تهفو المشاعرُ والأفئدةُ المؤمنةُ هذه الأيامَ إلى عرفاتِ الله الطيبة، أينما كنتَ - أخَا الإسلام - وأنتَ تُغمِضُ عينيْكَ، فيَسْبحُ بكَ الخيالُ النورانيُّ الشفيفُ إلى تلك الرُّبوع الطاهرة، وما تصدُقُ خيالاتُك حتى تبدأَ جوارحُك المؤمنة في الْتقاطِ البثِّ التاريخيِّ العظيم، فيرسو بك سلطانُه إلى حيثُ رسولُ اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حينَ أرادَ تلخيصَ رسالته العظيمة في يوم القِمَّة؛ يوم الحجِّ الأكْبر، أو (حَجَّة الإسلام)، التي سَرَدَ لنا وقائعَها الصحابيُّ الجليلُ جابرُ بنُ عبدالله - رضي الله عنه - كما روَى الإمامُ مسلمُ بن الحجَّاج بسنده في صحيحه.
وكأنك - أخي المسلم - تتمثَّلُه ومِن حوله مائة ألفٍ، أو يزيدون، مِمَّنْ ربَّاهم على مبادئه، وبناهمْ على هُدىً من ربِّه، وها هم اليومَ، بعدَ رحلةِ كَدحٍ إسلامية، استهلكتْ ثلاثةً وعشرين عامًا مِن عُمُر الإسلام، يتجمَّعون في التاسع من ذي الحجَّة من السَّنة العاشرة للهجرة حولَ قائدهم المربِّي الكبير، وهو ممتطٍ ناقتَه (القصواء)، يمتدُّ بصرُه الشريفُ إلى آفاق هذه الجموع، فترقُّ عَبراتُه حنوًّا ورحمةً، وإذ ْبه يَصدحُ بخطبته الجامعة، يُلقيها في قلْب الزمان، وضمير الوجود يُلقيها كعهدٍ ومِيثاق غليظ.
أَحبَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يُغادرَ دنيانا وقد ترك أتباعَه على ضمان منه:
((أيُّها الناس، اسمعوا قولي؛ فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعدَ عامي هذا، بهذا الموقف أبدًا، أيها الناس، إنَّ دماءَكم وأموالكم عليكم حرامٌ إلى أن تلقَوْا ربَّكم، كحُرْمة يومكم هذا، وكحُرْمة شهرِكم هذا، وإنَّكم ستلقَوْن ربَّكم، فيسألكم عن أعمالِكم، وقد بَلَّغتُ، فمَن كان عنده أمانة فليؤدِّها إلى مَن ائتمنه عليها، وإنَّ كلَّ رِبًا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تَظلمون ولا تُظلمون، قضى الله أنَّه لا رِبَا، وإنَّ رِبَا عباس بن عبدالمطلب موضوعٌ كلُّه، وأنَّ كلَّ دَمٍ كان في الجاهلية موضوعٌ، وإنَّ أول دمائكم أضعُ دمُ ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب - وكان مسترضعًا في بني ليث فقتلتْه هُذيل - فهو أوَّل ما أبدأ به مِن دماء الجاهلية.
أما بعدُ أيها الناس:
فإنَّ الشيطان قد يَئِس من أن يُعبَد بأرضكم هذه أبدًا، ولكنَّه إن يُطَعْ فيما سوى ذلك، فقد رَضِي به بما تَحْقِرون من أعمالكم، فاحذروه على دِينكم، أيُّها الناس، إنَّ النَّسِيءَ زيادةٌ في الكفر، يُضلُّ به الذين كفروا، يُحِلُّونه عامًا ويُحرِّمونه عامًا، ليواطئوا عِدَّة ما حرَّم الله، فيُحلُّوا ما حرَّم الله، ويُحرِّموا ما أحلَّ الله، إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يومَ خَلَق الله السمواتِ والأرض، وإنَّ عِدَّة الشُّهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حُرُم؛ ثلاثة متوالية، ورجب مُضَر، الذي بين جُمادى وشعبان.
أمَّا بعد أيها الناس:
فإنَّ لكم على نسائكم حقًّا، ولهنَّ عليكم حقًّا؛ لكم عليهنَّ ألا يُوطئْنَ فُرشَكم أحدًا تكرهونه، فإن فَعْلنَ فإنَّ الله قد أذِن لكم أن تهجروهنَّ في المضاجع، وتضربوهنَّ ضربًا غيرَ مبرِّح، فإنِ انتهينَ فلهنَّ رِزقهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف، واستوصوا بالنِّساء خيرًا، فإنهَّن عندكم عوانٍ، لا يملكن لأنفسهنَّ شيئًا، وإنكم إنَّما أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمات الله، فاعقلوا أيُّها الناس قولي، فإني قد بلَّغتُ.
