الحمد لله رَبِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبِعهم بإحسان وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
وبعد:
فقد رأيت أن أُفرِد من كتابي: "بهجة الناظرين فيما يُصلِح الدنيا والدين" قسم الفتاوى؛ لأهميتها وعظيم فائدتها، وحاجة الناس إليها، وهي ثلاث فتاوى:
أولها: "الفتوى اللاَّذِقية"؛ للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية السابق - رحمه الله - وهي تتضمَّن ثلاثة أسئلة وأجوبتها مُفْصَّلة.
والثانية: أيضًا للشيخ المذكور، وتَتَضمَّن سبعة أسئلة وأجوبتها مُفَصَّلة.
والثالثة: من فتاوى اللَّجنة الدائمة للإفتاء، وتَتَضَمَّن سبعة أسئلة أيضًا وذكر أجوبتها مُفَصَّلة؛ فتحصَّل من ذلك سبعة عشر سؤالاً مع ذكر أجوبتها بالتَّفصِيل، وهي تعالج واقعَ المجتمع الإسلامي غالبًا مع ذكر الدليل والتعليل، فلمَّا كانت بهذا الوصف أحببتُ إفرادَها للاستفادة منها.
أسأل الله - تعالى - أن ينفع بها مَنْ كتبها أو طبعها، أو قرأها أو سمعها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، ومن أسباب الفَوْز لديه بجنَّات النعيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قُوَّة إلا بالله العليم العظيم، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
عبدالله بن جارالله الجارالله في 1/6/1407 هـ.
الفتوى اللاَّذقية
أسئلة مُوَجَّهة إلى حضرة صاحب السَّماحة الشيخ: محمد بن إبراهيم، المفتي الأكبر للملكة العربية السعودية، المُتَوفَّى عام 1389 هـ - رحمه الله تعالى - مِنْ عبدالحفيظ بن إبراهيم اللاذقي سنة 1375 هـ.
السؤال الأول: هل يجوز للرجال والنساء لُبْس النَّظَّارة والسِّوار والسِّلسلة والساعة أو غيرها من الذهب أو الفضة أو النحاس، أو من الحديد أو غيره، أو لا؟
السؤال الثاني: هل يجوز لإنسان أن يعتقد أو يُصدِّق أو يَتَشاءَم أو يتوهَّم أن يصيبه ضررٌ - كمرض أو غيره - من الأعداد أو من السنين أو من الشهور، أو من الأيام أو من الأوقات، أو من قراءة سورة أو آية، أو من قراءة وِرْد، أو من قراءة فائدة، أو من دخول بيت، أو من لبس ثوب أو من غيره، أو لا؟
السؤال الثالث: ما هي أسماءُ الكتب الشرعية الدينية الإسلامية الصحيحة المعتمَدَة النافعة المفيدة السَّهلة، التي يجوز اقتناؤها والعمل بها في العقائد والعبادات والمعاملات وغيرها؟
فأجاب سماحة المفتي - رحمه الله - بما نَصُّه:
الجواب: الحمد لله، النَّظَّارة تارة تكون مُفَضَّضة، وتارة تكون مذهَّبَة، وتارة تكون مُجَرَّدة من ذلك، وتارَة تكون مذهَّبة مُفَضَّضَة، فالجميع جائزُ الاستعمال للرجال والنساء عدا المذهَّبة كثيرًا؛ فإنها ممنوعة للرجال فقط مُحَرَّمة؛ والدليل ما رواه أحمد في "مسنده"، والنَّسائي، والتِّرمذي وصحَّحه عن أبي موسى - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُحِلَّ الذهب والحرير لإناث أمتي، وحُرِّم على ذكورها».
وعن معاوية - رضي الله عنه - قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الذهب إلا مُقطَّعًا»[1].
وعن علي - رضي الله عنه - قال: «نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التَّخَتُّم بالذهب، وعن لباس القِسِيِّ والمُعَصْفَر»[2].
والدَّليل على إباحة المُفَضَّضة: ما رواه أحمد وأبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ولكن عليكم بالفضَّة فالعَبُوا بها لَعِبًا»، وفي رواية: «كيف شئتم».
وقال الشيخ تقيُّ الدين: لم يدلَّ الدَّليل على تحريم لبس الفضة، فليس فيها نصٌّ في التحريم، بخلاف الذهب والحرير، أما الخاتم ذهبًا كان أو فضة أو حديدًا أو نُحَاسًا أو رَصاصًا، فلا يحرُم مطلقًا؛ عدا خاتم الذهب، فتحريمه على الرِّجال ظاهر، وقد حُكي الإجماعُ على ذلك، وأدلَّة تحريم خاتم الذهب على الرجال معروفة كما تقدَّم.
أمَّا خاتم الحديد والصفر والنُّحاس، فقد صرَّح بعض العلماء بكراهته، وقد سأل الأثرمُ أحمدَ عن خاتم الحديد: ما ترى فيه؟ فذكر حديث عمرو بن شعيب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «هذه حلية أهل النار»، وابن مسعود قال: "لبسة أهل النار"، وابن عمر قال: "ما طَهُرتْ كفٌّ فيها خاتمُ حديدٍ"، وقال بعض العلماء بإباحة خاتم الحديد بدليل ما في الصحيحين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: «التَمِس ولو خاتمًا من حديد»، وهذا أصحُّ من الأحاديث المتقدِّمة الدالَّة على الكراهة[3].
وأما السَّاعة فحكمها حكم النظَّارة، وتقدَّم الكلامُ عليها فارجع إليه.
وأما السوار، فإمَّا أن يكون من ذهب أو غيره، وعلى كلِّ حالٍ هو مباح للنساء مطلقًا، وأما الرِّجال فغير مباح لهم مطلقًا، فما كان من ذهب فمنعه لعلَّتَين؛ أحدهما: كونه ذهبًا، والثانية: ما فيه من التشبُّه بالنساء، وإن كان من غير ذهب فعِلَّة المنع فيه التشبُّه بالنساء، وقد صرَّح العلماء بأنه يحرم تشبه رجل بأنثى في لباس وغيره وبالعكس، والمَرْجِع فيما هو من خصائص الرجال والنساء في اللباس إلى عُرْف البلد، ذكره في "التَّلخيص"؛ لحديث: لعَن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المُتَشَبِّهين من الرجال بالنساء، والمُتَشَبِّهات من النساء بالرجال[4]، ولعن أيضًا الرجل يلبس لُبْسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل[5].
وأما لبس السلسلة التي يلبس أهل التَّأنُّث، فإن كان ذهبًا أو فضة، فقد تقدم الكلام على حكم لبس الرجل الذهب والفضة، وإن كانت غير ذلك ولبِسها تأنيثًا وتشبُّهًا بالنساء، فحُرمته أيضًا بعلَّة التأنُّث؛ إذِ التَّخَنُّث ومشابهة النساء في أزيائهن وحركاتهن حرام.
فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المُخَنَّثِين من الرِّجال والمُتَرَجِّلات من النساء"، وفي رواية: "لعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبِّهين من الرجال بالنساء، والمُتَشَبِّهات من النساء بالرجال"[6]، واللَّعن يدلُّ على أنه من الكبائر؛ والحكمة من النهي إخراج الشيء عن صفته التي وضعه عليها أحكمُ الحكماء، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بمخنَّث قد خضَّب يدَيه ورجلَيه بالحناء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما بالُ هذا؟!»، فقيل: يا رسول الله، يتشبَّه بالنساء، فأمر به فنُفِي إلى النقيع، فقيل: يا رسول الله، ألا نقتله؟ فقال: إني نُهِيت عن قتل المُصَلِّين»، قال العلماء: المُخَنَّث من يُشبه النساء في حركاته وكلماته، وقال المنذري: المُخنث بفتح النون وكسرها: مَنْ فيه انخناث؛ وهو: التكسُّر والتَّثَنِّي كما يفعله النساء، لا الذي يفعل الفاحشة الكبرى، وقال في "الفتح": "قال الطبري: لا يجوز للرجال التشبُّه بالنساء والعكس، قلت: وكذا في الكلام والمشي، فأما هيئة اللِّباس فمُختَلِف باختلاف عادة كل بلد، فرُبَّ قومٍ لا يفترق زيُّ نسائهم عن رجالهم في اللبس، لكن يمتاز النساء بالاحتجاب والاسْتِتار، وأما ذمُّ التشبُّه بالكلام والمشي فمُخْتَصٌ بمَنْ يتعمَّد ذلك، وأمَّا مَنْ كان ذلك من أصل خلقته فإنما يُؤمَر بتَكَلُّف تَرْكِه والإدمان على ذلك بالتدريج، فإن لم يفعل وتَمَادَى دخل في الذَّم، ولاسيما إن بَدَا منه ما يدُلُّ على الرِّضا به وأخذه واضح من لفظ المتشبهين" أ. هـ.
