أمَّا بعدُ، عباد الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70، 71].
معاشر المؤمنين، أيُّها الكرام:
سأتْلو عليكم بعد قليل بيانًا، سأتلو عليْكم بيانًا، لا ليس بيانًا من وزارة الداخليَّة؛ ولكنَّه بيانٌ من خير البريَّة وسيِّد الأمَّة المحمَّديَّة - صلَّى الله عليه وسلَّم - سوف أتْلو عليكم وثيقة شرعيَّة وقائمة نبويَّة بأصناف الَّذين لعنهم الله على لسان رسولِه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وكل أمرٍ وردَ فيه اللَّعن من الله أو من رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهو من كبار الذُّنوب وعظائم الآثام.
واللعن هو الطَّرد والإبعاد من رحمة الله؛ فالملعون بعيدٌ عن رحمة الله، بعيد عن كرَم الله، بعيدٌ عن عفْو الله، نسأل الله السَّلامة والعافية، ونعوذ بالله من مقْتِه وغضَبه ولعْنته.
وهذه الأحاديث سوف أسردها لكم، هي من الأحاديث الصَّحيحة أو الحسنة الَّتي ثبتتْ عن النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بسند متَّصل، وسوف أعود بعد سرْد هذا الأحاديث فأُعقبها بشرح موجز على بعض ألفاظِها؛ تكميلاً وإجمالاً للفائِدة؛ ليسهل فهمُها وتتضح معانيها وفوائدها.
يقول النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((لعنَ الله الخمرَ وشاربَها وساقيَها وبائعَها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه))؛ رواه أبو داود وأحمد.
وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله الرَّاشي والمرتشي))؛ أخرجه الترمذي وأحمد.
قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديْه، وكاتبه، هم فيه سواء))؛ رواه مسلم.
قال- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله السَّارق يسرِق بيضة فتُقْطع يده، ويسرق الحبل فتُقْطع يده))؛ رواه البخاري ومسلم.
قال- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله المتشبِّهات من النِّساء بالرجال، والمتشبِّهين من الرجال بالنساء))؛ رواه البخاري وأبو داود وأحمد والترمذي.
وقال- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله المحلِّل والمحلَّل له))؛ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
وقال- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله النَّائحة والمستمعة))؛ رواه ابن ماجه.
قال- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله الواشمات والمستوْشِمات، والنامصات والمتنمِّصات، والمتفلِّجات للحُسْن المغيرات خلْق الله))؛ رواه البخاري ومسلم.
وقال- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله مَن لعن والديه، ولعن مَن ذبح لغير الله، ولعن الله مَن آوى محْدِثًا، ولعن الله من غيَّر منار الأرض))؛ رواه النسائي وأحمد.
أيُّها المسلمون:
فلنعُد إلى بعض الألفاظ التي وردت في هذه الأحاديث الشَّريفة لنستجليَ صفات هؤلاء؛ أي: الملعونين والملعونات، ولكي نعرِف أسباب لعْنِهم حتَّى لا نسلك سبيلَهم أو نسير في طريقِهم؛ فمعرفة طريق هؤلاء هدف رئيس؛ كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55].
فلا يستطيع العبد أن يَسلك سبيل الحقِّ والخَير إلاَّ إذا عرف طريق الشَّر، يقول القائل:
وكان حُذيْفة بن اليمان - رضي الله عنْه - يسأل النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الشَّرِّ مخافة أن يُدْرِكه.
فنسأل الله أن يدرأ عنَّا سبيل مقْتِه وغضبه ولعنته.
أمَّا قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله الخمر وشاربَها))، فهذا وعيد شديد لكل مَن تعامل في الخمر؛ فهي من أكبر الذُّنوب، وهي أم الخبائثِ وأمُّ الشُّرور، وهي السَّفيهة، وكان في الجاهليَّة لا يشربُها عقلاؤهم، لعن الله الخمر، لعن فيها عشرةً - يا عبادَ الله -: لعنها أوَّلاً، ولعن عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، وآكل ثمنها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
ويدخل في ذلك أيضًا كلُّ مَن تعامل في تجارة المخدّرات؛ فهو ملعون أيضًا؛ لأنَّ المخدِّرات مثل الخمر وأشدّ في إذهاب العقل وتدمير المجتمعات، وضياع الأموال واختِلاط الأنساب، وغير ذلك من الأضْرار التي ترتكب بسبب الخمر والمخدِّرات.
