يقول ابن القيم: "مبدأ كل علم نظري وعملٍ اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصوُّرات، والتصوُّرات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة... واعلم أن الخَطَرَات والوساوس تؤدِّي متعلقاتُها إلى الفكر، فيأخذها الفكر فيؤدِّيها إلى التَّذَكُّر، فأخذها الذكر فيؤديها إلى الإرادة، فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل... ومعلومٌ أنه لم يُعْطَ الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها، فإنها تهجم عليه هجومَ النَّفَسِ، إلاَّ أنَّ قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، وعلى دفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه"[1].
فالقلب وظائفه على بابين[2]:
الأول: باب العلوم والتَّصوُّرات، وهو العمليات المعرفية؛ من فكر، وتدبر، وتذكر، ومعلومات سابقة، وناتجة متحصلة منها.
فلا يخلو قطُّ من الفكر؛ إما في آخرته ومصالحها، وإما في مصالح دنياه ومعاشها، وإمَّا في الوساوس والأماني الباطلة والخواطر، فما يَرِد على القلب هو خواطر ووساوس، بعد قبولها تصبح أفكارًا ثم تترقَّى، وهذه كلها تخضع للعقل.
الثاني: الإرادات والعزوم، وهذا بالتَّعلُّق والميل إلى أمور، والابتعاد والنفور من أمور أخرى، وهذا الباب درجات؛ أولها الميل، ثم العلاقة، ثم الإرادة، ويرتقي في درجات التعلُّق حتى يَصِل إلى العبودية، وعن الإرادة ينتج العزم، وهو قرار العمل قلبيًّا باستخدام الجوارح، فإن لم تعمل الجوارح كان التَّمنِّي والتشهِّي، فالإرادة إن استحكمت صارت عزمًا، والعزم يتولَّد عنه الفعل.
بهذا تبيَّن الفرق بين العقل وهو باب التصوُّرات والعلوم، وبين العاطفة وهي باب الإرادات والعزوم، وما يشملها من تمنٍّ وشهوات وأهواء.
لكن كِلاَ البابين مركزهما القلب؛ بمعنى: اللَّطيفة الربانية الروحانية، فكان العقل أحد وظائف القلب.
والعلماء يقولون: إن صلاح العبد بقوَّة إيمانه وقوة عقله، فالإيمان أفعال القلب، وما عقد نفسه عليه من أحكام، وما كان من إرادات وعزائم له، والعقل تفكُّره فيما اعتقد، وتدبيره لأعمال الجوارح، واستنباطه ممَّا في قلبه من إيمانٍ وعلوم.
في القرآن صفاتٌ كثيرة ذُكِرت للقلب؛ من أفعال يقوم بها، وخصائص تجعل منه عالمًا قائمًا بذاته، واتَّسعت معانيه وتعدَّدت جوانبه، حتى لم يَعُد بإمكاننا حصره في المعاني العاطفية وحدها، أو في المعاني العقلية؛ بل إنه يتجاوز هذا، فالقرآن يحتوي على (120) آية من آيات القلب، وهي تتحدَّث عن جوانب كثيرة في النفس البشرية؛ بحيث تشعرنا أنَّنا أمام صورة من صور العقل، أو أمام العقل ذاته، وأحيانًا أخرى نشعر أنَّنا أمام العاطفة والأحاسيس والمشاعر الوجدانية، وأحيانًا ثالثة نجد أنفسنا أمام جانب يجمع الجانبين العقلي والعاطفي ويزيد عليهما عمقًا وبعدًا آخر[3].
غير أنَّه لم يَرِد في القرآن قطُّ الكلام عن الجسم أو المضغة الصنوبرية، بل كله عن اللطيفة الروحانية؛ أي: قوى القلب ووظائفه، وقد اصطلح البعض على تسميات لها؛ منها:
1- الإدراك والمعرفة والعلم.
2- الإيمان وما يتَّصل به من عاطفة ووجدان وإرادة[4].
وعند ابن القيم[5]:
1- باب التصوُّرات والعلوم.
2- باب الإرادات والعزوم.
وعند البعض:
1- العقل.
2- العاطفة.
وعند آخرين:
1- النظري أو الفكري.
2- المعنوي أو الوجداني.
