{لما طغى الماء}
لفضيلة الشيخ / محمد صالح المنجد
الحمد لله العليم الحكيم، وصلى الله على نبيه الصابر الرحيم ، وبعد
فإن من ابتلاء الله تعالى لخلقه ما حدث من سيول عارمة في مدينة جدة نتج عنها غرقٌ وهلع،
ونقص في الأموال والأنفس والثمرات.
سبحان الله الواحد القهار ، القوي العزيز الملك الجبار ... أتى أمره فداهم السيل الناس ،
وفي سويعات تحول جنوب شرقي المدينة التي تشكو شح الأمطار وقلة المياه إلى طوفان جارف ،
إلى سيل جرار يكتسح ما أمامه ويبتلع في جوفه ما يأتي عليه ، حتى أضحى كارثة مؤلمة ، ومأساة حقيقية ،
ستبقى ماثلة في ذاكرة كثير من الناس .
إنها فاجعة أربعاء جدة ...
التي أصابت أكثرمن ثلث المدينة ، وأنتجت أضرارا بالمليارات .
ولا تزال المخاوف مما يمكن أن تحمله الأيام القادمة من أمر السيول وفيضان مياه الصرف تقلق النفوس وتقض المضاجع ،
نسأل الله السلامة واللطف والعافية .
إن مثل هذه الآيات الكونية العظيمة لابد أن يكون للمؤمن معها وقفات وتفكر واعتبار
وهذا من سمات أولي الألباب والمتقين الأخيار .
والمؤمن البصير يقف عند مواقع العبر، وأحكام القدر، ينظر ويتدبر .
كل شيء بقدر الله .
فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وليس ثمة شيءٌ يحول دون نفوذ قدر الله في خلقه سبحانه وتعالى ،
وبذا يطمئن قلب المؤمن الموحِّد ؛ لأن أمر الله سبق ، ومشيئته نفذت .
قال الله تعالى:
{ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }.
وقال سبحانه :
{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
لله الحكمة البالغة
فتقديره سبحانه مبني على حكمته، وعدله، ذلك تقدير العزيز العليم ، ولا يخرج شيء في الكون عن مقتضى هذه الحكمة .
{فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } .
كل شيء مسخر بأمره
فإذا قال لها أمطري أمطرت وإذا أمر الماء اجتمع وسال فالتقى الماء على أمر قد قدر ،
والضر والنفع بيده سبحانه ، وما يجري من سيول وزلازل وبراكين وسائر جنوده ،
إنما هو بأمره وقدره لحكمة يريدها .
والناس ينظرون إلى الظاهر فيصابون بالدهشة وهم يرون السيل العرمرم بدواماته الرهيبة
فربما غاب عنهم ماوراء ذلك من الحكم وقديما قال أهل البادية :
نعوذ بالله من شر الأعميين والأيهمين أي : " السيل والبعير الهائج " .
ووصفا بالعمى لأنهما لا يتقيان موضعاً ولا يتجنبان شيئاً ، كالأعمى الذي لا يدري أين يسير.
وسميا أيْهَمَين لعدم القدرة على دفعهما فلا هما ممن ينطق فيُكَلَّمُ ولا ممن يعقل فيُسْتَعْتَبُ.
السيل يقطع ما يلقاه من شجر ... بين الجبال ومنه الأرض تنفطر
حتى يوافي عباب البحر تنظره ... قد اضمحل فلا يبقى له أثر
وكان هذا مشاهدا في سيول جدة .. مياه تتدفق من كل مكان ، لا حواجز توقفها ، ولا جدران تصدها ،
تدمر كل شيء أتت عليه من أخضر ويابس ، وصغير وكبير ، ورجل وامرأة ... فابتلع السيل سيارات بركابها وبيوتا بسكانها ..
حتى صارت الجثث تطفو فوق سطح الماء قال أحد من شهود العيان :
قمت بِعدِّ الجثث التي تطفو على الماء من حولي ويجرفها السيل، فبلغت (38) جثة رأيتها بعيني.
وخُلق الإنسان ضعيفاً .
ما حدث يدل دلالة قاطعة على ضعف الإنسان ، وافتقاره الذاتي إلى ربه ،
وأنه لا حول له ولا قوة إلا به ومن رأى ضعف الناس أثناء الكارثة وبعدها أمام هذا السيل الداهم ومخلفاته
علم قبح الكبر والغرور فلا بد أن يعرف الإنسان قدر نفسه وقوة ربه سبحانه وتعالى فيفتقر إليه في أحواله كلها
وينطرح بين يديه طالبا المعونة والتسديد والتوفيق ولا يستكبر عن عبادته ولا يتولى عن العمل بأمره
(إن الله قوي عزيزُ).(وخلق الإنسان ضعيفا))
ما تدري نفس بأي أرض تموت.