وعلَّل بعضُ العلماء تحريمَ لبس الحرير على الرجال؛ لما يورثه بملامسته للبدن من الأنوثة والتَّخَنُّث، وضد الشهامة والرجولة، فإن لبسه يكسب القلب صفةً من صفات الإناث، ولهذا لا تجد مَنْ يلبسه في الأكثر إلا ويظهر على شمائله من التخنُّث والتأنيث والرخاوة ما لا يَخْفَى، حتى ولو كان من أَشهَم الناس وأكبرهم فحولة ورجولة، فلابد أن ينقصه الحرير منها، وإن لم يذهبها مرة.
ولهذا؛ كان أصح القولين أنه يحرُم على الولي إلباسُه الصبي؛ لما ينشأ عليه من صفات أهل التأنُّث، فلبس الحرير يليق بالنساء؛ فإن من طبعهن اللِّين والنعومة والتحلِّي.
قال الله - سبحانه -: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف/ 18]، ويُرْوَى: (تَمَعْدَدُوا واخْشَوْشِنوا)؛ لأن الرجال من طبعهم الخشونة والشهامة والرجولة، وهذا الذي ينبغي ويليق بهم، ويتناسب مع أخلاقهم.
وعن فضالة بن عُبَيد قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا عن كثير من الإرفاه، ويأمرنا أن نحتفي أحيانًا»[7]، وفيما تقدَّم أعظمُ دليل على تحريم التَّخَنُّث، وأنَّه من كبير الذنوب، وفيها أعظم تنفير منه ومن وسائله وأسبابه؛ وذلك لعِظَم ضرره؛ إذ هو يُفقِد الإنسان نفسَه ومعنويَّته وأخلاقه، فهو من أعظم الأمراض، فلعِظَم ضَرَره صرَّحت الأحاديث بلعن المخنَّثين، والأمر بنَفْيِهم وإبعادهم؛ تفاديًا من سريان مرضهم، إذْ هم خطر على المجتمع الإنساني.
وأما البرنيطة فلا يجوز لبسها؛ لأنها من ألبسة الكفار وزيِّهم الخاصِّ، ففي لبسها تشبُّه بهم، والتشبُّه بالكفَّار مُحَرَّمٌ، والأدلَّة على ذلك كثيرةٌ؛ منها: ما رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبدالله بن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تشبَّه بقوم فهو منهم»، قال الإمام أحمد: إسناده جيد، قال الشيخ تقيُّ الدين ابن تيمية: فأقلُّ أحوال هذا الحديث أنه يقتضي تحريم التَّشَبُّه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبِّهين بهم؛ كما قال - سبحانه وتعالى -: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة/ 51].
• وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «جُزُّوا الشوارب، وأرخوا اللِّحى، ولا تَشَبَّهوا بالمجوس»[8]، وحديث: «خالَفَ هديُنا هديَ المشركين».
• وعن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللَّحد لنا، والشِّقُّ لغيرنا»[9]، وروى البخاريُّ في "صحيحه" أن عمر كتب إلى المسلمين المقيمين ببلاد فارس: (إيَّاكم وزيَّ أهل الشرك).
• ويروى أن حذيفة بن اليمان دُعي إلى وليمة فرَأَى من زِيِّ العَجَم، فخرج وقال: «مَنْ تشبَّه بقوم فهو منهم»[10]، وروى الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود، صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده».
• وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منَّا من تشبَّه بغيرنا»[11].
قال الشيخ تقيُّ الدين: وهذا وإن كان فيه ضَعْفٌ فهو يصلح للاعتقاد، وبكل حال فهو يقتضي تحريمَ التشبه بهم؛ لعلَّة كونه تشبُّهًا، والتَّشَبُّه يعمُّ مَنْ فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه - وهو نادر - ومَنْ تَبِع غيرَه في فعلٍ لغرض له في ذلك، إذا كان أصل الفعل مأخوذًا عن ذلك الغير، فأمَّا مَنْ فعَل الشيء واتَّفق أن غيره فعله أيضًا ولم يأخذه أحدُهما عن صاحبه، ففي كَوْن هذا تَشَبُّهًا نظر، لكن يُنْهَى عنه؛ لئلاَّ يكون ذريعةً إلى التشبُّه، ولِمَا فيه من المخالفة، مع أن قوله: «غيِّروا الشَّيب، ولا تَشَبَّهوا باليهود»[12] دليلٌ على أن التشبُّه بهم يحصُل بغير قصدٍ مِنَّا ولا فعل، بل بمجرَّد ترك تغيير ما خُلِق فينا، وهذا أبلغُ من الموافَقَة الفعليَّة الاتفاقيَّة، قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله -: "وأَمَر بمخالفتهم في الهدي الظاهر لأمور؛ منها: أنَّ المشاركة في الهدي الظاهر تُورِث تناسبًا وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال، وهذا أمرٌ محسوس، فإن اللاَّبِس لثياب أهل العلم يجد من نفسه نوعَ انضمام إليهم، ومنها: أن المخالَفة في الهدي الظاهر تورِث مباينة ومفارقة تُوجِب الانقطاع عن مُوجِبات الغَضَب وأسباب الضلال، والانعطاف إلى الهُدَى، وكُلَّما كان القلب أتمَّ حياةً كان إحساسُه بمفارقة اليهود والنصارى باطنًا وظاهرًا أتمَّ، وبُعدُه عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشدَّ، ومنها: أن مشاركتهم في الهَدْي الظاهر تُوجِب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التميِيزُ ظاهرًا بين المهديِّين والمغضوب عليهم، إلى غير ذلك من الأسباب الحِكَمية، هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحًا محضًا لو تجرَّد عن مشابهتهم"[13].
فأمَّا ما كان من مُوجِبات كفرهم فإنه يكون شعبةً من شُعَب الكفر، فمُوافَقَتهم فيه موافقةٌ في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم، فهذا أصلٌ ينبغي التَّفطُّن له. أهـ.
وهذه المسألة - أي: مسألة تحريم تَشَبُّه المسلم بالكافر - أدلَّتُها ظاهرةٌ جليَّةٌ، وقد صُنِّفَت المُصَنَّفَات الكثيرة في خصوص هذه المسألة وفروعها وأدلتها، وذكر الأسباب والعِلَل التي مُنِع من أجلها التَّشَبُّه بهم، ولا شك أن الدين الإسلامي هو الدين الكامل التامُّ الذي جاء بأحسن الأخلاق، وأرقى النُّظُم والتعليمات، فلم يَعُد بحاجة معه إلى غيره، فما قَرَع الأسماعَ من لدن ذَرْء الله البشر دينٌ أكمل منه ولا أتم، فكلُّ ما دعا إليه من أخلاق ومعاملات فهي النهاية في الحسن والكمال والعدل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة/ 3]، ولتمامه وكماله وملاءمته لكل زمان ومكان، وعدم حاجة البشر معه إلى غيره؛ نَسَختْ شريعتُه سائر الشرائع، فهو الدين الباقي الخالد إلى أَوَان خراب هذا العالم وانتهاء أَمَده وقيام الساعة.
إن الأمة التي اعتنقتْه وعمِلتْ بجميع تعاليمه، وطبَّقته تطبيقًا تامًّا في أقوالها وأفعالها واعتقاداتها - سَعِدتْ أكملَ سعادةٍ، ورَقَت أعلى رُتْبَة في المجد، ووصَلت إلى جميع ما تَصْبُو إليه، وانتصرت انتصارًا باهرًا بلغ حدود المعجِزات، أقرَّ التاريخُ أنهم - مع قلَّة عددهم وعُدَّتهم - ملكوا الدنيا في رُبع قرن، مع كثرة عدوِّهم، ووفرة ما لديه من عَدَد وعُدَّة، وهذا مصداق قوله - تعالى -: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة/33].