نحاول جمع كل ذلك في:
1- باب الإدراك:وهذا يشمل التصوُّرات والمفهومات، والقابلية للمعرفة والعلم، وتدبير الصناعات الخفية الفكرية والعلوم المستفادة من التجارب، والتمييز والحفظ والتذكُّر والإنتاج للمعلومات.
2- باب الإرادة: وفيه الطباع؛ من شهوات، ووجدان، ورغبات، ومعنويات، وميولات، وهي قائمة على الطلب والترك، والحب والبغض، والقرب والنفرة، وما وضع في الطباع من العلم بجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات، والإرادات والعزوم هي ما يحصل بعد الخواطر والتفكُّر، ويكون بعدها اليقين والإيمان والاعتقاد والطمأنينة.
وفي القرآن وردت صفات للقلب خاصة به، منها ما كانت منه، ومنها ما كانت واقعة عليه.
فبعض الصفات تكون من أفعاله؛ كالخوف، والوجل، وأخرى يتعرض لها؛ كالإقفال، والربط، والتمحيص له، وقذف الرعب فيه.
نعرض الصفات الواردة في القرآن بتصنيفها كالآتي[6]:
1- الصفات الإدراكية المعرفية:
الهداية: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11].
الفقه: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179].
الزيغ: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 117].
العقل: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46].
العمى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
التدبُّر: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
الإنكار: {فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 22].
العلم: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 59].
الظن: {وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12].
2- الصفات الإرادية المعنوية والعملية:
الغلظة: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
السلامة: {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89].
الإنابة: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33].
الإثم: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283].
الاطمئنان: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].
المرض والطمع: {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
التقوى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
التقلُّب: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37].
الاشمئزاز: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ} [الزمر: 45].
السكينة: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4].
الرأفة والرحمة: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27].
الوَجْفُ: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات: 8]؛ أي: منزعجة مما يسمع.
الصَغْو: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]؛ أي: مالت وانحرفت.
القسوة: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 74].
الكسب: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225].
التعمُّد: {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5].
الطُّهر: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53].
الحب: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7].
الإيمان: {وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُم} [المائدة: 41].
الغلف: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88]؛ أي: مغلفة، لم تفهم الرسالة.
الغِلُّ: {وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاَّ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
الشرب: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93].
الحسرة: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156].
الوَجَل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2].
التآلف: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63].
الإباء: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8].
الغيظ: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 15].
النفاق: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77].
الريبة: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 110].
اللهو: {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 3].
الإخبات: {فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 54].
الرعب: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26].
اللين: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23].
الحمية: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26].
الخشوع: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16].
الصفات المقترنة بالقلب الواقع عليه، وهي أفعال الله في القلوب:
الطبع: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35].
الإنزال: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة: 97].
الختم: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24].
الحول: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24].
الربط: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10].
الإلقاء: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151].
السَّلْك: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء: 200].
الإقفال: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
التأليف: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
التمحيص: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154].
التزيين: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7].
التطهير: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41].
التقطُّع: {إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 110].
الصرف: {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127].
الشدُّ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88].
القذف: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26].
الكتابة: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْه} [المجادلة: 22].
الران: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].
مَن تأمَّل الصفات والأفعال والخصائص المنسوبة للقلب في آيات القرآن في حالات الإفراد والتثنية والجمع لم يَرِد فيها مطلقًا الدلالة على المعنى التشريحي الجسمي، ولكن قُصِد بها التعبير عن "جهاز إدراكي معرفي بالغ التعقيد"[7]، له وظائف متشعِّبة ومتعدِّدة ومتداخلة، لحدٍّ يعسر الفصل بينها، أو تمييز أدوارها دون تكاملها،كما أنَّ له ملكات أخرى[8]، غير أنَّه يمكن تمييز الوظائف بتقسيمها إلى قوَّتين رئيستين، مع التنبيه على أنَّ لهذه القوى وظائف خاصة بكل واحدة، و للقوتين نوع تكامل وتداخل فيما يحصل عن القلب بصفته لطيفة روحانية وهما:
1- القوة العلمية: وهي قوة الإدراك، والتمييز، وقبول العلم، وتخزينه وحفظه واستذكاره، وترتيبه والاستنباط منه.
