ينادي أحدُنا ابنَه فيقول: يا أحمد[1]، وقد يناديه فيقول: يا بُني.
لنتفق بدايةً أن نبرة الصوت، وتعابير الوجه الحنون أثناء النداء واحدةٌ، فهل هناك فرق بين النداءين في وقعِهما على نفس الابن، أو في تأثيرهما على الاستجابة؟
سأترك الجوابَ للقُراء الأفاضل بعد قراءة ما سيأتي بيانُه، وليس الهدف منه إثباتَ تفوُّق إحدى الصيغتين على الأخرى في كل الأحوال، بقدر ما هي دعوة للتجرِبة والتأمل.
أما كلماتي التالية، فهي نتيجة لاستقراء آيات القرآن الكريم التي دار فيها الحوار بين الآباء والأبناء، لاحظتُ من خلالها أنه لم يَرِدْ نداءٌ من الأب لابنه باسمه الصريح إلا في حالة واحدة، من آزرَ لإبراهيمَ - عليه السلام - ولا يخفى أن الأبَ في هذه الحالة لم يكن على التوحيد.
في إلماحة سريعة حول النداء، نجد أنه: تصويت بالمُنادَى ليُقبِل، أو هو طلب إقبال المدعو إلى الداعي[2]، وقد يستخدم في أول الكلام، أو خلاله، ويكون النداء للبعيد، وقد يُنادَى القريب إذا كان ساهيًا أو غافلاً؛ تنـزيلاً له منـزلة البعيد، وقد ينادى القريب الذي ليس بِسَاهٍ ولا غافل، إذا كان الخطاب المرتَّب على النداء في محل الاعتناء بشأن المُنادى، ومن أغراضه أن يكون النداء للتأسُّف، أو للتلهف، أو للتنبيه[3]، أو للتَحَزُّن، أو للتكريم والتلطف.
وقد حصل النداءُ في كثيرٍ من آيات القرآن الكريم، أما الآيات التي ورد فيها الحوار بين الآباء والأبناء، فقد جاء النداء فيها مصاحبًا لوصف البنوَّة مصغرًا، إفرادًا وجمعًا، وكذلك مصاحبًا لوصف الأبوَّة، سواء كان المُنادَى فردًا أو جمعًا من الأبناء، ومن الأمثلة على ذلك: يا بُنَيَّ: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود: 42] يا بَنِيَّ: {يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِد} [يوسف : 67] يا أبتِ: ياأبتي: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَر} [الصافات: 102]، يا أبانا: {يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} [يوسف: 65].
واستخدام النداء مع حضور المُنادَى مستعملٌ مجازًا في طلب حضور الذهن لوعي الكلام، وله أهمية خاصة بين الأب والابن، فالنداءُ المقصود هنا جاءت فيه أداة النداء (يا) مع لفظ البنوة مُصغرًا (بُنَيَّ)؛ دلالةً على المحبة وإخلاص النصح، وتنبيهًا على شدة وقُرب مكانة الابن من الأب، كما أن له عددًا من الفوائد الجليلة، منها على سبيل المثال:
1- أن استخدام النداء مُرَغِّب في الامتثال، حيث نادى كلٌّ من إبراهيم ويعقوب - عليهما السلام - أبناءهما بقولهما: {يا بَنيَّ} فهو نداء تكريم وتلطف، يُرغِّب في امتثال الوصية؛ يقول - تعالى -: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132].
2-واستخدام النداء يدلُّ على الرغبة في إرشاد الابن برفقٍ، ويدل على شفقة الأب، وشفقةُ الأب بابنه من أشد أنواع الشفقة، فكيف إذا اجتمع معها الخوفُ من موت الابن على الكفر كما كان من نوح - عليه السلام - مع ابنه في قوله - تعالى -: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: ٤٢ ]، فناداه: بـ "يَا بُنَيَّ" مستعطفًا ومذكِّرًا له بحق الأبوة، في حين صدَّ الكفرُ الابنَ عن الاستجابة لأبيه، فردَّ على حنانه بفظاظة وبُعدٍ عن اللين الذي يتطلَّبه البِرُّ، فلم يقل في المقابل: يا أبتِ؛ بل قال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود: 43].
ويضيف التصغيرُ لكلمة ابن - بُني - مع النداء أغراضًا مختلفة باختلاف موضوع الحوار؛ فقد يجيء لإظهار التَحنُّن والتحزُّن؛ كما استعمله نوح - عليه السلام - في نداء ابنه؛ ليستجيش به مشاعرَه، ويستميل قلبَه الذي علاه رانُ الكفر للإيمان والنجاة.