وقد تركتُ فيكم ما إنِ اعتصمتم به فلن تضِلُّوا أبدًا، أمرًا بيِّنًا، كتاب الله، وسُنَّة نبيِّه.
أيها الناس:
اسمعوا قولي واعْقلوه، تعلمُنَّ أنَّ كلَّ مسلم أخٌ للمسلِم، وأنَّ المسلمين إخوة، فلا يَحِلُّ لامرئ من أخيه إلاَّ ما أعطاه عن طِيب نفْس منه، فلا تظلِمُنَّ أنفسَكم، اللهمَّ هل بلَّغتُ)).
اللهَ اللهَ يا رسولَ الله، فِداكَ أبي وأمي، ما أجلَّ أقباسَ نورِك النبويّ! وما أعظمَ ما ألهمَكَ الله تعالى من أنوار النبوة! فكأنما ترى الغيْبَ مِن سِتر رقيق، فانكشفَ الحجابُ الربانيُّ لك، فأراكَ اللهُ - تعالى - مآلَ الحال الذليل الذي عليه أمَّتُكَ المسكينة، التي صنعْتَها بيدك ذات فجرٍ إسلاميٍّ مُشرِق.
ويستمرُّ تداعي الخيالُ الأنورُ في سبحات فِكرك أخي المسلم؛ لتتنسمَ بأنفاس رِئتيْكَ أنسامَ عرفات الطاهرة، وهي تضجُّ بذاك السوادِ الأبيض الأبلج مِن فلول الحجيج الميامين.
للهِ ما أعظَمَها مِن نفحات! وما أروعَها مِن مناظرَ تكتحلُ بها العيْن، وتتقاطرُ المشاعر، وتَجيشُ الوجدانات، ونحن نرى هذا الأديمَ الأبيضَ الناصعَ يملأ البِطاحَ والشِّعابَ على امتداد الأفق والبَصَر، على صعيد النور والخير، ابتداءً من حدود مِـنًى، فالمشعر الحرام، ومرورًا بمسجد نَمِرة، وانتهاءً بصَعِيد عرفات الله، فجبل الرَّحْمة الأشمّ.
نرى هذا الأديمَ الأبيض المتماوجَ، وهو ينسابُ بفلول هؤلاء الشُّعث الغُبر، الذين جاؤوا على كلِّ ضامر، ومِن كلِّ فجٍّ عميق، وليسَ لهمْ من حظِّ دنياهم وقشورها إلاَّ هذه الخِرَق البيضاء (إزارًا ورداءً)، تلتفُّ في ثناياها أجسادُهم النقيَّة الطاهرة.
جاؤوا وليسَ لهم مِن هذا المظهر المهيب غيْرُ إظهار جلال الربوبيَّة والألوهيَّة، بالدعاء والرَّجاء وذلِّ العبودية لِمَن انتسبوا لرحمانيته الوارفةِ، وكانوا عبادَ الرحمن كما أراد لهم ربُّهُم أن يكونوا.
تسَاوَوْا جميعًا، فسقطت الأُبَّهة والعظمة، والعجرفة والكبرياء الأجوف، فانفضَّ سوقُ اللعب واللهو، والتفاخر والتكاثر بالأولاد، وقامَ سُرادِقُ العبودية لصاحبها الأوْحد، فإذ بالحشْد الإسلاميِّ الكبير يتجرَّدُ من كل شيءٍ، ما عدا الحقيقة الإنسانية العارية، وإذ بالكلِّ يقفُ يَستجدي الرحمة والغفران، ويستشعرُ الضعفَ والتذلُّل، وإذ بالعيون الدامعة تنهمر، والقلوبُ الخاشعة تَوجل، والجِباهُ الساجدة تخضع، والأكفُّ الضارِعة تبسُطُ راحاتها، تعانقُ اتجاهَ السماء، وفي نفس كلِّ صاحبِ ضراعةٍ المعنى الذي أرادهُ شوقي - رحمه اللهُ - حين دَعا يومَ الحجِّ الأكبر:
وإذ بالألسن اللاهجةِ تَشْدُو بنشيد عرفات في ترنيمةٍ جماعيَّة، تُعلِّمُ الدنيا حُداءَ التلبيةِ والتحميد، تجأرُ إلى الله وهي تشكو حالَ أمَّةٍ عَدَتْ عليْها العادياتُ، فصارتْ أهوَنَ على نفسها مِن صرصار.