وهذه القوَّة هي من خصائص الجانب المعرفي، فمهمَّة القلب فيها العقل والتدبُّر والتفكُّر والسمع، والبصيرة والنظر والتأمل والفهم، بل هو النفس المدركة.
نذكر أهم وظائف هذه القوة في نماذج:
التعقُّل: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46].
التدبر: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
العلم: {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 93].
السمع: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100].
التبصير: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
الفقه: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179].
هذه الوظائف المذكورة في الآيات جميعها إدراكية معرفية، فالقلب هو العاقل والمتدبِّر والمتفقِّه والعالم والسامع والمبصر، فهو الذي يدرك ما يتلقَّى من الحواس، وتعطُّله تعطُّلٌ للحواس، فالأذن تنقل المسموعات له، وخاصِّية السمع؛ بمعنى: إدراك المسموع وفهمه هي بالقلب، والعين تنقل المرئيَّات للقلب، وخاصية التبصُّر؛ بمعنى: إدراك المرئي وفهمه هي بالقلب، كما أن تأخُّر أو تعطُّل الإدراك بمراتبه يكون إمَّا لضعف طرق العلم إلى النفس أو لفقدانها، والله - تعالى - بيَّن أن الطبع على القلب والختم والإقفال والحجب له يعطله عن مهمة العلم، إما لأجزاء من العلم، أو للعلم كله.
ولا بُدَّ من الفهم أن هذه القوة الإدراكية لا تتعطَّل حال التكليف، والمراد بالطبع وصوره حجب الهداية التوفيقية، فالقلب على أحوال ثلاثة:
الأولى: القلب الصحيح: وهو القلب السليم والمنيب؛ {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88- 89]؛ والسليمُ: من سلم من كل شهوة تخالف أمر الله أو نهيه، ومن كل شبهة تُعارِض خبره، فسَلِم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله.
الثانية: القلب الميِّت: وهو الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره، بل هو واقف مع شهواته ولذَّاته؛ ولو كان فيها سخط ربه.
الثالثة: القلب المريض: قلبٌ له حياةٌ وبه علَّة، فله مادَّتان، تمدُّه هذه مرةً؛ وهي مادَّة حياته، وأخرى مرَّة؛ وهي الشهوات والحرص عليها وعلى الفساد في الأرض، وهي مادَّة هلاكه وهو ممتحن بين الداعيين.
والطبع يكون على القلب المريض، إذا انحرف لداعي هلاكه فيصبح ميتًا، فلا يبقى من قوَّته العلمية إلا إدراك أمور دنياه، منساقًا نحو مفاسدها؛ ساعيًا نحو الخلود إلى الأرض؛ دون غاية أخروية، فيرمي الدين مقابل دنياه.
لذا نجد أن الفقه في القلب ذُكِر في القرآن مقترنًا به فقط؛ أي: إنه لا يسند إلى الحواس، ولا إلى العقل، بل هو وظيفةٌ إدراكية مثل التعقُّل، غير أن القلب خُصَّ بالفقه دون ما رادفه كالفؤاد واللب، وما يقابله من السمع والبصر، فاقترن الفقه بالقلب في (7) آيات.
وقد فطن المفسِّرون إلى أنَّ من وظائف القلب القوة العلمية والإدراكية؛ وهي لا تتعطَّل ولا تتوقَّف، ولكن تفتر وتنشط، وصلتها بالقوة العملية متداخلة ومتكاملة.
نخلص إلى ما ذكره أحد الباحثين[9] وهو: أن القلب يعقل ويتدبَّر ويعلم ويسمع ويبصر ويفقه، هذا في مجال المعرفة والعلم، وينتج عن ذلك - إذا صلح - أنه يؤمن ويخشع ويخبت ويتنزل عليه الوحي ويطمئن.
2- القوة العملية[10]: وهي قوة الإرادة والعزم، والحب والإيمان، وهذه تمثِّل أعمال القلب وما يكسب بها من حسنات أو سيئات، وأحواله الوجدانية من ألمٍ وحسرةٍ ومرض، وبغض وغلٍّ، ومن صحة وفرح وحب، وهذه الأمور ناتجة عن العلائق والخواطر والطِّباع التي فُطِر عليها.