وأمَّا قولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله الرَّاشي والمرتشي))، فالرَّاشي هو الذي يرْشي المسؤولين، الَّذي يدفع الأموال أو الهدايا أو غيرها، يرشو المسؤولين والموظَّفين ليحصُل على حقٍّ ليس له، ويسرق من النَّاس حقوقَهم، فمَن دفع رشوة لمسؤول أو لموظَّف أو لعامل ليتوصَّل بذلك إلى شيء ليس من حقِّه، فهو الملعون.
والمرتشي هو الَّذي يأخذ الرِّشْوة، فيأخذ مالاً ليس من كسْبِه، ولم يرثه عن أبيه أو أمِّه، ثم يأخذ أجرًا، ثمَّ يأخذ أجرًا وراتبًا نظرًا لقيامه بعمله، فليس له الحقّ في أن يأخذ أموال النَّاس حتَّى يُنْهِي لهم معاملاتِهم ومصالحهم.
{قُل لاَّ يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100]، فهذا أيضًا ملعون بلعنة الله.
وورد في روايةٍ - فيها نظر -: ((والرائش ملعون))، والرَّائش هو الذي يسير بين الرَّاشين والمرتشين بالواسطة، يكلِّم هذا ويكلِّم هذا حتَّى تتمَّ الجريمة الشنعاء، والفعلة النكراء.
فيا لله كم لِلرشوة من إفساد للمجتمعات! وكم عطَّلت من حُقوق! وكم منعت من بركات! وكم أحدثت من ظلم! وكم أفسدت من همم!
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42]، نسأل الله أن يُعافِي كلَّ مبتلى، وأن يُغنِيَنا بحلاله عن حرامه.
وأمَّا آكل الرِّبا - وما أدراك ما الربا؟! - فهو الذي يتعامل به ويُزاوله، وكاتِبه: هو الموظَّف الذي يكتب عقود الرِّبا ويزاول العمل في مجالِه، وشاهداه: هما اللَّذان يوقِّعان على العقود والصكوك الربويَّة، ولا يكون العقد ماضيًا إلا بتوقيعِهما، فكل هؤلاء ملعونون بلسان محمَّد بن عبدالله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275].
أمَّا قول النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله السَّارق يسرق البيْضة))، البيضة هي بيض الدَّجاجة، ولما كانت البيضة لا قطْعَ فيها كان ذلك من باب التحقير؛ أي: لعن الله السَّارق الذي تُقطع يدُه في شيء حقير.
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].
وأشياء الدّنيا كلّها حقيرة، فالدنيا لا تساوي عند الله جناحَ بعوضة، وقيل: البيضة التي يضعُها المقاتل على رأسِه، وهذا أيضًا شيء حقير.
ولما اعترض أبو العلاء المعرّي على قطْع يد السَّارق، وزعم أنَّ هذا الحكم مُخالف للعقْل؛ فإنَّ اليد في الإسلام قيمتُها خمسمائة دينار، فكيف تقطع في ربع دينار؟! فردَّ عليه أحد علماء الإسلام قائلاً:
يقول: الأمانة والتقوى والخوف من الله هو الذي أغْلاها في الإسلام، وجعلها تستحقُّ هدا المبلغ الكبير، والخيانة والدناءة والخسَّة هي التي أرخصتها وجعلتْها تقطع في ربع دينار، فافهم حكمة التَّشريع الإلهي الَّذي لا يأتيه الباطل من يديْه ولا من خلفه.
وأمَّا لعن المتشبِّهات من النساء بالرِّجال والمتشبِّهين من الرِّجال بالنساء، فإنَّ ذلك من محاولة تغْيير الفطرة التي فطر الله عليها عبادَه؛ فالرجُل له صفات معيَّنة، والمرأة كذلك، فإذا مشت المرأة مِشية الرِّجال، ولبست لبس الرِّجال، وتكلَّمت كالرَّجُل، وزاولتْ أعمالَ الرِّجال - كانت ملعونة مطْرودةً من رحمة الله.