ويفيد التصغير معنى التحبُّب، كما كان من يعقوب مع يوسف - عليهما السلام - في قوله – تعالى -: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: ٥]، "وفي ذلك كناية عن إمحاض[4] النصح له"[5].
وفي الآيات التي حكتْ موعظةَ لقمانَ لابنه، يقول - تعالى -: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: ١٣]، ثم تكرَّرت كلمة: "يَا بُنَيَّ" فيما بعدها من آيات، فأفادتْ معنى التكريم والتلطف.
ويظهر مما سبق أن تصغيرَ كلمة ابن - بُني - ليس بالضرورة أن يكون على "حقيقة التصغير وإن كان على لفظه، وإنما هو على وجه الترقيق"[6]، فيحصل فيه تنزيلُ المخاطب الكبير منزلةَ الصغير؛ كنايةً عن الشفقة به، والتحبب له[7]، وذلك أدعى لقَبول النصح[8].
وفي المقابل لا بد من الإشارة هنا إلى أهمية النداء المصاحب للفظ الأبوة - يا أبت - وإن كان هذا هو المعتاد في خطاب الأبناء مع الآباء، إلا أنه لم يأتِ في الآيات التي بيَّنتْ حال الأبناء مع الآباء جافًّا معتادًا، حتى وإن كان مع الأب الكافر كآزر؛ بل دلَّ سياقُ الآيات على صدوره من الأبناء بنبرة الصوت التي تُناسب المقام، وبما يوافق الغرضَ من النداء، كالاستعطاف والتوسل في حوار إبراهيم - عليه السلام - مع أبيه، والتوقيرِ في حوار يوسف - عليه السلام - مع أبيه.
ويلاحظ أن النداء قد يتكرر في الموقف الواحد أكثرَ من مرة، كما حصل بين لقمان وابنه، وإبراهيم - عليه السلام - وأبيه، وفي ذلك دلالةٌ على فرط النصيحة، وشدة الحرص، وإعادة تنشيط السامع.
قول الإنسان لغير ابنه يا بُني:
من تتمة الموضوع ونحن نتحدَّث عن تربيةٍ نموذجية لأمَّةٍ لا تقف مسؤوليةُ التربية فيها على الآباء فقط؛ بل تمتدُّ إلى الأقارب، وتصل إلى الجيران، لتشمل كلَّ مسلم يهتم لأمر أبناء المسلمين، ويتمنى لهم ما يتمناه لأبنائه، من تتمة الموضوع أن نتساءل عن قول الإنسان لغير ابنه: يا بُني، هل ورد ذلك عن نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم؟ وماذا عن سلفنا الصالح؟
ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نادى بعض الصحابة بقوله: ((يا بني))، روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بُني))[9].
وروى مسلم أيضًا عن المغيرة بن شعبة قال: ما سأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ عن الدجال أكثرَ مما سألتُه عنه، فقال لي: ((أي بني، وما ينصبك منه؟ إنه لن يضرَّك))، قال: قلتُ: إنهم يزعمون أن معه أنهار الماء وجبال الخبز، قال: ((هو أهون على الله من ذلك))[10].
وقد بَوَّب مسلم لذلك بابًا في جواز قول الإنسان لغير ابنه: يا بني، واستحبابه للملاطفة، أورد فيه الحديثين السابقين، وعلَّق الإمام النووي - رحمه الله - عليه، فقال: "وفي هذين الحديثين جاز قولُ الإنسان لغير ابنه ممن هو أصغر سنًّا منه: يا ابني، ويا بُني مُصغرًا، ويا ولدي، ومعناه تلطف، وأنك عندي بمنزلة ولدي في الشفقة، وكذا يقال له ولمن هو في مثل سن المتكلم: يا أخي؛ للمعنى الذي ذكرناه، وإذا قصد التلطف كان مستحبًّا كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم"[11].
وكان الصحابة - رضوان الله عليهم - ينادون الطفل المسلم الذي أدرك والدُه الإسلامَ بالنداء "يا ابن أخي"، كما قال عمر بن الخطاب لابن عباس: "قل يا ابن أخي، ولا تحقر نفسك"، أما الطفل المسلم الذي لم يدرك والده الإسلام، فكانوا ينادونه: "يا بني"[12].
وهذا الصعب بن حكيم يحدِّث عن أبيه عن جده، قال: أتيتُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فجعل يقول: يا ابن أخي، ثم سألني فانتسبتُ له، فعرف أن أبي لم يدرك الإسلام، فجعل يقول: يا بني يا بني[13].