أناس قدموا إلى جدة من مدن ودول أخرى قبل الكارثة بيوم أو يومين ليكون موعدهم مع السيل، ومدفنهم في أرضه ووحله
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
وآخرون خرجوا من بيوتهم بأسباب متعددة فأنجاهم الله ومنهم الذين ذهبوا إلى حج بيته فأنقذهم تعالى من السيل ..
المصاب عظيم .
فعائلات فقدت بكاملها رجالا ونساء وأطفالاً ...
وجثث ملقاة على الأرصفة وعالقة بالأعمدة والأشجار وأخرى تستخرج من الحفر والمستنقعات
ومن تحت الركام وحطام السيارات
وميتان : طفل في حضن أبيه . ورجل يسير مع أربع نسوة ، فيأتي السيل فيخطف إحداهن أمام بصره ،
فيمسك بالثلاث وهو يراها تغرق أمام عينه لا يقدر على شيء،
ثم يخطف السيل الثانية ومن بعدها الثالثة والرابعة وهو ينظر حتى اجتاحه السيل هو أيضاً.
وآخر وجد أمه على مسافة بعيدة بعد أن حبسها عمود .
وهذا زوج مكلوم ظل يبحث طوال الأيام الماضية عن زوجته المفقودة في السيل ،
ولم يترك مكاناً إلا أتاه مستمسكاً بالأمل ولو أن يجد جثة زوجته ... ، وعلى بعد 12 كيلو مترا من مقر منزله
عثرت فرق الإنقاذ على جثة زوجته، ولما حملت الجموع الجثة، علا صوت الزوج بالبكاء في مشهد أبكى معه العشرات ،
وامرأة تقول : رأيت جارتي وأطفالها الخمسة يموتون أمام عيني.
ورب أسرة يقول: أنا وأولادي من اليوم الثامن حتى ثاني يوم العيد لا مأوى لنا إلا سيارتنا التي نتحرك بها .
والكثير من الناس ذهبت أصول مكاسبهم أو تضررت تضرراً بالغاً ( من ورشة، ومصنع، ومخزن ومحل ... )
لا ماء .. ولا كهرباء ..انهيار وبكاء.. وبيوت تصدعت على وشك الانهيار ، وأرامل وأطفال يقيمون في العراء ،
والقمامة أرتال كالجبال ، ومستنقعات في وسط الأحياء ، تحوم حولها الحشرات. ..
ومساجد كاملة مقفلة: لا سجاد ، لا مصاحف ، لا كهرباء ،
و80 %من سكان المناطق المنكوبة غير موجودين الآن في بيوتهم... واستخراج الجثث لازال قائما حتى الساعة
لِكُلِّ شَيءٍ إذا ما تمَّ نُقصَانُ ... ... فلا يغرُّ بطِيب العَيشِ إنسانُ
فجائع الدنيا أنواعٌ منوعـةٌ وللزمـان مسراتٌ وأحـزانُ
ووَهَذِهِ الدَّارُ لا تبقِي على أحدٍ ... ولا يدُومُ عَلَى حَالٍ لَهَا شانُ
الإيمان بالقدر شفاء لما في الصدور
ووقد بين تعالى الحكمة من كتابة الأقدار فقال :
{لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ }
فلا عجب أن تجد بعض المصابين ممن ربط الله على قلوبهم كانت نفوسهم طيبة في تلقي البلاء وبعضهم يواسي بعضا.
الماء بعضه رحمة وبعضه عذاب
فيغيث الله به البلاد والعباد ويحيي به الأرض بعد موتها ويثبت به المؤمنين في أرض المعركة كما قال:
{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} .
ويبعثه على قوم آخرين ليكون عذاباً:
{وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً}.
وقال :
{إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية}.
وقال:
{ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر}.
وقص علينا نبأ فرعون وقومه:
{وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ}.
الموت يأتي بغتةً
في غمرة التجهز للعيد وفرحته ، وبينما الناس منهمكون بالاستعدادات والأضاحي والملابس ،
يدهمهم فجأة ومن غير سابق إنذار سيل يحصد الأرواح ، وفي هذا تذكير عظيم بيوم القيامة
{ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}.