{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60]؛ لأنَّها بذلك تعترض على قدَر الله في أن جعلها أُنثى، ولما في ذلك أيضًا من نَشْر الرذيلة وتحريك شهوات الرِّجال.
وأمَّا المتشبِّهون من الرجال بالنِّساء، فإنَّهم أيضًا ملعونون، وهم يسمَّون في الشَّريعة "المخنَّثين"، ولا حظَّ لهؤلاء في رحمة الله إلا أن يتوبوا من هذا الفجور، ويكونوا رجالاً كما خلقهم الله، ويدخل في ذلك أيضًا من رقَّق صوته تشبُّهًا بالمرأة، ومن تثنَّى في مشيتِه كالمرأة، ومن استخدَمَ أدوات الزينة التي تتزيَّن بها المرأة.
نسأل الله أن يهدِيَنا سواء السبيل.
الخطبة الثانية
أمَّا بعد عباد الله:
أمَّا قول النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله المحلِّل والمحلَّل له))، والمحلِّل هو الَّذي يأتي الزَّوجة المطلَّقة فيتزوَّجها، وهي التي طُلِّقت بثلاث وأخذت العدَّة، فلا تَجوز للأوَّل حتَّى ينكحها زوجٌ آخر، فيأتي هذا الرَّجُل ويتزوَّج هذه المرأة باتِّفاق مع الزَّوج الأوَّل، فيمكث معها فترةً متَّفقًا عليْها ثمَّ يطلِّقها ليتزوَّجها الأوَّل، فيكون تيسًا مستعارًا كما ورد في حديث آخر، فهذا ملعون وذاك ملعون.
وإنَّما يجوز أن يتزوَّجها بقصد أن تكون زوجة، ثم إذا بدا له أن يطلِّقَها فيطلِّقها، وعندها يَجوز للأوَّل أن يتزوَّجها من جديد.
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230].
ثمَّ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله النَّائحة))، وهي التي تنوح بالمأتم وتدعو بالويل والثُّبور، وتصيح في المصائب والكوارث، فإذا مات أبوها أو أخوها أو زوجُها أو ابنها، رفعت صوتَها وولْوَلت وناحتْ، وهذا حرامٌ لا يَجوز، والمستمعة التي قال عنها أهل العلم: هي التي تأْتي بالنَّائحة وتدفع لها الأجرة، وتمهِّد لها وتدخلها بيتَها، فهي ملعونة أيضًا، وسبب ذلك أنَّهنَّ لم يرضين بقدر الله، وتسخَّطنَ على حُكْمِ الله، وأثرْنَ الهلع والجزَع في عباد الله، فهنَّ ملعونات.
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله الواشمة والمستوشمة))، والواشمة هي التي تضع الوشْم في خدود النِّساء، والوشم كالحبر وكالصَّبغ الأخضر والأسود، وما يدخل في حُكْمِه، فهي تأتي بعقاقير معها وبِمخائط تضع الوشْم للنِّساء، فمن فعلت ذلك فهي ملعونة مطرودة من رحمة الله.
والمستوشمات هنَّ اللواتي يوضع الوشْم لهنَّ في خدودِهنَّ وعلى أنوفهنَّ وتحت شفاهِهنَّ، فهنَّ ملعونات، وهذا الوشْم حرام.
أمَّا النَّامصة والمتنمِّصة، فالنَّامصة هي التي تقلع شعر حاجبيْها وتنتفه لتزجّجه وترقِّقه، والمتنمِّصة هي التي تستدعيها وتحفزها وتفعله بواسطة هذه النَّامصة، فهي ملعونة أيضًا بلعنة الله على لسان رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
فيا عجبًا! ثمَّ عجبًا من هذه المرْأة التي تشْتري اللَّعنة والنَّار بشعرةٍ! وما أكثر المتنمِّصات في هذا الزَّمن! من المسؤول عنْها؟ زوجُها أم أبوها أم وليُّها؟ والله سوف يسألون عن ذلك أمام الله.