وبالاطلاع على التاريخ نجد أنه بحَسَب تَمَسُّك الأمَّة بالدين الإسلامي وتطبيقه يكون انتصارها، وبحَسَب إعراضها وتساهلها بالدين يكون ضعفُها وانهيارها، فانظر حالة المسلمين في زمن الخلافة والدولة الأموية والعباسية، وزمن نور الدين الشهيد وصلاح الدين الأيوبي، ثم حالة المسلمين بعد ذلك حينما تساهلوا بالدِّين وضَعُف تمسُّكُهم به إلى ما وصلوا إليه من ذُلٍّ واستعباد، وما ظلمهم الله؛ ولكن كانوا هم الظالمين، وهذا مصداق قوله - تعالى -: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد/7]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد/11]، ووَرَد في بعض الآثار: (إذا عصاني مَنْ يعرِفُني سَلَّطتُ عليه من لا يعرفني).
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا ضَنَّ الناسُ بالدِّينار والدِّرهم، وتَبَايَعوا بالعِينَة، وتَبِعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله - أَدْخَل اللهُ عليهم ذلاًّ لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم»[14].
واعلم أن التشبُّه بالكفار يكون بمجرد عَمَل ما يعملون، قَصَد المشابهة أو لا، قال الشيخ تقيُّ الدين بن تيمية - رحمه الله -: "وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، معلِّلاً ذلك النهيَ بأنها تطلع وتغرب بين قَرْنَي شيطان، وحينئذ يسجد لها الكُفَّار، ومعلومٌ أن المؤمن لا يقصد السُّجود إلا لله، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قَرْنَي شيطان، ولا أن الكفار يسجُدون لها، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في ذلك حَسْمًا لمادَّة المشابهة من كل طريق.
ولنذكر بعضَ أمور ارتكبها بعض المسلمين واستحسنوها واعتادوها، وهي من زِيِّ الكفَّار وعاداتهم، فمن ذلك حَلْق اللِّحى وإعفاء الشارب، ولا شكَّ في قبح ذلك وتحريمه، وإنما يستحسِنه مَنْكُوسُ القلب فاسد الفطرة، قليلُ المبالاة بأوامر الدين ونواهيه، وهذا من تسويل الشيطان وتحسينه القبيح؛ {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} [فاطر/8]، والأدلَّة - كما قلنا - قد صرحت بتحريم ذلك بعلَّة أنه تَشَبُّه باليهود والمجوس، فمَنْ فعل ذلك فقد اختار زِيَّ اليهود والمجوس على زيِّ محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضوان الله عليهم - وقد ذكر ابن حزم أن إعفاء اللحى وقصَّ الشارب فَرْضٌ؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما – مرفوعًا: «خالفوا المشركين، وفِّروا اللِّحى، وأحفوا الشَّوارب»[15]، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَحْفُوا الشَّوارب، وأَعْفُوا اللِّحى، ولا تَشَبَّهوا بالمجوس»؛ وعن زيد بن أرقم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ لم يأخذ من شاربه فليس منا»[16].
• ومن ذلك أيضًا: حَلْقُ بعض الرأس وترك بعضه، وما يفعله بعض السفلة مما يُسَمُّونه "التواليت"؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القَزْع، وقال: «احلِقه كله، أو دعه كلَّه»، قال في "شرح الإقناع": فيدخل في القزع حلقُ مواضع من جوانب الرأس، وأن يحلق وسَطه ويترك جوانبه كما تفعله شَمَامِسَةُ النصارى، وحلق جوانبه وترك وسطه كما يفعله كثيرٌ من السفلة، وأن يحلق مُقَدَّمَه ويترك مُؤَخَّرَه، وسُئِل أحمدُ عن حلق القفا، فقال: هو من فعل المجوس، ومن تشبَّه بقومٍ فهو منهم، وقال: لا بأس أن يحلق في الحجامة.
• ومن ذلك استعمال الآلات التي تحمِل الصَّلِيب؛ لما فيه من التَّشبُّه بالنصارى، وكذلك الملابس التي رُقِم عليها الصليب، فقد صَرَّحت الأحاديث بالنهي عن ذلك؛ فَرَوَى أبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يترك شيئًا في بيته فيه تصليبٌ إلا قضبه"، قولها: قضبه، القضب: القطع، والتَّصليب: ما كان على صورة الصَّليب، قال في "الإنصاف" بعد ذكر أنه يُكرَه: ويُحتَمَل تحريمُه وهو ظاهر نقل صالح، قلت: وهو الصواب. أهـ.
• ومن ذلك شَدُّ الوَسَط بما يُشْبِه الزُّنَّار، أو ما يُشْبِه شَدَّ الزُّنَّار؛ لما فيه من التَّشَبُّه بأهل الكتاب، والزُّنَّار خيطٌ غليظٌ تشدُّه النَّصارى على أوساطهم.
• ومن ذلك اعتيادُ تعطيل وتغيير الزِّيِّ في أعيادهم أو زياراتهم أو زيارة محل أعيادهم، والحال أنك تجد أكثر الناس في أيام أعياد الكفار يفعلون كل ما يفعله الكفار، وقد صرَّحت الأدلَّة بالنهي عن ذلك وتحريمه؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان/72]، قال بعض المفسرين: أي: أعياد الكفار؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ثابت بن الضَّحَّاك الذي رواه أبو داود: «هل كان فيها وَثَنٌ من أوثان الجاهلية يُعبَد؟» قالوا: لا، قال: «فهل كان فيها عيدٌ من أعيادهم؟»، وقال بعضُ السلف: مَنْ ذبح بطريقة يوم عيد الكفار فكأنما ذبح خنزيرًا، وقال الشيخ تقيُّ الدين ابن تيمية: إذا فعل المسلمون معهم في أعيادهم مثلَ صبغ البَيْض، وتحمير دوابِّهم بمغرة، وتوسيع النفقات، فهذا أظهر من أن يحتاج إلى سؤال، فقد نَصَّ طائفةٌ من العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك على كُفْرِ مَنْ فعل ذلك.
وقال البيهقي - بإسناد صحيح - عن عمر - رضي الله عنه - قال: لا تَعَلَّمُوا رَطانَة العَجَم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم؛ فإن السُّخطة تنزل عليهم، قال الشيخ: وهذا من باب التنبيه على المنع من أن يفعل كفعلهم، قال: وكذلك لا ندعهم يُشرِكونا في عيدنا؛ يعني: لاختصاص كل قوم بعيدهم، ومن المؤسِف حقًّا ما نراه من بعض الشباب من إقبالهم على مُطالِعة كتبهم ومجلاَّتهم، بل شوقهم إلى ذلك ولهفهم إليها بغاية التعطُّش، ولا شكَّ أن هذه بذرة شر وعنوان نحس مؤذِن بعاقبة سيئة وخيمة، جديرة بوجوب الاهتمام بها وحسمها قبل استفحالها، ولو فكَّر المسؤولون في عِظَم ضررها وخطرها على المجتمع وما تعمل في كيانه من تفكيك عُرَاه وإشاعة الرُّعب فيه - لَتَحَتَّم منعُها سياسةً، وكم في هذه المجلاَّت من دسٍّ على الأمة، وتحبيذ الانقلابات الضارَّة باسم يقظة الشعوب وحريَّتها! وهذا عدا ما فيها وما اشتملت عليه من إلحاد وزندقة وتشكيك في الدين، وما في بعضها من صور خليعة، الشيء الذي أعتقد - ويعتقد كلُّ عاقل - أنه لا يعود على الأمة منه إلا الشر؛ وقد جاء في الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى مع عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فغَضِبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر بعض المفسرين في تفسير قوله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان/6] الآية: أن رجلاً من قريش كان يأتي بأخبار فارس والروم ويقرأها على الناس ويقول: هذا خيرٌ ممَّا جاء به محمدٌ، وقد صرَّح العلماءُ بوجوب إحراق كتب الزندقة والمبتدعة والملاحدة، فكيف بهذه الكتب التي كلُّها إلحادٌ وزَنْدَقةٌ وتَشْكِيكٌ في الدِّين؟! فما رأيُك في حالة هذا الشباب الأَعْزَل الذي لم يتدرَّع بالسلاح، ولم يستعدَّ للنضال؛ بل ذهنُه فارغ، وقلبه مُقْبِل عليها غايةَ الإقبال؟! لا شكَّ أنها ستكون سببًا لهلاكه وزيغه.