ما أصعب لحظات الوداع خصوصا حين يرى المرء الموت وهو يحاصره :
فهذا شاب منطلق بسيارته وفجأةً دهمته السيول ، فأيقن أنه غارق لا محالة ،
فصعد على سطح سيارته واتصل بأهله وأقربائه وأصدقائه وودعهم ثم جعل يتصل بأصحابه ومعارفه
ليطلب منهم السماح ، حتى انقطع الاتصال، ليعتلي صوت أهله بالبكاء.
أسر وعوائل ذهبت بأكملها وأخرى ذهب بعضها أو لم يبق منها إلا واحد أو طفل صغير علق بشجرة.
لكل أجلٍ كتاب
رجل ودع زوجته وأطفاله وذهب إلى عمله ... ليعود بعد ساعتين فيجد كل شيء أثراً بعد عين،
فأصبح وحيدا بلا زوجة ولا أطفال .. ففي لحظات قليلة جرفتهم السيول الداهمة .
لا يغني حذر من قدر .
فالموت مدرك جميع البشر لا محالة ، ومهما هرب منه الإنسان فلا بد أن يأتيه ،
وقد رأينا أناسا امتنعوا عن الذهاب للحج خوفاً من الأنفلونزا ، فإذا بالموت يأتيهم في بيوتهم
{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وآخرون توكلوا على الله وذهبوا للحج ، فكان سببا في سلامتهم .
وبنت أصرت قبلها بليلة على البقاء عند عمها في زيارة عائلية لتبقى نظرات الحزن ساهمة وهي تفكر في أسرتها التي ماتت كلها .
وهنا تذهب بعض أذهان الناس مذاهب عجيبة غريبة في طرائق التفكير واتخاذ القرار ،
فهذا رب أسرة ربط أفراد أسرته بحبل واحد معا وقال : إما أن ننجو جميعا أو نهلك جميعا !!
الشهادة فضل من الله يؤتيه من يشاء
فالشهادة من أعلى مراتب أوليائه ، والشهداء يختارهم الله من بين عباده ،
ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها.
وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم :
(وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ ) وفي لفظ:
(وَمَنْ غَرِقَ فَهُوَ شَهِيدٌ )
رواه مسلم (2829) .
إذا وقع القدر عمي البصر
فمع أن لهذه الكوارث الكونية أسباباً طبيعية، وأحيانا يكون بمقدور البشر التنبؤ بها قبل وقوعها
عن طريق الحسابات الدقيقة ....
إلا أن هذه الكارثة أثبتت قصور البشر سواء في التحليل وتوقع الأزمات،
أو في الاستعدادات والاحتياطات أو في التصدي لها ومحاولات النجاة .
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
بهذه الكلمات يقابل المؤمن المصائب والكوارث والسيول , فإنها من أبلغ العلاج وأنفعه للعبد في عاجله وآجله ,
وذلك لتحقق الإنسان من أن نفسه وأهله وماله وولده ملك لله عز وجل،
وقد جعلها الله عنده عارية, فإذا أخذها منه فلا اعتراض كما أن المعير لا يلام إذا أخذ عاريّته من المستعير.
وليعلم العبد أن مصيره ومرجعه إلى الله مولاه الحق, ولابد أن يُخلِّف الدنيا وراء ظهره,
ويأتي ربه يوم القيامة فردا, بلا مال ولا أهل ولا عشيرة .
ثواب الله خير لك منهم , ورحمة الله خير لهم منك
قال شبيب بن شيبة رحمه الله للخليفة العباسي المهدي يوم وفاة ابنته ياقوتة ،
قال له : " يا أمير المؤمنين أعطاك الله على ما رُزئت أجراً ، وأعقبك خيراً ، ولا أجهد بلاءك بنقمة ،
ولا نزع منك نعمة , ثواب الله خير لك منها , ورحمة الله خير لها منك , أسأل الله ألا يحزنك ولا يفتنك".
فخف عن الخليفة مصابه .
لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ:
المصيبة تزيد في إيمان المؤمن ويقينه بأن الأمور بيد الله وحده لا شريك له, وأن الناجي منها إنما أنجاه الله تعالى بفضله ورحمته.
تذكر الآخرة : نفسي نفسي
مئات السيارات يجرفها السيل تتقلب فيه كقطع الفلين وركابها يرفعون أيديهم ويصيحون طالبين الغوث والنجدة
ولكن كل شخص مشغول بنفسه.
لمن الملك اليوم
قل الله مالك الملك :
خرج بعض الناس من السيل لا يملكون شيئا لا بيت ولا سيارة ولا أثاث ولا ملابس ولا بطاقة صراف
ولا حتى إثباتات شخصية ، وبهذا يتذكر الإنسان كيف يأتي ربه يوم القيامة لا يملك شيئا :
حفاة عراة بهما ليس معهم شيء
إحياء عبودية الخوف من آيات الله
وقد كان هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئا من الآيات الكونية،
قال أنس:
( كَانَتْ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ إِذَا هَبَّتْ عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ).