والمتفلِّجات هنَّ اللَّواتي يوسِّعْن ما بين أسنانِهنَّ وينشرن أسنانَهنَّ، ويغيِّرن خلْق الله، فإنَّهنَّ ملعونات؛ لأنَّ ذلك يدل على خبثِ النَّفس وتحريك الشَّهوات، والمغيِّرات خلْق الله هنَّ اللَّواتي يفعلْن في أنفسهن ما يغيِّر خلق الله.
{وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 119، 120].
ولعن الله أيضًا مَن لعن والديْه، ولعْن الوالدَيْن شيءٌ عظيم؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ من الكبائر شتْم الرَّجُل والديْه)) فتعجب الصَّحابة واستغربوا من ذلك، قالوا: يا رسول الله، هل يشتم الرَّجُل والديْه؟ قال: ((نعم، يسب أبا الرجُل فيسب أباه، ويسبُّ أمَّه فيسب أمه)).
وما أكثر الأبناءَ - هداهم الله - الذين يفعلون ذلك! والمؤمن ليس باللعَّان ولا بالطعَّان ولا بالفاحش البذيء.
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعنَ الله مَن ذبح لغير الله))، وهي الذَّبيحة الشِّرْكيَّة التي تُذْبَح في النذور الشِّرْكيَّة، وعند القبور وعند الأصنام بأمر الكهنة والسحرة والمشعْوذين، فيقولون: اذبح ذبيحةً لونُها كذا وصِفَتُها كذا، فمن فعل ذلك وأطاعَهم فهو ملْعون بلعنة الله.
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: 48].
وهذه الذَّبائح كثُرت في هذا الزَّمن خاصَّة في البوادي والقرى، وحتَّى في بعض المدُن بسبب الكهنة والسَّحرة والعرَّافين والمشعْوذين أعداء الله، أنَّى يؤفكون؟!
فليعْرِف المؤمن لِمن يذبح، ولِمن ينذر، ومَن يدعو ومن يعبُد، ولتكن ذبيحته لله، وليكن نسكُه لله، وليكن نذره ودعوته وعبادته لله لا شريك له.
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163].
وأمَّا قول النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله مَن آوى محدثًا))، والمحدِث هو الفاجر المنتهِك لحدود الله، الذي اشتهر فجورُه، كالسارق الذي يسرق الناس، وكقاطع الطَّريق الذي يتعرَّض للنَّاس ويشهر في وجوههم السّلاح، وكالبغاة الذي تمرَّدوا على ولاة الأُمور وعلى حدود الله وشرْعِه، وكالمروِّج للمخدّرات، وكالفاجر الذي عُرِف فجوره، فمن ستر وتستَّر عليه وحاول أن يُخفيه عن أعين العدالة، فهو ملعون؛ لأنَّه فعل كبيرة من الكبائر وجرح شعور المسلمين، ولأنَّه بذلك تسبَّب في انتِشار الجريمة والفاحشة، وساعد على انتشارها.
وأخيرًا:
لعن من غيَّر منار الأرض، ومنار الأرض هو الحدّ الَّذي يفصل الرَّجُل من الرجُل في المزارع والحقول والديار والدّور، فهو ما يسمَّى في لغة العامّيَّة التي ليست بصحيحة، يسمّيه بعضهم: الوثن، ويسمّيه بعضهم: الحد، فمَن غيَّره على غير حقه فهو ملعون، وما يفعل ذلك إلاَّ أولئِك الَّذين يغتصبون أموال النَّاس وحقوقَهم وأرضَهم، ويضعون أيديَهم على ما ليس لهم، فهؤلاء ملعونون بلعنة الله؛ قال الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
فيا عباد الله، أيها المسلمون:
اعلموا ذلك وتعلَّموه، وأخبروا أُسَركم وزوجاتِكم وبناتكم وعمَّاتكم وخالاتكم، ومَن تعرفون، انشُروا الخير في بيوتِكم، أخْبِروهم بمحارم الله، أخبِروهم بحدود الله، وحذِّروهم من انتِهاك حرماتِه؛ لأنَّ في انتهاك حرماته لعنةً وغضبًا ومقتًا ووبالاً؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70، 71].