فكانَ المنظرُ الجميل، وكانتْ ملحمة عرفات الخالدة.
ربِّ بَلِّغْ كاتبَ الأسطر الضعيف، وكلَّ مَن التهبَ قلبُه ارتحالاً إلى الصعيد الطاهر مرابعَ ذاك المنظر، فقد امتزجَ الدمعُ بشوْق القلْب، فما عادَ في قوْس الصبر منزعٌ.
وكأنك - أخي المسلم - تتمثَّلُه ومِن حوله مائة ألفٍ، أو يزيدون، مِمَّنْ ربَّاهم على مبادئه، وبناهمْ على هُدىً من ربِّه، وها هم اليومَ، بعدَ رحلةِ كَدحٍ إسلامية، استهلكتْ ثلاثةً وعشرين عامًا مِن عُمُر الإسلام، يتجمَّعون في التاسع من ذي الحجَّة من السَّنة العاشرة للهجرة حولَ قائدهم المربِّي الكبير، وهو ممتطٍ ناقتَه (القصواء)، يمتدُّ بصرُه الشريفُ إلى آفاق هذه الجموع، فترقُّ عَبراتُه حنوًّا ورحمةً، وإذ ْبه يَصدحُ بخطبته الجامعة، يُلقيها في قلْب الزمان، وضمير الوجود يُلقيها كعهدٍ ومِيثاق غليظ.
أَحبَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يُغادرَ دنيانا وقد ترك أتباعَه على ضمان منه:
((أيُّها الناس، اسمعوا قولي؛ فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعدَ عامي هذا، بهذا الموقف أبدًا، أيها الناس، إنَّ دماءَكم وأموالكم عليكم حرامٌ إلى أن تلقَوْا ربَّكم، كحُرْمة يومكم هذا، وكحُرْمة شهرِكم هذا، وإنَّكم ستلقَوْن ربَّكم، فيسألكم عن أعمالِكم، وقد بَلَّغتُ، فمَن كان عنده أمانة فليؤدِّها إلى مَن ائتمنه عليها، وإنَّ كلَّ رِبًا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تَظلمون ولا تُظلمون، قضى الله أنَّه لا رِبَا، وإنَّ رِبَا عباس بن عبدالمطلب موضوعٌ كلُّه، وأنَّ كلَّ دَمٍ كان في الجاهلية موضوعٌ، وإنَّ أول دمائكم أضعُ دمُ ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب - وكان مسترضعًا في بني ليث فقتلتْه هُذيل - فهو أوَّل ما أبدأ به مِن دماء الجاهلية.
أما بعدُ أيها الناس:
فإنَّ الشيطان قد يَئِس من أن يُعبَد بأرضكم هذه أبدًا، ولكنَّه إن يُطَعْ فيما سوى ذلك، فقد رَضِي به بما تَحْقِرون من أعمالكم، فاحذروه على دِينكم، أيُّها الناس، إنَّ النَّسِيءَ زيادةٌ في الكفر، يُضلُّ به الذين كفروا، يُحِلُّونه عامًا ويُحرِّمونه عامًا، ليواطئوا عِدَّة ما حرَّم الله، فيُحلُّوا ما حرَّم الله، ويُحرِّموا ما أحلَّ الله، إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يومَ خَلَق الله السمواتِ والأرض، وإنَّ عِدَّة الشُّهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حُرُم؛ ثلاثة متوالية، ورجب مُضَر، الذي بين جُمادى وشعبان.
أمَّا بعد أيها الناس:
فإنَّ لكم على نسائكم حقًّا، ولهنَّ عليكم حقًّا؛ لكم عليهنَّ ألا يُوطئْنَ فُرشَكم أحدًا تكرهونه، فإن فَعْلنَ فإنَّ الله قد أذِن لكم أن تهجروهنَّ في المضاجع، وتضربوهنَّ ضربًا غيرَ مبرِّح، فإنِ انتهينَ فلهنَّ رِزقهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف، واستوصوا بالنِّساء خيرًا، فإنهَّن عندكم عوانٍ، لا يملكن لأنفسهنَّ شيئًا، وإنكم إنَّما أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمات الله، فاعقلوا أيُّها الناس قولي، فإني قد بلَّغتُ.
وقد تركتُ فيكم ما إنِ اعتصمتم به فلن تضِلُّوا أبدًا، أمرًا بيِّنًا، كتاب الله، وسُنَّة نبيِّه.
