يقطف أرواحهم ويحصد رؤوسهم ومن خلاله يمر الموت إلى طرائده.. شهرته الواسعة ظهرت من عملياته التي قضت مضاجع أعدائه.. يمارس هواية بالنيل من أعدء الوطن لكنه يبغي من ورائها الجنة، فسقى المحتلين كأس الموت والهلاك من قناصه، حتى جعل المرور من على طريق شمال بغداد كالمرور من فوق الصراط، من ينجو لابد أن تلفحه نار الجحيم.
يختار فريسته من أرتال القوات المحتلة العابرة من الطريق الذي يمر من منطقته حتى تجاوزت أعدادهم المائتي قتيل.. احتار المحتل في أمره وهويته، فرصد جائزة كبيرة لمن يدلي بأية معلومات عنه تؤدي إلى القبض عليه، لكن حرصه على التخفي والبقاء مجهولاً عسّر من مهمة أعدائه فلم يتمكنوا من معرفة هويته إلا بعد مقتله!!
ذاع صيته في الأرجاء، وهز اسمه سكون الأعداء، لا شيء كان قادرًا على وقف عمليات قنصه لجنود المحتل سوى الموت الذي كان يسقيه لهم، وشتان بين موتهم، وموته!!
كنيته أبو رياض، رجل كبير السن، في الرابعة والخمسين من العمر، يعرف بـ (الملا)، متزوج من امرأتين، وله ثمانية أبناء، أربعة أولاد ومثلهم بنات.
ولد في إحدى قرى مدينة بلد شمال بغداد، التي يعتاش أهلها على تربية الحيوانات، ويعتمدون الزراعة كمصدر أساسي للرزق وكسب لقمة العيش، أما هو فكان يرعى الغنم، فعاش حياة صعبة وشاقة، ورغم ذلك كان يحب التعلم، فتعلم القراءة والكتابة من المتعلمين الذين يأتون من الأماكن القريبة رغم كبر سنه. وبعد حين من الزمان ازدهرت المنطقة، وتحسنت حال أبو رياض المعاشية، ورزقه الله من فضله من أموال وأراض زراعية، ورزقه الله بزوجتين صالحتين أنجبتا له الذرية الصالحة.
أبناء هذه المدينة أناس معروف عنهم الالتزام الديني والطيب والكرم والغيرة على حرمات الله، وعند سقوط البلاد بيد الكفرة المحتلين كان أبناء هذه المنطقة السبّاقين في ميدان الجهاد والاستشهاد، فقاتلوا قتالاً شرساً يشهد له الجميع.
عُرف عنه هدوئه الغريب، ويبدأ من خاصمه بالسلام، وإذا غضب فيعبر عن غضبه بالسكوت، أحب أبو رياض والديه بشدة، وكان أكثر أخوته محبة من قبل أبويه، رغم أن ترتيبه الثالث من بين خمسة إخوة.
وحينما جاء الاحتلال ودخل منطقته وهي منطقة يثرب والواقعة قرب مدينة بلد، وبعد أن اُحتلت كل أرض الرافدين، وانتهك مغول القرن الحادي والعشرين كل الحقوق الإنسانية والمقدسات الدينية بأنواعها بدأ زمن الجهاد، وبدأ معه أبو رياض رحلته التي كان يعرف جيداً نهايتها، والى أين ستوصله، حيث الموت نهاية المطاف، لكن الموت الذي كان يتخوف منه الجميع كان أبو رياض يدرك تماماً أنه ملاقيه، إن لم يكن اليوم فغداً، وإن لم يكن غداً فبعد غد، ورغم ذلك ثبت، لأن الحياة الأبدية في قاموسه كان ثمنها الموت، وأي موت، موت في سبيل الله ونصرة دينه.
كان أبو رياض يخرج ليلاً فقط، وينتظر فريسته المفضلة من القوات المحتلة بدءاً من الساعة العاشرة ليلاً، ويجلس وسط الأحراش وبين الأشجار متخفياً على مقربة من الطريق العام، ويأخذ في اصطياد ضحاياه، مستعيناً بمنظار ليلي يعلوه قناصه الذي اشتراه بماله الخاص، ولا يعود لداره حتى طلوع الفجر، ولم يكن أحد على علم بما كان يقوم به سوى زوجتيه اللواتي كن يساعدنه في ذلك، ويغطين على عمليات خروجه ليلاً، حتى لا يعلم أبنائه بما كان يقوم به، حرصاً منه على سرية جهاده، كي يكون عمله ذاك خالصاً لوجه الله تعالى، وحفاظاً على سرية هويته وعدم انكشافه.