رواه البخاري (1034)
فيقع منه هذا الخوف بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم
وهو من غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فكيف بحالنا نحن المذنبين المقصرين!! .
وقال تعالى :
{وما نرسل بالآيات إلا تخويفا}
ولا شك أن هذا السيل من آيات الله التي يخوف بها عباده
التأمل في كثرة نعم الله علينا
من الدروس المستفادة لمن رزقه الله تأملا وفهما إذا نظر إلى ما أصاب الناس أن ينطق بقلبه قبل لسانه :
الحمد لله الذي عافاني ويستحضر تفضيل الله له.
فإذا نظر فيمن ذهبت أسرته استحضر نعمة الله عليه بحفظ أهله له .
وإذا شاهد صور تلف الأموال والممتلكات انتقل من هذه الصورة إلى معاينة نعمة الله عليه بحفظها له .
وإذا نظر إلى مصائب الآخرين الكثيرة هانت عليه مصائبه الصغيرة، فامتلأ قلبه بحمد الله،
ولهج لسانه بشكره سبحانه، واستحيت جوارحه من أن تعصي هذا المنعم الكريم،
أو أن تقصر في شيء من حقوقه سبحانه.
المؤمن يتألم لألم إخوانه
ينبغي لمن نظر في هذه المشاهد على أرض الواقع أو في الصور ومقاطع الفيديو أن يتحرك قلبه تجاه المصابين والمنكوبين ،
وتدمع عينه ، ويلهج لسانه بالدعاء بالرحمة لمن مات ، والتثبيت والعوض لمن ابتلي،
ويسعى لإعانة من يحتاج إلى العون ، ويسأل الله تعالى له ولإخوانه السلامة والعافية .
ابتلاءٌ للمؤمن وعقوبة للعاصي وتخويف للناس وتمحيص للناظرين والمتكلمين
إن الابتلاءات سنة ربانية اقتضتها حكمة الله سبحانه في هذه الدار،
لتكون دارًا للامتحان في الشهوات والفقر والمرض والخوف والنقص في الأموال والأنفس والثمرات
{ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }
[الأنبياء:35].
فما حدث ابتلاء ابتلى الله به عباده المؤمنين ليرفع درجاتهم ويقوي إيمانهم
{ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين}.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا
حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
وفيما حدث تذكير لأهل المعاصي والذنوب بالتوبة والإنابة إلى الله
{وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}.
قال بعض السلف : " لا ينزل بلاء إلا بذنب ، ولا يكشف إلا بتوبة ".
فالواجب في مثل هذه الحال التوبة وكثرة الاستغفار وأخذ العظة والعبرة.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله:
" وإن من علامات قسوة القلوب وطمسها والعياذ بالله، أن يسمع الناس قوارع الأحداث،
وزواجر العبر والعظات التي تخشع لها الجبال لو عقلت، ثم يستمرون على طغيانهم ومعاصيهم
مغترين بإمهال الله لهم، عاكفين على اتباع شهواتهم، غير عابئين بوعيد، ولا منصاعين لتهديد ".
فتاوى ابن باز (9/160)
فالواجب على جميع المسلمين أن يأخذوا العظة والعبرة مما حصل،
وأن يتوبوا إلى الله وينيبوا إليه ويحذروا من أسباب غضبه ونقمته،
والله جل وعلا يقول:
{ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ }.
فالمصائب منها تكفير ، ومنها تذكير ، ومنها عقوبة .
وقد تجتمع هذه الثلاث في مصيبة واحدة فتكون لبعض الناس تكفيرا لذنوبهم ورفعة لدرجاتهم
وتكون لآخرين غافلين تنبيها وتذكيرا، ولنوع ثالث عقوبة على معصية مستعلنة أو خفية وقعوا فيها
وتكون تمحيصا وكشفا لحال من يتكلم في هذه الأحداث
سؤال الله حسن الخاتمة .
فقد نقلت الأخبار قصصا لأناس قبض الله أرواحهم في مساجد أو بعد خروجهم منها
وقد جاء السيل وقت صلاة الظهر وبعضهم صائمون لله تعالى، يتقربون إليه في أيام العشر الفاضلة،
فجمع الله لهم من المبشرات: الغرق الذي هو شهادة ، والموت على عبادة،
وبعد أداء فريضة، فما أعظم ما حصّلوه، اللهم فارزقنا حسن الخاتمة .
