلالة في شرح مسائل الرسالة في فقْه الإمام مالك لابن أبي زيد القيرواني، ص201، القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكيَّة والتَّنبيه على مذهب الشافعيَّة والحنفيَّة والحنبليَّة، لابن جزي الغرناطي، ص167، المعونة على مذاهب عالم المدينة الإمام مالك بن أنس، عبدالوهاب البغدادي: 1 /443، جامع الأمهات مختصر ابن الحاجب الفرعي، لابن الحاجب المالكي، ص134، المغني (ومعه الشَّرح الكبير على متْن المقْنِع) على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لابن قدامة: 10/359، الأم، للشافعي: 4 /176.
[3] منهج الإسلام في الحرب والسلم، عثمان جمعة ضميرية، ص129.
[4] الإسلام بين العلماء والحكام، عبدالعزيز البدري، ص 226 - 227.
[5] فلسفة الجهاد في الإسلام، السيد عبدالحافظ عبد ربه، ص200.
[6] الجهاد في الإسلام، محمد سعيد رمضان البوطي، ص225.
[7] سورة الحج: 40 - 41.
[8] على الرغم من أنَّ الإسلام قد أباح القتال إلاَّ أنَّه قد ردَّ الاعتداء بالقدر اللازم دون مجازاة أو تنكيل؛ انظر: الإستراتيجيَّة العسكرية الإسلاميَّة، النظريَّة والتَّطبيق، محمد فرج، ص31.
[9] سورة البقرة: من الآية 194.
[10] سورة البقرة: 190.
[11] العِلاقات الإسلاميَّة النصرانيَّة في العهْد النبوي، فاروق حمادة، ص172.
[12] سورة المائدة: 67.
[13] من المسلمين 259 ومن الكفار 759.
[14] السيرة النبوية، أبو الحسن علي الحسن الندوي، ص427.
[15] هذه الزيادة من كتاب: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص291.
[16] السيرة النبوية، أبو الحسن علي الحسن الندوي، نقلاً عن دائرة المعارف البريطانية، ط /1974م، 19 /966.
[17] السيرة النبوية، أبو الحسن علي الحسن الندوي، نقلاً عن دائرة المعارف البريطانية، 19 /1013.
[18] هذه الزيادة من كتاب: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص291، نقلا عن مقالة ل: E.H.Tawansend، نشرتها صحيفة هندو الإنكليزية اليومية (31 يناير 1943م).
[19] السيرة النبوية، الندوي، ص429، نقلا عن: John Davenport: Apology For Muhammad and Quran.
[20] تنظيم الإسلام للمجتمع، محمد أبو زهرة، ص48.
[21] الإسلام كبديل، مراد هوفمان، تعريب: عادل المعَلّم، ص149.
[22] سنن الترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في وصية النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في القتال، ح1618، وقال أبو عيسى: هذا حديث صحيح.
[23] شملة: الشَّمْلة كِساءٌ يُشْتَمَلُ به؛ مختار الصحاح، باب الشين مادة شمل، ص156.
[24] النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، للأتابكي، 1/18.
[25] في ظلال القرآن، سيد قطب، م1/ج2/187.
[26] في ظلال القرآن، سيد قطب، م6/ج26/3288.
[27] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، ح1904.
[28] دراسات إسلامية، سيد قطب، ص44.
[29] الإحسان، عبدالسلام ياسين، 2 /488 - 489.
د. رشيد كهوس
مجووووووده
مجووووووده