عدد من المجاهدين ممن كانوا يتولون عمليات زرع العبوات الناسفة في تلك المناطق لاحظوا أنه في ساعات متأخرة من ليالي تلك المنطقة، وبشكل يكاد يكون يومياً يبدأ إطلاق الرصاص من قناص مجهول باتجاه القوات الأمريكية وأرتالها، ولا أحد يعرف مصدرها، وكان يوقع في صفوف المحتلين خسائر كبيرة وبالغة، وعجزوا عن معرفة هوية القائم بتلك الهجمات، فبقي أمر القناص أبو رياض لغزاً محيراً وسؤالاً يراود الجميع، ولا أحد يعرف الإجابة، وكان لديه أسلوب رائع في صيد الفريسة، حيث كان يقنص سائق الشاحنة في الرتل فتصطدم الشاحنات في الرتل الواحدة بالأخرى، ومن ثم يقوم باقتناص المترجلين من آلياتهم، قبل أن ينسحب تحت جنح الظلام الذي يحيق بالمكان، وحينما يحل الصباح يدرك المارة من هناك حجم الخسائر التي أوقعها في صفوف المحتلين، بدلالة برك الدماء، وبقايا أداوت الإسعاف الأولية التي يخفوها ورائهم، والزجاج المحطم، وأثار زحف اطارات الشاحنات (المكابح)، وأماكن اصطدام الآليات بعضها ببعض!!
كان القناص أبو رياض قبل خروجه في أية عملية جهادية يتوضأ، ويصلي ركعتين لوجه الله، ويدعوه سبحانه تسهيل مهمته، وأن يكون عمله هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يتمكن من جعل قلوب المؤمنين تمتلئ فرحاً وسعادة، وأن يرزقه سبحانه الشهادة، في ما لو كتب له الموت.. يخرج متسلحاً بقناصه، كتسلحه بالوضوء، إدراكاً منه في دنو الموت منه مع كل عملية جديدة، وبعد الانتهاء من مهمته بنجاح يستقبل القبلة في المحل الذي يقنص فيه فريسته، ثم يسجد لله شاكراً فضله ونعمته عليه وعلى المسلمين، وحينما يصل المنزل بسلام يصلي أربع ركعات شكراً وحمداً لله الذي مكنه من أعداء الدين وأذنابهم وعملاؤهم الذين يشاركونهم البغي والعدوان بالضد من شعبنا من قوات حكومية وصحوات ملعونة وأجهزة طائفية أخرى.
استمر القناص أبو رياض على هذا الحال لمدة سنة كاملة، وفي أحد الأيام أراد أن يكون ورائه من يخلفه في ما لو قدر الله له الشهادة، فقرر تدريب أبنائه وعدد من أبناء أخوته من العاملين في سوح الجهاد ويعلمهم أساليب القنص الصحيح والأكثر تأثيراً في العدو.. وبعد قراره ذاك جمع أبنائه، وأبناء إخوته، وحاول أن يشكل منهم مفرزة قنص.
عرفت مفرزة القنص الجديدة هوية القناص الغامض، الذي أوقع خسائر كبيرة في صفوف جنود الاحتلال، بلغت حتى تاريخ ذكره لهم التفاصيل أكثر من مائتي جندي محتل، وكانت المفاجأة كبيرة بالنسبة إليهم، وكان ذلك أول درس تعلموه على يديه، وهو سرية العمل!!
كما أخذ يشرح لهم فن القنص كما كان يسميه هو، وكيف أن أسلوب القنص ليس بالسهل، فهو عملية معقدة جداً بسبب ظروف المعركة الشرسة، وهو في ذات الوقت يدخل الرعب وباستمرار في قلوب المحتلين، فهم دائماً ما يشعرون بأنهم على موعد مع الموت، ولا يعلمون في أية لحظة يتم استهدافهم، ما يجعلهم على خطوات تحيط بهم من دوامة من الرعب لا تنتهي.