ولا شكَّ أن مَنْ أقبل على تلك التُّرَّهات في صِغَره ومبدأ عُمُره، وصارت هي دَيْدَنَه وهِجِّيراه وسميره، وأَلِفتها نفسه، وشَغُف بها قلبه - أنه يصعُب إزاحته عنها وإخراجها من قلبه، ولقد لاحَظ الشارعُ - صلى الله عليه وسلم – ذلك بقوله: «اقتلوا شيوخ المشركين، واستَبْقُوا شَرْخَهم»[17].
فالواجب أن يُحْمَى هذا الشباب كما يُحْمَى المريض، ويُحْجَر عليهم في أفهامهم وعقولهم، فكما أنه يُحْجَر على الإنسان إذا فسد تَصَرُّفه في ماله، فالحجر عليه إذا فسد تَصَرُّفُه في دينه أَوْلَى؛ لأن الدين لا عِوَض له.
وأمَّا لبس السترة والبنطلون، فإن كان ذلك من لباس الكفار وزيِّهم الخاص فهو ممنوع؛ بعلَّة التشبُّه بهم، وقد تَقَدَّم الكلام على ذلك، وإن لم يكن من زيهم الخاص فلا بأس بذلك؛ إذ الأصل في اللباس الإباحة، إلا ما ورد الدليل بالنهي عنه.
وأما الجواب على السؤال الثاني وهو: هل يجوز للإنسان أن يُصَدِّق أو يتشاءم: في عدد أو يوم، أو شهر أو نحو ذلك... إلى آخره؟
فالجواب:
هذا لا يجوز؛ بل هو من عادات أهل الجاهلية الشِّرْكِيَّة التي جاء الإسلام بنَفْيِها وإبطالها، وقد صَرَّحَت الأدلة بتحريم ذلك، وأنه من الشِّرك، وأنه لا تأثير له في جلب نَفْع أو دَفْع ضرر؛ إذ لا معطي ولا مانع ولا نافع ولا ضارَّ إلا الله - سبحانه وتعالى - قال الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام/17].
وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو اجتمعت الأُمَّة على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يَضُرُّوك بشيء، لم يضرُّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام، وجَفَّت الصحف»، وعن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا عَدْوَى ولا طِيَرَة ولا هامة ولا صفر»[18]، وفي رواية: «ولا نَوْء ولا غول»[19]، فنفى الشَّارِع - صلى الله عليه وسلم - الطِّيَرة وما ذكر في الحديث، وأخبر أنه لا وجود له ولا تأثير، وإنما يقع في القلب تَوَهُّمَاتٌ وخَيَالاتٌ فاسدة، وقوله: (ولا صفر): نفيٌ لما كان عليه أهل الجاهلية من التشاؤم بشهر صفر، ويقولون: هو شهر الدَّوَاهي، فنفى ذلك - صلى الله عليه وسلم - وأَبْطَلَه وأخبر أن شهر صفر كغيره من الشهور، لا تأثير له في جلب نفع ولا دفع ضرر، وكذلك الأيام والليالي والسَّاعات لا فرق بينها، وكان أهل الجاهلية يتشاءمون بيوم الأربعاء، ويتشاءمون بشهر شوال - في النكاح فيه خاصة - وكانت عائشة - رضي الله عنها - تقول: تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر شوَّال فمن كان عنده أحظى مني، وهذا كتشاؤم الرافضة باسم العشرة وكراهتهم له؛ لبغضهم وعداوتهم للعشرة المُبَشَّرِين بالجنة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا من جهلهم وسخافة عقولهم، والكلام على هذه المسألة استوفاه شيخ الإسلام في "المنهاج" في الرَّدِّ على الرَّافِضي.
وكذلك أهل التَّنْجِيم يُقَسِّمون الأوقات إلى ساعة نَحْس وشُؤْم، وساعة سَعْد وخَيْر، ولا يخفى حكم التنجيم وتحريمه، وأنه من أقسام السحر، والكلام عليه مستوفًى في موضعه، وكلُّ هذه الأمور من العادات الجاهليَّة التي جاء الشرع بنفيها وإبطالها؛ قال ابن القيم - رحمه الله -: "التَّطَيُّر: هو التَّشاؤم بمرئي أو مسموع، فإذا استعملها الإنسان فرجع بها من سفر وامتنع بها عن ما عزم عليه، فقد قرع باب الشرك بل وَلَجه، وبرئ من التوكل على الله - سبحانه - وفتح على نفسه باب الخَوْف والتَّعَلُّق بغير الله، والتَّطَيُّر مما يراه أو يسمعه، وذلك قاطع عن مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة/5]، {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود/123]، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى/10].
فيصير قلبُه مُتَعَلِّقًا بغير الله عبادةً وتَوَكُّلاً؛ فيفسد عليه قلبُه وإيمانُه وحالُه، ويبقى هدفًا لسهام الطِّيَرة، ويُسَاق إليها من كل أوب ويُقَيِّض له الشيطان من يفسد عليه دينه ودنياه، وكَمْ هَلَك بسبب ذلك وخَسِر الدنيا والآخرة، فالأدِلَّة على تحريم التَّطَيُّر والتَّشَاؤم معروفة موجودة في مَظَانِّها فلنكتفِ بما تقدَّم.
وأمَّا الجواب عن السؤال الثالث: ما هي أسماء وأصحاب الكتب الشرعية النافعة... إلخ؟
فالجواب:
هذه المسألة قد كفانا الإجابة عنها شيخ الإسلام تقيُّ الدين ابن تيمية، وهذا نصُّ إجابته - رحمه الله - قال: "وأمَّا ما يُعتَمد عليه من الكتب، فهذا بابٌ واسعٌ يختلف باختلاف نشء الإنسان في البلاد، لكن جِمَاع الخير أن يستعين الإنسان بالله في تَلَقِّي العلم الموروث عنه - صلى الله عليه وسلم - فإنَّه الذي يُسمَّى علمًا، وما سواه: إما أنه يكون علمًا فلا يكون نافعًا، وإما ألاّ يكون علمًا وإن سُمِّي به، ولئن كان علمًا، فلا بُدَّ أن يكون في ميراث محمد - صلى الله عليه وسلم - ما يغني عنه ممَّا هو مثله أو خير منه، ولتكن هِمَّته فَهْم مقاصد الرسول في أمره ونهيه وسائر كلامه، فإنِ اطمأن قلبُه إلى أن هذا أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا يَعدِل عنه فيما بينه وبين الله ولا مع الناس إن أمكنه ذلك".. إلى أن قال: وما في الكتب المصنَّفة النبوية كتابٌٌ أنفع من "صحيح محمد بن إسماعيل البخاري"، لكن هو وحده لا يقوم بأصول العلم بتمام المقصود للمُتَبَحِّر في أبواب العلم؛ إذ لابد من معرفة أحاديث أُخَر وكلام أهل العلم في الأمور التي يختصُّ بعلمها بعضُ العلماء، فمَنْ نَوَّر الله قلبه هداه بما يُبلِّغه ذلك، ومَنْ أَعْماه لم تَزِده كثرة الكتب إلا حَيْرة وضلالاً؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي لبيد الأنصاري: «أَوَلَيست التوراة والإنجيل عند اليهود؟ فماذا تغني عنهم؟!»[20] أ.هـ.
وحَصْر الكتب النافعة لا يمكن؛ لكثرتها، ولا بأس من الإشارة إلى بعضها من الكتب النافعة المشهورة، فمنها في التفسير: "تفسير ابن جرير"، و"ابن كثير"، و"البغوي"، ونحو هذه من تفاسير السَّلَف النافعة المفيدة الموثوق بها، ومن كتب الحديث: "صحيح البخاري"، و"صحيح مسلم"، و"مسند أحمد"، و"سنن أبي داود"، و"الترمذي"، و"النسائي"، و"موطأ مالك"، وغير ذلك من كتب الحديث المشهورة المعروفة، وأمَّا في التوحيد والاعتقاد فهي كثيرة كمصنفات أئمة السلف؛ كالإمام أحمد، وغيره من الأئمة؛ ككتب مَن اشتهر بنصر السنة والقيام بها؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه؛ كشمس الدين ابن القيم - رحمهم الله - وغيرهم ككتب أئمة الدعوة النَّجدية كالشيخ محمد بن عبدالوهَّاب - رحمه الله - والشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ، والشيخ عبداللَّطيف، وغيرهم من أئمة الدعوة وعلمائها ممَّن اشتهر بنصر السنة والمناضلة عنها، والله المُوَفِّق، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
حُرِّر في 12/5/1375 هـ
يتبع
وبعد:
فقد رأيت أن أُفرِد من كتابي: "بهجة الناظرين فيما يُصلِح الدنيا والدين" قسم الفتاوى؛ لأهميتها وعظيم فائدتها، وحاجة الناس إليها، وهي ثلاث فتاوى:
أولها: "الفتوى اللاَّذِقية"؛ للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية السابق - رحمه الله - وهي تتضمَّن ثلاثة أسئلة وأجوبتها مُفْصَّلة.