معاشر المؤمنين، أيُّها الكرام:
سأتْلو عليكم بعد قليل بيانًا، سأتلو عليْكم بيانًا، لا ليس بيانًا من وزارة الداخليَّة؛ ولكنَّه بيانٌ من خير البريَّة وسيِّد الأمَّة المحمَّديَّة - صلَّى الله عليه وسلَّم - سوف أتْلو عليكم وثيقة شرعيَّة وقائمة نبويَّة بأصناف الَّذين لعنهم الله على لسان رسولِه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وكل أمرٍ وردَ فيه اللَّعن من الله أو من رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهو من كبار الذُّنوب وعظائم الآثام.
واللعن هو الطَّرد والإبعاد من رحمة الله؛ فالملعون بعيدٌ عن رحمة الله، بعيد عن كرَم الله، بعيدٌ عن عفْو الله، نسأل الله السَّلامة والعافية، ونعوذ بالله من مقْتِه وغضَبه ولعْنته.
وهذه الأحاديث سوف أسردها لكم، هي من الأحاديث الصَّحيحة أو الحسنة الَّتي ثبتتْ عن النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بسند متَّصل، وسوف أعود بعد سرْد هذا الأحاديث فأُعقبها بشرح موجز على بعض ألفاظِها؛ تكميلاً وإجمالاً للفائِدة؛ ليسهل فهمُها وتتضح معانيها وفوائدها.
يقول النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((لعنَ الله الخمرَ وشاربَها وساقيَها وبائعَها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه))؛ رواه أبو داود وأحمد.
وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله الرَّاشي والمرتشي))؛ أخرجه الترمذي وأحمد.
قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديْه، وكاتبه، هم فيه سواء))؛ رواه مسلم.
قال- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله السَّارق يسرِق بيضة فتُقْطع يده، ويسرق الحبل فتُقْطع يده))؛ رواه البخاري ومسلم.
قال- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله المتشبِّهات من النِّساء بالرجال، والمتشبِّهين من الرجال بالنساء))؛ رواه البخاري وأبو داود وأحمد والترمذي.
وقال- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله المحلِّل والمحلَّل له))؛ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
وقال- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله النَّائحة والمستمعة))؛ رواه ابن ماجه.
قال- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله الواشمات والمستوْشِمات، والنامصات والمتنمِّصات، والمتفلِّجات للحُسْن المغيرات خلْق الله))؛ رواه البخاري ومسلم.
وقال- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله مَن لعن والديه، ولعن مَن ذبح لغير الله، ولعن الله مَن آوى محْدِثًا، ولعن الله من غيَّر منار الأرض))؛ رواه النسائي وأحمد.
أيُّها المسلمون:
فلنعُد إلى بعض الألفاظ التي وردت في هذه الأحاديث الشَّريفة لنستجليَ صفات هؤلاء؛ أي: الملعونين والملعونات، ولكي نعرِف أسباب لعْنِهم حتَّى لا نسلك سبيلَهم أو نسير في طريقِهم؛ فمعرفة طريق هؤلاء هدف رئيس؛ كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55].
فلا يستطيع العبد أن يَسلك سبيل الحقِّ والخَير إلاَّ إذا عرف طريق الشَّر، يقول القائل:
عَرَفْتُ الشَّرَّ لا لِلشَّرِّ لَكِنْ لِتَوَقِّيهِ وَمَنْ لا يَعْرِفِ الحَقَّ مِنَ الشَّرِّ يَقَعْ فِيهِ |
فنسأل الله أن يدرأ عنَّا سبيل مقْتِه وغضبه ولعنته.
أمَّا قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله الخمر وشاربَها))، فهذا وعيد شديد لكل مَن تعامل في الخمر؛ فهي من أكبر الذُّنوب، وهي أم الخبائثِ وأمُّ الشُّرور، وهي السَّفيهة، وكان في الجاهليَّة لا يشربُها عقلاؤهم، لعن الله الخمر، لعن فيها عشرةً - يا عبادَ الله -: لعنها أوَّلاً، ولعن عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، وآكل ثمنها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
ويدخل في ذلك أيضًا كلُّ مَن تعامل في تجارة المخدّرات؛ فهو ملعون أيضًا؛ لأنَّ المخدِّرات مثل الخمر وأشدّ في إذهاب العقل وتدمير المجتمعات، وضياع الأموال واختِلاط الأنساب، وغير ذلك من الأضْرار التي ترتكب بسبب الخمر والمخدِّرات.