قال ابن القيم[11]: "وأمَّا العلائق فهي كلُّ ما تعلَّق به القلب دون الله ورسوله من ملاذِّ الدنيا وشهواتها"، ويقابلها "التعلُّق بالمطلب الأعلى... فإنَّ النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها إلا لمحبوبٍ هو أحبُّ إليها منه".
ويرتِّب قوى القلب بقوله: "مبدأُ كلِّ علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصوُّرات، والتصوُّرات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة"[12]، والإنسان لم يؤتَ القدرةَ على إيقاف الخواطر أو قطعها، فهي في النفس تَرِد عليها دون توقُّف، إلاَّ أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها، ورضاه بها ومساكنته لها، وعلى دفع أقبحها وكراهيته لها ونفرته منها، وهذا يُكسِب الإنسان الخشية والخوف من الله - تعالى - والخشوع والإيمان، وانصرافه عن الباطل والفساد؛ يكسب القلب الإثم والمرض، والرعب والفزع، ويفقده السكينة والطمأنينة.
بالجملة القلب لا يخلو من حركة القوَّتين؛ العلمية بالتفكير والتصوُّر، إمَّا في واجب آخرته ومصالحها، وإمَّا في مصالح دنياه ومعاشه، وإمَّا في الوساوس، والأماني الباطلة، والمقدَّرات المفروضة، أو العملية بالسعي لطلب ذلك والميل نحوه، فكلُّ حيٍّ من الناس هاتان القوتان لا تتعطَّلان في قلبه، بل إمَّا استعمال ذلك لمعرفة الحق أو الباطل، والعمل بالحق أو الباطل.
فالله خلق الحيوان من إنسٍ وبهيمة فقيرًا إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ولا يتمُّ ذلك له إلا بتصوُّره للنافع والضارِّ، والمنفعة من جنس النَّعيم واللَّذة، والمضرَّة من جنس الألم والعذاب.
فلابد لحياة الإنسان من أمرين:
أحدهما: معرفة ما هو المحبوب المطلوب، الذي ينتفع به ويلتذ بإدراكه.
والثاني: معين دافع له عنه، فهذه أربعة أشياء:
أحدها: أمر هو محبوب مطلوب الوجود.
الثاني: أمر مكروه مطلوب العدم.
الثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
الرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه.
فهذه الأمور الأربعة ضروريةٌ للعبد، بل لكل حيوان لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها"[13].
يتبع
فالقلب وظائفه على بابين[2]:
الأول: باب العلوم والتَّصوُّرات، وهو العمليات المعرفية؛ من فكر، وتدبر، وتذكر، ومعلومات سابقة، وناتجة متحصلة منها.
فلا يخلو قطُّ من الفكر؛ إما في آخرته ومصالحها، وإما في مصالح دنياه ومعاشها، وإمَّا في الوساوس والأماني الباطلة والخواطر، فما يَرِد على القلب هو خواطر ووساوس، بعد قبولها تصبح أفكارًا ثم تترقَّى، وهذه كلها تخضع للعقل.
الثاني: الإرادات والعزوم، وهذا بالتَّعلُّق والميل إلى أمور، والابتعاد والنفور من أمور أخرى، وهذا الباب درجات؛ أولها الميل، ثم العلاقة، ثم الإرادة، ويرتقي في درجات التعلُّق حتى يَصِل إلى العبودية، وعن الإرادة ينتج العزم، وهو قرار العمل قلبيًّا باستخدام الجوارح، فإن لم تعمل الجوارح كان التَّمنِّي والتشهِّي، فالإرادة إن استحكمت صارت عزمًا، والعزم يتولَّد عنه الفعل.
بهذا تبيَّن الفرق بين العقل وهو باب التصوُّرات والعلوم، وبين العاطفة وهي باب الإرادات والعزوم، وما يشملها من تمنٍّ وشهوات وأهواء.
لكن كِلاَ البابين مركزهما القلب؛ بمعنى: اللَّطيفة الربانية الروحانية، فكان العقل أحد وظائف القلب.
والعلماء يقولون: إن صلاح العبد بقوَّة إيمانه وقوة عقله، فالإيمان أفعال القلب، وما عقد نفسه عليه من أحكام، وما كان من إرادات وعزائم له، والعقل تفكُّره فيما اعتقد، وتدبيره لأعمال الجوارح، واستنباطه ممَّا في قلبه من إيمانٍ وعلوم.