والثانية: أيضًا للشيخ المذكور، وتَتَضمَّن سبعة أسئلة وأجوبتها مُفَصَّلة.
والثالثة: من فتاوى اللَّجنة الدائمة للإفتاء، وتَتَضَمَّن سبعة أسئلة أيضًا وذكر أجوبتها مُفَصَّلة؛ فتحصَّل من ذلك سبعة عشر سؤالاً مع ذكر أجوبتها بالتَّفصِيل، وهي تعالج واقعَ المجتمع الإسلامي غالبًا مع ذكر الدليل والتعليل، فلمَّا كانت بهذا الوصف أحببتُ إفرادَها للاستفادة منها.
أسأل الله - تعالى - أن ينفع بها مَنْ كتبها أو طبعها، أو قرأها أو سمعها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، ومن أسباب الفَوْز لديه بجنَّات النعيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قُوَّة إلا بالله العليم العظيم، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
عبدالله بن جارالله الجارالله في 1/6/1407 هـ.
الفتوى اللاَّذقية
أسئلة مُوَجَّهة إلى حضرة صاحب السَّماحة الشيخ: محمد بن إبراهيم، المفتي الأكبر للملكة العربية السعودية، المُتَوفَّى عام 1389 هـ - رحمه الله تعالى - مِنْ عبدالحفيظ بن إبراهيم اللاذقي سنة 1375 هـ.
السؤال الأول: هل يجوز للرجال والنساء لُبْس النَّظَّارة والسِّوار والسِّلسلة والساعة أو غيرها من الذهب أو الفضة أو النحاس، أو من الحديد أو غيره، أو لا؟
السؤال الثاني: هل يجوز لإنسان أن يعتقد أو يُصدِّق أو يَتَشاءَم أو يتوهَّم أن يصيبه ضررٌ - كمرض أو غيره - من الأعداد أو من السنين أو من الشهور، أو من الأيام أو من الأوقات، أو من قراءة سورة أو آية، أو من قراءة وِرْد، أو من قراءة فائدة، أو من دخول بيت، أو من لبس ثوب أو من غيره، أو لا؟
السؤال الثالث: ما هي أسماءُ الكتب الشرعية الدينية الإسلامية الصحيحة المعتمَدَة النافعة المفيدة السَّهلة، التي يجوز اقتناؤها والعمل بها في العقائد والعبادات والمعاملات وغيرها؟
فأجاب سماحة المفتي - رحمه الله - بما نَصُّه:
الجواب: الحمد لله، النَّظَّارة تارة تكون مُفَضَّضة، وتارة تكون مذهَّبَة، وتارة تكون مُجَرَّدة من ذلك، وتارَة تكون مذهَّبة مُفَضَّضَة، فالجميع جائزُ الاستعمال للرجال والنساء عدا المذهَّبة كثيرًا؛ فإنها ممنوعة للرجال فقط مُحَرَّمة؛ والدليل ما رواه أحمد في "مسنده"، والنَّسائي، والتِّرمذي وصحَّحه عن أبي موسى - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُحِلَّ الذهب والحرير لإناث أمتي، وحُرِّم على ذكورها».
وعن معاوية - رضي الله عنه - قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الذهب إلا مُقطَّعًا»[1].
وعن علي - رضي الله عنه - قال: «نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التَّخَتُّم بالذهب، وعن لباس القِسِيِّ والمُعَصْفَر»[2].
والدَّليل على إباحة المُفَضَّضة: ما رواه أحمد وأبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ولكن عليكم بالفضَّة فالعَبُوا بها لَعِبًا»، وفي رواية: «كيف شئتم».
وقال الشيخ تقيُّ الدين: لم يدلَّ الدَّليل على تحريم لبس الفضة، فليس فيها نصٌّ في التحريم، بخلاف الذهب والحرير، أما الخاتم ذهبًا كان أو فضة أو حديدًا أو نُحَاسًا أو رَصاصًا، فلا يحرُم مطلقًا؛ عدا خاتم الذهب، فتحريمه على الرِّجال ظاهر، وقد حُكي الإجماعُ على ذلك، وأدلَّة تحريم خاتم الذهب على الرجال معروفة كما تقدَّم.
أمَّا خاتم الحديد والصفر والنُّحاس، فقد صرَّح بعض العلماء بكراهته، وقد سأل الأثرمُ أحمدَ عن خاتم الحديد: ما ترى فيه؟ فذكر حديث عمرو بن شعيب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «هذه حلية أهل النار»، وابن مسعود قال: "لبسة أهل النار"، وابن عمر قال: "ما طَهُرتْ كفٌّ فيها خاتمُ حديدٍ"، وقال بعض العلماء بإباحة خاتم الحديد بدليل ما في الصحيحين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: «التَمِس ولو خاتمًا من حديد»، وهذا أصحُّ من الأحاديث المتقدِّمة الدالَّة على الكراهة[3].
وأما السَّاعة فحكمها حكم النظَّارة، وتقدَّم الكلامُ عليها فارجع إليه.
وأما السوار، فإمَّا أن يكون من ذهب أو غيره، وعلى كلِّ حالٍ هو مباح للنساء مطلقًا، وأما الرِّجال فغير مباح لهم مطلقًا، فما كان من ذهب فمنعه لعلَّتَين؛ أحدهما: كونه ذهبًا، والثانية: ما فيه من التشبُّه بالنساء، وإن كان من غير ذهب فعِلَّة المنع فيه التشبُّه بالنساء، وقد صرَّح العلماء بأنه يحرم تشبه رجل بأنثى في لباس وغيره وبالعكس، والمَرْجِع فيما هو من خصائص الرجال والنساء في اللباس إلى عُرْف البلد، ذكره في "التَّلخيص"؛ لحديث: لعَن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المُتَشَبِّهين من الرجال بالنساء، والمُتَشَبِّهات من النساء بالرجال[4]، ولعن أيضًا الرجل يلبس لُبْسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل[5].
وأما لبس السلسلة التي يلبس أهل التَّأنُّث، فإن كان ذهبًا أو فضة، فقد تقدم الكلام على حكم لبس الرجل الذهب والفضة، وإن كانت غير ذلك ولبِسها تأنيثًا وتشبُّهًا بالنساء، فحُرمته أيضًا بعلَّة التأنُّث؛ إذِ التَّخَنُّث ومشابهة النساء في أزيائهن وحركاتهن حرام.
فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المُخَنَّثِين من الرِّجال والمُتَرَجِّلات من النساء"، وفي رواية: "لعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبِّهين من الرجال بالنساء، والمُتَشَبِّهات من النساء بالرجال"[6]، واللَّعن يدلُّ على أنه من الكبائر؛ والحكمة من النهي إخراج الشيء عن صفته التي وضعه عليها أحكمُ الحكماء، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بمخنَّث قد خضَّب يدَيه ورجلَيه بالحناء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما بالُ هذا؟!»، فقيل: يا رسول الله، يتشبَّه بالنساء، فأمر به فنُفِي إلى النقيع، فقيل: يا رسول الله، ألا نقتله؟ فقال: إني نُهِيت عن قتل المُصَلِّين»، قال العلماء: المُخَنَّث من يُشبه النساء في حركاته وكلماته، وقال المنذري: المُخنث بفتح النون وكسرها: مَنْ فيه انخناث؛ وهو: التكسُّر والتَّثَنِّي كما يفعله النساء، لا الذي يفعل الفاحشة الكبرى، وقال في "الفتح": "قال الطبري: لا يجوز للرجال التشبُّه بالنساء والعكس، قلت: وكذا في الكلام والمشي، فأما هيئة اللِّباس فمُختَلِف باختلاف عادة كل بلد، فرُبَّ قومٍ لا يفترق زيُّ نسائهم عن رجالهم في اللبس، لكن يمتاز النساء بالاحتجاب والاسْتِتار، وأما ذمُّ التشبُّه بالكلام والمشي فمُخْتَصٌ بمَنْ يتعمَّد ذلك، وأمَّا مَنْ كان ذلك من أصل خلقته فإنما يُؤمَر بتَكَلُّف تَرْكِه والإدمان على ذلك بالتدريج، فإن لم يفعل وتَمَادَى دخل في الذَّم، ولاسيما إن بَدَا منه ما يدُلُّ على الرِّضا به وأخذه واضح من لفظ المتشبهين" أ. هـ.