وأمَّا قولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله الرَّاشي والمرتشي))، فالرَّاشي هو الذي يرْشي المسؤولين، الَّذي يدفع الأموال أو الهدايا أو غيرها، يرشو المسؤولين والموظَّفين ليحصُل على حقٍّ ليس له، ويسرق من النَّاس حقوقَهم، فمَن دفع رشوة لمسؤول أو لموظَّف أو لعامل ليتوصَّل بذلك إلى شيء ليس من حقِّه، فهو الملعون.
والمرتشي هو الَّذي يأخذ الرِّشْوة، فيأخذ مالاً ليس من كسْبِه، ولم يرثه عن أبيه أو أمِّه، ثم يأخذ أجرًا، ثمَّ يأخذ أجرًا وراتبًا نظرًا لقيامه بعمله، فليس له الحقّ في أن يأخذ أموال النَّاس حتَّى يُنْهِي لهم معاملاتِهم ومصالحهم.
{قُل لاَّ يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100]، فهذا أيضًا ملعون بلعنة الله.
وورد في روايةٍ - فيها نظر -: ((والرائش ملعون))، والرَّائش هو الذي يسير بين الرَّاشين والمرتشين بالواسطة، يكلِّم هذا ويكلِّم هذا حتَّى تتمَّ الجريمة الشنعاء، والفعلة النكراء.
فيا لله كم لِلرشوة من إفساد للمجتمعات! وكم عطَّلت من حُقوق! وكم منعت من بركات! وكم أحدثت من ظلم! وكم أفسدت من همم!
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42]، نسأل الله أن يُعافِي كلَّ مبتلى، وأن يُغنِيَنا بحلاله عن حرامه.
وأمَّا آكل الرِّبا - وما أدراك ما الربا؟! - فهو الذي يتعامل به ويُزاوله، وكاتِبه: هو الموظَّف الذي يكتب عقود الرِّبا ويزاول العمل في مجالِه، وشاهداه: هما اللَّذان يوقِّعان على العقود والصكوك الربويَّة، ولا يكون العقد ماضيًا إلا بتوقيعِهما، فكل هؤلاء ملعونون بلسان محمَّد بن عبدالله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275].
أمَّا قول النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله السَّارق يسرق البيْضة))، البيضة هي بيض الدَّجاجة، ولما كانت البيضة لا قطْعَ فيها كان ذلك من باب التحقير؛ أي: لعن الله السَّارق الذي تُقطع يدُه في شيء حقير.
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].
وأشياء الدّنيا كلّها حقيرة، فالدنيا لا تساوي عند الله جناحَ بعوضة، وقيل: البيضة التي يضعُها المقاتل على رأسِه، وهذا أيضًا شيء حقير.
ولما اعترض أبو العلاء المعرّي على قطْع يد السَّارق، وزعم أنَّ هذا الحكم مُخالف للعقْل؛ فإنَّ اليد في الإسلام قيمتُها خمسمائة دينار، فكيف تقطع في ربع دينار؟! فردَّ عليه أحد علماء الإسلام قائلاً:
عِزُّ الأَمَانَةِ أَغْلاهَا وَأَرْخَصَهَا ذُلُّ الخِيَانَةِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ البَارِي |
وأمَّا لعن المتشبِّهات من النساء بالرِّجال والمتشبِّهين من الرِّجال بالنساء، فإنَّ ذلك من محاولة تغْيير الفطرة التي فطر الله عليها عبادَه؛ فالرجُل له صفات معيَّنة، والمرأة كذلك، فإذا مشت المرأة مِشية الرِّجال، ولبست لبس الرِّجال، وتكلَّمت كالرَّجُل، وزاولتْ أعمالَ الرِّجال - كانت ملعونة مطْرودةً من رحمة الله.