[/size][/b]
الحمد لله العليم الحكيم، وصلى الله على نبيه الصابر الرحيم ، وبعد
فإن من ابتلاء الله تعالى لخلقه ما حدث من سيول عارمة في مدينة جدة نتج عنها غرقٌ وهلع،
ونقص في الأموال والأنفس والثمرات.
سبحان الله الواحد القهار ، القوي العزيز الملك الجبار ... أتى أمره فداهم السيل الناس ،
وفي سويعات تحول جنوب شرقي المدينة التي تشكو شح الأمطار وقلة المياه إلى طوفان جارف ،
إلى سيل جرار يكتسح ما أمامه ويبتلع في جوفه ما يأتي عليه ، حتى أضحى كارثة مؤلمة ، ومأساة حقيقية ،
ستبقى ماثلة في ذاكرة كثير من الناس .
إنها فاجعة أربعاء جدة ...
التي أصابت أكثرمن ثلث المدينة ، وأنتجت أضرارا بالمليارات .
ولا تزال المخاوف مما يمكن أن تحمله الأيام القادمة من أمر السيول وفيضان مياه الصرف تقلق النفوس وتقض المضاجع ،
نسأل الله السلامة واللطف والعافية .
إن مثل هذه الآيات الكونية العظيمة لابد أن يكون للمؤمن معها وقفات وتفكر واعتبار
وهذا من سمات أولي الألباب والمتقين الأخيار .
والمؤمن البصير يقف عند مواقع العبر، وأحكام القدر، ينظر ويتدبر .
كل شيء بقدر الله .
فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وليس ثمة شيءٌ يحول دون نفوذ قدر الله في خلقه سبحانه وتعالى ،
وبذا يطمئن قلب المؤمن الموحِّد ؛ لأن أمر الله سبق ، ومشيئته نفذت .
قال الله تعالى:
{ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }.
وقال سبحانه :
{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
لله الحكمة البالغة
فتقديره سبحانه مبني على حكمته، وعدله، ذلك تقدير العزيز العليم ، ولا يخرج شيء في الكون عن مقتضى هذه الحكمة .
{فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } .
كل شيء مسخر بأمره
فإذا قال لها أمطري أمطرت وإذا أمر الماء اجتمع وسال فالتقى الماء على أمر قد قدر ،
والضر والنفع بيده سبحانه ، وما يجري من سيول وزلازل وبراكين وسائر جنوده ،
إنما هو بأمره وقدره لحكمة يريدها .
والناس ينظرون إلى الظاهر فيصابون بالدهشة وهم يرون السيل العرمرم بدواماته الرهيبة
فربما غاب عنهم ماوراء ذلك من الحكم وقديما قال أهل البادية :
نعوذ بالله من شر الأعميين والأيهمين أي : " السيل والبعير الهائج " .
ووصفا بالعمى لأنهما لا يتقيان موضعاً ولا يتجنبان شيئاً ، كالأعمى الذي لا يدري أين يسير.
وسميا أيْهَمَين لعدم القدرة على دفعهما فلا هما ممن ينطق فيُكَلَّمُ ولا ممن يعقل فيُسْتَعْتَبُ.
السيل يقطع ما يلقاه من شجر ... بين الجبال ومنه الأرض تنفطر
حتى يوافي عباب البحر تنظره ... قد اضمحل فلا يبقى له أثر
وكان هذا مشاهدا في سيول جدة .. مياه تتدفق من كل مكان ، لا حواجز توقفها ، ولا جدران تصدها ،
تدمر كل شيء أتت عليه من أخضر ويابس ، وصغير وكبير ، ورجل وامرأة ... فابتلع السيل سيارات بركابها وبيوتا بسكانها ..
حتى صارت الجثث تطفو فوق سطح الماء قال أحد من شهود العيان :
قمت بِعدِّ الجثث التي تطفو على الماء من حولي ويجرفها السيل، فبلغت (38) جثة رأيتها بعيني.
وخُلق الإنسان ضعيفاً .
ما حدث يدل دلالة قاطعة على ضعف الإنسان ، وافتقاره الذاتي إلى ربه ،
وأنه لا حول له ولا قوة إلا به ومن رأى ضعف الناس أثناء الكارثة وبعدها أمام هذا السيل الداهم ومخلفاته
علم قبح الكبر والغرور فلا بد أن يعرف الإنسان قدر نفسه وقوة ربه سبحانه وتعالى فيفتقر إليه في أحواله كلها
وينطرح بين يديه طالبا المعونة والتسديد والتوفيق ولا يستكبر عن عبادته ولا يتولى عن العمل بأمره
(إن الله قوي عزيزُ).(وخلق الإنسان ضعيفا))
ما تدري نفس بأي أرض تموت.