كان أبو رياض رجلاً قد مَنّ الله عليه بالعافية، ذو همة عالية، وذو إقدام، ويقاتل بدون تردد، حازم في أمر الجهاد، قليل الكلام، كثير الأفعال، تراه وقوراً، ثقيلُ الحركة عندما يرتدي ملابس العرب المعروفة، وحينما يرتدي ملابس الجهاد، فوالله تراه أخف إخوته، ويسير في المقدمة، وكان هو من يضع الخطة، ويستطلع المكان، ويرسم خطة الانسحاب بنفسه، وأصبح بيته بعد ذاك مكاناً لعقد المحاضرات، واجتماعات المجاهدين في بعض الأحيان. وكان يتأسى لحال من جلس في بيته ولا يجاهد خوفاً من القتل، إذ كان يكثر من القول: "أوبعد القتل قتل"..؟!!
وفي أحد الأيام قرر الخروج مبكراً إلى عملية القنص فخرج بعد صلاة المغرب بقليل موصياً زوجته أن تدعو له بالشهادة، خرج ومعه مجموعة مجاهدة يرأسهم هو فنصبوا كميناً بالقرب من الشارع (جنوب محطة بلد)، وعلى بعد مسافة أقل من مائة وخمسين متراً، وحين وصول الرتل التابع لقوات الاحتلال، أخذ أفراد الكمين يقتنصون سائقي الآليات ومن يجلسون على أبراجها ويحصدون بهم الواحد تلو الآخر، فثبتوا في مكانهم ولم ينسحبوا رغم مغادرة الرتل بعد حمله قتلاهم، وتزامن ذلك مع وصول رتل ثان، فكرروا عليه الهجوم هو الآخر، فأجهزوا عليه بقناصاتهم، فأوقعوا فيه نكاية أشد من الرتل الأول، فاتجهت نحوهم عدد من الأليات المرافقة للرتل، فطلب شقيق أبو رياض الأكبر، والذي قدم شهيدين في سوح الجهاد، وكان واحداً من أفراد الكمين، رغم كبر سنه، طلب من أبو رياض الانسحاب، فأعطى أبو رياض أوامره لأفراد الكمين بالانسحاب أمامه، ليكون هو آخر المنسحبين، فظن الجميع أنه انسحب خلفهم، في حين أن القناص أمر الكمين (أبو رياض) قرر التصدي لآليات المحتل، وتعطيل تقدمهم حتى يتمكن إخوته في الجهاد، من أبنائه، وأخوته، وأبناء إخوته، ومن معهم الانسحاب..
فراح يتصدى لآليات المحتل لوحده، فاضطروا للتوقف عن مطاردة القوة المنسحبة، فصعب على المحتل اجتياز خندقه، ما دعا المحتلين لإطلاق الأنوار الكاشفة في السماء، فتم رصد مكانه وانهالوا عليه بمختلف أنواع الأسلحة بعد أن صمتت قناصته التي نفذت ذخيرتها.
وحينما أدرك بقية أفراد الكمين أن أبو رياض لم ينسحب، وأنه كان يؤمن لهم الانسحاب مضحياً بنفسه من أجلهم، عادوا وهاجموا آليات المحتل بمختلف أنواع الأسلحة، ما جعل الغزاة يتقهقروا أمام ضربات المجاهدين، من إخوة أبو رياض في الجهاد، حتى تمكنوا من الوصول إليه، ليجدوه وقد فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها شهيداً بإذن الله، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً، فتم سحبه وإخلاء جثته بعد معركة شرسة، لتعلن تلك الليلة الحزينة، وتلك الساعة المتأخرة من ذلك اليوم عن مقتل القناص المجهول، الذي أرعب المحتل، وأعاق من حركته وحركة ارتاله، إلى أن نال الشهادة.
استبشر أولاده خيرا بشهادة والدهم، وهو الذي كان يؤكد لهم دائماً أن من يلتحق بركب الجهاد، عليه أن يضع الموت نصب عينيه، ويعتبره قدراً قائماً في أي لحظة، فالظفر بالجنة لابد أن يسبقه الموت، ولكنه ليس كأي موت، إنه موت كالحياة، وهل هناك أجمل من أن يموت الإنسان شهيداً من أجل نصرة دينه، وظل جسد أبو رياض يقطر دماً حتى الصباح، وإصبع السبابة يشير إلى الشهادة، وكانت بجعبته أربعة مخازن فارغة، ولوحظ عليه كثرة الإصابات التي أصيب بها في هذه المعركة، وودعه الكثير من إخوانه وأقربائه، وقد تفاجأ الكثير من أبناء تلك المناطق بخبر استشهاده لأنهم لم يعرفوا بأنه كان يجاهد إلا عندما حضروا عملية دفنه وزفته إلى جنان الخلد، إن شاء الله، وقد خجل الكثير ممن عرفوه من أنفسهم لقعودهم عن الجهاد.