{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60]؛ لأنَّها بذلك تعترض على قدَر الله في أن جعلها أُنثى، ولما في ذلك أيضًا من نَشْر الرذيلة وتحريك شهوات الرِّجال.
وأمَّا المتشبِّهون من الرجال بالنِّساء، فإنَّهم أيضًا ملعونون، وهم يسمَّون في الشَّريعة "المخنَّثين"، ولا حظَّ لهؤلاء في رحمة الله إلا أن يتوبوا من هذا الفجور، ويكونوا رجالاً كما خلقهم الله، ويدخل في ذلك أيضًا من رقَّق صوته تشبُّهًا بالمرأة، ومن تثنَّى في مشيتِه كالمرأة، ومن استخدَمَ أدوات الزينة التي تتزيَّن بها المرأة.
نسأل الله أن يهدِيَنا سواء السبيل.
الخطبة الثانية
أمَّا بعد عباد الله:
أمَّا قول النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله المحلِّل والمحلَّل له))، والمحلِّل هو الَّذي يأتي الزَّوجة المطلَّقة فيتزوَّجها، وهي التي طُلِّقت بثلاث وأخذت العدَّة، فلا تَجوز للأوَّل حتَّى ينكحها زوجٌ آخر، فيأتي هذا الرَّجُل ويتزوَّج هذه المرأة باتِّفاق مع الزَّوج الأوَّل، فيمكث معها فترةً متَّفقًا عليْها ثمَّ يطلِّقها ليتزوَّجها الأوَّل، فيكون تيسًا مستعارًا كما ورد في حديث آخر، فهذا ملعون وذاك ملعون.
وإنَّما يجوز أن يتزوَّجها بقصد أن تكون زوجة، ثم إذا بدا له أن يطلِّقَها فيطلِّقها، وعندها يَجوز للأوَّل أن يتزوَّجها من جديد.
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230].
ثمَّ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله النَّائحة))، وهي التي تنوح بالمأتم وتدعو بالويل والثُّبور، وتصيح في المصائب والكوارث، فإذا مات أبوها أو أخوها أو زوجُها أو ابنها، رفعت صوتَها وولْوَلت وناحتْ، وهذا حرامٌ لا يَجوز، والمستمعة التي قال عنها أهل العلم: هي التي تأْتي بالنَّائحة وتدفع لها الأجرة، وتمهِّد لها وتدخلها بيتَها، فهي ملعونة أيضًا، وسبب ذلك أنَّهنَّ لم يرضين بقدر الله، وتسخَّطنَ على حُكْمِ الله، وأثرْنَ الهلع والجزَع في عباد الله، فهنَّ ملعونات.
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله الواشمة والمستوشمة))، والواشمة هي التي تضع الوشْم في خدود النِّساء، والوشم كالحبر وكالصَّبغ الأخضر والأسود، وما يدخل في حُكْمِه، فهي تأتي بعقاقير معها وبِمخائط تضع الوشْم للنِّساء، فمن فعلت ذلك فهي ملعونة مطرودة من رحمة الله.
والمستوشمات هنَّ اللواتي يوضع الوشْم لهنَّ في خدودِهنَّ وعلى أنوفهنَّ وتحت شفاهِهنَّ، فهنَّ ملعونات، وهذا الوشْم حرام.
أمَّا النَّامصة والمتنمِّصة، فالنَّامصة هي التي تقلع شعر حاجبيْها وتنتفه لتزجّجه وترقِّقه، والمتنمِّصة هي التي تستدعيها وتحفزها وتفعله بواسطة هذه النَّامصة، فهي ملعونة أيضًا بلعنة الله على لسان رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
فيا عجبًا! ثمَّ عجبًا من هذه المرْأة التي تشْتري اللَّعنة والنَّار بشعرةٍ! وما أكثر المتنمِّصات في هذا الزَّمن! من المسؤول عنْها؟ زوجُها أم أبوها أم وليُّها؟ والله سوف يسألون عن ذلك أمام الله.