في القرآن صفاتٌ كثيرة ذُكِرت للقلب؛ من أفعال يقوم بها، وخصائص تجعل منه عالمًا قائمًا بذاته، واتَّسعت معانيه وتعدَّدت جوانبه، حتى لم يَعُد بإمكاننا حصره في المعاني العاطفية وحدها، أو في المعاني العقلية؛ بل إنه يتجاوز هذا، فالقرآن يحتوي على (120) آية من آيات القلب، وهي تتحدَّث عن جوانب كثيرة في النفس البشرية؛ بحيث تشعرنا أنَّنا أمام صورة من صور العقل، أو أمام العقل ذاته، وأحيانًا أخرى نشعر أنَّنا أمام العاطفة والأحاسيس والمشاعر الوجدانية، وأحيانًا ثالثة نجد أنفسنا أمام جانب يجمع الجانبين العقلي والعاطفي ويزيد عليهما عمقًا وبعدًا آخر[3].
غير أنَّه لم يَرِد في القرآن قطُّ الكلام عن الجسم أو المضغة الصنوبرية، بل كله عن اللطيفة الروحانية؛ أي: قوى القلب ووظائفه، وقد اصطلح البعض على تسميات لها؛ منها:
1- الإدراك والمعرفة والعلم.
2- الإيمان وما يتَّصل به من عاطفة ووجدان وإرادة[4].
وعند ابن القيم[5]:
1- باب التصوُّرات والعلوم.
2- باب الإرادات والعزوم.
وعند البعض:
1- العقل.
2- العاطفة.
وعند آخرين:
1- النظري أو الفكري.
2- المعنوي أو الوجداني.
نحاول جمع كل ذلك في:
1- باب الإدراك:وهذا يشمل التصوُّرات والمفهومات، والقابلية للمعرفة والعلم، وتدبير الصناعات الخفية الفكرية والعلوم المستفادة من التجارب، والتمييز والحفظ والتذكُّر والإنتاج للمعلومات.
2- باب الإرادة: وفيه الطباع؛ من شهوات، ووجدان، ورغبات، ومعنويات، وميولات، وهي قائمة على الطلب والترك، والحب والبغض، والقرب والنفرة، وما وضع في الطباع من العلم بجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات، والإرادات والعزوم هي ما يحصل بعد الخواطر والتفكُّر، ويكون بعدها اليقين والإيمان والاعتقاد والطمأنينة.
وفي القرآن وردت صفات للقلب خاصة به، منها ما كانت منه، ومنها ما كانت واقعة عليه.
فبعض الصفات تكون من أفعاله؛ كالخوف، والوجل، وأخرى يتعرض لها؛ كالإقفال، والربط، والتمحيص له، وقذف الرعب فيه.
نعرض الصفات الواردة في القرآن بتصنيفها كالآتي[6]:
1- الصفات الإدراكية المعرفية:
الهداية: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11].
الفقه: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179].
الزيغ: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 117].
العقل: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46].
العمى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
التدبُّر: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
الإنكار: {فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 22].
العلم: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 59].
الظن: {وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12].
2- الصفات الإرادية المعنوية والعملية:
الغلظة: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
السلامة: {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89].
الإنابة: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33].
الإثم: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283].
الاطمئنان: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].
المرض والطمع: {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
التقوى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
التقلُّب: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37].
الاشمئزاز: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ} [الزمر: 45].
السكينة: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4].
الرأفة والرحمة: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27].
الوَجْفُ: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات: 8]؛ أي: منزعجة مما يسمع.
الصَغْو: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]؛ أي: مالت وانحرفت.
القسوة: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 74].
الكسب: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225].
التعمُّد: {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5].
الطُّهر: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53].
الحب: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7].
الإيمان: {وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُم} [المائدة: 41].
الغلف: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88]؛ أي: مغلفة، لم تفهم الرسالة.
الغِلُّ: {وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاَّ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
الشرب: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93].
الحسرة: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156].
الوَجَل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2].
التآلف: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63].
الإباء: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8].
الغيظ: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 15].
النفاق: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77].