أناس قدموا إلى جدة من مدن ودول أخرى قبل الكارثة بيوم أو يومين ليكون موعدهم مع السيل، ومدفنهم في أرضه ووحله
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
وآخرون خرجوا من بيوتهم بأسباب متعددة فأنجاهم الله ومنهم الذين ذهبوا إلى حج بيته فأنقذهم تعالى من السيل ..
المصاب عظيم .
فعائلات فقدت بكاملها رجالا ونساء وأطفالاً ...
وجثث ملقاة على الأرصفة وعالقة بالأعمدة والأشجار وأخرى تستخرج من الحفر والمستنقعات
ومن تحت الركام وحطام السيارات
وميتان : طفل في حضن أبيه . ورجل يسير مع أربع نسوة ، فيأتي السيل فيخطف إحداهن أمام بصره ،
فيمسك بالثلاث وهو يراها تغرق أمام عينه لا يقدر على شيء،
ثم يخطف السيل الثانية ومن بعدها الثالثة والرابعة وهو ينظر حتى اجتاحه السيل هو أيضاً.
وآخر وجد أمه على مسافة بعيدة بعد أن حبسها عمود .
وهذا زوج مكلوم ظل يبحث طوال الأيام الماضية عن زوجته المفقودة في السيل ،
ولم يترك مكاناً إلا أتاه مستمسكاً بالأمل ولو أن يجد جثة زوجته ... ، وعلى بعد 12 كيلو مترا من مقر منزله
عثرت فرق الإنقاذ على جثة زوجته، ولما حملت الجموع الجثة، علا صوت الزوج بالبكاء في مشهد أبكى معه العشرات ،
وامرأة تقول : رأيت جارتي وأطفالها الخمسة يموتون أمام عيني.
ورب أسرة يقول: أنا وأولادي من اليوم الثامن حتى ثاني يوم العيد لا مأوى لنا إلا سيارتنا التي نتحرك بها .
والكثير من الناس ذهبت أصول مكاسبهم أو تضررت تضرراً بالغاً ( من ورشة، ومصنع، ومخزن ومحل ... )
لا ماء .. ولا كهرباء ..انهيار وبكاء.. وبيوت تصدعت على وشك الانهيار ، وأرامل وأطفال يقيمون في العراء ،
والقمامة أرتال كالجبال ، ومستنقعات في وسط الأحياء ، تحوم حولها الحشرات. ..
ومساجد كاملة مقفلة: لا سجاد ، لا مصاحف ، لا كهرباء ،
و80 %من سكان المناطق المنكوبة غير موجودين الآن في بيوتهم... واستخراج الجثث لازال قائما حتى الساعة
لِكُلِّ شَيءٍ إذا ما تمَّ نُقصَانُ ... ... فلا يغرُّ بطِيب العَيشِ إنسانُ
فجائع الدنيا أنواعٌ منوعـةٌ وللزمـان مسراتٌ وأحـزانُ
ووَهَذِهِ الدَّارُ لا تبقِي على أحدٍ ... ولا يدُومُ عَلَى حَالٍ لَهَا شانُ
الإيمان بالقدر شفاء لما في الصدور
ووقد بين تعالى الحكمة من كتابة الأقدار فقال :
{لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ }
فلا عجب أن تجد بعض المصابين ممن ربط الله على قلوبهم كانت نفوسهم طيبة في تلقي البلاء وبعضهم يواسي بعضا.
الماء بعضه رحمة وبعضه عذاب
فيغيث الله به البلاد والعباد ويحيي به الأرض بعد موتها ويثبت به المؤمنين في أرض المعركة كما قال:
{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} .
ويبعثه على قوم آخرين ليكون عذاباً:
{وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً}.
وقال :
{إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية}.
وقال:
{ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر}.
وقص علينا نبأ فرعون وقومه:
{وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ}.
الموت يأتي بغتةً
في غمرة التجهز للعيد وفرحته ، وبينما الناس منهمكون بالاستعدادات والأضاحي والملابس ،
يدهمهم فجأة ومن غير سابق إنذار سيل يحصد الأرواح ، وفي هذا تذكير عظيم بيوم القيامة
{ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}.
ما أصعب لحظات الوداع خصوصا حين يرى المرء الموت وهو يحاصره :
فهذا شاب منطلق بسيارته وفجأةً دهمته السيول ، فأيقن أنه غارق لا محالة ،
فصعد على سطح سيارته واتصل بأهله وأقربائه وأصدقائه وودعهم ثم جعل يتصل بأصحابه ومعارفه
ليطلب منهم السماح ، حتى انقطع الاتصال، ليعتلي صوت أهله بالبكاء.