لقد كان هذا النداء من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن صحابته الكرام مع غير أبنائهم، مما يدلُّ على أهميته مع الأبناء من باب أولى، وخيرُكم خيرُكم لأهله.
ـــــــــــــــــــــ
[1] يفرق البعض بين النداء والدعاء؛ فيرى أن الدعاء يأتي فيه حرف النداء مع الاسم: يا فلان.
[2] أحمد مطلوب، "معجم المصطلحات البلاغية وتطورها"، ط2، مكتبة لبنان، لبنان، 1996م، ص658.
[3] بدر الدين محمد بن عبدالله الزركشي، "البرهان في علوم القرآن"، تحقيق: محمد أبو الفضل، دار الجيل، بيروت، 1408هـ - 1988م، ص446.
[4] أي إخلاص، فيقال: أَمْحَضْتُ له النُّصْحَ، إِذا أَخلصتَه.
[5] محمد الطاهر بن عاشور، تفسير "التحرير والتنوير"، دار سحنون، تونس، د.ت، الجزء الثاني عشر، ص213.
[6] أبو عبدالله محمد بن أحمد القرطبي، "الجامع لأحكام القرآن"، تحقيق: عبدالرزاق المهدي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1426هـ - 2005م، الجزء الرابع عشر، ص59.
[7] محمد الطاهر بن عاشور، تفسير "التحرير والتنوير"، مرجع سابق، الجزء الواحد والعشرون، ص155.
[8] أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي، "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند، 1395هـ - 1975م، الجزء الخامس عشر، ص161.
[9] مسلم بن الحجاج، "صحيح مسلم"، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، باب: جواز قوله لغير ابنه: يا بني، واستحبابه للملاطفة.
[10] المرجع السابق.
[11] أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، "شرح النووي على صحيح مسلم"، ط2، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1392هـ، باب: جواز قوله لغير ابنه: يا بني، واستحبابه للملاطفة.
[12] "منهج التربية النبوية للطفل"، محمد نور سويد، ط5، دار ابن كثير، دمشق، 1425هـ - 2004م، ص135.
[13] محمد بن إسماعيل البخاري، "الأدب المفرد"، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، ط3، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1409هـ - 1989م، باب: قول الرجل: يا بني، لمن أبوه لم يدرك الإسلام.
لنتفق بدايةً أن نبرة الصوت، وتعابير الوجه الحنون أثناء النداء واحدةٌ، فهل هناك فرق بين النداءين في وقعِهما على نفس الابن، أو في تأثيرهما على الاستجابة؟
سأترك الجوابَ للقُراء الأفاضل بعد قراءة ما سيأتي بيانُه، وليس الهدف منه إثباتَ تفوُّق إحدى الصيغتين على الأخرى في كل الأحوال، بقدر ما هي دعوة للتجرِبة والتأمل.
أما كلماتي التالية، فهي نتيجة لاستقراء آيات القرآن الكريم التي دار فيها الحوار بين الآباء والأبناء، لاحظتُ من خلالها أنه لم يَرِدْ نداءٌ من الأب لابنه باسمه الصريح إلا في حالة واحدة، من آزرَ لإبراهيمَ - عليه السلام - ولا يخفى أن الأبَ في هذه الحالة لم يكن على التوحيد.
في إلماحة سريعة حول النداء، نجد أنه: تصويت بالمُنادَى ليُقبِل، أو هو طلب إقبال المدعو إلى الداعي[2]، وقد يستخدم في أول الكلام، أو خلاله، ويكون النداء للبعيد، وقد يُنادَى القريب إذا كان ساهيًا أو غافلاً؛ تنـزيلاً له منـزلة البعيد، وقد ينادى القريب الذي ليس بِسَاهٍ ولا غافل، إذا كان الخطاب المرتَّب على النداء في محل الاعتناء بشأن المُنادى، ومن أغراضه أن يكون النداء للتأسُّف، أو للتلهف، أو للتنبيه[3]، أو للتَحَزُّن، أو للتكريم والتلطف.
وقد حصل النداءُ في كثيرٍ من آيات القرآن الكريم، أما الآيات التي ورد فيها الحوار بين الآباء والأبناء، فقد جاء النداء فيها مصاحبًا لوصف البنوَّة مصغرًا، إفرادًا وجمعًا، وكذلك مصاحبًا لوصف الأبوَّة، سواء كان المُنادَى فردًا أو جمعًا من الأبناء، ومن الأمثلة على ذلك: يا بُنَيَّ: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود: 42] يا بَنِيَّ: {يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِد} [يوسف : 67] يا أبتِ: ياأبتي: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَر} [الصافات: 102]، يا أبانا: {يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} [يوسف: 65].