دفن القناص المجهول أبو رياض في مقبرة جديدة للمنطقة، وكان أول من يدفن فيها، ولقد رأى ابنه في المنام أن أباه نصفه في الماء، فاخبر أهله برؤياه فنبشوا قبر البطل الذي آثر الموت ليحمي رفقاء درب جهاده، وإذا بالأرض لا تصلح كمقبرة، فتبين أن جسد أبو رياض، وبعد أسابيع من دفنه لم يتغير، ولا تزال جراحه تنزف، وهذه بشارة الشهادة، فأصبح نبش قبره مثالاً لأروع صور صدق الشهيد مع الله، فرحم الله أبو رياض، وتقبله في فسيح جناته.
إن تحكيم شرع الله على الأرض يحتاج إلى تضحيات جسام، فالطريق لابد أن يعبد بدماء وأشلاء الشهداء، شهداء باعوا أنفسهم لرب العالمين، في تجارة رابحة بإذن الله، واستحقوا عليها وسام الشهادة، والأوطان لا تحرر إلا ببذل الغالي والنفيس، وفي تلك الطريق العطرة الزكية والوعرة في ذات الوقت كان هؤلاء ناراً ونوراً ونبراساً يدق في ظلمة الليل، يستنهض الهمم، همم الرجال الصادقين الغيارى على الدين والأرض والعرض، رجال صدقوا مع الله، ففضلهم علينا، وفازوا بالشهادة.
فهنيئاً للقناص المجهول أبو رياض جهاده، وهنيئاً له صدقه مع الله، وهنيئاً له منازل الشهداء إن شاء الله، وهو الذي بقي وفياً لهذا الدين، ولهذا الوطن الآمن الأمين، حتى آخر لحظات حياته، بعد أن كان يتمنى أن يأخذ الله من دمه حتى يرضى، فأخذ الله من دمه حتى رضي، أو هكذا نحسبه.
م
مآآآآجده
يختار فريسته من أرتال القوات المحتلة العابرة من الطريق الذي يمر من منطقته حتى تجاوزت أعدادهم المائتي قتيل.. احتار المحتل في أمره وهويته، فرصد جائزة كبيرة لمن يدلي بأية معلومات عنه تؤدي إلى القبض عليه، لكن حرصه على التخفي والبقاء مجهولاً عسّر من مهمة أعدائه فلم يتمكنوا من معرفة هويته إلا بعد مقتله!!
ذاع صيته في الأرجاء، وهز اسمه سكون الأعداء، لا شيء كان قادرًا على وقف عمليات قنصه لجنود المحتل سوى الموت الذي كان يسقيه لهم، وشتان بين موتهم، وموته!!
كنيته أبو رياض، رجل كبير السن، في الرابعة والخمسين من العمر، يعرف بـ (الملا)، متزوج من امرأتين، وله ثمانية أبناء، أربعة أولاد ومثلهم بنات.
ولد في إحدى قرى مدينة بلد شمال بغداد، التي يعتاش أهلها على تربية الحيوانات، ويعتمدون الزراعة كمصدر أساسي للرزق وكسب لقمة العيش، أما هو فكان يرعى الغنم، فعاش حياة صعبة وشاقة، ورغم ذلك كان يحب التعلم، فتعلم القراءة والكتابة من المتعلمين الذين يأتون من الأماكن القريبة رغم كبر سنه. وبعد حين من الزمان ازدهرت المنطقة، وتحسنت حال أبو رياض المعاشية، ورزقه الله من فضله من أموال وأراض زراعية، ورزقه الله بزوجتين صالحتين أنجبتا له الذرية الصالحة.
أبناء هذه المدينة أناس معروف عنهم الالتزام الديني والطيب والكرم والغيرة على حرمات الله، وعند سقوط البلاد بيد الكفرة المحتلين كان أبناء هذه المنطقة السبّاقين في ميدان الجهاد والاستشهاد، فقاتلوا قتالاً شرساً يشهد له الجميع.