وعلَّل بعضُ العلماء تحريمَ لبس الحرير على الرجال؛ لما يورثه بملامسته للبدن من الأنوثة والتَّخَنُّث، وضد الشهامة والرجولة، فإن لبسه يكسب القلب صفةً من صفات الإناث، ولهذا لا تجد مَنْ يلبسه في الأكثر إلا ويظهر على شمائله من التخنُّث والتأنيث والرخاوة ما لا يَخْفَى، حتى ولو كان من أَشهَم الناس وأكبرهم فحولة ورجولة، فلابد أن ينقصه الحرير منها، وإن لم يذهبها مرة.
ولهذا؛ كان أصح القولين أنه يحرُم على الولي إلباسُه الصبي؛ لما ينشأ عليه من صفات أهل التأنُّث، فلبس الحرير يليق بالنساء؛ فإن من طبعهن اللِّين والنعومة والتحلِّي.
قال الله - سبحانه -: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف/ 18]، ويُرْوَى: (تَمَعْدَدُوا واخْشَوْشِنوا)؛ لأن الرجال من طبعهم الخشونة والشهامة والرجولة، وهذا الذي ينبغي ويليق بهم، ويتناسب مع أخلاقهم.
وعن فضالة بن عُبَيد قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا عن كثير من الإرفاه، ويأمرنا أن نحتفي أحيانًا»[7]، وفيما تقدَّم أعظمُ دليل على تحريم التَّخَنُّث، وأنَّه من كبير الذنوب، وفيها أعظم تنفير منه ومن وسائله وأسبابه؛ وذلك لعِظَم ضرره؛ إذ هو يُفقِد الإنسان نفسَه ومعنويَّته وأخلاقه، فهو من أعظم الأمراض، فلعِظَم ضَرَره صرَّحت الأحاديث بلعن المخنَّثين، والأمر بنَفْيِهم وإبعادهم؛ تفاديًا من سريان مرضهم، إذْ هم خطر على المجتمع الإنساني.
وأما البرنيطة فلا يجوز لبسها؛ لأنها من ألبسة الكفار وزيِّهم الخاصِّ، ففي لبسها تشبُّه بهم، والتشبُّه بالكفَّار مُحَرَّمٌ، والأدلَّة على ذلك كثيرةٌ؛ منها: ما رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبدالله بن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تشبَّه بقوم فهو منهم»، قال الإمام أحمد: إسناده جيد، قال الشيخ تقيُّ الدين ابن تيمية: فأقلُّ أحوال هذا الحديث أنه يقتضي تحريم التَّشَبُّه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبِّهين بهم؛ كما قال - سبحانه وتعالى -: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة/ 51].
• وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «جُزُّوا الشوارب، وأرخوا اللِّحى، ولا تَشَبَّهوا بالمجوس»[8]، وحديث: «خالَفَ هديُنا هديَ المشركين».
• وعن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللَّحد لنا، والشِّقُّ لغيرنا»[9]، وروى البخاريُّ في "صحيحه" أن عمر كتب إلى المسلمين المقيمين ببلاد فارس: (إيَّاكم وزيَّ أهل الشرك).
• ويروى أن حذيفة بن اليمان دُعي إلى وليمة فرَأَى من زِيِّ العَجَم، فخرج وقال: «مَنْ تشبَّه بقوم فهو منهم»[10]، وروى الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود، صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده».
• وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منَّا من تشبَّه بغيرنا»[11].
قال الشيخ تقيُّ الدين: وهذا وإن كان فيه ضَعْفٌ فهو يصلح للاعتقاد، وبكل حال فهو يقتضي تحريمَ التشبه بهم؛ لعلَّة كونه تشبُّهًا، والتَّشَبُّه يعمُّ مَنْ فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه - وهو نادر - ومَنْ تَبِع غيرَه في فعلٍ لغرض له في ذلك، إذا كان أصل الفعل مأخوذًا عن ذلك الغير، فأمَّا مَنْ فعَل الشيء واتَّفق أن غيره فعله أيضًا ولم يأخذه أحدُهما عن صاحبه، ففي كَوْن هذا تَشَبُّهًا نظر، لكن يُنْهَى عنه؛ لئلاَّ يكون ذريعةً إلى التشبُّه، ولِمَا فيه من المخالفة، مع أن قوله: «غيِّروا الشَّيب، ولا تَشَبَّهوا باليهود»[12] دليلٌ على أن التشبُّه بهم يحصُل بغير قصدٍ مِنَّا ولا فعل، بل بمجرَّد ترك تغيير ما خُلِق فينا، وهذا أبلغُ من الموافَقَة الفعليَّة الاتفاقيَّة، قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله -: "وأَمَر بمخالفتهم في الهدي الظاهر لأمور؛ منها: أنَّ المشاركة في الهدي الظاهر تُورِث تناسبًا وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال، وهذا أمرٌ محسوس، فإن اللاَّبِس لثياب أهل العلم يجد من نفسه نوعَ انضمام إليهم، ومنها: أن المخالَفة في الهدي الظاهر تورِث مباينة ومفارقة تُوجِب الانقطاع عن مُوجِبات الغَضَب وأسباب الضلال، والانعطاف إلى الهُدَى، وكُلَّما كان القلب أتمَّ حياةً كان إحساسُه بمفارقة اليهود والنصارى باطنًا وظاهرًا أتمَّ، وبُعدُه عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشدَّ، ومنها: أن مشاركتهم في الهَدْي الظاهر تُوجِب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التميِيزُ ظاهرًا بين المهديِّين والمغضوب عليهم، إلى غير ذلك من الأسباب الحِكَمية، هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحًا محضًا لو تجرَّد عن مشابهتهم"[13].
فأمَّا ما كان من مُوجِبات كفرهم فإنه يكون شعبةً من شُعَب الكفر، فمُوافَقَتهم فيه موافقةٌ في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم، فهذا أصلٌ ينبغي التَّفطُّن له. أهـ.
وهذه المسألة - أي: مسألة تحريم تَشَبُّه المسلم بالكافر - أدلَّتُها ظاهرةٌ جليَّةٌ، وقد صُنِّفَت المُصَنَّفَات الكثيرة في خصوص هذه المسألة وفروعها وأدلتها، وذكر الأسباب والعِلَل التي مُنِع من أجلها التَّشَبُّه بهم، ولا شك أن الدين الإسلامي هو الدين الكامل التامُّ الذي جاء بأحسن الأخلاق، وأرقى النُّظُم والتعليمات، فلم يَعُد بحاجة معه إلى غيره، فما قَرَع الأسماعَ من لدن ذَرْء الله البشر دينٌ أكمل منه ولا أتم، فكلُّ ما دعا إليه من أخلاق ومعاملات فهي النهاية في الحسن والكمال والعدل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة/ 3]، ولتمامه وكماله وملاءمته لكل زمان ومكان، وعدم حاجة البشر معه إلى غيره؛ نَسَختْ شريعتُه سائر الشرائع، فهو الدين الباقي الخالد إلى أَوَان خراب هذا العالم وانتهاء أَمَده وقيام الساعة.
إن الأمة التي اعتنقتْه وعمِلتْ بجميع تعاليمه، وطبَّقته تطبيقًا تامًّا في أقوالها وأفعالها واعتقاداتها - سَعِدتْ أكملَ سعادةٍ، ورَقَت أعلى رُتْبَة في المجد، ووصَلت إلى جميع ما تَصْبُو إليه، وانتصرت انتصارًا باهرًا بلغ حدود المعجِزات، أقرَّ التاريخُ أنهم - مع قلَّة عددهم وعُدَّتهم - ملكوا الدنيا في رُبع قرن، مع كثرة عدوِّهم، ووفرة ما لديه من عَدَد وعُدَّة، وهذا مصداق قوله - تعالى -: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة/33].