والمتفلِّجات هنَّ اللَّواتي يوسِّعْن ما بين أسنانِهنَّ وينشرن أسنانَهنَّ، ويغيِّرن خلْق الله، فإنَّهنَّ ملعونات؛ لأنَّ ذلك يدل على خبثِ النَّفس وتحريك الشَّهوات، والمغيِّرات خلْق الله هنَّ اللَّواتي يفعلْن في أنفسهن ما يغيِّر خلق الله.
{وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 119، 120].
ولعن الله أيضًا مَن لعن والديْه، ولعْن الوالدَيْن شيءٌ عظيم؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ من الكبائر شتْم الرَّجُل والديْه)) فتعجب الصَّحابة واستغربوا من ذلك، قالوا: يا رسول الله، هل يشتم الرَّجُل والديْه؟ قال: ((نعم، يسب أبا الرجُل فيسب أباه، ويسبُّ أمَّه فيسب أمه)).
وما أكثر الأبناءَ - هداهم الله - الذين يفعلون ذلك! والمؤمن ليس باللعَّان ولا بالطعَّان ولا بالفاحش البذيء.
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعنَ الله مَن ذبح لغير الله))، وهي الذَّبيحة الشِّرْكيَّة التي تُذْبَح في النذور الشِّرْكيَّة، وعند القبور وعند الأصنام بأمر الكهنة والسحرة والمشعْوذين، فيقولون: اذبح ذبيحةً لونُها كذا وصِفَتُها كذا، فمن فعل ذلك وأطاعَهم فهو ملْعون بلعنة الله.
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: 48].
وهذه الذَّبائح كثُرت في هذا الزَّمن خاصَّة في البوادي والقرى، وحتَّى في بعض المدُن بسبب الكهنة والسَّحرة والعرَّافين والمشعْوذين أعداء الله، أنَّى يؤفكون؟!
فليعْرِف المؤمن لِمن يذبح، ولِمن ينذر، ومَن يدعو ومن يعبُد، ولتكن ذبيحته لله، وليكن نسكُه لله، وليكن نذره ودعوته وعبادته لله لا شريك له.
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163].
وأمَّا قول النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله مَن آوى محدثًا))، والمحدِث هو الفاجر المنتهِك لحدود الله، الذي اشتهر فجورُه، كالسارق الذي يسرق الناس، وكقاطع الطَّريق الذي يتعرَّض للنَّاس ويشهر في وجوههم السّلاح، وكالبغاة الذي تمرَّدوا على ولاة الأُمور وعلى حدود الله وشرْعِه، وكالمروِّج للمخدّرات، وكالفاجر الذي عُرِف فجوره، فمن ستر وتستَّر عليه وحاول أن يُخفيه عن أعين العدالة، فهو ملعون؛ لأنَّه فعل كبيرة من الكبائر وجرح شعور المسلمين، ولأنَّه بذلك تسبَّب في انتِشار الجريمة والفاحشة، وساعد على انتشارها.
وأخيرًا:
لعن من غيَّر منار الأرض، ومنار الأرض هو الحدّ الَّذي يفصل الرَّجُل من الرجُل في المزارع والحقول والديار والدّور، فهو ما يسمَّى في لغة العامّيَّة التي ليست بصحيحة، يسمّيه بعضهم: الوثن، ويسمّيه بعضهم: الحد، فمَن غيَّره على غير حقه فهو ملعون، وما يفعل ذلك إلاَّ أولئِك الَّذين يغتصبون أموال النَّاس وحقوقَهم وأرضَهم، ويضعون أيديَهم على ما ليس لهم، فهؤلاء ملعونون بلعنة الله؛ قال الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
فيا عباد الله، أيها المسلمون:
اعلموا ذلك وتعلَّموه، وأخبروا أُسَركم وزوجاتِكم وبناتكم وعمَّاتكم وخالاتكم، ومَن تعرفون، انشُروا الخير في بيوتِكم، أخْبِروهم بمحارم الله، أخبِروهم بحدود الله، وحذِّروهم من انتِهاك حرماتِه؛ لأنَّ في انتهاك حرماته لعنةً وغضبًا ومقتًا ووبالاً؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
الشيخ خالد الحمودي
مجووووووده
مجووووووده