أسر وعوائل ذهبت بأكملها وأخرى ذهب بعضها أو لم يبق منها إلا واحد أو طفل صغير علق بشجرة.
لكل أجلٍ كتاب
رجل ودع زوجته وأطفاله وذهب إلى عمله ... ليعود بعد ساعتين فيجد كل شيء أثراً بعد عين،
فأصبح وحيدا بلا زوجة ولا أطفال .. ففي لحظات قليلة جرفتهم السيول الداهمة .
لا يغني حذر من قدر .
فالموت مدرك جميع البشر لا محالة ، ومهما هرب منه الإنسان فلا بد أن يأتيه ،
وقد رأينا أناسا امتنعوا عن الذهاب للحج خوفاً من الأنفلونزا ، فإذا بالموت يأتيهم في بيوتهم
{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وآخرون توكلوا على الله وذهبوا للحج ، فكان سببا في سلامتهم .
وبنت أصرت قبلها بليلة على البقاء عند عمها في زيارة عائلية لتبقى نظرات الحزن ساهمة وهي تفكر في أسرتها التي ماتت كلها .
وهنا تذهب بعض أذهان الناس مذاهب عجيبة غريبة في طرائق التفكير واتخاذ القرار ،
فهذا رب أسرة ربط أفراد أسرته بحبل واحد معا وقال : إما أن ننجو جميعا أو نهلك جميعا !!
الشهادة فضل من الله يؤتيه من يشاء
فالشهادة من أعلى مراتب أوليائه ، والشهداء يختارهم الله من بين عباده ،
ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها.
وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم :
(وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ ) وفي لفظ:
(وَمَنْ غَرِقَ فَهُوَ شَهِيدٌ )
رواه مسلم (2829) .
إذا وقع القدر عمي البصر
فمع أن لهذه الكوارث الكونية أسباباً طبيعية، وأحيانا يكون بمقدور البشر التنبؤ بها قبل وقوعها
عن طريق الحسابات الدقيقة ....
إلا أن هذه الكارثة أثبتت قصور البشر سواء في التحليل وتوقع الأزمات،
أو في الاستعدادات والاحتياطات أو في التصدي لها ومحاولات النجاة .
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
بهذه الكلمات يقابل المؤمن المصائب والكوارث والسيول , فإنها من أبلغ العلاج وأنفعه للعبد في عاجله وآجله ,
وذلك لتحقق الإنسان من أن نفسه وأهله وماله وولده ملك لله عز وجل،
وقد جعلها الله عنده عارية, فإذا أخذها منه فلا اعتراض كما أن المعير لا يلام إذا أخذ عاريّته من المستعير.
وليعلم العبد أن مصيره ومرجعه إلى الله مولاه الحق, ولابد أن يُخلِّف الدنيا وراء ظهره,
ويأتي ربه يوم القيامة فردا, بلا مال ولا أهل ولا عشيرة .
ثواب الله خير لك منهم , ورحمة الله خير لهم منك
قال شبيب بن شيبة رحمه الله للخليفة العباسي المهدي يوم وفاة ابنته ياقوتة ،
قال له : " يا أمير المؤمنين أعطاك الله على ما رُزئت أجراً ، وأعقبك خيراً ، ولا أجهد بلاءك بنقمة ،
ولا نزع منك نعمة , ثواب الله خير لك منها , ورحمة الله خير لها منك , أسأل الله ألا يحزنك ولا يفتنك".
فخف عن الخليفة مصابه .
لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ:
المصيبة تزيد في إيمان المؤمن ويقينه بأن الأمور بيد الله وحده لا شريك له, وأن الناجي منها إنما أنجاه الله تعالى بفضله ورحمته.
تذكر الآخرة : نفسي نفسي
مئات السيارات يجرفها السيل تتقلب فيه كقطع الفلين وركابها يرفعون أيديهم ويصيحون طالبين الغوث والنجدة
ولكن كل شخص مشغول بنفسه.
لمن الملك اليوم
قل الله مالك الملك :
خرج بعض الناس من السيل لا يملكون شيئا لا بيت ولا سيارة ولا أثاث ولا ملابس ولا بطاقة صراف
ولا حتى إثباتات شخصية ، وبهذا يتذكر الإنسان كيف يأتي ربه يوم القيامة لا يملك شيئا :
حفاة عراة بهما ليس معهم شيء
إحياء عبودية الخوف من آيات الله
وقد كان هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئا من الآيات الكونية،
قال أنس:
( كَانَتْ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ إِذَا هَبَّتْ عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ).