وبالاطلاع على التاريخ نجد أنه بحَسَب تَمَسُّك الأمَّة بالدين الإسلامي وتطبيقه يكون انتصارها، وبحَسَب إعراضها وتساهلها بالدين يكون ضعفُها وانهيارها، فانظر حالة المسلمين في زمن الخلافة والدولة الأموية والعباسية، وزمن نور الدين الشهيد وصلاح الدين الأيوبي، ثم حالة المسلمين بعد ذلك حينما تساهلوا بالدِّين وضَعُف تمسُّكُهم به إلى ما وصلوا إليه من ذُلٍّ واستعباد، وما ظلمهم الله؛ ولكن كانوا هم الظالمين، وهذا مصداق قوله - تعالى -: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد/7]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد/11]، ووَرَد في بعض الآثار: (إذا عصاني مَنْ يعرِفُني سَلَّطتُ عليه من لا يعرفني).
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا ضَنَّ الناسُ بالدِّينار والدِّرهم، وتَبَايَعوا بالعِينَة، وتَبِعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله - أَدْخَل اللهُ عليهم ذلاًّ لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم»[14].
واعلم أن التشبُّه بالكفار يكون بمجرد عَمَل ما يعملون، قَصَد المشابهة أو لا، قال الشيخ تقيُّ الدين بن تيمية - رحمه الله -: "وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، معلِّلاً ذلك النهيَ بأنها تطلع وتغرب بين قَرْنَي شيطان، وحينئذ يسجد لها الكُفَّار، ومعلومٌ أن المؤمن لا يقصد السُّجود إلا لله، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قَرْنَي شيطان، ولا أن الكفار يسجُدون لها، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في ذلك حَسْمًا لمادَّة المشابهة من كل طريق.
ولنذكر بعضَ أمور ارتكبها بعض المسلمين واستحسنوها واعتادوها، وهي من زِيِّ الكفَّار وعاداتهم، فمن ذلك حَلْق اللِّحى وإعفاء الشارب، ولا شكَّ في قبح ذلك وتحريمه، وإنما يستحسِنه مَنْكُوسُ القلب فاسد الفطرة، قليلُ المبالاة بأوامر الدين ونواهيه، وهذا من تسويل الشيطان وتحسينه القبيح؛ {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} [فاطر/8]، والأدلَّة - كما قلنا - قد صرحت بتحريم ذلك بعلَّة أنه تَشَبُّه باليهود والمجوس، فمَنْ فعل ذلك فقد اختار زِيَّ اليهود والمجوس على زيِّ محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضوان الله عليهم - وقد ذكر ابن حزم أن إعفاء اللحى وقصَّ الشارب فَرْضٌ؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما – مرفوعًا: «خالفوا المشركين، وفِّروا اللِّحى، وأحفوا الشَّوارب»[15]، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَحْفُوا الشَّوارب، وأَعْفُوا اللِّحى، ولا تَشَبَّهوا بالمجوس»؛ وعن زيد بن أرقم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ لم يأخذ من شاربه فليس منا»[16].
• ومن ذلك أيضًا: حَلْقُ بعض الرأس وترك بعضه، وما يفعله بعض السفلة مما يُسَمُّونه "التواليت"؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القَزْع، وقال: «احلِقه كله، أو دعه كلَّه»، قال في "شرح الإقناع": فيدخل في القزع حلقُ مواضع من جوانب الرأس، وأن يحلق وسَطه ويترك جوانبه كما تفعله شَمَامِسَةُ النصارى، وحلق جوانبه وترك وسطه كما يفعله كثيرٌ من السفلة، وأن يحلق مُقَدَّمَه ويترك مُؤَخَّرَه، وسُئِل أحمدُ عن حلق القفا، فقال: هو من فعل المجوس، ومن تشبَّه بقومٍ فهو منهم، وقال: لا بأس أن يحلق في الحجامة.
• ومن ذلك استعمال الآلات التي تحمِل الصَّلِيب؛ لما فيه من التَّشبُّه بالنصارى، وكذلك الملابس التي رُقِم عليها الصليب، فقد صَرَّحت الأحاديث بالنهي عن ذلك؛ فَرَوَى أبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يترك شيئًا في بيته فيه تصليبٌ إلا قضبه"، قولها: قضبه، القضب: القطع، والتَّصليب: ما كان على صورة الصَّليب، قال في "الإنصاف" بعد ذكر أنه يُكرَه: ويُحتَمَل تحريمُه وهو ظاهر نقل صالح، قلت: وهو الصواب. أهـ.
• ومن ذلك شَدُّ الوَسَط بما يُشْبِه الزُّنَّار، أو ما يُشْبِه شَدَّ الزُّنَّار؛ لما فيه من التَّشَبُّه بأهل الكتاب، والزُّنَّار خيطٌ غليظٌ تشدُّه النَّصارى على أوساطهم.
• ومن ذلك اعتيادُ تعطيل وتغيير الزِّيِّ في أعيادهم أو زياراتهم أو زيارة محل أعيادهم، والحال أنك تجد أكثر الناس في أيام أعياد الكفار يفعلون كل ما يفعله الكفار، وقد صرَّحت الأدلَّة بالنهي عن ذلك وتحريمه؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان/72]، قال بعض المفسرين: أي: أعياد الكفار؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ثابت بن الضَّحَّاك الذي رواه أبو داود: «هل كان فيها وَثَنٌ من أوثان الجاهلية يُعبَد؟» قالوا: لا، قال: «فهل كان فيها عيدٌ من أعيادهم؟»، وقال بعضُ السلف: مَنْ ذبح بطريقة يوم عيد الكفار فكأنما ذبح خنزيرًا، وقال الشيخ تقيُّ الدين ابن تيمية: إذا فعل المسلمون معهم في أعيادهم مثلَ صبغ البَيْض، وتحمير دوابِّهم بمغرة، وتوسيع النفقات، فهذا أظهر من أن يحتاج إلى سؤال، فقد نَصَّ طائفةٌ من العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك على كُفْرِ مَنْ فعل ذلك.
وقال البيهقي - بإسناد صحيح - عن عمر - رضي الله عنه - قال: لا تَعَلَّمُوا رَطانَة العَجَم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم؛ فإن السُّخطة تنزل عليهم، قال الشيخ: وهذا من باب التنبيه على المنع من أن يفعل كفعلهم، قال: وكذلك لا ندعهم يُشرِكونا في عيدنا؛ يعني: لاختصاص كل قوم بعيدهم، ومن المؤسِف حقًّا ما نراه من بعض الشباب من إقبالهم على مُطالِعة كتبهم ومجلاَّتهم، بل شوقهم إلى ذلك ولهفهم إليها بغاية التعطُّش، ولا شكَّ أن هذه بذرة شر وعنوان نحس مؤذِن بعاقبة سيئة وخيمة، جديرة بوجوب الاهتمام بها وحسمها قبل استفحالها، ولو فكَّر المسؤولون في عِظَم ضررها وخطرها على المجتمع وما تعمل في كيانه من تفكيك عُرَاه وإشاعة الرُّعب فيه - لَتَحَتَّم منعُها سياسةً، وكم في هذه المجلاَّت من دسٍّ على الأمة، وتحبيذ الانقلابات الضارَّة باسم يقظة الشعوب وحريَّتها! وهذا عدا ما فيها وما اشتملت عليه من إلحاد وزندقة وتشكيك في الدين، وما في بعضها من صور خليعة، الشيء الذي أعتقد - ويعتقد كلُّ عاقل - أنه لا يعود على الأمة منه إلا الشر؛ وقد جاء في الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى مع عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فغَضِبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر بعض المفسرين في تفسير قوله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان/6] الآية: أن رجلاً من قريش كان يأتي بأخبار فارس والروم ويقرأها على الناس ويقول: هذا خيرٌ ممَّا جاء به محمدٌ، وقد صرَّح العلماءُ بوجوب إحراق كتب الزندقة والمبتدعة والملاحدة، فكيف بهذه الكتب التي كلُّها إلحادٌ وزَنْدَقةٌ وتَشْكِيكٌ في الدِّين؟! فما رأيُك في حالة هذا الشباب الأَعْزَل الذي لم يتدرَّع بالسلاح، ولم يستعدَّ للنضال؛ بل ذهنُه فارغ، وقلبه مُقْبِل عليها غايةَ الإقبال؟! لا شكَّ أنها ستكون سببًا لهلاكه وزيغه.
أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى فَصَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا فَتَمَكَّنَا |
ولا شكَّ أن مَنْ أقبل على تلك التُّرَّهات في صِغَره ومبدأ عُمُره، وصارت هي دَيْدَنَه وهِجِّيراه وسميره، وأَلِفتها نفسه، وشَغُف بها قلبه - أنه يصعُب إزاحته عنها وإخراجها من قلبه، ولقد لاحَظ الشارعُ - صلى الله عليه وسلم – ذلك بقوله: «اقتلوا شيوخ المشركين، واستَبْقُوا شَرْخَهم»[17].
فالواجب أن يُحْمَى هذا الشباب كما يُحْمَى المريض، ويُحْجَر عليهم في أفهامهم وعقولهم، فكما أنه يُحْجَر على الإنسان إذا فسد تَصَرُّفه في ماله، فالحجر عليه إذا فسد تَصَرُّفُه في دينه أَوْلَى؛ لأن الدين لا عِوَض له.
وأمَّا لبس السترة والبنطلون، فإن كان ذلك من لباس الكفار وزيِّهم الخاص فهو ممنوع؛ بعلَّة التشبُّه بهم، وقد تَقَدَّم الكلام على ذلك، وإن لم يكن من زيهم الخاص فلا بأس بذلك؛ إذ الأصل في اللباس الإباحة، إلا ما ورد الدليل بالنهي عنه.
وأما الجواب على السؤال الثاني وهو: هل يجوز للإنسان أن يُصَدِّق أو يتشاءم: في عدد أو يوم، أو شهر أو نحو ذلك... إلى آخره؟
فالجواب:
هذا لا يجوز؛ بل هو من عادات أهل الجاهلية الشِّرْكِيَّة التي جاء الإسلام بنَفْيِها وإبطالها، وقد صَرَّحَت الأدلة بتحريم ذلك، وأنه من الشِّرك، وأنه لا تأثير له في جلب نَفْع أو دَفْع ضرر؛ إذ لا معطي ولا مانع ولا نافع ولا ضارَّ إلا الله - سبحانه وتعالى - قال الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام/17].
وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو اجتمعت الأُمَّة على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يَضُرُّوك بشيء، لم يضرُّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام، وجَفَّت الصحف»، وعن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا عَدْوَى ولا طِيَرَة ولا هامة ولا صفر»[18]، وفي رواية: «ولا نَوْء ولا غول»[19]، فنفى الشَّارِع - صلى الله عليه وسلم - الطِّيَرة وما ذكر في الحديث، وأخبر أنه لا وجود له ولا تأثير، وإنما يقع في القلب تَوَهُّمَاتٌ وخَيَالاتٌ فاسدة، وقوله: (ولا صفر): نفيٌ لما كان عليه أهل الجاهلية من التشاؤم بشهر صفر، ويقولون: هو شهر الدَّوَاهي، فنفى ذلك - صلى الله عليه وسلم - وأَبْطَلَه وأخبر أن شهر صفر كغيره من الشهور، لا تأثير له في جلب نفع ولا دفع ضرر، وكذلك الأيام والليالي والسَّاعات لا فرق بينها، وكان أهل الجاهلية يتشاءمون بيوم الأربعاء، ويتشاءمون بشهر شوال - في النكاح فيه خاصة - وكانت عائشة - رضي الله عنها - تقول: تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر شوَّال فمن كان عنده أحظى مني، وهذا كتشاؤم الرافضة باسم العشرة وكراهتهم له؛ لبغضهم وعداوتهم للعشرة المُبَشَّرِين بالجنة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا من جهلهم وسخافة عقولهم، والكلام على هذه المسألة استوفاه شيخ الإسلام في "المنهاج" في الرَّدِّ على الرَّافِضي.
وكذلك أهل التَّنْجِيم يُقَسِّمون الأوقات إلى ساعة نَحْس وشُؤْم، وساعة سَعْد وخَيْر، ولا يخفى حكم التنجيم وتحريمه، وأنه من أقسام السحر، والكلام عليه مستوفًى في موضعه، وكلُّ هذه الأمور من العادات الجاهليَّة التي جاء الشرع بنفيها وإبطالها؛ قال ابن القيم - رحمه الله -: "التَّطَيُّر: هو التَّشاؤم بمرئي أو مسموع، فإذا استعملها الإنسان فرجع بها من سفر وامتنع بها عن ما عزم عليه، فقد قرع باب الشرك بل وَلَجه، وبرئ من التوكل على الله - سبحانه - وفتح على نفسه باب الخَوْف والتَّعَلُّق بغير الله، والتَّطَيُّر مما يراه أو يسمعه، وذلك قاطع عن مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة/5]، {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود/123]، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى/10].
فيصير قلبُه مُتَعَلِّقًا بغير الله عبادةً وتَوَكُّلاً؛ فيفسد عليه قلبُه وإيمانُه وحالُه، ويبقى هدفًا لسهام الطِّيَرة، ويُسَاق إليها من كل أوب ويُقَيِّض له الشيطان من يفسد عليه دينه ودنياه، وكَمْ هَلَك بسبب ذلك وخَسِر الدنيا والآخرة، فالأدِلَّة على تحريم التَّطَيُّر والتَّشَاؤم معروفة موجودة في مَظَانِّها فلنكتفِ بما تقدَّم.
وأمَّا الجواب عن السؤال الثالث: ما هي أسماء وأصحاب الكتب الشرعية النافعة... إلخ؟
فالجواب:
هذه المسألة قد كفانا الإجابة عنها شيخ الإسلام تقيُّ الدين ابن تيمية، وهذا نصُّ إجابته - رحمه الله - قال: "وأمَّا ما يُعتَمد عليه من الكتب، فهذا بابٌ واسعٌ يختلف باختلاف نشء الإنسان في البلاد، لكن جِمَاع الخير أن يستعين الإنسان بالله في تَلَقِّي العلم الموروث عنه - صلى الله عليه وسلم - فإنَّه الذي يُسمَّى علمًا، وما سواه: إما أنه يكون علمًا فلا يكون نافعًا، وإما ألاّ يكون علمًا وإن سُمِّي به، ولئن كان علمًا، فلا بُدَّ أن يكون في ميراث محمد - صلى الله عليه وسلم - ما يغني عنه ممَّا هو مثله أو خير منه، ولتكن هِمَّته فَهْم مقاصد الرسول في أمره ونهيه وسائر كلامه، فإنِ اطمأن قلبُه إلى أن هذا أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا يَعدِل عنه فيما بينه وبين الله ولا مع الناس إن أمكنه ذلك".. إلى أن قال: وما في الكتب المصنَّفة النبوية كتابٌٌ أنفع من "صحيح محمد بن إسماعيل البخاري"، لكن هو وحده لا يقوم بأصول العلم بتمام المقصود للمُتَبَحِّر في أبواب العلم؛ إذ لابد من معرفة أحاديث أُخَر وكلام أهل العلم في الأمور التي يختصُّ بعلمها بعضُ العلماء، فمَنْ نَوَّر الله قلبه هداه بما يُبلِّغه ذلك، ومَنْ أَعْماه لم تَزِده كثرة الكتب إلا حَيْرة وضلالاً؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي لبيد الأنصاري: «أَوَلَيست التوراة والإنجيل عند اليهود؟ فماذا تغني عنهم؟!»[20] أ.هـ.
وحَصْر الكتب النافعة لا يمكن؛ لكثرتها، ولا بأس من الإشارة إلى بعضها من الكتب النافعة المشهورة، فمنها في التفسير: "تفسير ابن جرير"، و"ابن كثير"، و"البغوي"، ونحو هذه من تفاسير السَّلَف النافعة المفيدة الموثوق بها، ومن كتب الحديث: "صحيح البخاري"، و"صحيح مسلم"، و"مسند أحمد"، و"سنن أبي داود"، و"الترمذي"، و"النسائي"، و"موطأ مالك"، وغير ذلك من كتب الحديث المشهورة المعروفة، وأمَّا في التوحيد والاعتقاد فهي كثيرة كمصنفات أئمة السلف؛ كالإمام أحمد، وغيره من الأئمة؛ ككتب مَن اشتهر بنصر السنة والقيام بها؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه؛ كشمس الدين ابن القيم - رحمهم الله - وغيرهم ككتب أئمة الدعوة النَّجدية كالشيخ محمد بن عبدالوهَّاب - رحمه الله - والشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ، والشيخ عبداللَّطيف، وغيرهم من أئمة الدعوة وعلمائها ممَّن اشتهر بنصر السنة والمناضلة عنها، والله المُوَفِّق، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
حُرِّر في 12/5/1375 هـ
يتبع