عُرف عنه هدوئه الغريب، ويبدأ من خاصمه بالسلام، وإذا غضب فيعبر عن غضبه بالسكوت، أحب أبو رياض والديه بشدة، وكان أكثر أخوته محبة من قبل أبويه، رغم أن ترتيبه الثالث من بين خمسة إخوة.
وحينما جاء الاحتلال ودخل منطقته وهي منطقة يثرب والواقعة قرب مدينة بلد، وبعد أن اُحتلت كل أرض الرافدين، وانتهك مغول القرن الحادي والعشرين كل الحقوق الإنسانية والمقدسات الدينية بأنواعها بدأ زمن الجهاد، وبدأ معه أبو رياض رحلته التي كان يعرف جيداً نهايتها، والى أين ستوصله، حيث الموت نهاية المطاف، لكن الموت الذي كان يتخوف منه الجميع كان أبو رياض يدرك تماماً أنه ملاقيه، إن لم يكن اليوم فغداً، وإن لم يكن غداً فبعد غد، ورغم ذلك ثبت، لأن الحياة الأبدية في قاموسه كان ثمنها الموت، وأي موت، موت في سبيل الله ونصرة دينه.
كان أبو رياض يخرج ليلاً فقط، وينتظر فريسته المفضلة من القوات المحتلة بدءاً من الساعة العاشرة ليلاً، ويجلس وسط الأحراش وبين الأشجار متخفياً على مقربة من الطريق العام، ويأخذ في اصطياد ضحاياه، مستعيناً بمنظار ليلي يعلوه قناصه الذي اشتراه بماله الخاص، ولا يعود لداره حتى طلوع الفجر، ولم يكن أحد على علم بما كان يقوم به سوى زوجتيه اللواتي كن يساعدنه في ذلك، ويغطين على عمليات خروجه ليلاً، حتى لا يعلم أبنائه بما كان يقوم به، حرصاً منه على سرية جهاده، كي يكون عمله ذاك خالصاً لوجه الله تعالى، وحفاظاً على سرية هويته وعدم انكشافه.
عدد من المجاهدين ممن كانوا يتولون عمليات زرع العبوات الناسفة في تلك المناطق لاحظوا أنه في ساعات متأخرة من ليالي تلك المنطقة، وبشكل يكاد يكون يومياً يبدأ إطلاق الرصاص من قناص مجهول باتجاه القوات الأمريكية وأرتالها، ولا أحد يعرف مصدرها، وكان يوقع في صفوف المحتلين خسائر كبيرة وبالغة، وعجزوا عن معرفة هوية القائم بتلك الهجمات، فبقي أمر القناص أبو رياض لغزاً محيراً وسؤالاً يراود الجميع، ولا أحد يعرف الإجابة، وكان لديه أسلوب رائع في صيد الفريسة، حيث كان يقنص سائق الشاحنة في الرتل فتصطدم الشاحنات في الرتل الواحدة بالأخرى، ومن ثم يقوم باقتناص المترجلين من آلياتهم، قبل أن ينسحب تحت جنح الظلام الذي يحيق بالمكان، وحينما يحل الصباح يدرك المارة من هناك حجم الخسائر التي أوقعها في صفوف المحتلين، بدلالة برك الدماء، وبقايا أداوت الإسعاف الأولية التي يخفوها ورائهم، والزجاج المحطم، وأثار زحف اطارات الشاحنات (المكابح)، وأماكن اصطدام الآليات بعضها ببعض!!
كان القناص أبو رياض قبل خروجه في أية عملية جهادية يتوضأ، ويصلي ركعتين لوجه الله، ويدعوه سبحانه تسهيل مهمته، وأن يكون عمله هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يتمكن من جعل قلوب المؤمنين تمتلئ فرحاً وسعادة، وأن يرزقه سبحانه الشهادة، في ما لو كتب له الموت.. يخرج متسلحاً بقناصه، كتسلحه بالوضوء، إدراكاً منه في دنو الموت منه مع كل عملية جديدة، وبعد الانتهاء من مهمته بنجاح يستقبل القبلة في المحل الذي يقنص فيه فريسته، ثم يسجد لله شاكراً فضله ونعمته عليه وعلى المسلمين، وحينما يصل المنزل بسلام يصلي أربع ركعات شكراً وحمداً لله الذي مكنه من أعداء الدين وأذنابهم وعملاؤهم الذين يشاركونهم البغي والعدوان بالضد من شعبنا من قوات حكومية وصحوات ملعونة وأجهزة طائفية أخرى.