رواه البخاري (1034)
فيقع منه هذا الخوف بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم
وهو من غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فكيف بحالنا نحن المذنبين المقصرين!! .
وقال تعالى :
{وما نرسل بالآيات إلا تخويفا}
ولا شك أن هذا السيل من آيات الله التي يخوف بها عباده
التأمل في كثرة نعم الله علينا
من الدروس المستفادة لمن رزقه الله تأملا وفهما إذا نظر إلى ما أصاب الناس أن ينطق بقلبه قبل لسانه :
الحمد لله الذي عافاني ويستحضر تفضيل الله له.
فإذا نظر فيمن ذهبت أسرته استحضر نعمة الله عليه بحفظ أهله له .
وإذا شاهد صور تلف الأموال والممتلكات انتقل من هذه الصورة إلى معاينة نعمة الله عليه بحفظها له .
وإذا نظر إلى مصائب الآخرين الكثيرة هانت عليه مصائبه الصغيرة، فامتلأ قلبه بحمد الله،
ولهج لسانه بشكره سبحانه، واستحيت جوارحه من أن تعصي هذا المنعم الكريم،
أو أن تقصر في شيء من حقوقه سبحانه.
المؤمن يتألم لألم إخوانه
ينبغي لمن نظر في هذه المشاهد على أرض الواقع أو في الصور ومقاطع الفيديو أن يتحرك قلبه تجاه المصابين والمنكوبين ،
وتدمع عينه ، ويلهج لسانه بالدعاء بالرحمة لمن مات ، والتثبيت والعوض لمن ابتلي،
ويسعى لإعانة من يحتاج إلى العون ، ويسأل الله تعالى له ولإخوانه السلامة والعافية .
ابتلاءٌ للمؤمن وعقوبة للعاصي وتخويف للناس وتمحيص للناظرين والمتكلمين
إن الابتلاءات سنة ربانية اقتضتها حكمة الله سبحانه في هذه الدار،
لتكون دارًا للامتحان في الشهوات والفقر والمرض والخوف والنقص في الأموال والأنفس والثمرات
{ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }
[الأنبياء:35].
فما حدث ابتلاء ابتلى الله به عباده المؤمنين ليرفع درجاتهم ويقوي إيمانهم
{ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين}.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا
حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
وفيما حدث تذكير لأهل المعاصي والذنوب بالتوبة والإنابة إلى الله
{وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}.
قال بعض السلف : " لا ينزل بلاء إلا بذنب ، ولا يكشف إلا بتوبة ".
فالواجب في مثل هذه الحال التوبة وكثرة الاستغفار وأخذ العظة والعبرة.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله:
" وإن من علامات قسوة القلوب وطمسها والعياذ بالله، أن يسمع الناس قوارع الأحداث،
وزواجر العبر والعظات التي تخشع لها الجبال لو عقلت، ثم يستمرون على طغيانهم ومعاصيهم
مغترين بإمهال الله لهم، عاكفين على اتباع شهواتهم، غير عابئين بوعيد، ولا منصاعين لتهديد ".
فتاوى ابن باز (9/160)
فالواجب على جميع المسلمين أن يأخذوا العظة والعبرة مما حصل،
وأن يتوبوا إلى الله وينيبوا إليه ويحذروا من أسباب غضبه ونقمته،
والله جل وعلا يقول:
{ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ }.
فالمصائب منها تكفير ، ومنها تذكير ، ومنها عقوبة .
وقد تجتمع هذه الثلاث في مصيبة واحدة فتكون لبعض الناس تكفيرا لذنوبهم ورفعة لدرجاتهم
وتكون لآخرين غافلين تنبيها وتذكيرا، ولنوع ثالث عقوبة على معصية مستعلنة أو خفية وقعوا فيها
وتكون تمحيصا وكشفا لحال من يتكلم في هذه الأحداث
سؤال الله حسن الخاتمة .
فقد نقلت الأخبار قصصا لأناس قبض الله أرواحهم في مساجد أو بعد خروجهم منها
وقد جاء السيل وقت صلاة الظهر وبعضهم صائمون لله تعالى، يتقربون إليه في أيام العشر الفاضلة،
فجمع الله لهم من المبشرات: الغرق الذي هو شهادة ، والموت على عبادة،
وبعد أداء فريضة، فما أعظم ما حصّلوه، اللهم فارزقنا حسن الخاتمة .
[/size][/b]
يتبع