الريبة: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 110].
اللهو: {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 3].
الإخبات: {فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 54].
الرعب: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26].
اللين: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23].
الحمية: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26].
الخشوع: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16].
الصفات المقترنة بالقلب الواقع عليه، وهي أفعال الله في القلوب:
الطبع: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35].
الإنزال: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة: 97].
الختم: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24].
الحول: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24].
الربط: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10].
الإلقاء: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151].
السَّلْك: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء: 200].
الإقفال: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
التأليف: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
التمحيص: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154].
التزيين: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7].
التطهير: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41].
التقطُّع: {إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 110].
الصرف: {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127].
الشدُّ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88].
القذف: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26].
الكتابة: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْه} [المجادلة: 22].
الران: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].
مَن تأمَّل الصفات والأفعال والخصائص المنسوبة للقلب في آيات القرآن في حالات الإفراد والتثنية والجمع لم يَرِد فيها مطلقًا الدلالة على المعنى التشريحي الجسمي، ولكن قُصِد بها التعبير عن "جهاز إدراكي معرفي بالغ التعقيد"[7]، له وظائف متشعِّبة ومتعدِّدة ومتداخلة، لحدٍّ يعسر الفصل بينها، أو تمييز أدوارها دون تكاملها،كما أنَّ له ملكات أخرى[8]، غير أنَّه يمكن تمييز الوظائف بتقسيمها إلى قوَّتين رئيستين، مع التنبيه على أنَّ لهذه القوى وظائف خاصة بكل واحدة، و للقوتين نوع تكامل وتداخل فيما يحصل عن القلب بصفته لطيفة روحانية وهما:
1- القوة العلمية: وهي قوة الإدراك، والتمييز، وقبول العلم، وتخزينه وحفظه واستذكاره، وترتيبه والاستنباط منه.
وهذه القوَّة هي من خصائص الجانب المعرفي، فمهمَّة القلب فيها العقل والتدبُّر والتفكُّر والسمع، والبصيرة والنظر والتأمل والفهم، بل هو النفس المدركة.
نذكر أهم وظائف هذه القوة في نماذج:
التعقُّل: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46].
التدبر: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
العلم: {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 93].
السمع: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100].
التبصير: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
الفقه: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179].
هذه الوظائف المذكورة في الآيات جميعها إدراكية معرفية، فالقلب هو العاقل والمتدبِّر والمتفقِّه والعالم والسامع والمبصر، فهو الذي يدرك ما يتلقَّى من الحواس، وتعطُّله تعطُّلٌ للحواس، فالأذن تنقل المسموعات له، وخاصِّية السمع؛ بمعنى: إدراك المسموع وفهمه هي بالقلب، والعين تنقل المرئيَّات للقلب، وخاصية التبصُّر؛ بمعنى: إدراك المرئي وفهمه هي بالقلب، كما أن تأخُّر أو تعطُّل الإدراك بمراتبه يكون إمَّا لضعف طرق العلم إلى النفس أو لفقدانها، والله - تعالى - بيَّن أن الطبع على القلب والختم والإقفال والحجب له يعطله عن مهمة العلم، إما لأجزاء من العلم، أو للعلم كله.
ولا بُدَّ من الفهم أن هذه القوة الإدراكية لا تتعطَّل حال التكليف، والمراد بالطبع وصوره حجب الهداية التوفيقية، فالقلب على أحوال ثلاثة:
الأولى: القلب الصحيح: وهو القلب السليم والمنيب؛ {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88- 89]؛ والسليمُ: من سلم من كل شهوة تخالف أمر الله أو نهيه، ومن كل شبهة تُعارِض خبره، فسَلِم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله.
الثانية: القلب الميِّت: وهو الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره، بل هو واقف مع شهواته ولذَّاته؛ ولو كان فيها سخط ربه.
الثالثة: القلب المريض: قلبٌ له حياةٌ وبه علَّة، فله مادَّتان، تمدُّه هذه مرةً؛ وهي مادَّة حياته، وأخرى مرَّة؛ وهي الشهوات والحرص عليها وعلى الفساد في الأرض، وهي مادَّة هلاكه وهو ممتحن بين الداعيين.