استمر القناص أبو رياض على هذا الحال لمدة سنة كاملة، وفي أحد الأيام أراد أن يكون ورائه من يخلفه في ما لو قدر الله له الشهادة، فقرر تدريب أبنائه وعدد من أبناء أخوته من العاملين في سوح الجهاد ويعلمهم أساليب القنص الصحيح والأكثر تأثيراً في العدو.. وبعد قراره ذاك جمع أبنائه، وأبناء إخوته، وحاول أن يشكل منهم مفرزة قنص.
عرفت مفرزة القنص الجديدة هوية القناص الغامض، الذي أوقع خسائر كبيرة في صفوف جنود الاحتلال، بلغت حتى تاريخ ذكره لهم التفاصيل أكثر من مائتي جندي محتل، وكانت المفاجأة كبيرة بالنسبة إليهم، وكان ذلك أول درس تعلموه على يديه، وهو سرية العمل!!
كما أخذ يشرح لهم فن القنص كما كان يسميه هو، وكيف أن أسلوب القنص ليس بالسهل، فهو عملية معقدة جداً بسبب ظروف المعركة الشرسة، وهو في ذات الوقت يدخل الرعب وباستمرار في قلوب المحتلين، فهم دائماً ما يشعرون بأنهم على موعد مع الموت، ولا يعلمون في أية لحظة يتم استهدافهم، ما يجعلهم على خطوات تحيط بهم من دوامة من الرعب لا تنتهي.
كان أبو رياض رجلاً قد مَنّ الله عليه بالعافية، ذو همة عالية، وذو إقدام، ويقاتل بدون تردد، حازم في أمر الجهاد، قليل الكلام، كثير الأفعال، تراه وقوراً، ثقيلُ الحركة عندما يرتدي ملابس العرب المعروفة، وحينما يرتدي ملابس الجهاد، فوالله تراه أخف إخوته، ويسير في المقدمة، وكان هو من يضع الخطة، ويستطلع المكان، ويرسم خطة الانسحاب بنفسه، وأصبح بيته بعد ذاك مكاناً لعقد المحاضرات، واجتماعات المجاهدين في بعض الأحيان. وكان يتأسى لحال من جلس في بيته ولا يجاهد خوفاً من القتل، إذ كان يكثر من القول: "أوبعد القتل قتل"..؟!!
وفي أحد الأيام قرر الخروج مبكراً إلى عملية القنص فخرج بعد صلاة المغرب بقليل موصياً زوجته أن تدعو له بالشهادة، خرج ومعه مجموعة مجاهدة يرأسهم هو فنصبوا كميناً بالقرب من الشارع (جنوب محطة بلد)، وعلى بعد مسافة أقل من مائة وخمسين متراً، وحين وصول الرتل التابع لقوات الاحتلال، أخذ أفراد الكمين يقتنصون سائقي الآليات ومن يجلسون على أبراجها ويحصدون بهم الواحد تلو الآخر، فثبتوا في مكانهم ولم ينسحبوا رغم مغادرة الرتل بعد حمله قتلاهم، وتزامن ذلك مع وصول رتل ثان، فكرروا عليه الهجوم هو الآخر، فأجهزوا عليه بقناصاتهم، فأوقعوا فيه نكاية أشد من الرتل الأول، فاتجهت نحوهم عدد من الأليات المرافقة للرتل، فطلب شقيق أبو رياض الأكبر، والذي قدم شهيدين في سوح الجهاد، وكان واحداً من أفراد الكمين، رغم كبر سنه، طلب من أبو رياض الانسحاب، فأعطى أبو رياض أوامره لأفراد الكمين بالانسحاب أمامه، ليكون هو آخر المنسحبين، فظن الجميع أنه انسحب خلفهم، في حين أن القناص أمر الكمين (أبو رياض) قرر التصدي لآليات المحتل، وتعطيل تقدمهم حتى يتمكن إخوته في الجهاد، من أبنائه، وأخوته، وأبناء إخوته، ومن معهم الانسحاب..