واستخدام النداء مع حضور المُنادَى مستعملٌ مجازًا في طلب حضور الذهن لوعي الكلام، وله أهمية خاصة بين الأب والابن، فالنداءُ المقصود هنا جاءت فيه أداة النداء (يا) مع لفظ البنوة مُصغرًا (بُنَيَّ)؛ دلالةً على المحبة وإخلاص النصح، وتنبيهًا على شدة وقُرب مكانة الابن من الأب، كما أن له عددًا من الفوائد الجليلة، منها على سبيل المثال:
1- أن استخدام النداء مُرَغِّب في الامتثال، حيث نادى كلٌّ من إبراهيم ويعقوب - عليهما السلام - أبناءهما بقولهما: {يا بَنيَّ} فهو نداء تكريم وتلطف، يُرغِّب في امتثال الوصية؛ يقول - تعالى -: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132].
2-واستخدام النداء يدلُّ على الرغبة في إرشاد الابن برفقٍ، ويدل على شفقة الأب، وشفقةُ الأب بابنه من أشد أنواع الشفقة، فكيف إذا اجتمع معها الخوفُ من موت الابن على الكفر كما كان من نوح - عليه السلام - مع ابنه في قوله - تعالى -: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: ٤٢ ]، فناداه: بـ "يَا بُنَيَّ" مستعطفًا ومذكِّرًا له بحق الأبوة، في حين صدَّ الكفرُ الابنَ عن الاستجابة لأبيه، فردَّ على حنانه بفظاظة وبُعدٍ عن اللين الذي يتطلَّبه البِرُّ، فلم يقل في المقابل: يا أبتِ؛ بل قال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود: 43].
ويضيف التصغيرُ لكلمة ابن - بُني - مع النداء أغراضًا مختلفة باختلاف موضوع الحوار؛ فقد يجيء لإظهار التَحنُّن والتحزُّن؛ كما استعمله نوح - عليه السلام - في نداء ابنه؛ ليستجيش به مشاعرَه، ويستميل قلبَه الذي علاه رانُ الكفر للإيمان والنجاة.
ويفيد التصغير معنى التحبُّب، كما كان من يعقوب مع يوسف - عليهما السلام - في قوله – تعالى -: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: ٥]، "وفي ذلك كناية عن إمحاض[4] النصح له"[5].
وفي الآيات التي حكتْ موعظةَ لقمانَ لابنه، يقول - تعالى -: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: ١٣]، ثم تكرَّرت كلمة: "يَا بُنَيَّ" فيما بعدها من آيات، فأفادتْ معنى التكريم والتلطف.
ويظهر مما سبق أن تصغيرَ كلمة ابن - بُني - ليس بالضرورة أن يكون على "حقيقة التصغير وإن كان على لفظه، وإنما هو على وجه الترقيق"[6]، فيحصل فيه تنزيلُ المخاطب الكبير منزلةَ الصغير؛ كنايةً عن الشفقة به، والتحبب له[7]، وذلك أدعى لقَبول النصح[8].
وفي المقابل لا بد من الإشارة هنا إلى أهمية النداء المصاحب للفظ الأبوة - يا أبت - وإن كان هذا هو المعتاد في خطاب الأبناء مع الآباء، إلا أنه لم يأتِ في الآيات التي بيَّنتْ حال الأبناء مع الآباء جافًّا معتادًا، حتى وإن كان مع الأب الكافر كآزر؛ بل دلَّ سياقُ الآيات على صدوره من الأبناء بنبرة الصوت التي تُناسب المقام، وبما يوافق الغرضَ من النداء، كالاستعطاف والتوسل في حوار إبراهيم - عليه السلام - مع أبيه، والتوقيرِ في حوار يوسف - عليه السلام - مع أبيه.
ويلاحظ أن النداء قد يتكرر في الموقف الواحد أكثرَ من مرة، كما حصل بين لقمان وابنه، وإبراهيم - عليه السلام - وأبيه، وفي ذلك دلالةٌ على فرط النصيحة، وشدة الحرص، وإعادة تنشيط السامع.