أيها الناس:
اسمعوا قولي واعْقلوه، تعلمُنَّ أنَّ كلَّ مسلم أخٌ للمسلِم، وأنَّ المسلمين إخوة، فلا يَحِلُّ لامرئ من أخيه إلاَّ ما أعطاه عن طِيب نفْس منه، فلا تظلِمُنَّ أنفسَكم، اللهمَّ هل بلَّغتُ)).
اللهَ اللهَ يا رسولَ الله، فِداكَ أبي وأمي، ما أجلَّ أقباسَ نورِك النبويّ! وما أعظمَ ما ألهمَكَ الله تعالى من أنوار النبوة! فكأنما ترى الغيْبَ مِن سِتر رقيق، فانكشفَ الحجابُ الربانيُّ لك، فأراكَ اللهُ - تعالى - مآلَ الحال الذليل الذي عليه أمَّتُكَ المسكينة، التي صنعْتَها بيدك ذات فجرٍ إسلاميٍّ مُشرِق.
ويستمرُّ تداعي الخيالُ الأنورُ في سبحات فِكرك أخي المسلم؛ لتتنسمَ بأنفاس رِئتيْكَ أنسامَ عرفات الطاهرة، وهي تضجُّ بذاك السوادِ الأبيض الأبلج مِن فلول الحجيج الميامين.
للهِ ما أعظَمَها مِن نفحات! وما أروعَها مِن مناظرَ تكتحلُ بها العيْن، وتتقاطرُ المشاعر، وتَجيشُ الوجدانات، ونحن نرى هذا الأديمَ الأبيضَ الناصعَ يملأ البِطاحَ والشِّعابَ على امتداد الأفق والبَصَر، على صعيد النور والخير، ابتداءً من حدود مِـنًى، فالمشعر الحرام، ومرورًا بمسجد نَمِرة، وانتهاءً بصَعِيد عرفات الله، فجبل الرَّحْمة الأشمّ.
نرى هذا الأديمَ الأبيض المتماوجَ، وهو ينسابُ بفلول هؤلاء الشُّعث الغُبر، الذين جاؤوا على كلِّ ضامر، ومِن كلِّ فجٍّ عميق، وليسَ لهمْ من حظِّ دنياهم وقشورها إلاَّ هذه الخِرَق البيضاء (إزارًا ورداءً)، تلتفُّ في ثناياها أجسادُهم النقيَّة الطاهرة.
جاؤوا وليسَ لهم مِن هذا المظهر المهيب غيْرُ إظهار جلال الربوبيَّة والألوهيَّة، بالدعاء والرَّجاء وذلِّ العبودية لِمَن انتسبوا لرحمانيته الوارفةِ، وكانوا عبادَ الرحمن كما أراد لهم ربُّهُم أن يكونوا.
تسَاوَوْا جميعًا، فسقطت الأُبَّهة والعظمة، والعجرفة والكبرياء الأجوف، فانفضَّ سوقُ اللعب واللهو، والتفاخر والتكاثر بالأولاد، وقامَ سُرادِقُ العبودية لصاحبها الأوْحد، فإذ بالحشْد الإسلاميِّ الكبير يتجرَّدُ من كل شيءٍ، ما عدا الحقيقة الإنسانية العارية، وإذ بالكلِّ يقفُ يَستجدي الرحمة والغفران، ويستشعرُ الضعفَ والتذلُّل، وإذ بالعيون الدامعة تنهمر، والقلوبُ الخاشعة تَوجل، والجِباهُ الساجدة تخضع، والأكفُّ الضارِعة تبسُطُ راحاتها، تعانقُ اتجاهَ السماء، وفي نفس كلِّ صاحبِ ضراعةٍ المعنى الذي أرادهُ شوقي - رحمه اللهُ - حين دَعا يومَ الحجِّ الأكبر:
وَيَا رَبِّ هَلْ تُغْنِي عَنِ الْعَبْدِ حَجَّةٌ وَفِي الْعُمْرِ مَا تَدْرِي مِنَ الْهَفَوَاتِ |
فكانَ المنظرُ الجميل، وكانتْ ملحمة عرفات الخالدة.
ربِّ بَلِّغْ كاتبَ الأسطر الضعيف، وكلَّ مَن التهبَ قلبُه ارتحالاً إلى الصعيد الطاهر مرابعَ ذاك المنظر، فقد امتزجَ الدمعُ بشوْق القلْب، فما عادَ في قوْس الصبر منزعٌ.
فاضلي محمد يزيد
مجووووووده
مجووووووده