والطبع يكون على القلب المريض، إذا انحرف لداعي هلاكه فيصبح ميتًا، فلا يبقى من قوَّته العلمية إلا إدراك أمور دنياه، منساقًا نحو مفاسدها؛ ساعيًا نحو الخلود إلى الأرض؛ دون غاية أخروية، فيرمي الدين مقابل دنياه.
لذا نجد أن الفقه في القلب ذُكِر في القرآن مقترنًا به فقط؛ أي: إنه لا يسند إلى الحواس، ولا إلى العقل، بل هو وظيفةٌ إدراكية مثل التعقُّل، غير أن القلب خُصَّ بالفقه دون ما رادفه كالفؤاد واللب، وما يقابله من السمع والبصر، فاقترن الفقه بالقلب في (7) آيات.
وقد فطن المفسِّرون إلى أنَّ من وظائف القلب القوة العلمية والإدراكية؛ وهي لا تتعطَّل ولا تتوقَّف، ولكن تفتر وتنشط، وصلتها بالقوة العملية متداخلة ومتكاملة.
نخلص إلى ما ذكره أحد الباحثين[9] وهو: أن القلب يعقل ويتدبَّر ويعلم ويسمع ويبصر ويفقه، هذا في مجال المعرفة والعلم، وينتج عن ذلك - إذا صلح - أنه يؤمن ويخشع ويخبت ويتنزل عليه الوحي ويطمئن.
2- القوة العملية[10]: وهي قوة الإرادة والعزم، والحب والإيمان، وهذه تمثِّل أعمال القلب وما يكسب بها من حسنات أو سيئات، وأحواله الوجدانية من ألمٍ وحسرةٍ ومرض، وبغض وغلٍّ، ومن صحة وفرح وحب، وهذه الأمور ناتجة عن العلائق والخواطر والطِّباع التي فُطِر عليها.
قال ابن القيم[11]: "وأمَّا العلائق فهي كلُّ ما تعلَّق به القلب دون الله ورسوله من ملاذِّ الدنيا وشهواتها"، ويقابلها "التعلُّق بالمطلب الأعلى... فإنَّ النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها إلا لمحبوبٍ هو أحبُّ إليها منه".
ويرتِّب قوى القلب بقوله: "مبدأُ كلِّ علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصوُّرات، والتصوُّرات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة"[12]، والإنسان لم يؤتَ القدرةَ على إيقاف الخواطر أو قطعها، فهي في النفس تَرِد عليها دون توقُّف، إلاَّ أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها، ورضاه بها ومساكنته لها، وعلى دفع أقبحها وكراهيته لها ونفرته منها، وهذا يُكسِب الإنسان الخشية والخوف من الله - تعالى - والخشوع والإيمان، وانصرافه عن الباطل والفساد؛ يكسب القلب الإثم والمرض، والرعب والفزع، ويفقده السكينة والطمأنينة.
بالجملة القلب لا يخلو من حركة القوَّتين؛ العلمية بالتفكير والتصوُّر، إمَّا في واجب آخرته ومصالحها، وإمَّا في مصالح دنياه ومعاشه، وإمَّا في الوساوس، والأماني الباطلة، والمقدَّرات المفروضة، أو العملية بالسعي لطلب ذلك والميل نحوه، فكلُّ حيٍّ من الناس هاتان القوتان لا تتعطَّلان في قلبه، بل إمَّا استعمال ذلك لمعرفة الحق أو الباطل، والعمل بالحق أو الباطل.
فالله خلق الحيوان من إنسٍ وبهيمة فقيرًا إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ولا يتمُّ ذلك له إلا بتصوُّره للنافع والضارِّ، والمنفعة من جنس النَّعيم واللَّذة، والمضرَّة من جنس الألم والعذاب.
فلابد لحياة الإنسان من أمرين:
أحدهما: معرفة ما هو المحبوب المطلوب، الذي ينتفع به ويلتذ بإدراكه.
والثاني: معين دافع له عنه، فهذه أربعة أشياء:
أحدها: أمر هو محبوب مطلوب الوجود.
الثاني: أمر مكروه مطلوب العدم.
الثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
الرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه.
فهذه الأمور الأربعة ضروريةٌ للعبد، بل لكل حيوان لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها"[13].
يتبع