قول الإنسان لغير ابنه يا بُني:
من تتمة الموضوع ونحن نتحدَّث عن تربيةٍ نموذجية لأمَّةٍ لا تقف مسؤوليةُ التربية فيها على الآباء فقط؛ بل تمتدُّ إلى الأقارب، وتصل إلى الجيران، لتشمل كلَّ مسلم يهتم لأمر أبناء المسلمين، ويتمنى لهم ما يتمناه لأبنائه، من تتمة الموضوع أن نتساءل عن قول الإنسان لغير ابنه: يا بُني، هل ورد ذلك عن نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم؟ وماذا عن سلفنا الصالح؟
ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نادى بعض الصحابة بقوله: ((يا بني))، روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بُني))[9].
وروى مسلم أيضًا عن المغيرة بن شعبة قال: ما سأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ عن الدجال أكثرَ مما سألتُه عنه، فقال لي: ((أي بني، وما ينصبك منه؟ إنه لن يضرَّك))، قال: قلتُ: إنهم يزعمون أن معه أنهار الماء وجبال الخبز، قال: ((هو أهون على الله من ذلك))[10].
وقد بَوَّب مسلم لذلك بابًا في جواز قول الإنسان لغير ابنه: يا بني، واستحبابه للملاطفة، أورد فيه الحديثين السابقين، وعلَّق الإمام النووي - رحمه الله - عليه، فقال: "وفي هذين الحديثين جاز قولُ الإنسان لغير ابنه ممن هو أصغر سنًّا منه: يا ابني، ويا بُني مُصغرًا، ويا ولدي، ومعناه تلطف، وأنك عندي بمنزلة ولدي في الشفقة، وكذا يقال له ولمن هو في مثل سن المتكلم: يا أخي؛ للمعنى الذي ذكرناه، وإذا قصد التلطف كان مستحبًّا كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم"[11].
وكان الصحابة - رضوان الله عليهم - ينادون الطفل المسلم الذي أدرك والدُه الإسلامَ بالنداء "يا ابن أخي"، كما قال عمر بن الخطاب لابن عباس: "قل يا ابن أخي، ولا تحقر نفسك"، أما الطفل المسلم الذي لم يدرك والده الإسلام، فكانوا ينادونه: "يا بني"[12].
وهذا الصعب بن حكيم يحدِّث عن أبيه عن جده، قال: أتيتُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فجعل يقول: يا ابن أخي، ثم سألني فانتسبتُ له، فعرف أن أبي لم يدرك الإسلام، فجعل يقول: يا بني يا بني[13].
لقد كان هذا النداء من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن صحابته الكرام مع غير أبنائهم، مما يدلُّ على أهميته مع الأبناء من باب أولى، وخيرُكم خيرُكم لأهله.
ـــــــــــــــــــــ
[1] يفرق البعض بين النداء والدعاء؛ فيرى أن الدعاء يأتي فيه حرف النداء مع الاسم: يا فلان.
[2] أحمد مطلوب، "معجم المصطلحات البلاغية وتطورها"، ط2، مكتبة لبنان، لبنان، 1996م، ص658.
[3] بدر الدين محمد بن عبدالله الزركشي، "البرهان في علوم القرآن"، تحقيق: محمد أبو الفضل، دار الجيل، بيروت، 1408هـ - 1988م، ص446.
[4] أي إخلاص، فيقال: أَمْحَضْتُ له النُّصْحَ، إِذا أَخلصتَه.
[5] محمد الطاهر بن عاشور، تفسير "التحرير والتنوير"، دار سحنون، تونس، د.ت، الجزء الثاني عشر، ص213.
[6] أبو عبدالله محمد بن أحمد القرطبي، "الجامع لأحكام القرآن"، تحقيق: عبدالرزاق المهدي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1426هـ - 2005م، الجزء الرابع عشر، ص59.
[7] محمد الطاهر بن عاشور، تفسير "التحرير والتنوير"، مرجع سابق، الجزء الواحد والعشرون، ص155.
[8] أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي، "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند، 1395هـ - 1975م، الجزء الخامس عشر، ص161.
[9] مسلم بن الحجاج، "صحيح مسلم"، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، باب: جواز قوله لغير ابنه: يا بني، واستحبابه للملاطفة.
[10] المرجع السابق.
[11] أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، "شرح النووي على صحيح مسلم"، ط2، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1392هـ، باب: جواز قوله لغير ابنه: يا بني، واستحبابه للملاطفة.
[12] "منهج التربية النبوية للطفل"، محمد نور سويد، ط5، دار ابن كثير، دمشق، 1425هـ - 2004م، ص135.
[13] محمد بن إسماعيل البخاري، "الأدب المفرد"، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، ط3، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1409هـ - 1989م، باب: قول الرجل: يا بني، لمن أبوه لم يدرك الإسلام.
سارة المطيري
مجووووووده
مجووووووده