فراح يتصدى لآليات المحتل لوحده، فاضطروا للتوقف عن مطاردة القوة المنسحبة، فصعب على المحتل اجتياز خندقه، ما دعا المحتلين لإطلاق الأنوار الكاشفة في السماء، فتم رصد مكانه وانهالوا عليه بمختلف أنواع الأسلحة بعد أن صمتت قناصته التي نفذت ذخيرتها.
وحينما أدرك بقية أفراد الكمين أن أبو رياض لم ينسحب، وأنه كان يؤمن لهم الانسحاب مضحياً بنفسه من أجلهم، عادوا وهاجموا آليات المحتل بمختلف أنواع الأسلحة، ما جعل الغزاة يتقهقروا أمام ضربات المجاهدين، من إخوة أبو رياض في الجهاد، حتى تمكنوا من الوصول إليه، ليجدوه وقد فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها شهيداً بإذن الله، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً، فتم سحبه وإخلاء جثته بعد معركة شرسة، لتعلن تلك الليلة الحزينة، وتلك الساعة المتأخرة من ذلك اليوم عن مقتل القناص المجهول، الذي أرعب المحتل، وأعاق من حركته وحركة ارتاله، إلى أن نال الشهادة.
استبشر أولاده خيرا بشهادة والدهم، وهو الذي كان يؤكد لهم دائماً أن من يلتحق بركب الجهاد، عليه أن يضع الموت نصب عينيه، ويعتبره قدراً قائماً في أي لحظة، فالظفر بالجنة لابد أن يسبقه الموت، ولكنه ليس كأي موت، إنه موت كالحياة، وهل هناك أجمل من أن يموت الإنسان شهيداً من أجل نصرة دينه، وظل جسد أبو رياض يقطر دماً حتى الصباح، وإصبع السبابة يشير إلى الشهادة، وكانت بجعبته أربعة مخازن فارغة، ولوحظ عليه كثرة الإصابات التي أصيب بها في هذه المعركة، وودعه الكثير من إخوانه وأقربائه، وقد تفاجأ الكثير من أبناء تلك المناطق بخبر استشهاده لأنهم لم يعرفوا بأنه كان يجاهد إلا عندما حضروا عملية دفنه وزفته إلى جنان الخلد، إن شاء الله، وقد خجل الكثير ممن عرفوه من أنفسهم لقعودهم عن الجهاد.
دفن القناص المجهول أبو رياض في مقبرة جديدة للمنطقة، وكان أول من يدفن فيها، ولقد رأى ابنه في المنام أن أباه نصفه في الماء، فاخبر أهله برؤياه فنبشوا قبر البطل الذي آثر الموت ليحمي رفقاء درب جهاده، وإذا بالأرض لا تصلح كمقبرة، فتبين أن جسد أبو رياض، وبعد أسابيع من دفنه لم يتغير، ولا تزال جراحه تنزف، وهذه بشارة الشهادة، فأصبح نبش قبره مثالاً لأروع صور صدق الشهيد مع الله، فرحم الله أبو رياض، وتقبله في فسيح جناته.
إن تحكيم شرع الله على الأرض يحتاج إلى تضحيات جسام، فالطريق لابد أن يعبد بدماء وأشلاء الشهداء، شهداء باعوا أنفسهم لرب العالمين، في تجارة رابحة بإذن الله، واستحقوا عليها وسام الشهادة، والأوطان لا تحرر إلا ببذل الغالي والنفيس، وفي تلك الطريق العطرة الزكية والوعرة في ذات الوقت كان هؤلاء ناراً ونوراً ونبراساً يدق في ظلمة الليل، يستنهض الهمم، همم الرجال الصادقين الغيارى على الدين والأرض والعرض، رجال صدقوا مع الله، ففضلهم علينا، وفازوا بالشهادة.
فهنيئاً للقناص المجهول أبو رياض جهاده، وهنيئاً له صدقه مع الله، وهنيئاً له منازل الشهداء إن شاء الله، وهو الذي بقي وفياً لهذا الدين، ولهذا الوطن الآمن الأمين، حتى آخر لحظات حياته، بعد أن كان يتمنى أن يأخذ الله من دمه حتى يرضى، فأخذ الله من دمه حتى رضي، أو هكذا نحسبه.
م
مآآآآجده